الدين والسياسة تحت ضغط التاريخ
فئة : مقالات
ستتمّ معالجة هذا المقال منهجيّا بناء على أربع مراحل. تتمثّل المرحلة الأولى في ضبط مفاهيمي لما نقصده تحديدا بالدينوالسياسة والتاريخ. وتتمثّل المرحلة الثانية في تحديد أسباب ضغط التاريخ على الدين. أما المرحلة الثالثة، فتجسّدها محاولة إدراك معقوليّة هذا الضغط. وأمّا المرحلة الرابعة والأخيرة، فستكون تعيينا لضروب من الضغط وأمثلة عن التنازلات التي تجّر الدين إليها. وسنجمع في عملنا هذا بين المقاربة النظرية و تناول الواقع، وستشمل هذه المقاربة ضبط المفاهيم وإدراك الأسباب وكذلك المعقولية، في حين سيكون تناولنا للواقع، وهو الواقع العربي الراهن، أثناء دراستنا لضغوطات التاريخ وتنازلات الدين.
1- ضبط المفاهيم :
نعني بالدين، في نطاق تركيبة موضوعنا، أي جانب الدين الذي يضغط عليه التاريخ، الناحية التطبيقية من المنظومة الدينية بصفتها قراءة ثقافية للكون، قوامها إيمان بوجود إله خالق له، سنرد ّإليه جميعا ذات يوم لنتاب أو نعاقب. فنحن لا نقصد الناحية التشريعية القواعدية لهذه المنظومة، لا نقصد التعاليم، وهي في حيّزها النظري النصي. إنّ المساحة المضمونية الخاصة بالدين الواقع تحت سطوة التاريخ هي المرتبطة بجانب الممارسة، أي بالدين وهو تديّن، أي وهو سلوك للمتديّن باعتباره محكوما بمرجعيّة تضبط تصرّفاته و معاملاته، و تحدّد أحكامه و طرق معالجته للقضايا. وندقّق معنىالسياسةوفق ما تقتضيه فكرتنا العامّة المطروحة في هذا العمل. فنسوق تعريفنا هذا: السياسة ممارسة منظّمة قانونيّة للاهتمام بالشأن العام والانخراط في إدارته. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا المضمون الذي منحناه للسياسة، كما هو واضح، لا يختلف كثيرا عن المضامين المعروفة والمحملة في التعاريف المتقاربة جلّها لهذه المفردة الاصطلاحية. ونرمي بالتاريخ إلى هذه السيرورة الكبرى للوجود الإنسانيّ على وجه الأرض. وسنحصر اهتمامنا باللحظة الراهنة منها بما فيها من مكوّنات هي حصيلة كلّ هذا الامتداد.
2-إدراك الأسباب:
نحاول إدراك أسباب ضغط التاريخ على الدين من خلال تعيين خصائص كلّ منهما، بصفتهما هويّتين وإقامة مقارنات استنتاجيّة بين هذه الخصائص. وسنصنّفها على أساس الجانب الذي هي على صلة به، من جوانب كلّ من الدين والتاريخ.
ترتبط الخاصية الأولى للدين بطبيعته الجوهريّة؛ فهو منظومة تعاليم تنتمي إلى دائرة الأفكار التي جاء بها الإنسان طيلة وجوده على الأرض. ويمكن القول بعبارة أخرى، هو منظومة تنتمي إلى فضاء الإنتاجات الإدراكية المعنويّة حول الكون والحياة.
وترتبط الخاصية الثانية للدين بمصدره، فهو ذو مأتى مفارق، بما أنّه منزّل من السماء.
أمّا الخاصيّة الثالثة له، وهي على صلة بالثانية المذكورة أعلاه، فتتعلّق بما قد يجوز تسميته بنوعيّة النظرة الاعتباريّة إليه، إذ ينظر إلى الدين على أنّه مقدّس.
وأمّا الصفة الرابعة، فهي المتعلّقة بزمنه؛ فزمن الدين بما هو علاقة للسماء بالأرض منتهية منذ عدة قرون فهو من الماضي، بل الماضي البعيد.
في حين تتصل الصفة الخامسة بالقابلية على الحركة؛ فالدين، وفق ما نرى، متسّم بالثبات، وهذا بحكم قداسته وماضويّته.
