الرؤية الفلسفية للكذب عند جاك دريدا
فئة : مقالات
الرؤية الفلسفية للكذب
عند جاك دريدا
"أن تكذب لصالح نفسك، فهذا مستحيل، وأن تكذب لصالح الغير، فهذا تدليس، وأن تكذب قصد إلحاق الأذى بالغير فهذا افتراء، وهذا هو أسوأ أصناف الكذب، وأن تكذب دون قصد جلب مصلحة أو إلحاق الأذى لا يعتبر كذبا بل تخيلا".
جون جاك روسو
تمهيد:
كرس جاك دريدا دراسة لتاريخ الكذب بوصفها أطروحة تمهيدية تسعف على بلورة جينالوجيا تفكيكية للموضوع (الكذب)، والتساؤل حول إمكانية تشخيص أعراض تاريخ خاص بالكذب من حيث هو كذلك، وأيضا تسليط الضوء على العوامل التاريخية والثقافية التي ساهمت في بلورة الممارسات والأساليب والدوافع المقترنة بالكذب. بالإضافة إلى هذا، عمل فيلسوف التفكيك على تحديد أوجه القرابة التي توجد بين الكذب ومفاهيم أخرى، كما سعى إلى وضع الحدود الفاصلة بين الكذب والخطأ...مستحضرا الرواية التاريخية لهذا المفهوم بدءا من أفلاطون وصولا إلى حنا أرندت.
ولعل أهم الأسئلة التي اعترضت دريدا بهذا الخصوص هي: ما الكذب؟ وما المقصود من فعل الكذب؟ وكيف يمكن الحديث عن تاريخ للكذب إذا كان التاريخ كله يعج بالكذب؟ هل بالإمكان للإنسان أن يكذب على نفسه؟ وهل يجوز اعتبار كل من التحايل والخداع كذبا؟ وكيف يمكن –على غرار كانط- توجيه نقد أخلاقي لفعل الكذب؟
النقد الأخلاقي الكانطي للكذب:
ردًّا على بنجمان كونستان الذي نشر مقالة تحت عنوان "الحق في الكذب"، نشر كانط دراسة معمقة حول الكذب يعارض فيها وجهة نظر بنجمان الذي يقر بالشرعية الأخلاقية لفعل الكذب انطلاقا من فائدته في مضمار الحياة الاجتماعية. يضم كانط صوته إلى كل من القديس أوغسطين وجون جاك روسو اللذين يرفضان في اعترافاتهما الكذب وينهون عنه، حيث يحث كانط على الصدق كواجب قطعي وإلزامي بصرف النظر عن كل ظرف واقعي أو تاريخي؛ إذ على الإنسان أن يلتزم بالصدق وقول الحقيقة كما تبدو له: "يجب على الإنسان أن يقول الحقيقة وأن يلتزم بالصدق في كل الحالات، وكيفما كانت نوعية الافتراضات ومهما كان الثمن(...)"[1]. يضيف كانط في هذا الصدد قائلا: إن كل إنسان لا بد أن يسلم بأن قانونا يراد له أن يكون قانونا أخلاقيا، أعني قاعدة التزام، لا بد أن يحمل طابع الضرورة المطلقة؛ وأن الصيغة التي تقول: ينبغي عليك ألا تكذب[2] هي صيغة تعليمة أخلاقية يجب على الإنسان أن يخضع لها، أي أن يخضع لهذه ال "ينبغي" القاسية التي لا تقبل الرفض أبدا، فهي ضرورة لا محيد عنها.
عند هذه النقطة، ثمة أمر لا بد من الإشارة إليه، وهو أن الصدق والكذب متعلقان بنية القول وقصدية القائل بغض الطرف عن نسبة الحقيقة في القول، النسبة التي تبقى مرهونة بما يتوفر لدى القائل من علم، فنقيض الكذب ليس الحقيقة ولا الواقع، بل الصدق والصحة. فإذا كان الأولان مرتبطان بدرجة المعرفة وإمكانية العلم، فإن الثانيين يتعلقان بالنية والمقصود من القول، بل إن هذه النية التي تحدد الصدق من الكذب لا تتأثر حتى بنتائج القول وعواقبه والثمن الذي يدفع مقابل التصريح بالقول الصادق، فلا ضرر يمكن الاعتراف به كعاقبة للصدق، كذلك فلا منفعة يمكن باكتسابها تبرير الكذب، فلا وجود لكذب نافع بحسب كانط.
