الدين والتنوير: تحرير الدين من التيولوجيا السياسية، أو نحو حداثة بدون عوائق
فئة : مقالات
"إنّ الأخلاقية يجب ألا تتأسس على التيولوجيا، يجب أن يكون مبدؤها في ذاتها هو أساس تصرفاتنا".
كانط
"إنّ الدين يجب ألا يقتصر على العقائد الجامدة، ولا يجوز تعلمه من الكتب، ويجب ألا يكون لاهوتياً، بل بالأحرى أن يكون قوة حية تزدهر في الحياة الواقعية، أي في عاداته وتقاليده واحتفالاته، يجب ألا يكون الدين أخروياً، بل دنيوياً إنسانياً، وعليه أن يمجّد الفرح والحياة الأرضية، لا الآلام والعذاب وجحيم الحياة الأخرى".
هيجل
يُطرح اليوم بالمغرب، وبكل إلحاح تقتضيه المرحلة، سؤال إشكالي حول المسألة الدينية وعلاقتها بأسئلة الحاضر المتعلقة بالتنوير والحداثة. ولعل الإشكال الجوهري الذي يبدو راهناً يتعلق بالسؤال التالي: كيف يمكننا تحرير الدين من التيولوجيا، وبالتالي من نسق الوصاية الذي يجعل من الدين عائقاً أساسياً يحول دون تحرير الإنسان؟ وما هي الخطوة اللازمة لهذا التحرير؟ وكيف نستعيد حداثة تنويرية بدون عوائق؟ إنّ هذا الطرح يستمد مشروعيته انطلاقاً من الأحداث التي تشهدها الساحة السياسية والفكرية التي تكاد تعصف بها دعوات نكوصية تستهدف العقل وتجعله عاجزاً عن ولوج عتبة الحداثة.
وإذا كان سؤال التنوير أساسياً لاستعادة حالة الرشد، والتخلص من حالة القصور التي يعدّ الإنسان ذاته مسؤولاً عنها حسب كانط، فإنّ سؤال الحداثة يعتبر اليوم جوهرياً لمساءلة الحالة الثقافية والإرث الثقافي، الذي ما زال يقبع تحت حضن الوصاية "التيو- سياسية"، التي ليس لها من همّ سوى إخضاع الإرادة الإنسانية لإرادة قوة ارتكاسية من أجل إبقاء السيطرة على المجتمع المغربي، وإعاقته عن انعتاقه من بنية تكاد تكبّل قدراته التحريرية التي تعيد مصالحته مع التاريخ وتؤسس لعلاقة طبيعية مع الوجود والحياة.
ومن ثم فإنّ سؤال الحداثة رهين بسؤال التجاوز، ما دام أنّ تفكيراً أصيلاً في الحداثة يقتضي تجاوز حالة العجز والقصور التي ترهن المستقبل، وتجعله خاضعاً لإرادة قوى الماضي الجاثمة فوق العقول، وهي بذلك تحقق هدفاً مزدوجاً: القضاء على أيّة إمكانية لاستعادة الرشد مغربياً، والقضاء على أيّة إمكانية للحداثة المستقبلية.
إنّ استحضار التنوير في الحالة المغربية هو إحدى ممكنات استباق المستقبل، وهو ما يعني التفكير في الفعل الاستباقي- التاريخي الذي يجعل من التجاوز انفلاتاً من القبضة التيو-سياسية، أي الانفلات من نزعة تأليه "الثوابت" وتقديسها إلى حد تصبح من خلاله حجباً تغطي أفق الكينونة الإنسانية، بمعنى آخر إنّ همّ هذه النزعة ليس إلا تكريساً لاستبداد ثقافي- سياسي يتخذ من لعبة السياسة، التي أضحت متاحة بفضل عوامل الحداثة الغربية، طريقة جديدة للقفز على التاريخ، وإنتاج ثقافة ارتكاسية شديدة الخطورة والذكاء. ذلك أنّ النزعة التيو-سياسية قد تمكنت -انطلاقاً من فهمها للعبتي الديمقراطية والتقنية الحديثة وهما معاً نتاج لعصر الحداثة- من بسط هيمنتها على الفضاء العمومي، فعبر وسائل الاتصال الرقمية الحديثة، التي تمكنت من التسلل إليها، عملت على إنتاج عقلية قطيعية شديدة التزمت، لا تنقاد إلا لرأي وفتاوى شيوخ نصّبوا أنفسهم أوصياء على الدين وعلى الله، وباتوا يقرّرون في كل التفاصيل الحياتية، وبالتالي فإنّ النزعة التيولوجية نجحت في خلق ما يمكن تسميته بالعبودية الذاتية، تلك التي يعجز من خلالها الإنسان عن تقرير مصيره الذاتي إلا بالرجوع إلى شيوخ النزعة التيو-سياسية، بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذه النزعة سمحت بظهور حالة لا تسامح شديدة الخطورة مبنية على عقيدة الولاء والبراء، هذا من جهة أولى.
