الحرية الدينية عند الطهطاوي: من الاكتشاف إلى التنظير
فئة : مقالات
يعدّ مفهوم الحرية الدينية مفهومًا حديثًا نسبيًّا في التاريخ البشري، ولئن بدأ تبلور هذا المفهوم في السياق الغربي منذ القرن الثامن عشر للميلاد على الأقلّ فإنّ صدى ذلك في المجال العربي الإسلامي لن يبدأ في الظهور إلاّ خلال القرن التاسع عشر.
ينبغي ألاّ نغفل عن حدث تاريخي على قدر كبير من الأهمية يتمثل في حملة نابليون بونابرت على مصر في سنة 1798م، أي في نهاية القرن الثامن عشر.
فهذا الحدث هو الذي سمح باكتشاف الحضارة الغربية بعلومها وقيمها ومنجزاتها المادية، وقبل هذا التاريخ كان المسلمون يواصلون تبني المنظومة الدينية والقيمية نفسها والتي آمن أسلافهم عبر القرون بأنّها الحقيقة الوحيدة التي لا فكاك لهم منها.
بناءً على هذا نرى الجبرتي (1754-1825) يفسر كلمة الحرية بأنّها تعني "أنّهم ليسوا عبيدًا مثل المماليك"[1]. والجلي أنّه لم يجد مصطلحًا لوصف مفهوم الحرية أو لترجمته فاختار أيسر السبل وهي ترديد المفهوم التراثي لها، وهو مفهوم يعتبرها مقابلاً للعبودية[2].
ولمّا كان علماء الإسلام في ذلك العصر غير مدركين لأبعاد المفهوم الجديد للحرية وغير منفتحين على الحضارات غير الإسلامية بما يتيح لهم استقبال منظومتهم القيمية والدينية والفلسفية بنوع من الاحترام والاستعداد للحوار، فإنّ بعضهم اختار التهجم على مفهوم الحرية على غرار موقف المؤرخ المغربي أحمد الناصري (ت 1897م) فهو يعتبر الحرية التي وضعها الفرنجة من وضع الزنادقة قطعًا لأنّها تقتضي إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية[3]. ويعزى هذا الموقف إلى أنّ هذا المؤرخ لا يزال يعتقد أنّ الحرية ليس لها مفهوم غير المفهوم الشرعي الذي حرّره الفقهاء في باب الحجر في كتبهم.
الطهطاوي ولحظة اكتشاف مفهوم الحرية الدينية
يتضح للمطلع على كتابات رفاعة رافع الطهطاوي أنّه اكتشف مفهوم الحرية الدينية أثناء إقامته في باريس من أجل الدراسة وعبّر عن ذلك في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريس". لكن هل يمكن أن نقرّ بتبني الطهطاوي هذا المفهوم بدلالته الغربية؟ إنّ الجواب على هذا السؤال ليس بالأمر الهين لأنّه يتطلب إحاطة بمختلف مصنفاته من جهة، ولأنّ مواقف الدارسين لرأيه في هذه المسألة متباينة بين مرحّب به وناقد له.
إنّ ما يجعلنا نقدّر للوهلة الأولى أنّ الطهطاوي لا يتبنى مفهوم حرية الاعتقاد والدين بدلالته الغربية أنّه منذ أول سطر من سطور كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" يعتبر فرنسا من ديار الكفر والعناد، لذلك يرى نفسه مجبرًا على ذكر ما يبرّر رحلته إليها[4]. ويخبر هذا الوصف أنّ الطهطاوي لم يتخلص من إرث المنظومة الإسلامية التقليدية التي كانت رؤيتها للعالم رؤية متوترة تقسّم العالم إلى دارين: دار إسلام وسلام، ودار كفر وحرب، وهو ما يعني أنّ الآخر غير المسلم لا يقع التعامل معه ولا تؤخذ علومه ولا آراؤه بعين الاعتبار.
إنّ حضور آلية التكفير في خطاب الطهطاوي يخبر عن محدودية تأثير القيم الغربية الحديثة في فكره، فلو كان متشبعًا بهذه القيم لآمن أنّ حرية المعتقد تفرض على من يتبناها ألاّ ينعت المنتسبين إلى عقيدة أخرى أو دين آخر بالكفر، وهو النعت الذي تكرر أكثر من مرة في خطاب الطهطاوي[5].
