الديـن جدل الحقيقة والوظيفة
فئة : مقالات
الديـن
جدل الحقيقة والوظيفة(*)
وتمحورت هذه المحاضرة حول مفهوم الدين؛ فغالبا ما يتم تناول قضية الدين في إطار الاستدلال، فينبري الباحثون إلى المنافحة، نظريا، عن معتقد ما وفق منهج عقلي، كذلك يفعل المخالف، إذ ينبري هو بدوره، سواء كان مخالفا لهذا المعتقد خاصة، أو منكرا للاعتقاد في جملته عامة، إلى الرد وفق نفس المنهج، فيسوق حججا يعارض بها الحجج الأولى. لكن ماذا لو كان التدين أمرا يتجاوز الحجاج والنظر أصلا؟ ماذا لو كان سؤال الاعتقاد واقعا خارج مقولة "الحقيقة"؟ هل يبقى من قيمة معرفية لمثل هذا التناول؟
منذ نهاية القرن التاسع عشر، حصل تحول عميق في كيفية تناول الظاهرة الدينية، تحول تجسد في اقتراح مفاهيم جديدة لفهم حقيقتها كظاهرة، مفاهيم يمكن تلخيصها في مقولة جامعة هي "المعنى"، ففي ماذا تتمثل عناصر هذا الرؤية الجديدة؟ وما النتائج الفلسفية التي تترتب عن اعتمادها في فهمنا للتدين؟
هذا ما ستعمل هذه المحاضرة على بسط بعض عناصره، من خلال نماذج فلسفية وعلمية مخصوصة.
تحرير الإشكال:
نبتغي في هذه المحاضرة تحقيق ثلاثة أمور؛ أولها الخروج من الفهم القطعي - وبالتالي السجالي - عن الدين؛ وثانيها بيان الأصل الفلسفي الذي يقوم عليه هذا الفهم؛ ثالثها بسط التصور الذي يمكن أن يكون بديلا عن هذا الفهم. لكننا، وقبل البدء، نرى أنه لا بد من التنبيه إلى أمرين؛ أولهما أن حديثنا سيكون معرفيا خالصا، ولن يكون سياسيا ولا إيديولوجيا، ويبقى الحق لكل واحد في أن يشتق من هذا الحديث النظري الخالص، ما يناسبه عمليا؛ ثانيهما أننا لن نتحدث عن دين بعينه، بل سنتحدث عما يسمى في الفلسفة بـ "الدين الطبيعي"، ونقصد به هذا الدين الذي قال عنه سينيكا (الرسالة 117) بأنه "مشترك بين كل الناس"، على اعتبار أن "كل الناس يملكون فكرة ما عن الآلهة". هكذا فنحن، في حديثنا عن الإله، لن نستقصد إلا الإله "المعقول"، أو ما اشتهر عند المحدثين تحت مسمى "إله الفلاسفة"، وهذا ليس لتلافي سوء الفهم الممكن فقط، بل لاعتبارات معرفية خالصة، سنتبينها فيما سيلحق.
"جواب" الميتافيزيقا وتضميناته:
شغلت مسألة الألوهية جل تاريخ الفلسفة الكلاسيكية؛ فمعظم تاريخ الميتافيزيقا كان تاريخا للاستدلال على صحة الاعتقاد، ومنه على صحة التوحيد - في الفترة الوسيطية - بالعقل؛ وهذا ما يفسر كون تسمية "الميتافيزيقا" كانت تأتي كمرادف "للفلسفة" في عمومها، إذ إنه ومنذ أرسطو (مقالة اللام)، بل ربما منذ أفلاطون (محاورة طيماووس)، اعتبر النظر الميتافيزيقي أرقى أنواع النظر، والنظر في الألوهية حصرا أشرف هذه الأنواع، حتى تسمى هذا المبحث بـ "الفلسفة الأولى"[1]، فلا مبحث أسمى من مبحث العلة الأولى[2]، ولم يزد توالي الأيام هذا الأمر إلا رسوخا، كذلك كان الشأن في العصر الوسيط، حيث صار البحث الفلسفي بحثا خالصا في سبل التوفيق بين الحكمة والشريعة (الأرسطية الإسلامية) أو النص المقدس والحكمة الوثنية (اللاهوت المسيحي)؛ وقد استمر الأمر بعد ذلك مع "العقلانية" الفرنسية والمثالية الألمانية.
