"الحوكمة": الوصفة "السحرية" لبنك النقد الدولي (ج2)
فئة : مقالات
الحوكمة: هي تغيرات ذاتية في أنماط الحكم وإدارة المجتمعات والسياسات العامة للديمقراطيات الرأسمالية العريقة، فرضتها التغيرات الجيو-سياسية للعالم منذ سقوط جدار برلين (1989) وتفكك الاتحاد السوفيتي (1990) وإعلان "النظام العالمي الجديد"(1991)، وتهدف الى نسج سردية جديدة من شأنها أن تُظهر الرأسمالية العالمية "كمنتصر أخير" في معركة إثبات الوجود وأحقيته أمام "أقطاب الشر" الذين يتربصون بالإنسانية "الديمقراطية" في محاولة لدحرها والقضاء عليها!
تظهر الحوكمة على المستوى الكوني في إعادة تشكيل الخارطة الجيو-سياسية بشكل ينهي التقاطبية الكلاسيكية وحقبة الحرب الباردة أو النزاع "الصامت" (شيوعية/ رأسمالية) إلى فرض نظام عالمي أحادي الهوية يبشر بنهاية الصراعات القاتلة بين الشعوب وحلول عصر "العولمة" على معنى التجانس والتقارب والانفتاح بين شعوب الأرض ورفع كل الحواجز المادية منها والرمزية.
على مستوى سياسات الحكم المحلي تظهر الحوكمة، وكأنها إعادة توزيع مراكز الحكم والقرار بين كل الفاعلين الاجتماعيين دون تمييز على خلفيات الانتماء العرقي أو الديني، حيث تفقد الدولة ذاتها مركزيتها السلطوية وتغدو طرفا في الحكم تماما مثلما تكون طرفا في إدارة المنشآت الاقتصادية، وتمتلك أسهما أكثر أو أقل بالاشتراك مع أطراف معنوية أخرى.
تحوّل الحوكمة نظام الحكم إلى ضرب من البورصة، تتوزع أسهمه على أطراف عدة لا تعرف بعضها البعض، ويخضع استقرارها إلى عوامل خارجة عن نطاقها، تماما مثلما تتأثر البورصات العالمية بالتقلبات السياسية والاقتصادية العابرة للحدود.
وبهذا الشكل تتخلى الدولة النيو- ليبرالية عن مسؤولياتها المجتمعية، باعتبارها قد تعهدت بـ"الحياد" عن التدخل في تحديد نمط "الحياة الجيدة" لمواطنيها، علاوة على أن استمرارها في الزمن بات مرتهنا باقتصاد السوق، الذي حوّلها بدورها إلى مقاولة تمتلك أسهما تدار بشكل دوري بين من يقدرون على الدفع والشراء والمخاطرة.
ولا شك أن إدراج جهاز الدولة في منطق البورصات العالمية، بوصفها مالكة لأسهم "المِلك العام" ومتصرفة فيه على سبيل الاستئمان والاتجار New Public Management، هو المعنى المقصود من سياسات "الحوكمة" و"الحوكمة الرشيدة" التي استنبطها بنك النقد الدولي مطلع تسعينيات القرن الماضي تكيفا مع التغيرات الجيو- سياسية الكبرى. وتتلخص سياسات "الحوكمة الرشيدة" في الخطوات الأربع التالية: "الخصخصة"/ تحرير السوق الرأسمالي/ وضع الأسعار اعتمادا على جدلية العرض والطلب/ تحرير التجارة من كل النزعات الحمائية والضريبية[1].
لكن رب معترض يقول: إن الدولة كيان تاريخي لا يفتأ في التطور بالتوازي مع حلقات الوجود الأخرى، وأن مطلب الإنسانية بل حلمها هو أن تنفتح أجهزة الدولة على كل الأطراف الفاعلة في المجتمع بوصفها الرمز الأعلى للمساواة و"الفضيلة" بالمعنى الأرسطي. وبالتالي لا تبقى حكرا على بعض العائلات المتنفذة أو الطبقات المالكة. ويبدو أن آليات "الحوكمة" تبعث فينا الأمل من جديد بعد تجربة الدولة-الأمة الشوفينية والهووية الفاشلة، في الانتماء إلى دولة تحقق المنسوب الأعلى من الديمقراطية، حين تكون بالفعل قادرة على إعادة تأهيل ضحاياها من السكان الأصليين ومن المهمشين ومن الطبقات المسحوقة التي تنتظر ساعة الحسم للانقضاض على خصومها الطبقيين. ويتأكد لدينا أن سبل تجسيد هذا الأمل في دولة تستوعب في إدارتها كل أطياف الشعب، عندما نعلم أن المقصود بحوكمة سلطة الدولة، هو مقاومة كل أشكال الفساد داخل الدولة والنفاذ إلى المعلومات بكل يسر وحسن التصرف في الموارد البشرية والمادية والتنمية المستدامة وحماية البيئة.
لما كانت الحوكمة آلية تكيف الدولة الليبرالية مع "النظام العالمي الجديد"، وحيث إن ملكية الأصل التجاري للمفهوم تعود إلى بنك النقد الدولي رمز الهيمنة المالية العالمية للولايات المتحدة الأمريكية، فإنه من الطبيعي أن لا يتجاوز نطاق "الإصلاح" مجالات التصرف في السلطة اللامادية (النفاذ إلى بعض المعلومات المنتقاة في إطار ما يعرف بالشفافية، الدفاع عن البيئة، التشهير بالفساد السياسي وخاصة ما يتعلق بالفضائح الأخلاقية للسياسيين، مقاضاة الشركات الكبرى، الدفاع عن المستهلك، وعن حقوق الأقليات من مهمشين ومهاجرين وشواذ، الحريات البورنوغرافية إلخ). أما التدخل في المجالات السيادية للسلطة السياسية والاقتصادية بالخصوص، ولا سيما نقد حياد الدولة الكلي عن التدخل في سياسات اقتصاد السوق الرأسمالي، وتبعات التفقير المتنامي للطبقات المتوسطة، وارتهان عموم الشعب لنظام تأجير واستهلاك موغلين في الاستغلال والاغتراب، وتحويل المواطنة الى نزعة "زبائنية" انتخابية ظرفية(هابرماس)، فهو ما لا تسمح بتعريته مؤسسات المال والأعمال، باعتباره يضع أسس النظام الرأسمالي برمته موضع تظنن واتهام.