ومن جهة ثانية فالنزعة التيو-سياسية قد استوعبت اللعبة الديمقراطية، في جانبها الانتخابي، ليس من أجل تدعيم التعددية السياسية التي تقبل بكل الأطراف المشاركة في اللعبة، وإنتاج ثقافة الاختلاف على أرضية التسامح، ولكن من أجل التبشير بمجتمع شمولي يستعيد القبضة التيولوجية في أبشع صورها التي يمكن أن تطال كل معالم الاختلاف، والحياة، والثقافة، والفن. إنّ هذه النزعة ما تفتأ تمارس الوصاية، وتنزع إلى مختلف أساليب الترهيب المعنوية والمادية، بما فيها الاستعداء وتحريض الجماهير ضد من تسميهم استئصاليين، وهي تقصد "استئصال الإسلام أو الدين"، ولأنها تتعمد اللبس فإنها تطابق ما بين نزعتها الاحتكارية للدين وبين الدين نفسه. إنها نزعة لا تتورع عن أن تقول "أنا الدين نفسه، أنا الإسلام ذاته". بمعنى أنّ كل توجه انتقادي للممارسات غير الأخلاقية لهذه النزعة الارتكاسية يعتبر انتقاداً للإسلام، للدين ولله، ومن ثم فغاية هذه النزعة ليست إلا السيطرة على أية إمكانية للتحرر والانعتاق من عوائق الإرث الثقافي، في سبيل الوصول إلى غاية أكبر وهي تأسيس مجتمع شمولي يستند إلى مرجعية احتكارية للدين، لا تقبل إلا بأسلوب وحيد هو ذلك الذي يدمّر قيم الحياة، ويعيد اغتراب الإنسان داخل نسق "تيو-سياسي" قائم على عدم إرادة الاقتدار والإبداع والإنسان والحياة.
إنّ استعادة التفكير في الدين والحداثة ـ من وجهة نظرناـ اختبار وإمكانية جديدة لنزع وتحرير الدين والإنسان عن هذه النزعة التيو-سياسية التي تنطلق من لاهوت الدين للإبقاء على حالة القصور السياسي للإنسان المغربي، وليس من أجل تحرير الإنسان كما هو شأن اللاهوت- السياسي في أمريكا اللاتينية؛ فهذه الاستعادة فيما نرى هي تفعيل للقدرة على إحداث التجاوز، يعني على خلق إمكانية الفعل من أجل الالتحام بالحدثية، وتخطي موقع داخل التاريخ غدا لا تاريخياً، وبما أنّ المشروع التنويري الحداثي هو مشروع حدثي، والحدثية هي القدرة على تحقيق حدث التجاوز وليست مشروعاً خطابياً بلاغياً، بقصد إشباع انعدام القدرة على الفعل، أو لتعويض عجز العقل وقصوره، كما هو الشأن في الخطاب المسمّى حداثياً لدى جُلّ الأحزاب السياسية بالمغرب، ولدى بعض الفاعلين ممن يتغنّون بالحداثة بوصفها واقعة بلاغية لا غير، فإنّ استعادة الحدثية مغربياً رهين بخلخلة أسس ثقافة الحجر، التي تستغلها النزعة التيو- سياسية الجديدة، من أجل فك الوصاية على الفكر، أي على الحريّة.
تغدو الحدثية تعبيراً عن انفلات تاريخي من مطبّ الاحتكار الدوغمائي للدين والعقل، وتخلص من حالة اللاتسامح التي لا تمجد سوى ثقافة ذات منظور وحيد قائم على عقيدة تقديس الثوابت الثقافية التي لم ينتجها سوى الإنسان ذاته، لصالح إرادة قوة ارتكاسية لا تستهدف سوى قهره وتعديمه.