وتتّصل الخاصيّة السادسة و الأخيرة من الخاصيّات التي بدا لنا أنّ الدين يمتلكها بالمساحة الحضارية الجغرافية التي يحتلّها؛ فالدين على قدر من المحدودية لأنّه، مثلما نعرف، مرتبط بأقوام بعينها وشامل لرقع حضارية جغرافية محدّدة.
أمّا خصائص التاريخ فنسوقها بالكيفية التالية:
الخاصيّة الأولى، هي اعتبار التاريخ من حيث طبيعته الجوهرية جملة ما حدث للإنسان مهما اختلفت أوجهه.
الخاصية الثانية، هي كون التاريخ من حيث المصدر، إن جاز لنا استعمال كلمة مصدر عند الحديث عن التاريخ، محتوى دنيويا أرضيّا. فمسرحه هو الأرض.
الخاصية الثالثة، وهي ذات الصلة بما سبق أن سمّيناه نوعية النظرة الاعتبارية، هي النظر إلى التاريخ نظرة دنيوية لا تقديس فيها.
الخاصية الرابعة المرتبطة بالزمن، هي ماضويّة التاريخ وراهنيّته أيضا.
الخاصية الخامسة المرتبطة بالقابلية على الحركة، هي أنّ التاريخ متحرّك متقدّم لا يعرف الثبات.
الخاصية السادسة والأخيرة المرتبطة بالمساحة الحضارية الجغرافية، هي أنّ التاريخ لا يحدّ بحدود حضارية جغرافية فهو بشريّ عالميّ.
وهكذا يفسح المجال أمامنا لتلخيص هذه الصفات تلخيصا يوردها في عدد من الثنائيات، هي: أنّ الدين منظومة فوقية والتاريخ محتوى حدثي، والدين سماوي مقدّس، والتاريخ أرضي دنيوي. إنّ الدين ماض، والتاريخ ماض وحاضر. والأوّل ثابت ومحدود؛ والثاني متحرّك وغير محدود. ولعلّنا في غير حاجة إلى كثير من الإيضاح حتّى نتبيّن أنّ كفّة التاريخ ترجح قوّته بجانب كفّة الدين. ويعود هذا إلى كون الأولى كفّة الجوهر والتعيّن المدرك والشمول وكذا الحضور والحركة. ولا جدال في كون الجوهري والمتعيّن والشامل والحاضر المتحرّك يمارس سلطته على المفتقر لهذه الخاصيات. وتكون النتيجة ضغط التاريخ على الدين، ويكون هذا الضغط لصالح السياسة، وهو ما سنعمل على توضيحه في القسم الموالي من المقال.
إن الدين منظومة فوقية والتاريخ محتوى حدثي، والدين سماوي مقدّس، والتاريخ أرضي دنيوي. إنّ الدين ماض، والتاريخ ماض وحاضر. والأوّل ثابت ومحدود؛ والثاني متحرّك وغير محدود
3- إدراك المعقوليّة:
نحاول في هذا القسم أن نعقل كنه الكيفيّة التي يحصل بها ما عبّرنا عنه بضغط التاريخ على الدين، ونبدأ بتحديد مؤثّثات التاريخ راهنا، واستخلاص ما بدا لنا أنّها مشروعيّات أضحت تكتسبها؛ وذلك أنّ هذه المؤثثات هي التي تضغط على الدين. تؤثث تاريخنا الحالي شتّى أشكال الإنتاج وإدارة الاقتصاد والمال وشتّى العلاقات الدولية والترابطات الإقليمية والعالمية، وتؤثثه أيضا الصراعات والنزاعات والخلافات؛ حيث تشابك المصالح وتعقّد الوضعيات غالبا. كما تجسّده الحاجات والمصالح والاهتمامات الجديدة للبشر، وكذلك الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة والفنيّة المدبوغة بطابع هذا العصر. ثم إنّ حريّات جديدة ومكتسبات حقوقية مستحدثة وأنشطة تطوّعيّة مدنية باتت جزءا لا يتجزّأ من تاريخنا الراهن. كما أضحت، أيضا، جزءا لا يتجزّأ منه أشكال حديثة من وعي الإنسان بمختلف قضاياه، مثلما أنّ تقدّما هائلا في كلّ المعارف والعلوم صار من أبرز مكتسبات عصرنا هذا. ولقد اكتسبت هذه المكوّنات ما رأينا أنّه جملة من المشروعيّات