الزمن التأويلي
فئة : مقالات
الزمن التأويلي([1])
مقدّمة:
ما طبيعة الزمن التأويلي، وزماننا هذا أهو زمن التأويل أم زمن التغيير؟ عن السؤال الثاني بوسعنا أن نقدم إجابتين؛ الإجابة الأولى: تناسب الوضع التاريخي الذي يعيشه، اليوم، هذا البلد الذي نحن فيه (تونس)، وهي أنّ هذا الزمن هو زمن التغيير. فقد أطلقت تونس شرارة التغيير الأولى، التي عمّت معظم أرجاء العالم العربي، دون أن تنتظر تأويلاً شرقياً ولا غربياً. وحتى التغيير، الذي أنجزته، كان كالزهرة التي لا يحتاج عطرها وجمالها إلى برهان أو تأويل؛ ولذلك أجدني مُحرَجاً أن أتكلم عن زمن التأويل في بلد التغيير. الإجابة الثانية: هي أنّ زماننا، بالمطلق، زمن التأويل، سواء بالمعنى الإيجابي، أم السلبي الذي أهم أماراته تفشّي عدوى الأصوليات من كلّ الأصناف والأجناس. ولعلّ الإجابة نفسها ستكون صالحة إن نحن أعدنا صياغة السؤال الثاني باستبدال اسم التغيير باسم التنوير، أي هل زماننا... زمن التأويل أم زمن التنوير بمعناه الكلاسيكي القوي؟ ومن أجل تقديم البيّنات المدعمة لهذه الإجابة، سنقسم الزمن التأويلي إلى زمنين؛ الزمن التأويلي العربي بعد القرن الثاني عشر، والزمن التأويلي الكوني الحالي.
أوّلاً) الزمن التأويلي العربي بعد القرن الثاني عشر:
حديثي عن الزمن التأويلي العربي الإسلامي سيكون قصيراً. وأُمهّد له بالقول: إنّ التاريخ العربي الإسلامي يكاد يكون عبارة عن صراع بين التنوير والتأويل، بين الإضاءة العقلية والإغماض المجازي الخيالي، بين رؤية للعالم تسعى إلى تغييره في اتجاه المستقبل، بناءً على حتمية طبيعية، أو ضرورة عقلية، ورؤية أخرى للعالم قائمة على تأويل النصوص العتيقة، غايته خلق المعاني، ظلال المعاني، بدل استكشاف الحقائق المغيّرة للعالم. ويشهد تاريخنا الفكري والحضاري أنّ التأويل هو الذي كان ينتصر في هذا الصراع على البرهان في غالب الأحيان. وسأدعم قولي بقصّتين من التراث.
القصة الأولى: فوق الزمان والمكان نقرأها في القرآن، وتعطينا صورة نموذجية لهذا الصراع غير المتكافئ بين رؤيتين للحقّ والخير، دارت بين النبي موسى ونبيّ غامض، يسميه التراث، أحياناً، الخضر. كان الخضر يمثّل، في هذه القصة، موقف التأويل؛ أي القدرة على خرق العقل، والزمن، والقضاء، بينما يمثل النبي موسى الاتساق العقلي، والسببيّة الطبيعية، والامتثال للأوامر الأخلاقية. وتحكي لنا القصة أن الخضر كان ينبّه موسى ]إنّك لن تستطيع معي صبرا[؛ أي العقل لا يستطيع فهم ما ينزل منزلة المعجزات والكرامات. وقد انتصر على موسى، على الرغم من أنّ الأعمال الثلاثة التي قام بها كانت لا أخلاقية، ولا عقلانية، ومن ثمّ لا إنسانية، بالمعيار العقلي. فقد قام الخضر بأفعال خالية من المعنى للوهلة الأولى؛ خرق السفينة، وقتل الطفل، وإعادة بناء، أمام دهشة النبي موسى واستنكاره، ولكنه بعد أن أنهى مهمّته قدّم تفسيراً يجعله يملك قدرة خارقة على العلم بالقدَر، وعلى اعتراض مكاتيبه.