ولعل السؤال الجوهري الذي يجعلنا اليوم في حالة قلق من أجل استعادة موقعنا داخل حركية العالم والانفتاح نحو الأفق الكوني للحداثة يظلّ مع ذلك هو نفسه ذلك السؤال الذي يقضّ مضجعنا الدوغمائي، يوقظنا من قبضة حالة ميتافيزيقية لا عقلانية، ليست قائمة على فهم علاقتنا بالوجود من حيث هو علة كينونتنا، كما أنها ليست قائمة على العلاقة بالآخر المطلق اللامتناهي من حيث هو محايث لتناهينا الوجودي، ولكنها قائمة على تأليه ما ليس إلهياً، أي تأليه ثوابت تُعدّ بمثابة حجاب للعقل يحول دون تلمس دروب الوجود الفسيحة.
إنّ التفكير في الدين هو محاولة للعقل من أجل الفهم، ليس من أجل الوصول إلى حقائق لاهوتية تفوق قدرة العقل الإنساني باعتباره عقلاً متناهياً يمتلك قدرات هائلة لكن ضمن مجال النسبي، ومن ثم فعجزه إزاء إدراك المطلق، ليس إلا إمكانية لتفعيل قدرته على ضمان استقلاليته الخاصة والتعبير عن إرادة التخلص من العوائق التي تولدها الطبيعة أو يولدها الإنسان ذاته عبر تاريخه الخاص، والتفكير في الدين بمعنى آخر هو محاولة فهم الواقعة الدينية، بما هي واقعة تاريخية، وهنا يجب ألا يلتبس المعنى، لأنه يجب الفصل بين الدين وبين الواقعة الدينية، فنحن هنا في الواقعة الدينية إزاء تصورات وتأويلات ثقافية للدين تولدت عبر صراع طويل داخل كل ديانة على حدة، وعبر صراع بين الديانات التوحيدية فيما بينها من جهة، وبينها وبين الديانات الأخرى من جهة ثانية.
وهذا يعني حسب فرانسوا كافالييه F.Cavallier، أنّ التفكير في الواقعة الدينية هو أولاً بحث عمّا هو مشترك في الأديان كلها، سواء فيما يتعلق بمسألة الألوهية أو فيما يتعلق بمسألة الإيمان بهذه الألوهية، كما يتعلق الأمر كذلك بما وراء كل ديانة مؤسسة، وربما بكل تعود أو ممارسة تميز بين العالم الدنيوي وبين العالم الآخر، أي بكل معنى مقدس يمكن أن ندعوه دينياً. فمفهوم الدين له معنى أيضاً حتى بالنسبة لغير المؤمن حتى أولئك الذين لا يعتقدون إطلاقاً. فلعل الدين من هذه الوجهة ليس إلا ذاكرة، كما أنه أيضاً بنية.
إنّ التحليل الفلسفي للدين يجب أن يتخطى بعض الصعوبات إذا ما أراد أن يكون فلسفياً، ففي المقام الأول يجب أن يتخلى عن أن يكون دينياً، إنّ الأمر كما يقول كفالييه لا يتعلق بلعب دور الدين أو على العكس من ذلك معارضته، كما لا يتعلق الأمر بمناقشة الإيمان الديني ومساءلته، ولا بالقيام بالتبشير له ومناصرته. إنّ تحليلاً فلسفياً للدين ينطلق من اعتباره واقعة، وتحليلها كما هي، وبالتالي فهذا التحليل لا يلحّ على النقاش حول الأحقية، ولا على المرجعية التي تحيل إليها عقيدة معينة بقدر ما يرتكز على تحليل الواقعة الدينية[1].
