الربيع الديمقراطي والشروط التاريخية لـ "ما بعد الإسلامية": مقدمات منهجية
فئة : مقالات
تفترض هذه المقالة المقتضبة منذ البداية، أن الديمقراطية حتمية تاريخية في المجال العربي، وأن دخول الإسلاميين في زمن السلطة هو نتيجة طبيعية لمشروعهم السياسي القائم على مشروع سياسي، يستهدف إصلاح السلطة والمجتمع. ومن مقتضيات هذه الحتمية الديمقراطية ما نسميه "تنسيب الهوية"، ذلك أن الديناميات المدنية التي تستهدف تنوير المجتمعات، تحتاج - جوهريا- إلى تحرير الهوية من مجال السلطة، من خلال نموذج تصوري ثالث يرفض تقديس الهوية، ويرفض في نفس الآن تبخيسها؛ ذلك أن تقديس الهوية يؤدي ببساطة إلى رفض الآخر، ويتحول في حدوده القصوى إلى عنصرية وعدوان. أما تحقيرها، فيقود إلى الاغتراب والذوبان والتلاشي. وبين التقديس والتحقير، لابد من موقف تاريخي جديد من جميع الأطراف، نميز فيه بين المرجعية النهائية التي تقوم على مبدأ التوحيد، وبين الهوية باعتبارها مفهوما ديناميكيا، مفتوحا للتفاوض والتدافع والاختلاف والتطوير والإنضاج. هذه الديناميات المدنية، ستؤدي إلى تنسيب الموقف السياسي، القائم على تأويل ديني، وتفتح المجال للتعددية التأويلية، دون أن يؤدي ذلك إلى نهاية حتمية للتيارات الهوياتية.
قد يُظهر التأمل الفكري في "شعارات" الربيع الديمقراطي "العربي" وحمولاته القيمية، أننا أمام تناقض بين "ربيع ديمقراطي" يحمل قيمًا حديثة، وبين ربيع سياسي حمل الحركات الهوياتية إلى السلطة، لكن نتصور بأن الحتمية الديمقراطية وأولياتها التي حملتها الانتفاضة العربية، بقدر ما تحمل من مفارقات تعبر عن التناقضات في السياق العربي، فإن الأهم من بلوغ الإسلاميين للسلطة، هو بروز العمومية النقدية التي سيكون لها دور كبير في دفعهم إلى زمن ما بعد الإسلامية Post-Islamism. ولذلك فإن ما بعد الإسلامية هنا، ليس شعارًا سياسيًا جديدًا، بل هو نموذج تفسيري (براديغم) يحمل التطلع إلى حل هذا التناقض المفترض.
ونقصد بـ "ما بعد الإسلامية" هنا، تحرير الدين من سلطة الدولة، وتحوله إلى ميدان للتحديث المدني للمجتمع، ومرجعية للتنوير والتحرير والتجديد، باعتبار أن النهضة هي تحول تاريخي وحضاري وليست تحولا سياسيا ظرفيا، وهي أيضا (وهذا هو الأهم) حالة روحية وأخلاقية وإنسانية متفاعلة حضاريا ومتنوعة مدنيا. وهذه الحالة التاريخية ليست آنية، ولكنها سيرورة من التعلم (تتشكل بعض معالمها في الوعي العمومي الجديد للمجتمعات العربية)، ستنتهي بتجاوز النظر الإيديولوجي للدين، نحو نظر مدني إنساني مفتوح على الإبداع والتجديد.
يبدو واضحا اليوم بعد دخول الإسلاميين زمن السلطة، أننا سنتجه إلى لحظة ما بعد الإسلامية، فقد تحول الإسلاميون من تيار مهيمن على الفضاء العمومي، إلى تيار ممارس للسلطة وممسك بها، وهو ما يفتح مساحات واسعة لـ "إعادة "بنية" الفضاء العمومي وفق الحمولات الجديدة للخطاب الإسلامي الجديد ولمطالب التيار الشبابي، بما في ذلك الحمولات الدينية والقيمية.
ولعل أهم معطى ضمن هذا الوضع الجديد، يتعلق بعودة الجمهور، باعتباره ذاتا فاعلة في إنتاج الفعل، الأمر الذي كان له تأثير على المشهد العام في العالم العربي، الذي شهد الإطاحة بأعتى الأنظمة السلطوية. لم يعد الفعل العمومي التثويري الذي أسقط تلك الأنظمة موضعيا، بل صار فعلا نسقيا شاملا، حيث لم يترك المجال للحركة الإسلامية لتقوده بالشكل الذي تريده وتتطلع إليه. ولذلك سنجد أن الحركة الإسلامية بالمعنى التقليدي (الاجتماعي ـ السياسي أو العقائدي)، قد شاركت في الحراك العربي كغيرها من الفاعلين الآخرين الذين قبلوا بمنطق التثوير، بما في ذلك التيار السلفي الذي ظل في السابق بعيدا عن الممارسة السياسية بمعناها الحديث، رغم تلكئه في بدايات السيرورة الجديدة.