القصة الثانية: الصراع بين البرهان والتأويل؛ تبدو، في الظاهر، أقلّ عجباً وغرابةً من القصة الأولى، ولو أنّ لها عواقب وخيمة على مصير الحضارة العربية الإسلامية. كان بطل القصة، هذه المرّة، الفقيه الفيلسوف ابن رشد، الذي كان يجمع بين عقلانية الفقهاء، وعقلانية الأطباء، وعقلانية الفلاسفة، في مواجهة خصمين كبيرين كان لهما شأن عظيم في تشكيل مصير الحضارة الإسلامية بعد القرن الثاني عشر، هما أبو حامد الغزالي، والشيخ الأكبر ابن عربي. في المواجهة الأولى، التي لم تكن وجهاً لوجه، انتصر القاضي والفيلسوف ابن رشد على الغزالي انتصاراً عقلياً، إلّا أنّه لا أحد سمع بحججه وبراهينه على سموّ العقل، والعلم، والإرادة الإنسانية، فانهزم أمامه عملياً وتاريخياً؛ لأنّ صاحب رسالة قانون التأويل، الذي وصفه ابن رشد بالمُلبِّس، وبالسفسطائي، وبكاره الحقّ، هو الذي انتصر، وساد خطابه المخضرم والمُلتبس إلى يومنا هذا. حيث نشر بتآويله ثقافة كراهية العلم والعقل والانفتاح على علوم الأمم الأخرى.
في المواجهة الثانية، التي كانت مباشرة، خلاف المواجهة الأولى، انتصر ابن عربي المتأوّل اليافع على الشيخ ابن رشد البرهاني بلعبة «نعم ولا» السفسطائية، ذات الطاقة التأويلية التي لا تنفذ، والتي أربكت الأخير، وأوقعته في الحيرة، التي هي غاية الكشف الصوفي، لكنّها عدوّ النظر الفلسفي. ولعلّ عذوبة التمثيلات، والتشبيهات، والمجازات، التي يستعملها التأويل، في مقابل جفاف وموضوعية الاستدلالات البرهانية، كانت من أسباب الانتصار التاريخي للتأويل الكلامي والصوفي على التنوير الفلسفي والعلمي.
وقد أدّت هيمنة التأويل الكلامي الصوفي على الفضاء الفكري العربي إلى إلغاء العقل، وحجب الوجود، لصالح الوهم، والاتكال على التدخّل الإلهي في حلّ كلّ مشكلة طارئة، حتى أن ابن عجيبة، في القرن التاسع عشر، كفّر كلّ من أقرّ بظاهرة العدوى، التي تحدثها الأوبئة، وبقدرتها على الانتشار الذاتي، وبدّع كل من برهن على وجود أفعال البرء والشفاء للأدوية؛ لأنّ كلّ ذلك، في نظره، تدخّل في الإرادة الإلهيّة، وإشراك في وحدتها. وقد كانت النصوص المقدّسة هي الأفق الذي يفكّر فيه صاحب كتاب (إحياء علوم الدين) أبو حامد الغزالي، ولحظة محيي الدين بن عربي صاحب (الفتوحات المكيّة وفصوص الحكمة)، ولذلك جاء تفكيرهما تأويلياً محضاً على مستوى المنهج والمذهب؛ أي يتحرّك ضمن رؤية رمزية للعالم قسّمته إلى ظاهر وباطن، وعقل وأسطورة، وفكر وخيال، وشريعة وطريقة، مّا جعلها محاطة بالغموض والأسرار من كلّ جانب. هكذا يتضح كيف أنّ الالتزام بالتأويل يؤدّي، حتماً، إلى التخلّي عن الضرورة العقلية، والحتمية الطبيعية، والإرادة البشرية الحرّة، هذا علاوة على الإعراض عن مبدأ فصل الذات عن الموضوع.