من الواضح أنّ الأمر يتأكد عندما نجد الطهطاوي يعتبر حب الوطن من شعب الإيمان، فهو لا يتبنى المفهوم الغربي للوطن والمواطنة وإنّما يؤصله في إطار مفهوم ديني هو الإيمان.
ومع هذا يمكن أن نقرّ أنّ الثقافة الدينية السنية التي تلقاها الطهطاوي لم تعد وحدها تحكم فكره ورؤيته للعالم لأنّ ضغط الواقع الجديد كان قويًّا وحادًّا، وقد استشعره أصحاب الحكم في مصر فشرعوا في إرسال الإرساليات العلمية لاستكشاف هذا العالم الجديد الذي سبق المسلمين إلى الحضارة بأشواط على حدّ عبارة ابن أبي الضياف (ت1874م). لكن ما الذي أبهر أصحاب الحكم في مصر من الغرب أكثر من غيره؟ هل هو المنجزات المادية والمخترعات أم القيم الحديثة؟
يخمّن الطهطاوي في جوابه على هذا السؤال أنّ الترجمة العملية لإحدى القيم الحديثة، وهي الحرية الدينية، هي سرّ هذه الإرسالية، ويعني هذا أنّ السلوك السياسي الفرنسي الذي طبّق على أرض الواقع مفهوم الحرية الدينية هو القادح لاكتشاف الآخر[6].
اكتفى الطهطاوي هنا بمجرد الوصف لوضعية ما والترجيح الذي يعتريه بعض الشك في سبب موقف سياسي معين لكن من المؤكد أنّ هذا الوصف دفعه إلى التفكير في المسألة. فهل انتهى خوضه فيها عند هذا الحدّ؟ لم ينته الأمر بهذا الوصف المحايد وإنّما ستبدأ قصة اكتشاف الطهطاوي لمفهوم الحرية الدينية الغربي في إطار قانوني هو الميثاق الدستوري الفرنسي، فقد سرد موادّه ومنها المادة الخامسة التي تنص على أنّ "كل إنسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يحب لا يشاركه أحد في ذلك، بل يعان على ذلك ويمنع من يتعرض له في عبادته"[7].
قد يكون ذكر هذه المادة الدستورية الفرنسية تاريخ أول اكتشاف للمفهوم الغربي للحرية الدينية عند المسلمين في العصر الحديث، وهو يتزامن مع نهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر لأنّ "تخليص الإبريز" نشر للمرة الأولى سنة 1834، لكن المهم بالنسبة إلينا هو موقف الطهطاوي من هذا المفهوم المكتشف والجديد على ثقافته.
يمكن أن نستخلص هذا الموقف من خلال تعليقه على الدستور عامة أولاً، وعلى المادة الخامسة ثانيًا، فقد صرح الطهطاوي على الصعيد الأول بأنّ هذه "الشرطة" أي الميثاق الدستوري "قد جعل فيها تغيير وتبديل منذ ثورة سنة 1831، وهو ما يعني أنّ المفاهيم القانونية أضحت متحركة متطورة ومتغيرة وفق إيقاع الواقع التاريخي، وهو أمر لافت لنظر المثقف المسلم التقليدي الذي تربى في كنف منظومة دينية مغلقة في أحكامها الفقهية وأصولها الاعتقادية والفقهية وفي رؤيتها للآخر المخالف مذهبًا أو دينًا.
ويضيف الطهطاوي تعليقاً مهمًّا جدًّا في نظرنا يفيد أنّ المتأمل في الدستور الفرنسي يرى أغلب ما فيه نفيسًا، لكن هل ينطبق هذا الحكم أيضًا على مفهوم الحرية الدينية؟ يجيب الطهطاوي على هذا السؤال عندما ينتقل إلى المستوى الثاني الخاص بتعليقه على مواد الميثاق الدستوري بشكل تفصيلي حيث نجده يعتبر المادة الخامسة ومواد أخرى معها "نافعة لأهل البلاد والغرباء، فلذلك كثر أهل هذه البلاد وعمرت ؟ بكثير من الغرباء"[8]. من الواضح أنّ هذا الجواب لا يشي بانبهار الطهطاوي بمفهوم الحرية الدينية وإنّما ينبئ عن موقف نفعي براغماتي لا يحكم على المفهوم وإنّما على تجليه العملي في الواقع ووظيفته الاجتماعية الإيجابية.
