الدعـاء غير المُستجاب: ترميم العقول المُحطمّة
فئة : مقالات
لربّما انطوى العنوان أعلاه على مفارقة من نوع خادع، لا سيما في شقه الأول ( = الدعـاء غير المُستجاب). فالصيغة اللغوية قد تذهب إلى كتابة مجموعة من النصوص، واعتبارها بمثابة أدعية مُستجابة، وما على المسلم إلا ترديدها، لكي تُستجاب دعواته.
وبتجاوز العنوان، أعني ساعة التحقّق في المفارقة الخادعة التي أشرتُ إليها؛ أي في حال تمّت صياغة مجموعة من الأدعيـة واعتبارها الأجدى لحظة الدعـاء، فستتحقق الخديعة الثانية، المتمثلة في الطمأنينة السيكولوجيـة للمسلم المكروب، أو للمسلم الذي تواجهه أزمة ما، ويسعى إلى حلّها باللجوء إلى قوى العالم الميتافيزيقي، نظرًا لعجز القوى الفيزيقية عن حلّها. فواحدة من أعمق معاني الأدعيـة في المخيال الإنساني عموما، والديني خصوصًا هي الطمأنينة السيكولوجيـة.
إذن، يمكن الاشتغال على خديعتين بإزاء العنوان أعلاه:
الأولـى: كتـابة مجموعة من الأدعيـة واعتبارها الأجـدى لتحقيق الاستجابة. وبما أن المتديّن عادة ما يسعى إلى تحقيق الاستجابة في أسرع وقت، فيمكن الترويج لخدعة جانبية أيضًا، متمثلة بأن استجابة الله السريعة مقترنة بترديد هذه الأدعيـة دون سواها. فالنقص في منسوب الورع يعتور أدعية قديمة، لذا تمت صياغة هذه الأدعية بورعٍ شديد.
الثانية: تحقيق الطمأنينة السيكولوجيـة لدى قارئ هذه الأدعية، إذ يتم ضخّ محتوى إضافي -غير محتوى نصّ الدعاء- يشتغل على فكرة تطمين المكروب وبثّ الأمل فيه. فالقوى الغيبية ستستجيب لهذه الأدعية على وجه السرعة، وما تأخّرها في الاستجابة من قبل، إلا لأن الأدعية التي يتم ترديدها لا تفي بالغرض، أو تنطوي على بعض الخلل في بنيتها الاستجدائية.
خارج هاتِهِ الخدع التي ينطوي عليها الجزء الأول من العنوان، وهي في جوهرها إهانة للإنسان واستغلال لحاجاته، لغاية المُتاجرة بها. دعونا نتساءل عن جدوى العنوان الفرعي ( = ترميم العقول المُحطّمة).
أليس من الأولى أن نتحدث عن ترميم للقلوب المكلومة، لانطواء الدعـاء على بُعد وجداني أكثر من انطوائه على بُعد عقلي؟
دعوني أرتّب الأمور بطريقة ثانية، لكي نصل إلى نتائج تفي بالغرضية من العنونة أعلاه. ولكي أكون أكثر تحديدًا، فإني سأقتصر موضوعتي هَهُنا على إطارها الإسلامي، لما يتمتع به النسق الدعائي من حضور كبير في الثقافة الإسلامية. فلربما ليس من موضوعة غير مقترنة بدعاء يحوطها أو يحميها أو يُقرّب موعدها أو يستشرف مستقبلها أو يتعوذ منها أو يستجير منها أو يطلب فرجا لها، فمن دعوة الصبية لله أن يرزقها بعريس إلى دعوة الشاب أن يمنّ الله عليه بعملٍ محترم أو مال كثير إلى دعاء دخول الحمام والاستعاذة من الخبائث والنجاسات إلى استجلاب المطر والاستجارة من نار جهنم والطمع في دخول الجنة أو الشكوى بدعاء إلى الله من الزوج الظالم او الحاكم الديكتاتور أو أمريكا أو الصهيونية أو إسرائيل، إلى آخر هذه الاستطرادات التي تُرحّل مشاكل العالَم الفيزيقي إلى العالَم الميتافيزيقي، بحثًا عن مَخرج آني مُستعجل في الحياة الدنيا أو مخرج مؤجل في الحياة الآخرة. نظرًا للعجز الحادث في العالَم الفيزيقي أو في إحداثياته العاقلة وغير العاقلة، عن إيجاد ذلك المَخْرَج.