تاريخ الفلسفة إذن، كان تاريخا لمبحث الألوهية، تاريخ احتلت فيه الثيولوجيا (وهي عبارة أرسطية أصيلة) مكانة الصدر، كما وكيفا[3]، فلا بحث في باقي مجالات الفلسفة كميا: (الطبيعيات والمنطقيات والآثار والطب واللحون والطبائع...) إلا بافتراض أن هذه المباحث كلها "خادمة"، لعلم أشرف منها، كيفيا، وهو الثيولوجيا، اللهم في بعض اللحظات النادرة من تاريخ الفلسفة، لحظات جسدها خصوصا الفلاسفة "الحيويون"، أو ما كان يسمى بـ "الذريين" أو الأبيقوريين (بلفظ كانط)، ممن لم يكن لهم كبير أثر على التاريخ "الرسمي" للفلسفة.
ليس الغرض عندنا هنا، أن نتحدث عن "متون" هذه الفلسفات تحديدا؛ أي ليس الغرض أن نبسط ما عرضته اتجاهاتها من قضايا وإشكالات بخصوص سؤال الألوهية، وجودا وعدما، فمن شأن ذلك أن يحول نقاشنا إلى حديث "مضموني"، وهذه على كل حال أمور قتلت درسا[4]، لكننا سنعلق نظرنا بأمر يبدو لنا أهم، من الناحية الفلسفية، قياسا إلى ما نبتغيه في الجملة من هذا الكلام، وهو المسلمات الداخلية والمبادئ الضمنية التي احتكم إليها تصور الميتافيزيقا هذا، في مجموعه، لمسألة الألوهية، دون أن يعيه ضرورة.
ما "الأساس" الذي يمكن أن نقول إنه هو ما جعل خطاب الميتافيزيقا ممكنا؟
على أي ما وجه قلبت أمر تاريخ الميتافيزيقا هذا وتدبّرته، تجد أن ثابته الفلسفي الذي جعله ممكنا كان هو مقولة "الحقيقة"؛ فالفلسفات القديمة كلها، حتى في معمارياتها الأكثر بهاء، كانت تقف على أرضية واحدة، هي مسلمة الحقيقة، هكذا فتراجع وضمور مسلمة الحقيقة، في القرن التاسع عشر تحديدا، سيجعل هذه المعماريات تتهاوى وتسّاقط، وهذا ما حصل مع كانط، كما هو مشهور، حين اعتبر أن الميتافيزيقا مستحيلة كعلم.
لعلنا لا نحتاج أن نذكر بالنقد الرهيب الذي أجراه كانط للميتافيزيقا[5]، وهو النقد الذي فتح الباب، في نظرنا، أمام كل فلسفات التفكيك التالية عليه، فتصور كانط هو أشهر من أن يذكّر به، لكننا ربما نحتاج لأن نذكر بما نتج فلسفيا عن هذه الضربة القوية.