هل كان الطهطاوي وهو يعرض لمفهوم الحرية الدينية متبنيًا له أم إنّه كان يفعل ذلك لأنّه شعر بواجب إطلاع أهل وطنه ودينه على مشاهداته وتجربته؟
سنعلق الجواب على الجزء الأول من السؤال لكن من الجلي أنّ الطهطاوي له اعتناء خاص بمسألة الحرية الدينية لأنّه سيتطرق أيضًا إلى ما طرأ على المادة الخامسة المذكورة آنفًا من تعديل في عملية إصلاح هذا الدستور بعد سنة 1831 حيث بيّن أنّ ما ترتب على الحرية عند الفرنسيين "أنّ كل إنسان يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة، ويعاقب من تعرض لعابد في عبادته ولا يجوز وقف شيء على الكنائس أو إهداء شيء لها إلاّ بإذن صريح من الدولة، وكل فرنساوي له أن يبدي رأيه في مادة السياسات أو في مادة الأديان بشرط أن لا يخل بالانتظام المذكور في كتب الأحكام"[9].
نقدّر أنّ الطهطاوي توقف طويلاً على هذه المادة الخامسة المعدلة، فهي مكتنزة بالمواقف الجديدة بالنسبة إليه، وفي صدارة هذه المواقف تأكيد حرية المعتقد وممارسة الشعائر والطقوس، ووضع هذه الحرية تحت حماية الدولة لا تحت سلطان رجال الدين.
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هذه المادة الخامسة تحدّ من سلطة المؤسسة الدينية المسيحية من خلال تقييد مختلف أشكال تمويلها بترخيص الدولة. ومن المواقف التي لفتت انتباه الطهطاوي بلا شك حق كل فرنسي في إبداء رأيه في مادة الأديان، وهو ما يتعارض مع ما هو سائد في البلدان الإسلامية التي يمنع فيها غير علماء الدين من الخوض في المسائل الدينية. ولا يقدّم الطهطاوي أي تعليق على هذه المواقف لكنه يكتفي بتبرير الاختلاف بين الأحكام الفرنسية وأحكام المسلمين، فالأولى ليست مستنبطة من الكتب السماوية وإنّما من قوانين أخرى غالبها سياسية.
الطهطاوي ولحظة التنظير لمفهوم حرية المعتقد
توقف الطهطاوي في كتابه "مناهج الألباب" لتعريف الحرية الدينية قائلا: "هي حرية العقيدة والرأي والمذهب بشرط أن لا تخرج عن أصل الدين كآراء الأشاعرة والماتريدية في العقائد وآراء أرباب المذاهب المجتهدين في الفروع"[10]. لنلاحظ أولاً أنّ هذا التعريف الوارد في كتاب "مناهج الألباب" برز بعد أكثر من ثلاثين سنة من اكتشاف الطهطاوي المفهوم الغربي للحرية الدينية من خلال الميثاق الدستوري الفرنسي[11]. وهذا الفارق الزمني الكبير بين لحظتي اكتشاف المفهوم والتنظير له أثّر بحدة في موقف الطهطاوي، فقد مال هذا الموقف إلى الانغلاق وإلى الابتعاد عن المؤثرات الغربية، لذلك لم يعد الأمر يتعلق في نظره بالحرية الدينية بمفهومها الواسع أي حرية الفرد في اختيار أي دين أو معتقد يؤمن به أو ينكره. وأضحى في المقابل يقصر الحرية الدينية داخل إطار دين واحد هو الدين الإسلامي.