ضمن هذا الوضع الجديد، بدا أن الأفق التاريخي للحركة الإسلامية بمعناها الكلاسيكي، يتصل بممارسة السلطة، أكثر من قيادة المجتمع. فقد ظهرت عارية في القطاعات الأساسية للتنوير الفكري والتوجيه العلمي و الثقافي، وظهرت حدود كبيرة لعملها المدني الذي ظل وفيا لمنطق المعارضة في زمن السلطة وشروطه الجديدة. في هذا السياق، سنجد أن الجمهور يستعيد قضايا الهوية والقيم إلى مجاله الأصلي، مادامت الحركة الإسلامية التي كانت حاضنة لهذه القضايا قد صارت السلطة ذاتها، التي يُطلب منها تطوير المجتمع والحرص على تقدمه، وهو ما تكشفه على الأقل ديناميات النقاش العمومي حول قضايا كانت في السابق حكرا على التيار الهوياتي، وأيضا في عمليات التكييف المنهجي للخطاب الإسلامي (بشكل إرادي أو بمقتضى الشرط التاريخي و مستلزماته).
ثمة أسبابًا موضوعية وذاتية لهذا التحول التاريخي.
فمن جهة، تكمن الأسباب الموضوعية في المتن القيمي للحراك العربي، الذي دفع إلى تشكيل عمومية نقدية جديدة كامنة في وعي الجمهور، الذي انبجس في الميادين، رافعا صوت الديمقراطية والكرامة والحرية. وهذه العمومية لها أبعاد أساسية : البعد الاول يتعلق بتجاوز سلطة التقديس التي يمثلها "شيوخ الدين" في الحقل السياسي و تنسيبه، حيث لم يعد ممكنا إقناع الجمهور المتطلع إلى الحرية والديمقراطية بخطاب تديني إيديولوجي كإطار لحل معضلات التخلف التاريخي، كما لم يعد ممكنا تقديم إجابات "مشايخ" على أساس أنها إجابات حاسمة، بل يبدو واضحا أننا أمام عودة حقيقية للنقاش العمومي في مختلف القضايا التي يثيرها الفقهاء؛ البعد الثاني ويتعلق بما يلعبه هذا الجمهور من دور أساسي في مراقبة السلطة التي يمثلها الإسلاميون، وهي مراقبة تعلن موتا للأيديولوجيات وانتصارا للقيم الإنسانية، حيث لم يعد ممكنا العودة إلى أزمنة الاستبداد بكل خلفياتها الأيديولوجية الدينية والقومية والعلمانية وغيرها؛ والبعد الثالث ويتعلق بأن انتقال الإسلاميين إلى زمن السلطة سيسمح للشباب والنخبة المثقفة المنصفة بإعادة النظر في المسلمات التي انبنى عليها الخطاب الديني في المراحل السابقة، مما سيؤدي إلى الانتباه إلى المشاريع الفكرية العملاقة، التي دشنتها أطروحات ظلت على هامش "سلطة الشارع"، والتي حملت نظرا للعلاج التاريخي والفكري لأزماتنا المعقدة، بنوع من التركيب الذي يستوعب التناقضات الحادة لأوضاعنا.
ومن جهة ثانية، هناك عوامل ذاتية تتعلق بالإسلاميين أنفسهم، باعتبارهم جزءا من المرحلة الانتقالية التي يمر بها العالم العربي اليوم (وهنا نحن نفهم المرحلة الانتقالية بمعناها التاريخي الحضاري، بما تقتضيه من تجديد فكري وثقافي، وليس فقط كدينامية سياسية جزئية). ثمة على الأقل خمس محددات تعزز هذه الفرضية؛ أولها، أن التجربة التركية للإسلاميين أثبتت أن زمن السلطة هو زمن تنسيب قوى السلطة الحاملة لرهانات دينية، فكلما استفادت الحركات الدينية بشكل أوسع من "بنيات الفرص" التي تتيحها سيرورة السلطة، فإن موقفها يتجه تدريجيا إلى الانخراط في السيرورة والقبول بها، لا تقفز هذه الفرضية على حقيقة أن الأطر المعيارية Normative framework المرنة لهذه الحركات (الحوار، الاعتدال، التسامح، الانفتاح على التنوع الثقافي...) من العوامل الأساسية المساعدة على التحول؛ المحدد الثاني، يكمن في أن الربيع الديمقراطي قد دفع إلى فتح المجال أمام تعددية القوى السلفية والأحزاب التي تمثلها، وهو الأمر الذي يسهم حتما في تجاوز حالة الاحتكار العائم باسم الديني، وفتح المجال لنوع من التعددية التي تسمح للجمهور بتلقي عروض دينية متنوعة؛ سيكون العرض الأكثر واقعية، الأكثر مقبولية من بينها؛ المحدد الثالث، يكمن في أن معظم هذه الحركات قبلت بالديمقراطية الأداتية وبصناديق الاقتراع ولم تقد انقلابات فجائية تحكمية، ولاشك أن الديمقراطية أحد الأركان الأساسية للحداثة السياسية. ثمة محاولات، في سياق التطبيق التاريخي