النتيجة المباشرة الأبرز، كانت هي إخراج الدين من مجال الحقيقة، والألوهية من دائرة المعرفة، وإدخالهما معا في دائرة الإيمان، فالعقل ليس له أن يحسم في الإلهيات، وجودا وعدما؛ النتيجة الثانية، وهي الأخطر في نظرنا، هي التخلي عن مقولة الحقيقة نفسها، فلم تعد "غائية" الحقيقة و"معياريتها" أمرا مسلما به، وهنا نشأ حرج قوي شغل الفلاسفة بعد كانط كثيرا، إذ إن اطّراح الحقيقة معناه التسليم بأنه لم يعد هناك من أساس يمكن أن نسند إليه التجربة البشرية في جملتها، هذا رغم محاولة كانط نفسه، في "نقد العقل العملي"، رفع هذا الحرج، قيميا على الأقل. وقد ظل الأمر كذلك إلى حدود نيتشه، إذ لا أحد، إلا نيتشه، قدم بديلا معتبرا (رغم التحفظات التي قدمها هابرماس ومن والاه حول هذا الأمر)، لمقولة الحقيقة، لهذا فلا يمكن أن نقرأ نيتشه، إلا باعتباره تتمة لكانط، ليس فقط من حيث إن الجينيالوجيا هي المنهج الذي يحقق عمليا "الطموح" الذي أعلن عنه "نقد العقل الخالص" في تفكيك أسس الميتافيزيقا ويدفعه إلى أقصاه، بل إثباتا أيضا، من جهة ما أن نيتشه هو من سعى لإرساء أساس جديد للتجربة الوجودية والمعرفية للإنسان، وهذا الأساس كان هو مقولتي "المعنى" le sens والقيمة la valeur[6].
لنقل إذن، حتى نختصر ومن ثمة نتقدم، إن المسلمة الميتافيزيقية التي مفادها أن الرهان والمهمة الأساسية للفكر هي معرفة الحقيقة، وأن الناس تحيا وتمتحن وجودها وتموت لأجل الحقيقة، صارت، مع بداية القرن التاسع عشر، محض افتراض أخلاقي لا دليل عليه، وإن الذي مكن من هذا ابتداء هو كانط، والذي أبرز مؤدياته و"استثمرها" هو نيتشه، حين بيّن أن الحقيقة هي، أولا، حقائق، ليس فقط بالمعنى "الكمي" السوفسطائي القديم فقط، بل كذلك بالمعنى "المنظوري"، فالحقيقة ليست نسبية، بل هي على الأخص "منظورية"؛ فالحقيقة قائمة، لكن من جهة ما أن المناظير هي ما يقيمها في فعل دورانها حولها، عوض أن نكتفي بـ "تنسيبها"، وهو ما لن يكون، في نظر نيتشه، إلا وجها آخر لنفس التصور الكلياني القديم عن الحقيقة؛ ثم حين بيّن، ثانيا، أن الحقائق شيء يخضع للزمان، يولد ويفنى، عوض أن يكون "بوصلة" متعالية توجه الزمان وتحاكمه من الخارج، ثالث هذه العناصر وأهمها، في نظرنا، هو بيان كيف أن الحقائق هي نفسها "حاملة" لقيم ومعبرة عنها، عوض أن تكون "أساسا" متعاليا قبرليا، هكذا نجد أن هناك حقائق سوقية، وحقائق منحطة، وحقائق مفيدة (وهذا ما بسطه البراغماتيون أكثر من نيتشه)؛ والمعيار في كل هذا هو ما يزكي الحياة، إذ إن هناك شيئا أهم من الحقيقة عند نيتشه وهو الحياة. هكذ تصير الحقيقة "قيمة"، قيمة مرهونة بمدى قدرتها على منح أسباب الحياة، وهذا ما يعني، فلسفيا، أن المهمة الأساسية للفكر ستكون هي امتحان هذه القيمة، أو القيم، نفسها، بالحفر عن المعنى الذي تعطيه كل واحدة منها للحياة.