بناءً على هذا، لا يتعلق الأمر في نظره بمنح الحرية للمسلم في اعتقاد دين غير الإسلام، وإنّما المقصود عنده الحرية في اختيار أحد المذاهب السنية الأربعة. وإذن فهذا المفهوم يقصي الأديان غير الإسلامية والمذاهب غير السنية من الدخول في دائرة مفهوم الحرية الدينية. فهو مفهوم مسيج بخطوط حمراء ينبغي ألاّ يتعداها المسلم هي الأصول الشرعية، وهي أساسًا نصوص القرآن والسنة النبوية وما أجمع عليه الفقهاء من أهل السنة.
ولعلّ الفضل الوحيد لهذا المفهوم أنّه تخلص من الموقف القديم الذي يحصر المسلم في إطار مذهب واحد ولا يبيح له الانتقال من مذهب إلى آخر.
هكذا أدار الطهطاوي ظهره لمفهوم الحرية الدينية بتصوره الغربي وآثر فهمًا تقليديًّا إسلاميًّا يماهي بين هذا المفهوم ومفهوم الاجتهاد في المسائل الكلامية والفقهية إلاّ أنّ مفهوم الاجتهاد ذاته بدا مفهومًا انتقائيًّا إقصائيًّا لأنّه لا يشمل كل المذاهب الإسلامية بل يقتصر على ما كان سنّيًّا منها.
ويتضح إذن أنّ الطهطاوي فتر إعجابه بالحضارة الغربية وبمنتجاتها الروحية بعد رجوعه إلى مصر فارتدّ على أعقابه مرددًا للموقف الفقهي القديم المتوتر في رؤيته للآخر وفي تقسيم العالم إلى قطبين متقابلين: دار الإسلام ودار الغرب الكافر. وينهض هذا التقابل في فكر الطهطاوي وكثير من معاصريه على قيام الدول الغربية على قوانين وضعية بشرية عقلية في مقابل قيام الدول الإسلامية على أحكام شرعية لا دخل للعقل فيها[12] .
[1] Al-Jabarti, Tarikh Muddat al-Faransis bi-Misr, 43.
[2] نجد ابن أبي الضياف في هذا السياق يدافع عن الرق ويرى أنّه غير قادح في الفطرة الإنسانية، وأنّه لا ينافي أخلاق الكمال والدين لأنّه مصيبة نزلت بمن الحرية فيه أصلاً، انظر هشام جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية، ص ص 107-108
[3] الناصري، الاستقصا، ج 9، ص 114
[4] يجلو هذا الرأي عنوان الباب الأول من الكتاب الذي اختاره الطهطاوي بنفسه فيما يبدو لنا، وهو "في ذكر ما يظهر لي من سبب ارتحالنا إلى هذه البلاد التي هي ديار كفر وعناد وبعيدة عنّا غاية الابتعاد"، تخليص الإبريز في تلخيص باريس، تونس، الدار العربية للكتاب، 1991، ص 17
[5] انظر نعته لأمريكا ببلاد الكفر، المصدر نفسه، ص 31
[6] يقول الطهطاوي في هذا السياق: "وبالجملة ففي بلاد الفرنسيس يباح التعبد بسائر الأديان، فلا يعارض مسلم في بنائه مسجدًا ولا يهودي في بنائه بيعة... ولعلّ هذا كله هو علة تخصيص ولي النعمة لها بإرساله فيها أبلغ من أربعين نفسًا لتعلم هذه العلوم المفقودة"، تخليص الإبريز في تلخيص باريس، ص 34
[7] المصدر نفسه، ص 117
[8] المصدر نفسه، ص 126
[9] المصدر نفسه، ص 128
[10] الطهطاوي، مناهج الألباب، ص 52
[11] المقصود أنّ "مناهج الألباب" صدر سنة 1869 في حين أنّ "تخليص الإبريز" صدر سنة 1834
[12] يقول الطهطاوي: "وأمّا السلطنة الرسمية على الرعية فهي لا تكون إلاّ في البلاد التي قوانينها محض سياسة وضعية بشرية... وإلا فتمدن الممالك الإسلامية مؤسس على التحليل والتحريم الشرعيين بدون مدخل للعقل تحسينًا وتقبيحًا في ذلك حيث لا حسن ولا قبيح إلاّ بالشرع"، الأعمال الكاملة، السياسة والوطنية والتربية، تحقيق محمد عمارة، مصر، دار الشروق، 2010-2011، 2/498