نخال أنّه من الجائز ضبط أهمّها بإعطائها هذه التسميات و إيرادها كما سيأتي: مشروعيّة الجديد والجدة بطبيعتها غالبة. ومشروعيّة المجدي، ونمثّل عليها بألاّ أحد تقريبا ينكر جدوى الطب. ومشروعيّة الوجيه، فما عاد من الوجاهة في شيء مثلا ألاّ يلحق الأطفال الصغار بالمدارس، ومشروعيّة المشترك، فجميعنا دون استثناء - نقول هذا من باب التمثيل فحسب - نشترك في استعمال وسائل الاتصال الحديثة. ومشروعيّة المتفق حوله، فالوعي المعاصر ما عاد يقبل على سبيل المثال أن يكون إذلال المرأة عملا مشرّعا. فكلّ تلك المكوّنات إذن، وجميع هذه المشروعيّات التي اكتسبتها، تفرض نفسها فرضا على المتديّن الممارس للسياسة وتعسّر عليه سبل التصرّف. ويعود هذا لكونه متبنّيا منظومة تتصّف بكلّ تلك الصفات التي تقدّم سوقها، وهي هناـ اقتضابا ـ الماضوية والقداسة والثبات. ولهذا فإن مرجعيّة هذا المتديّن قديمة ومعاييره تقويمية بالية، وإنّ أحكامه جاهزة ثابتة ورؤيته للكون غيبية ومطعونة في الكثير من مكوناتها بالعلم. أمّا وعيه بالحياة والوجود فقد أمسى محرجا بمختلف أشكال الوعي الراهنة. ويضاف إلى كلّ هذا متطلبات العمل السياسي. فهو يقتضي، مثلما هو معروف وممارس، المواربة والمداهنة وضبط صدق النفوس والتلاعب بالإضمار و الاعلان وغيرها من السلوكيّات التي تتضارب مع التدين، وتصبح الوضعية هذه:
انحكام بمرجعية قديمة، و وقوع تحت ضغط الراهن، و انشداد إلى مقتضيات العمل السياسي.
فما الممكن حينها؟
إنّ الممكن، وفق ما ذهبنا إليه ،هو تقديم المتديّن للتنازلات الجزئيّة أثناء قيامه بنشاطه السياسي. فإذا به مرّة، يخالف اللّحظة ما ذكره قبلا. ومرّة أخرى يوضّح حاليا أنّه ما كان يقصد بكلامه سابقا ما فهم منه. و إذا به، مرة ثالثة، يلوذ بالجوهر المقاصدي للدين أو بضرورة الاجتهاد والتطوير. ويتعامل، مرّة رابعة، دون أيّ إشكال مع من تعتبرهم عقيدته كفّارا .
يقدم المتدين تنازلات جزئيّة أثناء قيامه بنشاطه السياسي
4- ضروب من الضغط وأمثلة عن التنازلات:
نذكر فيما يلي ما بالإمكان اعتباره ضروبا من ضغط التاريخ على الدين، ونردفها بأمثلة عينيّة عن التنازلات التي دفعت إليها. ونودّ الإشارة إلى أنّ هذه الأمثلة مأخوذة من الواقع العربي الرّاهن.
* الضغط الاقتصادي والمالي:
تمرّ حاليا بعض الدول العربيّة، مماّ عرف بثورات الربيع العربي، بظروف اقتصادية ومالية صعبة جدّا. وهو الأمر الذي ألجأ حكوماتها الإسلاميّة إلى التعامل مع البنك الدولي إحدى المؤسسات المالية للنظام الرأسماليّ . ففي مصر، مثلا، ضغط الوضع المالي الصعب على حكومة الإخوان المسلمين فالتجأت إلى هذه المؤسّسة طلبا لقرض يقدّم بمقتضى طرق التعامل الماليّ المعمول بها دوليا، وهي طرق تحرّمها الخلفيّة العقائديّة لهذه الحكومة. ومع ذلك اضطرّت إلى القبول بهذا لأنّ الحاجة إلى المال على درجة كبيرة من الإلحاح..ولقد تمّت معاملة مسؤولي البنك الدولي الذين تفاوضت الحكومة المصريّة معهم معاملة جيّدة كلّها احترام ولطف. وهذا رغم التباين الكلّي الموجود بين الطرفين في المرجعيات والرّؤى. وتمّ هذا في الوقت الذي يعامل أبناء الوطن ممن يختلفون فكرا مع الإخوان المسلمين بطريقة مغايرة.