في مقابل ذلك، كانت لحظة ابن رشد تنويرية بالمقياس الزمني الذي وُجِد فيه، لا لكونه أعلن عداءه السافر للتأويل كرؤية ومنهج فحسب، بل، أيضاً، لأنّه جاهَر بولائه للأفق الأنطولوجي، وانتمائه للرؤية العقلانية، وتشبثه بالتفسير بطريقة برهانية اقتضت منه فصل الذات عن الموضوع. صحيح، لا ننكر تعلّق ابن رشد الشديد بالنص، ولاسيّما نصّ المعلم الأوّل، غير أن تعلّقه به كان من أجل تفسيره لا تأويله؛ أي أنّ التفسير كان ذريعة للتفكير في الوجود ومواجهته مباشرةً. هذا علاوة على أنّ التفسير والتأويل قائمان على الدلالة المنفصلة؛ هذا وقد عُنيت، منذ مدّة، باللحظتين المتصارعتين؛ البرهانية والتأويلية. غير أنّني لم أشأ أن أقف منهما موقفاً محايداً. فأنا لا أخفي ولائي لأهل البرهان، وانتمائي للأفق التنويري، ولاسيّما أنّ النص أمسى، في هذه الأيام الأخيرة، ذريعة للذبح، والقتل، والإحراق، وتدمير كلّ ما هو أخلاقي، وجميل، وإنساني، في الإنسان. ومع ذلك، لا أستطيع أن أكتم جنوحي خلسةً، المرة تلو الأخرى، إلى الموقف التأويلي، ومدِّي أواصر الصلة بيني وبينه، بسبب عذوبة مسلكه، وقدرته على السماح للذات بأن تكون جزءاً من الموضوع. أنا لا أدّعي أنّي أقف موقفاً عدلاً بين البرهان والتأويل، إلّا أنّ جنوحي إلى التأويل كان من أجل الاعتراف بحقّ الخيال في المعرفة والحكم، ومن أجل إعادة الاعتبار للغة بلوازمها المجازية، والتمثيلية، والتشبيهية، لكن دون التضحية بالعقل، والاكتفاء بالنظر إلى الموجودات من وراء حجاب النص النقلي.
ثانياً) التأويلية في الزمن المعاصر:
في هذه النقطة من المقال، سيرافقنا السؤال الأوّل؛ ما طبيعة الزمن التأويلي، أتنتمي التأويلية المعاصرة إلى عالم الحداثة، أم أنّها مضادة لها، أم أنها، بالأحرى، من تجلّيات ما بعد الحداثة؟ بعبارة أخرى؛ هل التأويلية فلسفة أصولية في مواجهة فلسفات التنوير، أو أنّه بوسعنا أن نتكلّم عن تأويلية تنويرية، تأخذ بيد الخيال والتمثيل، وبيدٍ أخرى العقل والبرهان؟
1. التأويلية بين الشفافية والالتباس:
بجهة ما، تُقدم التأويلية نفسها باعتبارها فعلَ إضفاء الغموض والالتباس على العالم، وتقدّم المؤولين ملبِّسين لا طالبين للحقّ والحقيقة. وبالفعل، لا تنفصل التأويلية عن اللَّبس والالتباس، والتشابه، والتراوح، بين الظاهر والباطن؛ إذ هي لا تكون فعّالة إلا في حالة احتجاب المعنى بقصّة، أو أسطورة، أو تشبيه، أو مجاز، أو استعارة، أو حلم؛ أي إلّا حينما يكون النصّ حجاباً للوجود. في هذا الجو الهرمسي تغدو وظيفة التأويل رفع الحجاب عن معنى الوجود، عن طريق العبور به من ظاهره اللغوي إلى باطنه المجازي. ويذكّرنا العبور بالترجمة العربية لكتاب أرسطو بيري إرمينياس بكتاب (العبارة)، وعلم «تأويل الأحلام» بـتعبير الرؤيا؛ بيد أن العبور من المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن لا يعني ردّ الظاهر إلى الباطن، وإنما استكشاف الباطن كعالم مستقلٍّ بدلالته الذاتية، ومنطقه الخاص.
وقد كان تقسيم النص أو العالم إلى ظاهر وباطن ذريعةً لتنسيب فكرة الحقّ والخير؛ أي لإدخال الالتباس عليهما. فالحقُّ، في نظر التأويل العرفاني، مثلاً، يمكن أن يكون في جانب المتصارعين حوله معاً؛ لأنّ «كلّ واحد له وجه في الحق ومستند» كما قال ابن عربي. فنفْسُ الفعل قد يكون معصية مذمومة في نظر العموم، ومعصية محمودة في نظر أهل الشهود؛ لأنّ لهؤلاء مِحَكّاً للحقّ والخير «لا يستطيعه الآخرون». وتعزيزاً لهذا الموقف التأويلي يقول أحد الصوفية: «إنّ الغاية في الحقّ هي الحيرة». هكذا تفضّل تأويلية الصوفية أن تبقى في منطقة «كأنّ»، لا في منطقة «أنّ»، في منطقة المحاكاة والتمثيل، لا في منطقة الشيء في ذاته. وفي مجال المحاكاة تتبدّد الحقيقة، والحقّ، والعقل، ولا يبقى سوى البحث عن المعنى، أو ظلّ المعنى المتواري وراء الكلمات.