إذا ما أخذنا هذا الأمر مأخذ جد، وسلمنا مع نيتشه بما أسس له، يصير من اللازم أن نتخلى عن منطق رؤيتنا السابق، وأن نغير من صيغة أسئلتنا كما صاغتها الميتافيزيقا، هكذا فعوض السؤال السابق - الذي شغل تاريخ الفلاسفة الكلاسيكيين - هل الإله موجود أم لا؟ وكيف للفكر أن يستدل على هذا؟ يصير السؤال أكثر واقعية، أكثر جينيالوجية بلغة نيتشه، يصير هو: ما هذا الشيء الذي يجعل الدين موجودا أصلا؟ وما شكل الوظيفة التي يقدمها؟ وما قيمته قياسا للوجود الإنساني وللحياة؟
نحن هنا أمام تحول مركزي، تحول هو من العمق بحيث تصير كل "الأجوبة" الفلسفية حول الدين، موافقة أو مخالفة، غير ذات أهمية كبرى؛ فالأمر لم يعد امتحانا لصحة الأجوبة أو فسادها، بل يصير بحثا عن الأسباب التي تجعل الحاجة إلى هذه الأجوبة موجودة أصلا[7].
على أنهإن كانت هناك من فاعلية معرفية حققت هذا التحول ومكنت له، فهي، في تصورنا، العلوم الإنسانية، إذ إن هذه العلوم، وعلى مدار قرن ونصف، كانت هي النمط المعرفي الذي حقق "عمليا" طموح نيتشه الذي أعلناه سابقا، بل إننا نجد شيئا من هذا، نصيا، عند نيتشه نفسه، وبالضبط في الكتاب الأول من جينيالوجيا الأخلاق، حيث يعلن الفيلسوف أنه "يتمنى" أن تنشأ علوم جديدة، علوم "تحول" من السؤال الميتافيزيقي الكلاسيكي، ليصير متعلقا ببحث "النفس" الإنسانية وأفعالها العملية، قياسا دائما إلى معيار القيمة والمعنى والعلاقة بالحياة[8].
"سؤال" الإنسانيات و"حدوده":
ليس بمقدورنا، في سياق هذه المحاضرة، أن نقف عند مجمل التصورات والنتائج التي صاغتها العلوم الإنسانية، في جملتها، عن الدين والإله وسؤال الاعتقاد؛ فالوقت والسياق لا يسمح، ثم إن هذه التصورات معروفة ومتداولة، خصوصا السوسيولوجية منها، كما هو الشأن مع نصوص دوركهايم[9] المشهورة حول الدين، والتي دافع فيها عن تصور "وظيفي" يقرن حقيقة الدين بـ "فعله" الاجتماعي، لكننا بالمقابل نريد أن نقف عند تصور آخر، وهو موقف التحليل النفسي، وموقف فرويد منه تحديدا، هذا بغض النظر عن النقاش الإبستمولوجي، القديم الجديد، حول حجية انتماء التحليل النفسي أصلا للعلوم الإنسانية، قيمته النظرية.
لماذا التحليل النفسي، وفرويد منه تحديدا؟ لسببين اثنين، الأول منها أن تصور فرويد لهذه المسألة لم ينتبه إليه كثيرا، على عكس باقي المسائل، والعلة في ذلك أن اهتمام المفكر بهذا الأمر لم يأت، تصريحا، إلا في المرحلة الأخيرة من عمله (بداية من نهاية الحرب العالمية الأولى)، وهي المرحلة التي بدأت تتسم فيها كتابات فرويد بتجريد أكبر ونزوع نحو التنظير أقوى، وصارت مختلفة، في بعض الأحيان، كليا عن نصوصه الشهيرة الأولى؛ وثاني هذه الأسباب هو أن هذه النصوص تتناول بشكل مباشر الإشكال الذي نحن بصدده، ومن الزاوية التي ذكرنا، وبشكل ناصع ومجرد في آن، حتى أن القارئ يستشعر أن الرجل، في هذه النصوص، يصير محض "فيلسوف دين"؛ فيلسوف يحادث الوسطويين من الميتافيزيقيين، والقدامى من المتألهين، بلغة بالغة الدقة والقوة.