إذن يتعلق الأمر بتحليل منظورات حول الدين، لكنها منظورات ظلت مرتبطة بالأنطولوجيا أو بالتيولوجيا أو بهما معاً، أو ظلت مرتبطة بممارسات وعادات مارستها الأجيال الأولى-السلف- التي عاصرت ولادة دين ما وساهمت في نشر مبادئه. لكنها تحولت مع التاريخ إلى تيولوجيا تفوق قداستها قداسة المبادئ الأولى التي تأسس عليها الدين، بحيث قد يحدث تغيير جذري وانقلاب على فكرة الدين نفسه، بما أنه سينتج تقديساً للأشخاص الذين أضحوا فوق التاريخ، أي خارج أية مساءلة، كما أنه ولد منظوراً تقديساً لعصر سيغدو بدوره بداية التاريخ ومنتهاه.
إننا إذن إزاء منظورات وتأويلات قد لا يعترف بعضها بأنها مجرد تأويلات، ما دام أنها لا تقدم منظورها إلا على أساس مبدأ الأحقية، إنه مبدأ التساوي والتطابق بالمطلق.
وإذا كان الفكر الفلسفي الغربي بدءاً من سبينوزا وكانط وفيورباخ وهيجل ثم ليفناس قد استعاد مبادرة التفكير في الإنطولوجيا والتيولوجيا، بقصد تحرير الله من ميتافيزيقا الوجود، وتحرير الأخلاق من التيولوجيا كما هو الشأن عند كانط وليفناس رغم اختلاف منظوريهما، فإنّ الفكر الفلسفي ـالعربي خاصة ظلّ عاجزاً عن ملامسة الإشكال اللاهوتي-الإسلامي الذي تحوّل عبر التاريخ إلى نسيان التفكير في اللامتناهي باعتباره كذلك، والانقلاب نحو لاهوت تقديس المتناهي، وجعله أفقاً وغاية تنحصر داخلها ميتافيزيقا الإنسان العربي المسلم. يتمثل ذلك كما أشرنا في اعتبار تجربة الأشخاص الذين عاصروا عهد النبوة بأنها تعلو على كل مشروطية، فتغدو فوق الزمان والتاريخ، إنّ الغاية التي بلغتها تيولوجيا كهذه هي تقديس السلف الصالح الذي غدا مطلقاً يعلو على أية مساءلة، كما غدا أساساً وأصلاً يتقرر عليه مصير الإنسان مستقبلاً، وعلى قاعدته يتحدد كل معيار أخلاقي، ومن ثم فإن الأخلاق إن لم تكن مطابقة للأصل فإنها باطلة، وعلى هذا الأساس تمّ تأويل مفهوم السنة، وإخراجه عن سياقه الأصلي باعتباره يحيل إلى الإبداع والخلق، أي انتهاج طريقة جديدة مؤثرة وفعالة في المصير الإنساني، فغدا دالاً على الاتباع والنمطية والمضي وفق مبادئ أخلاقية وسلوكات وتصرفات ثم إنتاجها سلفاً، لا من قبل النبي فقط، بل من قبل أصحابه وتابعيه. إنّ منظوراً كهذا أعاد إنتاج ما يمكن أن نسميه هنا بلاهوت التقليد.
إنّ لا هوت التقليد ـ منهج السُنّة- تحول عبر التاريخ إلى تكريس إنسان اتباعي يخضع لوصاية الفتوى التي تقرر ما إذا كانت عقائده صحيحة أم باطلة، وما إذا كانت تصرفاته أخلاقية دينية أم هي أفعال لا أخلاقية بالمعنى الديني. وبالتالي فإنّ المبالغة في تقديس تجربة بعينها كثيراً ما كان يحول بين الإنسان وبين اختيار تجربته الميتافيزيقية على نحو مباشر، وعلى نحو اللامتناهي. ولعل التجربة الصوفية المتمثلة في ابن عربي هي الاستثناء النادر الذي استطاع أن يصل بالتجربة الميتافيزيقية إلى آفاق تجاوزت من خلاله حجب لاهوت التقليد، إنها تجربة التحمت بتأمل اللامتناهي في سبيل بناء إطيقا مؤسسة لعلاقات أخلاقية إنسانية تتجاوز الحدود والمواصفات الدينية واللغوية والعرقية الضيقة. فاستطاعت بذلك أن تكون تجربة كونية شملت برحابة أفقها كل ألوان الاختلاف الديني التوحيدي والوثني واللاديني أيضاً، كما استطاعت أن تجعل من الخيال أكبر وسيلة للإبداع والخلق، وبذلك فهذه التجربة هي التي تعبّر بحق عن مفهوم السُنّة بالمعنى الإيجابي الذي تمنحه لها اللغة العربية (سنّ سُنّة؛ انتهج طريقة جديدة)، وهو المعنى الذي يجب إعادة الاعتبار له اليوم لتخليصه من المعنى الانقلابي الذي جعله محصوراً عبر التاريخ في تكريس التقليد. إنه معنى مضاد حقاً للبدعة التي ليست في الأصل سوى دالة على المبالغة في تقليد أمور العبادات إما بالزيادة وهو الغالب أو بالنقصان وهو النادر، هذه المبالغة التي تصل إلى حدود نسيان الحياة، والنظر إليها نظرة ارتكاسية لا تقوم إلا على الحقد والكراهية ودم الآخرين والحكم عى تصرفاتهم، كما هو الشأن عند ابن تيمية الذي ذهب بعيداً في تكريسه للاهوت التقليد إلى حد الدعوة إلى تعديم الحياة، وتعديم القدرة والحرية الإنسانية، يقول في كتابه العبودية:
"كلّ علم لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله، وهو المشروع، وكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله" (ص 41).
