الديني والإنساني في الدولة المسماة "إسلامية"
فئة : مقالات
يثير التفسير الديمقراطي للإسلام المتضمن اليوم في كثير من الندوات والمؤتمرات والكتابات سؤالاً مؤسسًا، وكذلك يفعل قليل نادر من التنظير والبحث، رغم أهميته وما يبعثه من طمأنينة، سؤال حول "الدولة الإسلامية"، ما الديني والإنساني؟ وكيف نميز بين الديني الذي نزل من السماء وبين الإنساني المتشكل حول فهم "الحق المنزل من السماء"؟ وهذا التعدد في الفهم للنصوص الدينية تقدمًا أو انتكاسًا، انسجامًا مع الحريات والارتقاء الإنساني أو تعبيرًا عن التخلف والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ألا يؤدي في المحصلة إلى القول إن الدور الديني للدولة والحكم المسمى في العصر الحديث فقط "إسلامية" هي مجهودات إنسانية جرت بحسن نية أو بسوء نية؟ وأن الدولة والحكم والسلطة بعامة هي منتج إنساني، وترتقي وتلائم احتياجات وتطلعات الناس وفق مستواهم الفكري والحضاري والاجتماعي؟ فهذه التفسيرات الديمقراطية أو العلمية المسماة إعجازًا علميًا للقرآن والسنة، أو الحضارية والاجتماعية المتقدمة للإسلام هي تعبير عن الخبرات الإنسانية ثم إعادة قراءة الدين وفهمه وفق هذه الخبرات والتجارب الإنسانية الجديدة والمتجددة، فإذا كان هذا الارتقاء عملية إنسانية بحتة، فما جدوى عمليات "أسلمته" طالما أن الإسلام، بمعنى قراءة الإسلام، لم تأخذ الناس إلى هذا المنجز الحضاري، ولكنه الارتقاء أعاد صياغة التدين وفهم النص وفق التقدم الإنساني، والذي يمنحنا إياه في هذا العصر الغرب وغير المسلمين بعامة، أليس تطبيق الدين أو ما يسمى الدولة الإسلامية عملية إنسانية لا نملك دليلاً على أنها جاءت من السماء سوى القراءة التي قدمها بعض الناس للدين؟ لماذا تسمى إسلامية إذن؟
وحتى في أقوال الرسول وأفعاله، ثمة حاجة ملحة لتمييز الديني والإنساني؛ ففي الحديث النبوي: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِمَا يَقُولُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلَا يَأْخُذْهَا" فهل يكون خطأ الرسول في الحكم أمرًا دينيًا يجب اتباعه؟ وفي دعوة القرآن للمؤمنين إلى جملة من الأوامر والنواهي هل تعني هذه الدعوة نظامًا سياسيًا أو إداريًا للدولة؟ أو هل هي أعمال منوط تطبيقها والحفاظ عليها بالسلطة؟ من قال إن هذه الأوامر والنواهي متعلقة بالسلطة وليس بالأفراد فقط؛ فالقرآن اختص الزنا والسرقة بالتجريم والدعوة لمعاقبة مرتكبيها، ولو كان إلزام الناس ومحاسبتهم على الأفعال والتقصير في الشؤون الأخرى التي دعا إليها القرآن أو نهى عنها منوطًا بالدولة لطلب القرآن ذلك كما طلب معاقبة الزاني والسارق، وما عدا ذلك فهي مسائل تعود إلى الناس والمجتمعات والسلطات وفق تقديرها للمصالح والضرورات، أو تطبيقها للمبدإ العام المؤسس في الدين وسائر المنظومات الإنسانية والحضارية، كالعدل والمصالح والجمال،...إلخ، والنص الواضح على طبيعة العقوبة، كالجلد وقطع اليد، يخضع في التطبيق للتقدير الإنساني المشوب دائمًا باحتمال الخطأ وعدم اليقين، مما يجعل تطبيق الحكم في هيئته القصوى المطلقة مستحيلاً، لأن ذلك يحتاج إلى يقين مطلق بصواب الحكم، ولما كان ذلك مستحيلاً، فإنه حكم يتراوح في مساحة واسعة متدرجة يقدرها القضاء الإنساني حسب المعطيات والحجج واحتمالات الخطأ والصواب والثقة بعدل الحكم وصوابه.