التأويل، إذاً، فعل للتلبيس، والمؤول ملبّساً بالمعنيين الحرفي والمجازي. فهو يكسي الحروف، والكلمات، والقصص، لباساً فوق لباس، ويطمس الحدود بين الحقّ والباطل. على هذا النحو، تكون التأويلية، التي هي محبة التأويل، مضادة بطبيعتها للتنوير، الذي غايته التمييز والوضوح لتحقيق مرتبة الشفافية التي لا أسرار فيها ولا غوامض. وأهل التأويل يرَون كلّ محاولة لرفع الغموض والالتباس على قصص الوجود وحكاياته إفقاراً له؛ بل يرَون أنّ الخروج من أزمة الحداثة يكون بالرجوع إلى الالتباس والغموض، ولاسيّما غموض الإنسان، الذي يضمن له غناه.
ولا تكتفي التأويلية بمعاداتها للتنوير؛ بل تضيف إلى ذلك معاداتها للأنطولوجيا. فلم لم يعد الوجود، بالنسبة إلى التأويلية، هو الذي يحدّد القيمة؛ بل أضحت القيمة هي التي تؤسّس الوجود. لكن إذا علمنا أنّ الإنسان هو الذي يعطي الوجود معناه و«قيمته»، وكان الإنسان، أصلاً، كائناً مشبوهاً، مُلْتَبساً ومتلبّساً، هذا إن لم يكن كائناً لقيطاً بسبب خطيئته الأولى، فإنّ الوجود سيصبح، تبعاً لذلك، مشبوهاً وملتبساً؛ أي خليطاً بين الخير والشرّ، بين الحقّ والباطل. وهذا ما يجعل التأويلية فلسفة ما بعد حداثية.
هل معنى هذا أنّ الزمن التأويلي زمن محافظ وأصولي؟ نعم ولا؛ لأنّه بدلاً من أن يقوم أهل التأويل بمهمات تغيير العالم، يكتفون بتأويله؛ بدلاً من أن يفكوا شفرات الوجود لتغييره، يكتفون بفك شفرات النصوص، شفرات القصص، والأساطير، والاستعارات الدينية، الموجودة في النصوص. ومع ذلك، لا يمكن أن ننكر أن الإنسان يلجأ إلى التأويل كلما نشبت أزمة بين النص والواقع؛ أي متى أصبح الواقع غير متلائم مع النص، ما يعني أن ممارسة التأويل تنطلق من حاجيات ومتطلبات مستجدة في الزمن الحاضر. بهذه الجهة يمكن القول: إنّ التأويلية ملقاة هي الأخرى على المستقبل، وليست حبيسة الماضي. وبالفعل، على الرغم من أن التأويلية نشأت على ضفاف التيولوجيا والتفسير (تفسير الكتب المقدسة)، فقد قدَّمَت نفسها لاسيّما بعد هايدغر وغادامر بوصفها فلسفة ما بعد حداثية، أو، على الأقلّ، ذات طموح ما بعد حداثي، إلى الحدّ الذي يسمح لنا بالقول: إن التأويلية هي إحدى علامات زمن ما بعد الحداثة. وممّا يدلّ على ذلك انفتاحها على كل الفلسفات والمناهج، حيث نجد التأويلية الفيلولوجية (شلايرماخر)، والتأويلية السيكولوجية (ديلتاي)، والتأويلية الفينومينولوجية (هوسرل)، والتأويلية الوجودية (هايدغر)، والتأويلية العملية القائمة على الأحكام المسبقة (غادامر)، وتأويلية الاشتباه والالتباس (ريكور)، والتأويلية التحليلية (أوتو آبل)، والتأويلية التفكيكية (هابرماس).