إنه تأويل مجحف للحياة يقوم على حصر أفعال الإنسان داخل لاهوت التقليد باعتباره هو الوحيد الذي يكتسب الشرعية، ومعنى ذلك أنّ كل ما هو مرتبط بالحياة والإرادة الإنسانية يُعدّ باطلاً ما دام لا يوافق القاعدة الأساسية للاهوت التقليد، إنّ هذا المنظور ـالذي ينقلب على المنظور القرآني باعتباره يحث في كثير من المواقف على الالتفات إلى الجانب الدنيوي والانهماك بالملذات وبالحياة- قد أفضى بالتالي إلى تبنّي قيم ارتكاسية متمثلة في رفض الآخر رفضاً مطلقاً سواء كان هذا الآخر ينتمي إلى الدين نفسه، الشيعة، المتصوفة... أو ينتمي إلى ديانة توحيدية أخرى: المسيحية- اليهودية، أو ديانات وثنية أو طبيعية[2].
ومنظور كهذا قائم على لاهوت التقليد، استطاع رغم كل ذلك أن يؤسّس لانتشار قاعدته من خلال الفكر الوهابي المسؤول بالدرجة الأولى عن ظهور حركات أصولية ارتكاسية قائمة بالأساس على رفض الآخر، وتعديم الحياة، هذه الحركات استطاعت أن تتناسل وتخترق الأحزاب والمؤسسات المدنية خاصة في مصر، وتحيد بها عن اتجاه بناء الإنسان وإدماجه في الحياة المعاصرة وإشراكه في مجرى الحداثة، من أجل التبشير بمجتمع قائم على مبدأ التمايز الديني والمذهبي، فأعطت بذلك لمبدأ الولاء والبراء تفعيلاً جديداً عندما جعلت منه معيار ممارستها السياسية. والنتيجة هي ظهور لاهوت سياسي جديد يستعيد لاهوت التقليد لإحكام السيطرة على التاريخ والحياة والإنسان، والقضاء على أية إمكانية أخلاقية قائمة على أساس احترام وتقدير الآخر.
إنّ الفكر الفلسفي المغربي مطالب اليوم أكثر من الماضي باستعادة المبادرة من أجل التفكير في الدين خارج اللاهوت-السياسي، والتفكير في الأخلاق خارج لاهوت التقليد، إنها مبادرة تحقق هدفاً مزدوجاً يتمثل أساساً في تحرير الإنسان وانعتاقه وربطه بالحداثة الكونية، كما يتمثل في تفعيل مبدأ احترام القداسة الدينية، ومعنى ذلك كشف أي استغلال لاهوتي ـ سياسي للدين الذي يجب أن يظل مفارقاً للتجربة السياسية والقطيعية التي قد تحيد به عن أهدافه التهذيبية وتجعل منه إمكانية حقيقية لتدمير الآخر وإرهابه واحتقاره؛ إمكانية كفيلة بانبثاق طائفية دينية شديدة العداء لكل نزوع إرادي نحو الحياة، بمعنى آخر فإنّ تعالي الدين عن التجربة السياسية هو الضمانة الوحيدة لقداسة اللامتناهي وقداسة الدين، وهذا يعني أن يكون الدين ضمير الإنسانية اليقظ المرتبط بالأفق الميتافزيقي للإنسانية، أي بما يشبع ذاتية الأفراد ورغبتهم في اللامتناهي، أي الاستجابة التي تولد في المتناهي الإنساني المسؤولية تجاه الآخر المتناهي هو أيضاً. إنّ الديني بهذا المعنى أضحى محايثاً للتجربة الإنسانية، لكنها محايثة مشروطة بأولوية الإطيقا، أي بالعلاقة الأخلاقية التي تحدّد مجال الدين في الضمير الحي المرتبط بتمجيد قيم الحياة الإنسانية.