حتى إن ما ينسب إلى الرسول الكريم من تطبيقات اجتماعية أو قضائية، مثل معاقبة شارب الخمر، فتخضع لسؤال التمييز بين الديني والإنساني، وأما مقولة الرجم فيمكن القول بجرأة وطمأنينة أنه يستحيل أن يكون الرسول الكريم قد فعلها، وأنها حكم توراتي، وإلا فكيف يمكن تطبيق عقوبة نصف الموت على الجواري اللواتي عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب؟
وفي النهاية، فإن كل عمليات المواءمة بين الإسلام والقناعات السياسية والحضارية والاجتماعية التي يؤمن بها المسلمون أو الحركات الإسلامية ليست سوى لزوم ما لا يلزم طالما أنهم مطمئنون إليها وقادرون على مواءمتها مع الإسلام، والإنجاز الوحيد في ذلك هو بث الطمأنينة لدى المؤمنين وتحقيق شعور وهمي أو غير ضروري بالانسجام بين إيمانهم وبين التطبيقات، أو تبرير التحولات في الخطاب، فلماذا لا يريح الإسلاميون أنفسهم ويريحوننا جميعًا بالاعتراف صراحة بما يؤمنون به فعلاً؟ فالمسألة ببساطة هي الاجتهاد الإنساني القابل لأن يكون خطأ أو صوابًا، حتى في فهم الدين وتطبيقه، فإن هذا الفهم والتطبيق هو عمليات إنسانية قابلة لإثبات خطئها، وطالما أنها كذلك فهي ليست دينًا، أو ليست هي الدين الذي نزل من السماء.
إن "عدم يقين" هذا ضروري للحياة والعلم، وأما "اليقين" فلا يمكن تطبيقه أبدًا في مسائل هي متغيرة ومجهولة أو غير واضحة، كأن التقدم والتصحيح والمراجعة يحتاج إلى "جهل" أكثر مما يحتاج إلى معرفة، أو في وصف تطبيقي أكثر دقة، إدراك ما لا نعرفه أو استشرافه أو البحث عنه هي عملية دائمة لا تتوقف، ولا ينسجم معها اليقين الذي يتوهمه أصحابه.
لذلك يمتلئ التراث العلمي الإسلامي بعبارة "والله أعلم" ربما تزيد هذه العبارة على القول "إن شاء الله" في التراث العلمي والوجداني، وإنها لمقولة منهجية عميقة لا تكاد تطبق للأسف الشديد، فهي ببساطة تعني احتمال الخطأ، ونسبية الصواب، وعدم اليقين، وهذه هي مبادئ العلم في جميع فروعه ومجالاته، فلولا هذه النسبية لما حصل التقدم العلمي، ولا احتمال الخطأ لما كان تطوير الفكرة، ولولا عدم اليقين لما كان البحث الدائم عن الصواب.
إنها مبادئ النسبية وعدم اليقين واحتمال الخطأ، التي يجب اتباعها في فهم الدين، ولا يتناقض مع الإيمان بالقرآن أن يتفكر المؤمن ويبحث في المعاني والحكم، ويتساءل وينظر في النصوص ويتدبرها بحرية كاملة، فمن غير حرية التدبر والسؤال لا يمكن التقدم في الفهم والخطاب. ويغلب على المؤمنين الرفض التام للبحث والتساؤل في معاني النصوص ودلالاتها، والقبول بما قاله بعض العلماء وتأولوه، لدرجة أن أقوال العلماء أصبحت قوتها الاتباعية والتطبيقية مثل القرآن، هذه الوصاية على القرآن هي ما حذر منه القرآن، وهي ادّعاء للألوهية ولحق لم يمنح للرسول، فـ "ما على الرسول إلا البلاغ" والقبول بها شرك بالله، والناس تحتاج إلى العلماء وتلجأ إليهم بالطبع، ولكنه احتياج فني محض واختياري، وليس حقًا دينيًا للعلماء ولا واجبًا دينيًا على المتبعين إلا بمقدار حاجتهم "إن كنتم لا تعلمون".
والعالم ابتداءً هي صفة يمنحها الناس بثقتهم واتباعهم، ولا يستطيع أحد أن يدعيها أبدًا، لا بشهادة علمية تمنحها الجامعات ولا بأية وسيلة أخرى، ليس من وسيلة للحكم على عالم بأنه عالم سوى ثقة الناس واتباعهم، وليس لأحد في ذلك سلطة مادية ولا مطلب يدعيه ويطالب به الناس.
هذه (الفوضى) لا تضر بالعلم والفهم كما يزعم البعض، بل العكس تمامًا، فإنها تضع العلم والعلماء أمام تحدّي البحث والإقناع والحجة، وألا يركنوا إلى سلطة دينية وهيمنة على الناس لا حق لهم بها، ولم يمنحها له شرع ولا دين، وتجعل العلم بالدين عملية متواصلة خاضعة للبحث العلمي ومناهجه العلمية المتبعة في سائر العلوم، وتحرره من التخلف والجمود، والعلم ابتداء يحب أن يكون قابلاً لإثبات الخطأ، وليس يقينًا نزل من السماء. فأن يكون الإنسان عالمًا ليس له ولاية دينية ولا مؤسسية، يعني أيضًا أن يكون ملتزمًا تمامًا باحتمال خطئه ونسبية صوابه، فلا علم مع اليقين.