يلح فرويد في نصوصه هذه، خصوصا منها نص "مستقبل وهم"[10]، على مسألة مهمة جدا، تجسد، في نظرنا، جوهر طموح نيتشه الذي عرضناه سابقا، وهي بيان هذه النصوص كيف أن الدين، إن لم تكن من حقيقة، فإن له وظيفة خطيرة، فالدين يطلع بمنح "المعنى" في عالم لا معنى له، وبتقديم جواب عن سؤال معلق هو سؤال "الغاية" من تراجيديا الوضع البشري؛ فالإنسان من حيث هو الكائن الوحيد الذي يحيا مع فكرة الموت، ومع الأموات، ومن حيث هو المتناهي الوحيد الذي يملك فكرة عن اللامتناهي، يمتلك شكل وجود "تراجيدي" بالضرورة، وهو في وضعه المتوتر هذا، الذي يجعله خيطا مشدودا بين عدمين، يحتاج أن ينتج سندا يمنحه المعنى، وهذا ما لا يضطلع به، قياسا إلى العدد الأكبر من الناس، إلا الدين، هكذا فإن لم يكن للاعتقاد من أصل "معرفي"، من الناحية النظرية، فإن حجيته تأتيه من "واقعيته" هذه، فقد لا يكون للدين من حقيقة موضوعية؛ نعم، لكن هناك حاجة موضوعية تمنحه حق الوجود، إذ إن هذا الكائن المتناهي الذي هو الإنسان، هذا الموجود الذي أكل من شجرة المعرفة "المحرمة"، فوعى "تناهيه" و"عابريته" أمام الصمت المرعب "للنجوم الصامتة الساكنة الخالدة حوله"، هذا الكائن الذي وعى فناءه وشقاءه الأصلي، هو كائن محتاج للعزاء، محتاج لآلهة تعمر عالمه، محتاج للأمن والفهم و"الأمل" الذي يسنده ويعصمه من أن ينكسر، كما قصبة (roseau) أمام الأسئلة الميتافيزيقية التي تعصف به في كل حين، وأمام القلق الوجودي الذي ينخره أحشاءه في كل حين، كما تنخر الحشرة قلب الفاكهة.
بغض النظر عن نقط القرب (تعلقه بسؤال المعنى بدل الحقيقة) وأسباب البعد (نظرية الإنسان الأرقى) التي قد نجد بين هذا الموقف الذي اختصرناه بشكل قد لا يخلو من ابتسار، وموقف نيتشه المذكور آنفا، وبغض النظر عما قد نراه من صلات بين هذا التصور والفلسفات السابقة عليه، فإننا نجد أن هذا التصور، قياسا إلى ما يهمنا هنا، مناسب تماما للتمثيل على "التحول" الذي ذكرنا، إذ هو يجسد بجلاء، وبلغة لا تخلو من روح تراجيدية عميقة، الكيفية التي صار ينبغي بحسبها أن نتمثل، فلسفيا، بعد نيتشه، سؤال الألوهية والدين، فالاعتقاد لم يعد مسألة حقيقة نظرية كما اعتقد القدامى، ولا مسألة "تحقق" تجريبي كما يعتقد اليوم بسذاجة الوضعيون المناطقة، vérificationnisme، بل هو مسألة تقع في أصل أعمق بكثير، قد يسميها فرويد باللاشعور، فالناس تتدين أو لا تتدين لا لأسباب عقلية شعورية، بل لأسباب سيكولوجية لا شعورية أساسا، إنها مسألة "وجودية"، مسألة حياة وموت، مسألة معاناة في عالم يبدو وكأن كل شيء فيه قد وجد "ضدنا"، وهذا ما كان قد نبه إليه، قبل فرويد، فيلسوف كبير، ظلم كثيرا، وهو باسكال، حين قال (في الشذرات، 347- 348 - 449 من كتاب التأملات)، وبأسلوب بديع، إن وجود الإله أوعدمه ليس هو الأهم في النهاية، بل ما يهم هو أن هذا الإله "ضماد"، ضماد يطيّب جراح الحزانى، ويشد من أرواحهم ويسندها، حتى لا تنفلق أمام هول الحياة وغلواء الأحداث وغلبة الحظ والزمان.