2. تضايف العقل واللاعقل:
من بين ما يميّز الفلسفة التأويلية نقدها الشديد للعقل، سواء أخذناه بمعنى اللوغوس، أم بمعنى النوس، فلم يعد العقل مبدأً مقدّساً يتصف بالحياد، والنزاهة، والأمانة، والموضوعية العلمية الكفيلة بقيادة الإنسان بقوّة وثبات نحو إدراك الحقيقة؛ بل أصبحت خاضعة، في نظر أهل التأويل، للأحكام المسبقة للثقافات التي يعيش فيها المفكّر. ونتيجة لنقدها الجذري للعقل، جرى تحويله من لوغوس استدلالي إلى لوغوس لغوي، فإلى لوغوس خيالي منفتح على القلب والخيال. هكذا يكون الفكر التأويلي قد نظر إلى العقل من خلال أفق لاعقلي، وكأنّ اللاعقل هو الجذر الخفي للعقل. وهذا يعنى أنّ ما كان يُعدّ حدوداً لا يحقّ للعقل تجاوزها، تمّ تجاوزها واستيعابها في فضائه حتى أصبح جزءاً منه.
بهذه الجهة يمكن اعتبار انتشار الهرمينوطيقا، بمختلف مدارسها وتياراتها، مؤشّراً على انحسار العقلانية لصالح اللاعقلانية، وكأنّ انتكاس فكر التنوير لصالح فكر التأويل علامة على طغيان النزعة الأصولية على الفكر البشري. نعم، لم تذهب التأويلية المعاصرة إلى حدّ التلويح بأفول العقل، كما فعل عتاة اللاعقلانيين، ولكنّها شجّعت على البحث عن الميتوس بدل اللوغوس، عن القلب والشعور بدل العقل والذهن، من أجل أن تعيد النظر في الأسطورة، وتَعدّها أداة انفتاح على الوجود، بعد أن استحوذ العقل على مهمّة الانفتاح هذه زمناً طويلاً. لم يعد العقل قادراً على حجب اللاعقل وإلغائه؛ لأنّه مهما قيل عن اللاعقل، سيبقى يشكّل أحد جوانب العقل نفسه، إن لم يكن يشكل وجهه الحقيقي الخفي عنا. فالعقل منغمر في اللاعقل من كلّ جانب، علاوةً على أنّه يشكّل أفقه البعيد، الذي لا يمكن إدراكه. وكلما اعتقَدَ العقلُ أنه حقّق أشواطاً كبيرة في الابتعاد عن اللاعقل وعن أساطيره، يباغته هذا الأخير، من حيث لا يحتسب، ليسكن في طياته. وفي مقابل ذلك، مهما ابتعدت التأويلية عن العقل، فهي عائدة إليه -لا محالة- لإضاءة الغوامض والأسرار التي تشتغل عليها.
وقد يتراءى لنا أنّ الرغبة في إعادة ربط العقل باللاعقل أمر مشترك بين «التأويلية ما بعد الحداثية»، و«التأويلية قبل الحداثية». غير أنّ الفرق بينهما كبير؛ إذ بينما كانت التأويلية الوسطوية تبحث عن العقل داخل اللاعقل؛ أي عن اللاعقل العقلي، فإن «التأويلية ما بعد الحداثية» كانت تبحث عن اللاعقل داخل العقل؛ أي تبحث عن العقل اللاعقلاني. وقد كان مدخل التأويلية المعاصرة إلى تضمين اللاعقل داخل العقل هو التاريخية والنسبية.
وموازاة لذلك، مهما كان تقدّمنا في سعينا للحصول على قدر أكبر من الموضوعية والشمولية، فإنّنا سنكتشف الذاتية في قلب الموضوعية. وهذا ما قامت به الحداثة الفلسفية منذ ديكارت، ولاسيّما منذ كانط، حيث أصبحت الموضوعية مرآة للذاتية، وليس العكس، كما كان الحال قبلهما. وهذه، في نظرنا، هي البداية الحقيقية والأصلية لحقبة التأويل المعاصرة. بيد أن ما أضافته التأويلية إلى هذه الفكرة هو ربطها الذاتية بالولاء الثقافي والعقدي، اقتداءً بنيتشه، وفرويد، وماركس. فإذا سلّمنا بأنّ كلّ موضوعية مُسخّرة من قِبَل ثقافة معيّنة لقضاء مآرب غير منظورة، لأدركنا أنّ الشمولية والإجماع المنعقد حول المعارف العقلية هو سراب بعيد المنال. ونقد أسس العلم، على هذا النحو، دليل آخر على الطابع الأصول في التأويلية.