للحداثة السياسية من قبل الإسلاميين، لتكييف قيمها مع تصوراتهم لمرحلة المعارضة، وهي تصورات سرعان ما تكتشف طوباويتها لتنتقل إلى تجاوز هذه الثنائية التضادية العقيمة بين "المنطق الأداتي" و"المنطق القيمي". سنجد بعض المؤشرات الدالة على هذا التحول العسير، فبعض الحركات تعرف اليوم صراعا حادا بين دعاة التقليد في سياق جاذبية التطبيق السياسي للحداثة، وبين دعاة الإصلاح الإسلامي العميق. فالحركات الإسلامية ليس لها حلول عميقة خارج النموذج الديمقراطي، سواء في طبيعته التوافقية أو القائمة على حكم الأغلبية؛ المحدد الرابع، يكمن في مأزق الإسلاميين في سياق "زمن السلطة"، فالانبهار بالشرعية الداخلية (الانتخابية) أو بالشرعية الخارجية، وعدم مراعاة "الشرعية الانتفاضية" قد يكون سببا في انحسار كبير لصدقية مشروعهم، خاصة إذا تحول رهان البحث عن تلكم الشرعيات الخارجية، بعيدا عن شرعية الإرادات التي تنبني على العمومية النقدية؛ المحدد الخامس، ويتعلق بأن الصراع الذي كان يجمع الإسلاميين بأنظمة الحكم لم يعد صراعا حول الشرعية الدينية، بل تحول اليوم إلى صراع من أجل رفع سقف المطالب في "أجندة" التفاوض السياسي حول السلطة، مما يسهم في تضييق ساحة التضخم الإيديولوجي وتوسيع ساحة الفعل المدني والحضاري وأولوياته في أجندة الشعوب العربية.
ثمة اعتراضا أساسيا على هذا التصور ينبغي أن ننتبه إليه؛ فليس كل الإسلاميين اليوم في السلطة، بل هناك حركات وتيارات خارجها، إما اختيارا لأن شروط المشاركة وفق رؤيتهم لم تحن بعد، وإما اضطرارا لأن قدراتهم السياسية والانتخابية لم تسمح لهم بتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية، أو غيرها من الأسباب. ولكن مما لاشك فيه، أن مشاركة الأحزاب السياسية الإسلامية في السلطة، ستكون له آثار وتبعات على مجمل الحالة الاسلامية بالنظر الى الاتفاقات المرجعية الحاصلة بينها.
وهنا لابد من التوضيح، فلا تدل حالة ما بعد الإسلامية، تأسيسا لحالة (ما بعد الإسلام)، فالإسلام له مكانه الصميمي في حياة الشعوب العربية وفي البناء الثقافي، حيث سيكون من الصعب القول بإمكانية تشكل علمانية شاملة في المجال السياسي العربي، كما لا تدل مرحلة ما بعد الإسلامية على (نهاية الحركات الإسلامية) بمختلف توجهاتها، بحكم أنها تبقى تعبيرا عن الظاهرة الإسلامية في عمومها. ولذلك يمكن أن يكون للإسلاميين دور في إعادة تشكيل دور الدين في الفضاء العمومي بالشكل الذي يسهم في تنسيب الموقف الديني/السياسي، وتحرير حقل السلطة من رهانات الدين. يمكن في هذا السياق، أن نقترح بعض العناوين الكبرى لإسهام الإسلاميين في كسب رهان "ما بعد الإسلامية"، باعتباره أحد شروط الانتقال الأساسية :
1 ـ الانتقال من منطق الطائفة إلى منطق المجتمع: إذ يحتاج الإسلاميون إلى التفكير بمنطق المجتمع والدولة، وتجاوز التمركز الطائفي والإيديولوجي المغلق، وهو ما يحتاج إلى تطوير مشاريع مجتمعية حقيقية، تسهم في تنمية المجتمع ومحاربة أشكال التسلط والفساد والاستبداد في السلطة، وتجاوز منطق الهوية الدفاعية المنغلقة في العلاقة مع الآخر.
2 ـ احترام مقتضيات التعددية المعيارية والسياسية: إذا كانت حالة التعددية والتنوع حالة من صميم الحراك العربي في انطلاقته الأولى، فإن الإسلاميين يتحملون مسؤولية أساسية وتاريخية في حماية هذه التعددية السياسية والفكرية وتحويلها إلى ثقافة مجتمعية.
3 ـ القبول المبدئي بفلسفة الديمقراطية: لاشك أن صناديق الاقتراع مهمة في السيرورة الديمقراطية وأداة أساسية من أدوات التمثيلية، لكن الديمقراطية التمثيلية ليست هي جل العملية السياسية، وليست هي جوهر الشرعية في سياق حراك ديمقراطي عميق، ولذلك ينبغي أن لا تتصادم مع البنية التأسيسية للربيع الديمقراطي، وما تكشفه من أوليات لما يمكن أن نسميه بـ الديمقراطية التداولية، التي تجعل من التواصل الإنساني والحوار مع المخالفين ماهية لها.