خاتمة:
وبعد، ما الذي يمكن أن نستفيده نحن، عمليا، وقياسا إلى كل هذا التعريج والاستشهاد والتدليل؟ قياسا إلى هذا الموضوع الذي تطرقنا له؟
يمكن أن نستفيد شيئا مهما جدا، وسأبسطه من خلال سؤال شخصي، كنت دائما أطرح على نفسي، خصوصا مع بداية اهتمامي بالفلسفة المعاصرة، سؤالا، وهو لم لا يتحدث الفلاسفة المعاصرون الكبار المعتمدون في القرن العشرين، عن مسألة الإلحاد والاعتقاد، رغم أن منهم من يمكن أن نستشف، بشكل واضح جدا، إلحاده من "منطق" تفكيره؟ الجواب سيكون، بعد هذا الذي تقدم، أن العلة في ذلك هي أن سؤالا مثل هذا، ليس خاطئا فلسفيا فقط، بل هو فاقد لكل قيمة، إذ إن سؤال الدين ليس متعلقا بالحقيقة أصلا، نفيا وإثباتا.
تنتج عن هذا الأمر، نتيجتان عمليتان اثنتان، قياسا لما يهمنا نحن من هذا الحديث في جملته، الأولى هي أن كل التراث الثيولوجي والمناظرات والفلسفات السابقة، على متانتها وقوتها، يصير غير حامل لقيمة معرفية" إلا من جهة "الفرجة" ومتعة التنظير، والثانية منهما أن كل "فلسفة دعوية" دينيا أو لا دينيا، مؤمنة أو ملحدة، هي اليوم غير ممكنة فلسفيا، أو على الأقل غير ممكنة وفق التصور الذي طرحنا، لأن الأجوبة إن لم تكن قد حسمت - ولم يكن لها أن تحسم - فإن الأسئلة قد تغيرت جذريا. قد تكون النتيجة أن نقول، أخيرا، رغم الطابع المبتذل لهذه الفكرة من كثرة ما تكررت، إن الحل، العملي قبل النظري، هو في الدفاع عن الاختلاف، وهذا شيء نوافق عليه، شريطة أن نتصوره اختلافا جذريا، اختلافا لا يسعى لأية غاية "اتفاق"؛ فالإيمان بالاختلاف لا تكون له من قيمة فعلية، إلا حين يجرب ذاته في ما هو جذري؛ أي في السياسة والدين.
* نص المحاضرة التي نظمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود بصالون جدل بالرباط. بتاريخ 10 يونيو 2017
[1] انظر مقالتي "الألف" alpha، ثم مقالة "الهاء"، Epsilon، من كتاب "ما بعد الطبيعة".
[2] انظر الكتاب الثامن من الطبيعة، ومقالة "اللام" Lambda من "ما بعد الطبيعة".
[3] تجسد هذا الأمر، في المجال الإسلامي مع علم الكلام، بما فيه هذا التصور السامي عن مبحث الألوهية كما قرره أرسطو، هكذا تسمّى علم الكلام بـ "الفقه الأكبر"، وبعلم "أصول الدين"، وبـ "علم الإيمان"، وقد كان المتكلمون يرون أن شرفه يأتي من تعلقه بالله وأسمائه وصفاته، والقضاء والقدر وما تحرر فيه الإيمان، وفي هذا يقول أبو حنيفة: "أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر" إشارات المرام من عبارات الإمام أبي حنيفة النعمان، ص: 28-29، وفي هذا أيضا يقول الإيجي (كتاب المواقف) "إن موضوعه أعم الأمور وأعلاها وغايته أشرف الغايات وأجداها ودلائله يقينية يحكم بها صريح العقل وقد تأيدت بالنقل وهي الغاية في الوثاقة، وهذه هي جهات شرف العلم لا تعدوها فهو أشرف العلوم... وهو العلم الأعلى ...، فمنه تستمد العلوم، وهو لا يستمد من غيره، فهو رئيس العلوم على الإطلاق" (1/43)، ومثل هذا كثير وشائع عند المتكلمين قديما وحديثا.