يرفض كانط الإحراجات التي عرضها القديس أوغسطين والتي يباح فيها الكذب في بعض الحالات الحرجة والظروف القاهرة، حفظا للنفس والآخرين. لا يمكن قبول هذا التوجه عند كانط، وهو الفيلسوف الذي يعتبر الصدق واجبا قطعيا لا يقبل المفاوضة، لأنه يلحق الأذى بالآخرين لا محالة، بل إنه يلحق الضرر بالإنسانية جمعاء عندما يبطل صلاحية العقل. ذلك أن الكذب يخلو من كل طابع أخلاقي، ومن كل قانون صارم يحمل اسم الواجب الأخلاقي المستمد من الضرورة الباطنية التي تلزم بقول الحق باختلاف الظروف، هذا الحق الذي يربط المجتمع ويجعله متماسكا. إن الكذب بذريعة الظروف يكسر الثقة التي تعد الرابط الأوثق بين الناس داخل المجتمع، وبهذا المعنى يمكن فهم كيف يكون الكذب "رذيلة لعينة" بوصف قاسٍ لميشيل دو مونتين.
الكلام إذا تحول إلى كذب ستموت علاقاتنا وتضمحل أواصرها بكسر رابط الثقة. في الكذب ضرب في الوعود يجعلها عديمة الجدوى، وبالتالي يفقد الناس القدرة على تصديق بعضهم البعض فينهار القانون الأخلاقي الذي لا يمكن تجنب انهياره إلا بالإفصاح عن الحقيقة والالتزام بالصدق. يدعو كانط إلى مسألة بسيطة وثابتة وصارمة ومبنية على الملاحظة، وإن بدا موقف كانط مثاليا، فإنه يستهدف بعمق المصلحة العليا للمجتمع والإنسانية. يجب أن يكون كلام الإنسان واحدا بلا مكر أو نفاق، وأن يتحقق من صدقه لأن هذا الصدق يصبح رابطا متينا من الصعب كسره؛ إن الكذب يهدد السلم في المجتمع ويعجل بانفراط حبات العقد الاجتماعي. يجب فهم هذا الأمر برمته باعتباره وصية عقلانية مقدسة لا يجب التردد في التضحية بكل شيء للاحتفاظ بها، فقط لأنه واجب، هذا الواجب الذي يعتبره كانط "ضرورة بفعل احترام للقانون"[3]. قد يعتبر الناس أنه من الفطنة في أوقات الضيق تقديم وعد من دون وفاء في سبيل إخراج نفسي من ضيق قد حل بي، لكن كانط يرفض ذلك بالمطلق؛ لأن حتى هذه الكذبة التي ستخرجني من مأزقي في الوقت الحاضر، قد تسقطني في مآزق أخرى أكبر من التي أحاول التخلص منها الآن[4]. إن مسألة قول الصدق كأمر مطلق، وعدم اللجوء للكذب تم تأسيسه من قبل كانط كقانون عالمي، سواء بالنسبة لي أو سواء بالنسبة إلى الآخرين، لذلك إذا كنت أفكر في إمكانية الكذب أو تقديم وعود كاذبة في بعض الأحيان عندما أجد نفسي أمام صعوبة لا يمكن الهروب منها بطريقة أخرى غير تقديم هذا الوعد الكاذب، وأدرك في نفسي أن الكذب هو الوسيلة الوحيدة للخروج من هذه المحنة، وجب أن أسال نفسي، هل يمكن أن أجعل من هذا قانونا عالميا؟ في الواقع، مع مثل هذا القانون يقول كانط، بالمعنى الدقيق للكلمة، لن يكون هناك وعد؛ لأنه ما الفائدة من إعلان نوايا للمستقبل لأشخاص لن يؤمنوا بها، يمكنهم أن يدفعوا لي في المقابل، ومن ثم فإن مبدئي هذا لا يمكن أن يصبح قانونا عاما دون أن يدمر نفسه[5].