يفرض بنك النقد الدولي على الدول المقترضة ولا سيما النامية منها، الالتزام بمبادئ الحوكمة بدل الحكم في إدارة السياسات العامة. وذلك بفتح المجال العام على كل الأطياف الاجتماعية وتوزيع السلطة بشكل أفقي، حتى يجد الاحتقان الطبقي متنفسا له في العمل السياسي والجمعياتي، وحتى يتوهم الناس أن الرأسمالية أضحت أكثر أخلاقية ونجاعة، باعتبارها تشرّك الجميع في إدارة السياسات وتنهي مركزة الحكم، بل وتسمح بالنفاذ إلى كل المعطيات التي كانت تعتبر "أسرار دولة" في الأنظمة الاستبدادية، وإذا أضفنا إلى ذلك حجم الاعتمادات الضخمة المرصودة لمشاكل البيئة العالمية على ذمتها، فإنه يحصل لدينا ما يلي:
- نجحت الرأسمالية المتأخرة في إنقاذ نفسها من الفناء مرة أخرى، وبشكل مبهر عندما استفادت من أخطاء مراحلها السابقة ولا سيما مرحلة الدولة-الأمة المتزامنة مع المرحلة الإمبريالية /الاستعمارية، وذلك بإعادة استقطاب الأطياف الاجتماعية والأعراق المنسية والمهمشة داخل نسيج المواطنة الفضفاض.
- فرضت أذرعها المالية الكبرى، ولا سيما بنك النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي، سياسات حكم جديدة أطلقت عليها مصطلحات "الحوكمة" و"الحوكمة الرشيدة" على دول المركز ودول الأطراف التابعة ماليا لها. وتكون بذلك، قد أنجزت "ثورتين" في وقت واحد: الأولى سياسية، وتتمثل في فرض ديمقراطية المشاركة واقتسام القرار بين كل مكونات المجتمع المحلي وإنهاء أنظمة الحكم الواحد. والثانية، اقتصادية، وبموجبها تحولت الدولة من كيان سياسي-أبوي يؤمّن حياة المجتمع برمته (الدولة الراعية) إلى شريك اقتصادي للبنوك العالمية والمحلية وإلى طرف مضارب في البورصات العالمية والمحلية.
- تسعى الحوكمة المالية العالمية عبر سياسات الاقتراض إلى تفتيت السلطة الوطنية؛ وذلك بإضعاف القرار السيادي في الداخل والخارج، وإعادة تشكيل المشهد المجتمعي من خلال التحريض على الاستقلالية والانفصال وتشجيع الحكم الذاتي.
- القضاء على كل أسباب الاحتجاج والثورة ضد النظام الرأسمالي العالمي؛ وذلك بالتشريك الشكلي لفئات دون أخرى في نسيج جمعياتي تقوم بتمويله وتوجيهه من أجل التأثير في القرار السيادي.
- وبهذا تتحول الحداثة الليبرالية الكلاسيكية في منطوق السيادة العولمية إلى حداثة نيو- ليبرالية، والتجديد الأبرز الذي أقحمته العولمة على النظام الليبرالي الكلاسيكي، هو تغييرات عميقة متعلقة بآليات التحكم في العالم بالطرق اللامادية والانسيابية.
- لم تغير الحداثة النيوليبرالية آليات السلطة من مادية إلى ناعمة، بل أيضا الفاعلين الكلاسيكيين، حيث لم يعد فولتير وروسو واسبينوزا أئمة العلم السياسي، ولم يعد الشعب مصدر الحكم ولم تعد الدولة راعية المجتمع. ولم يعد رموز الحوكمة العولمية مرئيين، بل هم أشبه بـ"الأيادي الخفية" التي تحدث عنها أفلاطون، أيادي تُحرك ولا تُرى، إنهم سادة العالم الجدد أو "الكسموقراطيون"Les Cosmocrates"[2] من أباطرة المال والبورصات والصناعة الرقمية وعمالقة الاتصال والمعلوماتية[3].
[1] غريغ بالاست، أفضل ديمقراطية يستطيع المال شرائها، ترجمة مركز التعريب والبرمجة، الدار العربية للعلوم، بيروت، (ط1)، 2004، ص 155-158.
[2] Jean Ziegler, L’Empire de la honte, Paris, Fayard, 2005, p.21
[3] شركات AT &T السوق العالمية المسيطرة على ميدان الهاتف، وشركة DUO MCI ثاني اكبر شبكة هاتف في أمريكا وشركة Sprint ثالث عملاق في مجال الهاتف الجوال في أمريكا وشركة الكابل واللاسلكي Cables & Wirlessالتي تراقب خاصة Honkong Telecome–Bell Atlantic-Nynex-US-West وشركة TCI(عملاق الكابلات التلفزيونية)NTT (عملاق الهاتف الجوال الياباني) وشركة Disney وشركات Time Warner وشركة IBM-News Corp-Microsoft-Netscape-Intel وهي كلها مختصة في الإعلام الرقمي والخلوي والفضائي. أنظر:
اولريش بك، ما هي العولمة ؟ م.م. ص. 84