[4] تعلق النظر في قضية الألوهية عموما، إثباتا ونفيا، ومهما تعددت الصيغ، بثلاثة أدلة فلسفية، عنها تنسُل باقي القضايا، أولها الدليل الأنطولوجي (القبلي)، ثم الدليل الكوسمولوجي أو دليل العلية، وأخيرا الدليل التيليولوجي أو دليل الأبدعية والعناية، الأول منهما اشتهر به القديس أنسيلم (1033- 1109م) وسمي قبليا لأنه يُشتق من ماهية وحدّ الإله نفسه دونما حاجة للتجربة، وما زال يعتمد إلى اليوم مع بعض المحدثين، وتصويره الهندسي يمكن أن يصاغ كالتالي:
أ- الإله هو الكائن الكامل
ب- الوجود جزء من الكمال
ت- الإله موجود
وقد ذاعت شهرة هذا الدليل لاعتماد ديكارت إياه في كتاب التأملات.
الدليل الكوسمولوجي، ويسمى أيضا بدليل العلية، وهو أقدم من الأنطولوجي، لأنه ورد أول الأمر في كتاب "ما بعد الطبيعة"، مقالة اللام، وتصويره منطقيا هو:
أ- إذا كان العالم مدركا عندنا فذلك لأن لكل معلول علة، ولكل علة علة.
ب- إذا كانت سلسلة العلل لا تنتهي سيكون من المتعذر فهم العالم.
ج- بيد أن العالم مدرك ومفهوم، بالتالي هناك بالضرورة علة أولى وإلا سقطنا في التسلسل، علة لا علة قبلها وهذه هي الإله.
الدليل الغائي (وقد يرد أيضا بمسمى العناية أو الأبدعية)، L'argument téléologique، وهو دليل انتشر أكثر من غيره لبساطته، إذ هو يحتج ببهاء العالم ونظامه لإثبات وجود صانع، وقد أجاد نيوتن في تلخيصه في نصه مبادئ الفلسفة الطبيعية بقوله:
"إن هذا التنظيم الرائع الذي نراه في الكواكب والشمس والمذنبات، لا يمكن أن يكن له من أصل إلا إرادة وتعالي كائن عاقل وقادر... وهذا الكائن يهيمن على العالم، لا باعتباره روح العالم بل من حيث هو المهيمن على كل ما هو موجود".
ويمكن أن نصوغ هذا الدليل منطقيا كالتالي:
أ- هناك نظام في الطبيعة
ب- المادة لا تنتج النظام من ذاتها تلقائيا
ت- إذن هناك علة واعية غائية تنظم العالم.
نشير هنا إلى أن هذه الأدلة تبلغ صيغتها الأتم مع ديكارت، الذي يعد تأمله الثالث والخامس، من أهم النصوص الفلسفية التي بسطت هذه القضايا.