إن كونية كل مبدأ عملي هي، في نظر كانط، شرط أساسي لكي ينعت فعل ما بوصفه فعلا أخلاقيا. يجب عليّ دائما أن أتصرف بطريقة تجعلني أريد أيضا أن يصبح مبدئي قانونا كونيا، وبعبارة أخرى حسب كانط، فإن الفعل الذي يمكن لمبدئه أن يعتبر قانونا كونيا هو عمل أخلاقي، ولهذا يتساءل كانط هل يمكنني أن أريد من الجميع أن يكذبوا بشكل منهجي عندما يتعلق الأمر بالخروج من المشاكل؟ لأنه سأكون الضحية هنا بلا شك مثل البشرية جمعاء[6].
لذلك يقر كانط بأن الفعل لا يجب أن يعمل به أو التسليم به إلا إذا اتفق مع المسلمة التي تمكن الإنسان من جعله قانونا عاما: "لا تفعل الفعل إلا بما يتفق مع المسلمة التي تمكنك في نفس الوقت من أن تريد لها أن تصبح قانونا عاما"[7].
واقعية حنا أرندت:
على النقيض من كانط، ترى حنا أرندت أن الوقائع التاريخية مادة صلبة لا يمكن نفيها، بما فيها أفعال الصدق والكذب؛ إذ يحترف الأمراء ورؤساء الدول، على سبيل المثال، الكذب السياسي لكونه وسيلة لتحقيق غايات السلطة السياسية، إلا أن أرندت لا تدافع عن الحق في الكذب بل تقدم دراسة واقعية مبنية على ما هو كائن بالفعل؛ أي على الواقع السياسي الذي يكاد يكون فيه الكذب أكثر وأقوى انتشارا من الصدق. إن الحقائق العقلية، حسب أرندت، "تحارب في [عقر] دارها وبشروطها حين تزيف الحقائق الواقعية أو تكذب بشأنها، وليس أمام الحقائق الواقعية فرص نجاة كبيرة أمام زحف الهجمات السلطوية عليها؛ إذ إنها تتعرض على الدوام لخطر أن تطردها المناورات السياسية من العالم وليس فقط لفترة مؤقتة من الزمن، بل وللأبد."[8]
أكثر من ذلك، يكون الاعتراف بالكذب في كثير من الأحيان نحوا من الصدق، وإمعانا في الجرأة والشجاعة. ترى حنا أرندت أنه ليس على أمة الاعتراف بجرائمها ضد الإنسانية والالتزام بالصدق في هذا الموضوع؛ أي الاعتراف بالأفعال الخارقة للعدالة التي ارتكبت في الوقت الذي نتبجح فيه بشعارات الأنوار والعدالة والحرية، ونقترف الجرائم باسمها. يؤدي الاعتراف والصدق في هذه الحالة إلى جرح نرجسي عميق، يحدث شرخا في هذه المبادئ وفي ذاكرة هذه الدول على السواء، ولذلك يبدو من الأليق الركون إلى الصمت عن التصريح العلني بالخطأ؛ لأنه، وهنا نقتبس من الفيلسوفة ما يلي: "الحقيقة الواقعية إذا ما تعارضت مع مجموعة ما وسعادتها فإنها ستقابل بمقدار أكبر من العداء من أي وقت مضى"[9]. في هذه الحالة المعقدة والمثقلة بأحكام الواقع التاريخي والسياسي والاجتماعي، يبقى فكر كانط مجرد افتراض ليس غير.