ولربما كان للآية القرآنية {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم...} (سورة غافر/ 60) كإطار نظري، ولبعض الآيات مثل: {هُنالك دَعَا زكريا ربَّهُ قَالَ ربِّ هَبْ لي من لدنك ذُرية طيبة إنك سميع الدعاء} (سورة آل عمران/ 38)، و{الحَمْدُ لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إنّ ربي لسميع الدعاء} (سورة إبراهيم/ 39) كتطبيق عملي لهذا الإطار النظري؛ دور رئيسي في تعزيز موجودية الدُعاء في المخيال الإسلامي. ولقد توثقت عُرى هذه الموجودية بما ورد عن نبي الإسلام من حثّ على الدُعاء بصفته قنطرة واصلة بين الأرض والسماء. وفي هذا المجال، احتوى كتاب الدعوات في صحيح بخاري على 69 بابًا أبانت عن الحضور الكبير للأدعية في حياة المسلم؛ فهو إذ يتعرّض إلى ضغطٍ ما أو ضنك أو أزمة أو مشكلة، فإنه يلجأ إلى الدُعاء إلى الله، ليس بصفته (خُلاصة) دينية تربط عالمي الأرض بالسماء فقط، بل و(خلاصًا) سيكولوجيًا أيضًا. فتغريغ الشحنة السالبة ( = أزمة/ مشكلة/ مصيبة/ حادث جلل...إلخ) ميزة كبرى تُحسب للدعاء، أو للأنساق اللغوية التي تضطلع بها الأدعية المشحونة بدفقات عاطفية كبيرة. ففي نهاية المطاف، الدُعاء محض معمار لغوي، يتموقع به الداعي لحظة الوصل والوصال مع القوة الإلهية. لذا تُشكّل الأبنية اللغوية الصغيرة التي يتكوّن منها معمار الدعاء الكُلّي وحداتٍ:
1- دينية
2- سيكولوجية في الوقت ذاته.
دينية لأنها تفترض علاقة بين كائن ضعيف ( = الإنسان) وكائن قوي ( = الله). كائن سُفلي ( = الإنسان) وثانٍ علوي ( = الله). كائن جاهل ( = الإنسان) وثانٍ عليم ( = الله). كائن مُحتاج ( = الإنسان) وثانٍ يُلبّي الاحتياجات ( = الله). كائن فيزيقي ( = الإنسان) وثانٍ ميتافيزيقي ( = الله).
وسيكولوجية لأنها تفترض طمأنينة من قبل الكائن الضعيف، السُفلي، المُحتاج، الفيزيقي، للكائن القوي، العلوي، الذي يُلبّي الاحتياجات، الميتافيزيقي.
إليكم هذا المثال -وهو مثال مشهور لكثرة استخدامه في مجالات مختلفة في حياة المسلمين- المأخوذ من كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة، في صحيح بخاري، المشار إليه أعلاه:
"حدثنا مطرّف بن عبد الله أبو مصعب حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموال عن محمد بن المُنكدر عن جابر رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلّها كالسورة من القرآن "إذا همَّ بالأمر فليركع ركعتين، ثم يقول اللهم إني استخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال عَاجِل أمري وآجله- فَاقْدُره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به، ويُسمِّي حاجته"" (صحيح بخاري/ كتاب الدعوات/ باب الاستخارة/ ص 1017)
دعونا نفكّك بنية هذا الدعاء، ونربطه بالعنونة أعلاه، سواء في شقّه الأول ( = الدعاء غير المُستجاب)، أو في شقه الثاني ( = ترميم العقول المُحطمّة).