* الضغط الاجتماعي :
مرّت البلاد التونسيّة في الفترة الأخيرة بظرف عصيب لعلّه لم ينته إلى حدّ الآن؛ وتمثّل في تكثّف حضور التيارات السلفيّة والسلفيّة الجهاديّة والمنادية بتطبيق الشريعة، وتلك الموالية لتنظيم القاعدة. وتراوح هذا الحضور بين تجميع الأسلحة في عدّة مناطق، وتلغيم أكبر جبل في البلاد، وبين إحداث إصابات خطيرة لبعض الشبّان المنتمين للمؤسّسة الأمنيّة الدفاعية، وخروج غير مسموح به وعنيف للتظاهر في الشوارع من قبل جماعة تسمّى أنصار الشريعة. وقد وصلت الأمور في جهة إلى حدّ ذبح أحد أفراد الشرطة التونسيّة. وما كان من المجتمع التونسيّ إلاّ أن هبّ مستنكرا ورافضا لكلّ هذا الذي لم يعتد عليه من قبل؛ فانبرت حركة النهضة الحاكمة الفعليّة في تونس ممثلة في بعض أفرادها تدين بشدة، تحت سطوة هبّة المجتمع، هذه الأعمال وتنفي صلتها بالدين الإسلاميّ وتصف العنيفة منها بالإرهاب. ووقع هذا رغم تماثل الأرضية العقديّة لكلّ أصحاب التيّارات أولئك وهؤلاء، ورغم إيمان جلّ القيادات "النهضويّة"، المعبر عنه بدرجات متفاوتة صراحة ومواربة، بلزوم تطبيق الشريعة الإسلامية داخل البلاد. و هكذا تمّ الإعلان عن مواقف تختلف عمّا كان يعلن عنه، وعمّا يعرف الجميع أنّه لا يعكس حقيقة دواخل المهج.
* الضغط الثقافي:
صعدت حركة النهضة إلى سدّة الحكم في تونس بعد انتخابات جرت إثر الانتفاضة الثوريّة التي قام بها الشعب التونسي. ونعلم جميعا أنّ مهرجانات صيفيّة تقام كل سنة بشتى جهات البلاد تتضمّن عروضا فنية وثقافية مختلفة. وتشكّل هذه المهرجانات جانبا أساسيّا من حياة التونسيّين في فصل الصيف. فهم يحبّون حضور العروض الغنائيّة للغناء نساء ورجالا مع الفنّانين والرقص على أنغام موسيقاهم. كما يحبّون مشاهدة المسرحيّات وعروض الفرق الراقصة والأشرطة السينمائية، ويقبلون بوعي ثقافيّ مبرمج على الأعمال ذات الشهرة. وبطبيعة الحال تحرّم كما نعلم المنظومة الدينيّة المعتنقة من قبل عناصر حركة النهضة مواد متعدّدة وكثيرة تتضمّنها شتّى هذه العروض أو ترتبط بها؛ ومن ضمن هذه المواد نذكر، من باب التمثيل فحسب، رقص المرأة ، إلاّ أنّ هؤلاء يعلمون يقين العلم ألاّ سبيل إلى تعديل هذه الأنشطة أو منعها عن الشعب التونسي، إذ باتت حيويّة بالنسبة إليه. فيجدون أنفسهم والحال هذه مجبرين على السماح بها، إذ يبدو ألاّ قدرة لهم على مواجهة ما صار عند الناس حاجة حيويّة لا تناقش ضرورتها ولا جدواها. فيقبلون بها ولو قدروا لحوّلوا، بحكم ما يؤمنون به، كلّ أشكال الثقافة إلى أناشيد دينية لا تخرج إلاّ من أفواه الرجال .
و نختم بطرح هذا السؤال:
أما آن أوان اكتساب الوعي بأنّ هذه التنازلات الجزئيّة تأكيد لضرورة تقديم تنازل كليّ يجنّبنا البقاء بحالة مخالفة دائمة للسير المتقدّم أماما لحركة التاريخ؟