ترى حنا أرندت أنه لا يمكن الإفصاح عن كل الحقائق كما يريد كانط. فضلا عن ذلك، فعندما يقدم شخص ما وعدا أو ميثاقا، فإنه يقدم هذا الميثاق بناء على ظروف واقعية يمكن أن تتحقق، وتحدد بالنسبة إليه القدرة على إنجاز ما يعد به والالتزام بما يتعهد به، غير أن هذه القدرة عرضة للتغير، زيادة أو نقصانا؛ فهل يمكن الحديث عن الكذب في هذه الحالة؟ أي هل يمكن الحديث عن انعدام الصدق في حين أنه لا يمكن إثبات الحقيقة أو على الأقل فإن المعيار الذي يحدد لنا الفرق بين الصدق والكذب وبين الصح والخطأ هو الواقع، وهذا الواقع معرض للتغيير والتبدل إلى درجة التناقض أحيانا، لا سيما في حالة السياسة؟
إن كثيرا من الأحكام التي تحدد الصدق والكذب السياسي هي أحكام تستند إلى واقع تم تحديده بالقوة المادية في وقت سابق. وبالتالي، فإنه سيكون من الظلم الحكم على عمل سياسي بأنه كاذب فقط؛ لأنه قيل في وقت أصبح فيه الواقع مغايرا عن الوقت الذي تم فيه وضع المعيار الذي به نحدد الصدق والكذب! وهذا الأمر هو ما لم يفكر فيه كانط، ولم يدخله في اعتباره. فهل ينبغي التخلي نهائيا عن التصور الكانطي، باعتباره تصورا مثاليا ساذجا يغيب الملمح السياسي والواقعي الذي قد يكون فيه الكذب مبررا؟
يبدو موقف دريدا مفيدا في هذا السياق؛ لأنه لا يلغي الموقف الكانطي، بل يثمنه نقديا بالاتكاء على جون جاك روسو وموقفه من إشكال الكذب. بصفة عامة، يمكن اعتبار دريدا متبنيا لآراء كانط، لكن يبقى لصاحب تاريخ الكذب موقفا مستقلا بخصوص قضايا عصره، ووجهة النظر الأخلاقية إلى هذه القضايا. يسلط دريدا الضوء على طوني جادت في تأييده لجاك شيراك، لكونه صرح بالحقيقة بخصوص تاريخ فرنسا، وبالمقابل يدين الموقف المخجل لكل من سارتر وفوكو حيال هذه المسألة؛ أي صمتهما أثناء ثورة الشباب سنة 1968 خصوصا فوكو الذي طالما تغنى بتعاطفه مع الماركسية.
تفكيكية جاك دريدا لمفهوم الكذب:
اقتبس ديريدا موقف روسو في تصنيفه لأشكال الكذب بين التدليس والافتراء؛ فبالنسبة إلى روسو، فهو يعتبر أن للكذب ألوانا متعددة تشمل شهادات الزور، والحنت بالوعود إلخ[10] ويضيف ديردا إلى هذه الأنواع كلها الكذب الذي يتخذ شكل السكوت عن الحقيقة، فلا يمكن تجاهل المسائل الأخلاقية كما فعل فوكو وسارتر، خصوصا أنهم مهتمون بالصالح العالم (أي اشتراكيين)، "كان من المنتظر من المثقفين المرموقين الذين ظهروا في فرنسا بعد الحرب أن يعملوا على الدفع بالأمور إلى الأمام، إلا أن بعضهم كجون بول سارتر وميشيل فوكو التزموا الصمت على نحو غريب، وذلك لعدة أسباب من بينها اهتمامهم المبالغ فيه بالشيوعية. وهكذا تجاهل جيلان من المثقفين المسائل الأخلاقية، على اعتبار أنها لا تخدم، بل وقد تضر بقضايا الماركسية، هذا على الرغم من أنهم يؤكدون في الوقت نفسه، على ضرورة الالتزام واتخاذ مواقف واضحة"[11]، وهذا يجعلهم متواطئين مع الظلم، ومعادين للصدق، ومتسترين عن الحقيقة بصمتهم، ففي صمتهم هذا خيانة للمسؤولية الأخلاقية التي يُطالَبُ بها المثقفون الفرنسيون.
يشمل الكذب إلى جانب الصمت المخجل للمثقفين وقادة الرأي العام أيضا؛ ذلك الكذب الذي تمتهنه الصحف عندما تناقض أرشيفها وتدعي الحقيقة، يقول دريدا: "(...) فالكذب يختلف تماما عن الخطأ. فبوسعنا أن نخطئ وأن نغلط، بل وأن ننطق بكلام خاطئ دون أن يكون الهدف من ذلك خداع الآخرين، أي الكذب عليهم."[12]، مقرًّا أن هذه الأفعال تدخل في نطاق "البسودولوجيا". وهنا يمكن العودة لأفلاطون في محاورته هيبياس الأصغر[13]، حيث يعتبر هيبياس أن الكذبة يكونون أقوياء وأذكياء وعارفين وعقلاء في تلك الأشياء التي يكذبون بشأنها، ويخدعون الجنس البشري[14]، وأن الصادق والكاذب يناقض أحدهما الآخر تماما[15].