ينطوي الدعاء على رسالة مُنصّصة بين: إنسان منظور وإله غير منظور، يلتجئ فيها الكائن المنظور إلى الكائن غير المنظور، لغاية استشارته في أمر يستعصي أو يُشكل عليه. لناحية أن الكائن غير المنظور: أعلم [اللهم إني استخيرك بعلمك + تعلم ولا أعلم + علّام الغيوب]، وأقدر [أستقدرك بقدرتك] وأفضل [فضلك العظيم]. وستكون مفردة (اللهم) حاضرة كمُفتتحٍ -بعد التطهّر بالصلاة التي تستلزم بلا شكّ طُهرًا مبدئيًا بالوضوء- لنسقٍ لغوي يُجسّر الهوة بين العالَم المنظور، حيث يتموقع الإنسان، والعالَم غير المنظور، حيث يتموقع الإله.
وبإزاء هذا الطرح بين طرفي المعادلة، تكشف الأبنية اللغوية في نصّ الدعاء عن حالة السلب التي يعيشها المسلم، مقابل الحالة الإيجابية المطلقة للإله. فالمسلم إذ يلتجئ إلى هذا الإله، فاللجوء يتطلب وساطة روحانية وهذه المرة ستكون نصًّا واضحًا، ليس على المسلم إلا ترديده وانتظار الإجابة من الله. فالكائن السالب ليس له من الأمر شيء، فهو لا يعلم إن كان الأمر الذي يطلب فيه استخارة واستشارة من قبل الله، إن كان خيرا أم شرا، فهو لا يُحكّم عقله -وفقًا لمقتضيات الدعاء- بتاتا، للوقوف على مقدمات المُشكل الذي يواجهه، والعمل من ثمَّ على تقدير النتائج، بسلبياتها وإيجابياتها، واتخاذ قرار بشأن ذلك المشكل من ثمَّ. فالبنية التي يغذيها الدعاء هي بنية الكائن المسلوب الذي يتأكّد في النسق اللغوي، مع ما يحتمله هذا التأكّد من بُعد ديني يربط بين كائن لا يعلم وكائن يعلم، كائن سلبي وكائن إيجابي، كائن محتاج وآخر يُلبّي الحاجات، واحد مسلوب الإرادة وآخر قدير...إلخ. فالكائن السلبي إذ يُردّد: "اللهم إني استخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم..."، فإنه يعزّز هذه السلبية عبر السياق المُتنامي للصيغة الدُعائية: "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه".
فالذي يعلم علما كُليّا هو الله، وثمة غلالة سوداء تطمس على عقل المسلم، لذا هو بحاجةٍ إلى إنارة ليس من خارجه فقط، بل من خارج العالَم الأرضي كله. فالعجز عجز أنطولوجي في جوهره، لذا يتم اللجوء إلى القوة المُطْلَقة لإحداث إزاحة إنارية في العالَم الفيزيقي، تحديدًا في المسألة التي يريد الداعي حلّا لها، والتي تتفاوت في موضوعتها، ابتداءً من طلب المساعدة في اختيار الزوج، وصولًا إلى الحصول على وظيفة، مرورًا بآلاف المسائل الأخرى التي يُلجأ فيها إلى الله، عبر الدعاء، طلبًا للمساعدة. وهذا وضاح تمامًا في صحيح بخاري، في كتاب الدعوات، فتلك الأبواب الكثيرة التي تحظّ على الدعاء، في غالبية شؤون الحياة [الأبواب 69 كما أشرت، لكن باب دعاء الاستخارة، يفتح الأبواب لتكون غير مُتناهية، فدعاء الاستخارة دعاء تحضيري لمسألة يتم تسميتها بالاسم في آخر الدعاء، فهو باب لعوالم كثيرة]، بما يموقع المُسلم في سياقات لسانية لا يفتأ يُردّدها، في غالبية شؤون حياته، لكي تصبح أكثر يُسرًا وأريحية. وبالتقادم سيكون -سواء على المستوى الفردي أو الجمعي- لها عديد دلالات:
1- التحقّق الإيجابي في الطمأنينة النفسية، فالمسلم ليس لوحده في مواجهة مشاكله وهمومه وآلامه، بل الله بقوته وجبروته يقف إلى جانبه.