إنّ الدين كما يقول هيجل "يجب ألا يقتصر على العقائد الجامدة، ولا يجوز تعلمه من الكتب، ويجب ألا يكون لاهوتياً، بل أن يكون قوة حية تزدهر في الحياة الواقعية، أي في عاداته وتقاليده واحتفالاته، يجب ألا يكون الدين أخروياً، بل دنيوياً إنسانياً، وعليه أن يمجّد الفرح، والحياة الأرضية لا الآلام والعذاب وجحيم الحياة الأخرى"[3].
إنّ تأويلاً إيجابياً كهذا إنما يعلي من مبدأ الإنسان باعتباره مصدر تمثلاته للدين وللأخلاق، وهو تأويل يفضي إلى تحرير الدين والأخلاق معاً من النزعة التيوسياسية، ولعل كانط يُعدّ مبادراً حينما دعا في كتابه دروس حول النظرية الفلسفية للدين إلى تحرير الأخلاق من التيولوجيا، إنّ الأخلاقية فيما يرى "يجب ألا تتأسس على التيولوجيا، يجب أن يكون مبدؤها في ذاتها هو أساس تصرفاتنا".[4]
إنّ الأخلاقية بهذا المفهوم تسمح بتحديد معنى الدين، ومعنى لله الذي سيغدو بمثابة فكرة تحفيزية على بناء العلاقة الأخلاقية، باعتبار الله خيراً أسمى، "إنّ الله، إن أمكن القول، هو القانون الأخلاقي نفسه، لكنه تمّ التفكير فيه بطريقة مشخصنة"[5]. إنّ الغاية ليست إلا استعادة مبدأ الحرية داخل المشروع الكانطي باعتباره يتمثل الدين بما هو "ضرب من الدين العمومي المدني الذي يهدف إلى نوع من التربية الأخلاقية المدنية للإنسان تنقلنا من المواطن السلبي إلى المواطن النشيط"[6].
لعلّ تحرير الدين من التيولوجيا السياسية وفق هذا المنظور هو اختبار لإمكانية انخراطنا نحو حداثة بدون عوائق.
لن تفضي إعاقة الحداثة سوى إلى تدمير جوهر الكائن الإنساني، والمقصود هو إخراج الإنسان من حالة القصور التي تستهدف تعديم الحياة الإنسانية، فما زال المطلب التنويري شرطاً من أجل استعادة الحرية التي هي الأساس الجوهري للوجود الإنساني على الأرض.
إذن فتحرير الدين من التيولوجيا السياسية يُعدّ بمثابة الخطوة الضرورية لتأسيس عالم روحي جديد يُقدّس العلاقات الإنسانية باعتبارها تعبيراً متناهياً أصيلاً عن المسؤولية التي هي أثر للامتناهي، الذي يوقظنا من غرورنا الديني ويحررنا من ادعاءاتنا بكوننا نحن فقط هم المهتدون الذين يمتلكون العقيدة الصحيحة والواحدة.
[1]- François Cavallier: La religion. philo-notion ellipses édition 2000, P. 4
[2]- انظر كتابنا الصادر: مبادئ فلسفة التعايش، إفريقيا الشرق، البيضاء 2013
[3]- نقلا عن محمود رجب: الاغتراب، منشأ المعارف الإسكندرية 1978، ص 125
[4]- Kant leçon sur la théorie philosophique de la religion traduction par william Fin t. Librairie Générale Française 1993, P. 92
[5]- Ibid P. 150
[6]- كانط والحداثة الدينية: أم الزين بنشيخة ـمجلة مقدمات، ع 31، ص 25