أما أرندت، فهي تتبنى ادعاءات جديدة حسب ما تقتضيه، إما المصلحة السياسية أو المصلحة التجارية للصحف. مع أن ديردا سيرا على درب أفلاطون وأوغسطين يفرق بوضوح بين الخطأ والكذب، فالكذب لا يضم الأحكام المسبقة أو التعبيرات التي تنم عن الجهل أو حتى الاستدلالات المغلوطة أو النواقص التي تمس المعرفة أو الهفوات في العقل. إن الكذب هو بالضبط العزم على إلحاق الأذى... فشرط الكذب هو سوء النية بالقياس إلى العقل الأخلاقي والعقل العملي؛ أي هو النية السيئة التي تؤدي إلى قول شيء مع معرفة تامه بأنه يخالف الحقيقة، وهذا ما لا يجوز لأنه هو معارضة الضمير. تماما كما نشاهده في الخطاب السياسي الذي هو مثال على خطاب من طين الكذب. وأفدح مشكلة تواجه الكاذب هو عندما يصدق كذبه فينتقل من خداع الآخرين إلى خداع الذات (نفسه)، وتتحول مشكلة خارجية، إلى مشكلة داخلية عندما يصدق كل طرف من الطرفين المتصارعين روايته عن نفسه. تحدثنا أرندت في هذا الصدد عن أنه يستحيل خداع الاخرين دون خداع الذات، ومحاذرةَ أن نقع في هذا الكذب على الذات، فإن الالتزام بقول الحقيقة يصبح واجبا حتميا للخروج من هذا الإطار المغلف بالكذب الذي يمارس في هذا العصر بشكل وقح، خاصة الذي يمارس من طرف السياسيين ومن شابههم. حتى أنه يمكن القول بأن الإنسان المعاصر غارق في الكذب، يتنفسه ويخضع له. إن أي تساهل مع وجوب قول الحقيقة والامتناع عن الكذب، قد يؤدي إلى تفشيه في المجتمع، والمعرفة والشأن العام... فما أن نطرح السؤال عن امكانية اللجوء إلى الكذب، حتى ينفتح الباب أمام الخرافات تخلق طابعا شموليا يؤسس للحق في الكذب على أوسع نطاق، مما يعني أن الأمر ليس بسيطا ولا واضحا كما يبدو للوهلة الأولى، ما يستدعي مناهج وطرق أخرى في التعامل مع الموضوع.
وهكذا، فإن دريدا يقترح عملا جينالوجيا تفكيكيا لمفهوم الكذب وبالتالي لمفهوم الصدق، لكي نستطيع التعامل مع الماضي وإعادة قراءته واكتساب يقظة نقدية تجاهه، تمكننا من التعامل مع الواقع الحالي واكتساب حصانة تجنبنا من الوقوع تحت طائلة الكذب. فكيف يمكن تشكيل هذه الجينيولوجيا؟ إن هذا التشكيل يستدعي تقويض الموضوع الذي نستهدف الإحاطة به أو التشكيك في جدواه؛ وذلك عبر فهم أن الكذب لا يحول الواقع فقط، بل يرشدنا بأنه يوجد تغليب للأسطورة على العلم، وللرغبة على الحقيقة، وللبلاغة التي تخاطب المشاعر على الاستدلال الذي يخاطب الفكر ومقياسه الموضوعية ومطابقة الكلام للواقع. أما الكذب، فهو لا يشترط مطابقة الكلام لا لنفسه ولا للواقع، ولا للحقيقة. إنه محض غناء بغايات ليست لطيفة، لذلك فهو يثير القلق ويتضمن الأخطار عندما يضعنا أمام جهاز مبرمج يجعل بطريقة غير مسؤولة المتلقي يتجاوب مع ما يتم قوله له، وعندما يتعلق الأمر بالمسؤوليات الأخلاقية والسياسية والقانونية، فإن الكذب لا يلزم نفسه اتخاذ موقف واضح بخصوص استراتيجية التعامل.