2- التحقّق السلبي للمسلم داخل هذه السياقات اللغوية، فهو جاهل وضعيف وضائع ومُحتاج إلى الله.
3- نزع الإرادة عن المسلم، فعقله مُعطّل تمامًا عن استشعار مكمن المُشكل الذي يواجهه، لذا هو حائر على الدوام.
4- ترحيل قضايا العالم الفيزيقي للعالَم الميتافيزيقي.
وعليه، فثمة بُعد نفساني في الدعاء من حيث هو كذلك، فالأنساق اللغوية التي تتكون منها الأدعية هي بمثابة الأرحام التي يركن المسلم إليها ويطمئن؛ فالنصّ بحدّ ذاته هو الرَحِم الحاوي. ولربما انبثقت مثل هذه الفكرة من تموقع المسلم الأبدي داخل النصوص التأسيسية، فهو لا يعي العالَم إلا اقتضاء لواقع تلك النصوص. فالتأبد داخل النص يُشعره بلذاذةٍ نفسية هائلة، تمنحه قدرة على مواجهة الحياة أيّا كانت قسوتها أو صعوبتها. بصرف النظر عن حضور عقله من عدمه، في تقصّي هذه القسوة تقصيا بحثيا، والبحث عن حلول أرضية لها.
من هنا، يرقى الدُعاء في المخيال الديني، ليس إلى درجة الخُلاصة الدينية فحسب، بل إلى درجة الخلاص السيكولوجي أيضًا كما أشرتُ آنفًا. لذا لا يمكن الحديث عن (ترميمٍ للقلوب)، فالقلوب عامرة بالجدوى والامتنان، والفراغات الأرضية ممتلئة عن آخرها بالحضور الإلهي. فالبنية اللغوية للدعاء، باستخدام جُمل واثقة ومطمئنة، تربط الإنسان والمكلوم بالإله المُقتدر، بما يجعل من قراءتها وترديدها، عملًا مُحبّبا للقلوب. نعم، سيجد المسلم نفسه مأزومًا ومكروبًا في مواجهة الحياة ومقتضياتها اليومية، لكن سيكون الدعاء؛ الدعاء بحدِّ ذاته، وليس ما هو مُتخارج عنه، هو المُفرّغ الكبير لتلك الشحنة السالبة، فالقراءة ليست فعلًا نقديًا أو تأويليًا داخل النسق الدعائي، بقدر ما هو فعل تطميني. فالمسلم المكروب لا يقرأ لغاية النقد أو التأويل، بل لغاية التحقّق في الطمأنينة. بما يجعل من قلبه مُطمئنًا، اقتضاء لواقع الدلالة الأولى التي أشرتُ إليها أعلاه.
إذن، الأوْلَى الحديث عن (ترميم العقول)، اقتضاء لواقع الدلالات 2 - 3 - 4، فمقابل التحقّق الإيجابي المتمثل بالطمأنينة النفسية، ثمة تحقّقات سلبية:
أولها: إبراز جهله وضعفه وعدم قدرته على التعامل مع الحياة وإحداثياتها، فاستشارة الله وطلب رأيه بقضية اختيار الزوج أو طلب دعمه في الحرب، تجعل من المسلم جاهلًا عن ترتبت قضيته ترتيبًا منطقيًا قائمًا على العلم والمعرفة، لذا ها هو يشعر بالضياع بإزاء النتائج التي يمكن أن تترتب على المقدمات العشوائية أو بالأحرى المُشوشة في ذهنه. لذا تنبثق الحاجة إلى الله كبُعد جوهراني لقضايا عرضية، فبدون هذا الجوهر ستجعله الأعراض أكثر تعبًا وضنكًا وحيرةً.