[5] كان هذا النقد هو أساس كتاب "نقد العقل الخالص"، حيث بين الفيلسوف استحالة تحقيق معرفة دون تدخل الحس، وهو ما يتعذر في الميتافيزيقا؛ في هذا السياق وفي ارتباط بالأدلة المحددة التي بسطنا أعلاه، نورد النقد الذي قدمه كانط للدليل الأنطلوجي، وأهم ما في هذا النقد هو أنه يعتبر أن الوجود ليس محمولا حتى نشتقه ضرورة من مفهوم الإله، فإن كانت فكرة المثلث تلزمنا، قبليا، بالتسليم بثلاث زوايا، دون الاستناد إلى أية تجربة - وهو المثال الهندسي الذي مثل به ديكارت للدليل الأنطولوجي - فإن هذا لا يصح عندما نقابله بضرورة اشتقاق الوجود من تصورنا عن الإله فقط، والعلة في ذلك أن "الوجود" ليس محمولا، هكذا وبالعودة لمثال المثلث، فإذا لم يكن المثلث موجودا ابتداء، فلن توجد الزوايا الثلاث، فزوايا المثلث ضرورية في التصور صحيح، لكنها لا تضيف أي شيء في الوجود الفعلي للمثلث أو عدمه، فالضرورة الصورية لا تفيد أية ضرورة وجودية.
انظر في هذا الصدد
E. Kant, Critique de la raison pure, Ed. Puf Quadrige, pp. 429-30
كما أننا نجد شيئا من هذا النقد، وقبل كانط، عند هيوم، أنظر
D. Hume, Enquete sur l’entendement humain, section VI; premiere partie
يمكن بخصوص دليل العلية والعناية الرجوع إلى "حوارات حول الدين الطبيعي"، وفيه يبين أن العقل لا يمكن أن يقضي إثباثا أو نفيا في علية العالم، كما يمكن أيضا بخصوص هذين الدليلين العودة لتذييل الكتاب الأول من "علم الأخلاق" لسبينوزا، حيث يبين الفيلسوف أن تصورالعالم معلولا بصانع، أي العالم الآلة والإله المحرك، ينبني على خطأ أولي، كونه يصور الإله على صورة الإنسان، فيقيس الغائب على الشاهد، ويجعل من الإله حاكما بشريا، فيؤنسه ويشبّهه، في هذا النص كذلك هناك نقد لدليل الأبدعية، ببيان كيف أن في العالم من أسباب النظام والخير بقدر ما فيه من أسباب الفوضى والشر، وقد قتل هذا بحثا فلاسفة كثر من بعده، بين موافق ومعارض، من ليبنتز إلى فولتير.
[6] انظر في هذا الصدد
Gilles Deleuze, Nietzsche et la philosophie, puf; paris, 1962,
خصوصا مقدمة الكتاب، وفصل "منهج نيتشه"، والصفحة 88 (طبعة 1997) وما بعدها.
[7] يكاد الأمر لا يكون محصورا في نيتشه لكن نيتشه نستعمله كأبرز وجه لهذا، وإلا فهناك برغسون،
Les deux sources de la morale et de la religion
وهناك البرغماتية،
The Varieties of Religious Experience: A Study in Human Nature
[8] جينيالوجيا الأخلاق، القسم الأول، الفقرة 17
[9] انظر نصه الأشكال الأولية للحياة الدينية، Les Formes élémentaires de la vie religieuse
الصادر سنة، 1912
[10] نقصد فرويد المرحلة الأخيرة، مرحلة ما بعد الحرب العالمية (الأولى)، والتي أصدر فيها كتبا مهمة هي:
تأملات آنية حول الحرب والموت (1915)
فيما وراء مبدأ اللذة (1920)
سيكولوجيا الجموع وتحليل الأنا (1921)
وخصوصا كتاب مستقبل وهم، (1927)، الذي استقينا منه مباشرة التصور المذكور.
انظر مثلا الصفحات 28– 49 ... حيث يقول:
"الإنسان من دون الدين سيصير في وضع مأساوي، إنه سيكون مجبرا على الوعيبمدى قهره، ومدى تناهيه قياسا للكون في مجموعه...إنه سيجد نفسه في وضع الطفل حين يخرج لأول مرة من بيت أبويه".
ثم انظر في نص قلق في الحضارة الصفحات 22- 21؛ 25-55
(وكل الصفحات المحال عليها هنا هي مأخوذة من الترجمة الفرنسية لهذه النصوص والمتاحة رقميا على الشبكة).