يزعم رؤساء الأنظمة تغيير الحاضر حسب أهوائهم ووفقا لاستراتيجية الكذب، بل يجهدون بهذا لتغيير الماضي (في سعيهم لكتابة تاريخ جديد). إنها أنظمة تعتمد أساسا على أولوية الكذب، مجملين ذلك بعناوين يزعمون أنها تقول الحقيقة، في هذا الصدد يصرح دريدا بأن الكاذب هو الذي يقول إنه يقول الحقيقة الموعودة، خصوصا في الحكام الإديولوجيين كما تقول ذلك آرندت، "كألمانيا الهيتليرية وروسيا الستالينية [في هذين البلدتين] كان الحديث عن عن مخيمات الاعتقال والإبادة والتي لم يكن وجودها سرا أخطر من حمل آراء مهرطقة مضادة للشيوعية أو تفوق العرق الآري"[16]. إن الأمر المثير للقلق هو أن البلدان الحرة تتسامح مع الحقائق الواقعية التي "لا يرتاح لها الجمهور"[17].
لذلك فغالبا ما تلجأ الأنظمة السياسية للكذب، بقدر ما تجعل من محبة الحقيقة الموعودة شعارا لبلاغاتها "أمقت الكذب". الحل عند دريدا هو العودة للحقيقة وقيمتها؛ أي إلى القيم الأصلية الطيبة والخيرة بلغة روسو، لأنه حسب الفيلسوف الفرنسي، الكذب يجسد الانحراف، وبالتالي هو تقنية ميكياڤيلية بلغة ألكسندر كواريه، وبلغة تاريخية هو فن كان يتقنه هيتلر (تآمر في واضحة النهار)، هذه هي الصورة المجسدة للكذب.
إذن يبقى الكذب في نظر دريدا سياسة خاصة بعصرنا هذا (عصر الاتصال الجماهيري والأنظمة الشمولية)، عصر طابعه طابع تقني وبالتبعية طابع كاذب. وإذا كانت الأمور المطروحة هنا كلها تتسم بطابع تاريخاني، فإن الأمر يصل إلى أنه إذا ظهرت الحقيقة، فإنها ستفضي إلى دمار العالم، وبالتالي تاريخه الذي هو بالأصل والخصوص يعج بالكذب، لذلك تدافع أرندت، كما يرى دريدا، على واقعية التصاق السياسة بالكذب، وتقر بأن الطابع المعاصر، الذي هو كما قلنا طابع تقني، هو كاذب بالأساس. في هذا الصدد يقول ألكسندر كواريه: "إن الكذب سلاح. لذلك يحق التسلح به في الصراعات. وسيكون من الحمق عدم استعماله، لكن شرط إشهاره في وجه الخصم والامتناع عن تسليطه على الأصدقاء والحلفاء"[18]. إن الكذب بحسب كواريه هو من سمات الإنسان أكثر بكثير من الضحك، ومن الناحية السياسية فمن المؤكد أن الأكاذيب موجودة عبر التاريخ[19].
تقصد أرندت هنا أن "القدرة على الكذب" و"القدرة على الفعل" هما القدرة على التخيل، وبالتالي التأكيد على الطابع الإنجازي للكذاب، فهذا الأخير ممثل يقول ما لا يوجد في الواقع، وهو دائما موجود في الساحة، ذو وجود فعلي بتصريحات كاذبة تشوه الواقع وتحرفه وأحيانا تطمسه وأحيانا أخرى تسكت عنه... لذلك لا يوجد تاريخ سياسي دون وجود إمكانية للكذب. هناك عامل من شأنه أن يحول دون مشروع تاريخ الكذب ألا وهو "التفاؤل الدائم"، هذا التفاؤل يرتبط بمجموعة من المفاهيم والمسلمات؛ لأنه لا يمكن للصور والتخيلات أن تتميز بالاستقرار نفسه الذي تتوفر عليه الأشياء نفسها؛ لأن الأحداث تفرض نفسها بإلحاح، وبالتالي صعب لهشاشة الكذب أن تواجهها. فمهما كان الكذاب متمرسا سيكون صعب عليه أن يغطي كل المساحة التي يحتلها الواقع، وبالتالي تبقى الحقيقة هي الاستمرار الدائم للاستقرار.