وثانيها: رهن قدرته العقلية لقدرةٍ نصيّة متموضعة في الدعاء، فالصيغ الجاهزة والناجزة للأبنية الدُعائية، تضع العقل وآلياته على الهامش في التعامل مع كثير من القضايا الحياتية. فالمسلم ليس بحاجةٍ لاستخدام عقله في التعامل مع كقضية كالزواج وتحكيم آلياته في التعامل مع الظروف المحيطة بهذه القضية، وتقصّي سلبياتها وإيجابياتها، طالما أن الصيغة الدُعائية تقوم مقام هذا البُعد. فالقضية مُشوّشة في ذهنه، لأنه عاجز عن استيعاب مقدماتها بطريقة صحيحة، لذا ستكون نتائجها كارثية إذا لم يستخير الله ويطلب استشارته من ثمَّ.
وثالثهما: عجز المسلم عن تدبير أمور عالمه في الزمن والمكان، إلا بمعونة مباشرة من مُدبِّر الأمور في العالَم الميتافيزيقي. لذا سيتحكم عالَم الغيب -وأظن أن جذور ذلك التوجّه غائرة في عمق الثقافة الدينية الإسلامية، بما يجعلها مُستحكمة وقوية الحضور- بعالَم الشهادة، ويُسيّر أموره لحظة بلحظة.
وبهذا، نكون قد ألقينا نظرة على الشقّ الثاني من العنوان ( = ترميم العقول المُحطمّة)، لكن يبقى السؤال الأبرز ألا وهو: هل ثمة دُعاء مُستجاب، حيث تبرز قيمة الخدع التي أشرتُ إليها أعلاه، حول كتابة مجموعة من الأدعية والترويج على قدرتها الفائقة على تحقيق استجابات سريعة ومضمونة.
نقطتان أشير إليهما هَهُنا:
1- فردية متعلقة من جهة باستقصاءٍ بحثي يطال كل مسلم دعا في حياته بدعاء. فهل استطاع عقب دعاء دعاه أن يُحقق استجابة فورية أو حتى مؤجلة، وفي حال تحققت الاستجابة فهل هي حقًا بفعل الدعاء الذي دعاه، أم نتيجة لسبب آخر لا علاقة له بالعالَم الغيبي؟
2- الثانية، جمعية مُتعلقة بالبديل الذي يملكه الإنسان لكي يُحقّق له استجابة لمشاكل أو آلام طلب من الله، عبر ترديد الأدعية، أن يحلّها أو يخفّفها أو يرفعها عنه. فما الذي يملكه -أم إنه منزوع القوة والإرادة عن فعل اي شيء- العقل الجمعي، لكي يجعل إنسانًا مكلومًا أو مظلومًا أو مُحتاجًا، لا يلتجئ إلى قوى غيبية لكي تحلّ تمسح على رأسه أو ترفع عنه الظلم أو تُلبّي حاجته؟ بل يكون لديه من الوسائل الكافية لتدارك تلك المشاكل وحلها؟ وهل له القدرة على ذلك، أم لا بُدّ من الإبقاء على هذه الأنساق اللغوية المُسماة أدعية، بصفتها جزءًا من المُكوّنين الوجداني والديني للإنسان المسلم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تسيير أمور حياته، إلا بوجودها، فالعلاقة الوطيدة بين المسلم وإلهه، تتطلب علاقة أبدية بينهما، ولا يمكن الفكاك من تبعاتها إطلاقًا؟ وهل يملك العقل الجمعي مشروعًا يُلبّي فيه احتياجات المُسلم وغيره من الناس، دون أن يكون مضطرًا إلى إذلال (المسلم/ الإنسان) المرة تلو الأخرى والطلب بمساعدة لكي يُكمل مشروعه في هذه الحياة؟ هل ثمة إمكان لكي بإحداث قطيعة بينه وبين الله، بحيث لا يعود يعتمد إلا على نفسه في تسيير أمور حياته؟
ثمة أسئلة كثيرة، لا تتطلب إجابات مُتسرعة بقدر ما تتطلب فتح باب النقاش والجدل حول قضية تبدو عادية في ظاهرها، لكنها واحدة من أخطر القضايا التي لا تُشكّل وعي المسلم على المستوى العقلي فحسب، بل وتصنع حياته في تمظهراتها الخارجية أيضًا.