من جهة أخرى حسب دريدا، يجب رسم الحدود بين الأعراض التي تكرس لكل ظاهرة تقترب من الكذب وبالتالي تفضح الحقيقة (مثالا على ذلك: زلات اللسان التي تحدث أثناء الحديث، عملية الإنكار التي يقوم بها الشخص، الكلمات التي تنبثق من الأحلام أثناء النوم، ثم البلاغة التي يعتمدها اللاوعي للتعبير عن نفسه).
هذا التمسيح الراديكالي اتخذ طابعا دنيويا في عصر الأنوار، هذا ما جعل كانط يدين الكذب على أساس أنه انحطاط مطلق، وهو بالفعل كذلك. إن الكذب والحال هذه رذيلة إنسانية ونفي للكرامة الإنسانية، والإنسان الذي لا يعتقد في صحة أقواله لا يساوي إلا أقل من شيء عندما يكذب، ويتجاوز الإنسان الوضعية التي يساوي فيها إلا أقل من شيء، فهو سيصبح شيئا وربما شخصا؛ أي شيء يشبه إنسانا وربما كينونة تحمل في طياتها إمكانات الخداع والكذب.
إن ما سعى إلى توضيحه دريدا وما توصل إليه من خلال قراءته التفكيكية للكذب، مفاده أن هذا المفهوم أو الفعل (الكذب) هو شر جذري بلغة المسيحية وبلغة كانط كذلك، وبلغة دريدية إن اقتراف الكذب هو فعل يدل على خيانة للحقيقة التي تقتضي الكثير من الجرأة على قول الصدق، وهو الطرح الذي يستحق التأريخ له بصورة أكثر صرامة وجذرية.
خاتمة:
بناء على ما سبق، يمكن القول إن موقف دريدا قائم على التساؤل حول إمكانية تشكيل تاريخ للكذب من خلال النظر إلى السياقات الثقافية والتاريخية التي ساهمت في إنتاجه، حيث يفكك لنا دريدا الكذب بالوقوف على المصطلحات من قبيل: "الفانتازيا" و"الكذب" و"الحنث بالوعد"، وفي هذا الصدد يعترف دريدا بصعوبة البحث في مسارات تشكيل الكذب عبر العصور. في مقابل هذا، يعترف دريدا باستحالة الكذب على الذات، مؤسسا موقفه على موقف روسو و"اعترافاته" البديعة والصادقة. بالإضافة إلى ذلك، ركز دريدا على أعمال أرندت بحكم اهتمامها بالعلاقة الخطيرة التي تربط الحقل السياسي بالكذب، كما أكد أن الكذب في خاتمة التحليل إخلال بالوعد الذي أعطاه الكاذب ضمنيا للآخرين، بقول الحقيقة لهم، وأنه يتضمن بعدا إنجازيا غير قابل للاختزال، هذه التعبيرات تتكاثر أكثر عندما يضع لنا حدودا بين الخطأ والكذب، ويفترض أن نقيض الكذب ليس هو الحقيقة أو الواقع، بل هو الصدق، وهو إقرار ضمني بالذي يصرح به أوغسطين، هذا الأخير الذي لا يكف عن الدفاع بأن القول الخاطئ لا يعد كذبا إذا كانت نية القائل هي التصريح بالحقيقة.
إن النتائج التي يستخلصها دريدا من هذه الفرضية تشكل المحاور الرئيسية لتحليلاته، فهو يفترض وجود علاقة بين الكذب والقصدية، ويذهب إلى أنه من المستحيل البرهنة على أن شخصا ما كذب، على الرغم من أنه بوسعنا البرهنة على أن هذا الشخص لم يقل الحقيقة، فالأمر يتعلق بسرد خرافي للأحداث التي بمقتضاها تصبح خرافة الخرافة، وبالتالي نجد أنفسنا أمام انقلاب فجائي كما يحدث في المسرح، فيظهر لنا أفلاطون الذي يقول بلسان نيتشه: "أنا أفلاطون، أنا الحقيقة"، ثم يأتي الوعد المسيحي، ثم "الأمر الكانطي". إن دريدا يحاول أن يخطو خطوة اتجاه الهوة التي توجد بين البعد الأخلاقي للكذب وأحد أشكال تاريخيه السياسي، مستشهدا بروسو الذي يقترح تصنيفا شاملا لمختلف أنواع الكذب، فإلى جانب الخديعة، يوجد التدليس والافتراء. يقول روسو بأن الخداع ليس كذبا، لكن كانط سيذهب في المقابل إلى القول إنه عندما نخدع نكون كاذبين، حتى في حالة عدم ارتكابنا أية عملية اختلاس. بالنسبة لكانط كما دريدا، إن الالتزام بالصدق يجب أن يكون حاضرا في كل معاملاتنا، لأن كل خطاب حول الزيف هو خطاب حول الكذب، وبالتالي يتعين الابتعاد عن الكذب رفضا للنزوعات الأنانية والانعزالية، وتكريسا لغيرية أعمق وأوثق، وذلك في إطار مشروع يؤرخ للكذب لا يخلو من النفس النقدي والأنواري الذي أسس له كانط، وحاول دريدا تعميقه وتجذيره.
لائحة المراجع:
بالعربية:
- أفلاطون، محاورة هيبياس الصغير، ترجمة شوقي داود تمراز (بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع، 1994).
- آرندت (حنة)، "الحقيقة والسياسة، قيم الصدق والكذب في الاجتماع السياسي"، تعريب: كريم عبد الرحمن، مجلة الاستغراب، العدد الرابع، السنة الثانية، صيف 2016
- دريدا (جاك)، تاريخ الكذب، ترجمة رشيد بازي (الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2016).
- كانت (أمانويل)، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي (بيروت: منشورات الجمل، 2002).
- كواريه (ألكسندر)، "تأملات في الكذب"، مجلة حكمة، ترجمة تاجة بوحجة. ينظر الرابط التالي:
اطلعنا عليه بتاريخ: 09/08/2024
بالفرنسية:
- Constant Benjamin, Kant Emmanuel, Le droit de mentir, Fayard, 2003
- Koyré Alexander, Réflexions sur le Mensonge, Allia, 1996
[1] جاك دريدا، تاريخ الكذب، ترجمة رشيد بازي (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، 2016)، ص. 47
[2] أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي (بيروت: منشورات الجمل، 2002)، ص. 26
[3] أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر مذكور، ص.51.
[4] المصدر نفسه، ص. 55
[5] Benjamin Constant, Emmanuel Kant, Le droit de mentir, Fayard, 2003, p. 8
[6] Ibid, p. 10
[7] أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر مذكور، ص. 93
[8] حنة آرندت، "الحقيقة والسياسة؛ قيم الصدق والكذب في الاجتماع السياسي"، تعريب كريم عبد الرحمن، مجلة الاستغراب، العدد..، صيف 2016، ص. 101
[9] المرجع نفسه، ص. 105
[10] جاك دريدا، تاريخ الكذب، مصدر مذكور، ص. 73
[11] المصدر نفسه، ص. 74
[12] جاك دريدا، تاريخ الكذب، مصدر مذكور، ص. 13
[13] هي محاورة موضوعها الفضيلة والمعرفة تدور بين أفلاطون وهيبياس الصغير السوفسطائي الذي يحاور أفلاطون مستشهدا بمقاطع من الإلياذة لهوميروس كي يدعم وجهة نظره، لكن سقراط يهزمه بمنطقه الدياليكتيكي الذي لا يغلب، والذي يتظاهر بتبيان أن آخيل ليس صادقا فيما يقول، في حين يرد هيبياس على ذلك بقوله، إن آخيل يتكلم زيفا عن غير عمد، في حين أن أوديسيوس يفعل عكس ذلك. (راجع المحاورة)
[14] أفلاطون، هيبياس الصغير، ترجمة شوقي داود تمراز (بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع، 1994)، ص. 246
[15]المصدر نفسه، ص. 247
[16] حنة آرندت، الحقيقة والسياسة، مرجع مذكور، ص. 106
[17] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[18] ألكسندر كواريه، "تأملات في الكذب"، ترجمة تاجة بوحجة، مجلة حكمة. ينظر الرابط التالي:
https: //hekmah.org/%D8%AA%D8%A3%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B0%D8%A8-%D8%A3%D9%84%D9%83%D8%B3%D9%86%D8%AF%D8%B1-%D9%83%D9%88%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D9%87-%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9/
[19] Alexander Koyré, Réflexions sur le Mensonge, Allia, 1996, p. 3