3. التأويلية تحول من الوجود إلى اللغة:
التأويلية فلسفة ما بعد حداثية؛ لأنّها تربط الوجود باللغة ربطاً ذاتياً عن طريق الوجود بمصير الإنسان الذي يملك ناصية اللغة. اللغة أصبح لها، في الأفق التأويلي، ثقل أنطولوجي؛ لأن الوجود صار انعكاساً للغة، وليس العكس. وبالفعل، آلت التأويلية على نفسها أن تأخذ ﴿الكتاب بقوة﴾؛ أي أن تجعل الوجود تابعاً للغة، ولاسيّما إذا كانت لغة قوية، لغة مريدة، لا لغة هشة متخاذلة. إنّ تحويل الوجود إلى لغة عن طريق تحويل اللغة إلى وجود، جعل الوجود عبارة عن تأويل، عبارة عن قصص، ومجازات، ورموز، وعلامات، تنتظر من يؤوّلها، ويكشف عن معناها.
التأويلية محاولةٌ لتأسيس علاقة لغوية، أو «ما بين لغوية»، مع النصّ، من أجل تفكيك دلالاته، وإعادة بنائها. وأقصد بذلك تفكيك الأقوال التي صيغت لحكاية قصة الوجود. والتأويل، أيضاً، هو علاقة بين أقوال تأويلية لإضفاء «العقلنة» على النص. ولا يهمّ التأويل أن يكون المعنى خيالياً، تمثيلياً، أو محاكياً، طالما أنّه معنى يسري في النصّ بقوّة، وبكلّ حمولته القيمية.
لكن، على الرغم من رفع التأويلية لقيمة اللغة إلى مستوى المبدأ الأوّل للوجود، فإنّها تبقى لغة عرَضية، متحوّلة، كيفية، وليست لغة جوهرية، ثابتة ماهوية. فما يهمّ المؤوّل المعاصر ليس المبادئ والجواهر، وإنّما العلاقات، والإضافات، والنسب، والتحوّلات، والكيفيات، والتفاعلات، والانفعالات. غير أنّ هذه الرؤية العلائقية هي التي تسمح للمؤول أن ينسج علاقة ونسبة بينه وبين المؤوَّل. بهذه الجهة يصبح العقل التأويلي اسماً آخر للقلب الذي يستطيع معرفة الوجود والانفعال به في الوقت نفسه.
خاتمة:
وقفنا عند زمانين تأويليين مختلفين، ولكنهما يتقاطعان في ملامح، ويتقابلان في ملامح أخرى؛ الزمن التأويلي ما قبل الحداثي، والزمن التأويلي ما بعد الحداثي. يشترك التأويلان في أنهما موقف هرمسي من العالم. لكن هرمس لا يمكن أن يُفهم دون مقابله؛ أي لا يمكن أن يفهم اللاعقل من دون عقل، ولا يمكن فهم التأويلية من دون تنوير. ولكونهما موقفين متضادين، فهما في صراع دائم، تارةً تنتصر هذه، وتارةً ينتصر ذاك. في الغرب تمّ حسم هذا الصراع الأزلي لصالح التنوير في زمن الحداثة، دون أن تتلاشى التأويلية، التي ظلّت تشكّل ما يشبه هوامش وحواشي على التنوير. أمّا بالنسبة إلينا، فبعد القرن الثاني عشر، قرن ابن رشد، انتصرت التأويلية في صيغتيها الكلامية والصوفية، وظلّت سارية المفعول إلى أن طرأت عليها التأويلية ما بعد الحداثية، فلقمتها لغاية إنتاج تأويلية هجينة.
ما يميز التأويلية المعاصرة أنّها لا تغلق أبواب الحوار والنقاش لمزيد من التأويل، ومن إلباس الكلمات بالمعاني. فما دامت الغاية من الفعل التأويلي هي إبراز المعنى من وجهة نظر ذاتية، وذلك بـ«عقلنة» القصة والحكاية، فإنّ باب المداولة التأويلية سيظلّ مفتوحاً على الدوام. غير أن فرض العقلنة على قول غير عقلاني لا يتمّ عن طريق البرهان، أو الدلالة المتصلة، وإنّما عن طريق التغيير في معاني الأسماء والرموز بتبني الدلالة المنفصلة. وبحكم ارتباط الفعل التأويلي بالذات المؤوِّلة، فإن فضاءه يبقى لا محدوداً؛ إذ ينفتح على الواقع واللاواقع، على الحقيقة والوهم.
ولأنّ الرؤية التأويلية قائمة على مبدأ مرفوض، أصلاً، في الأنطولوجية، وهو مبدأ الدور المنطقي، فإنّ البداية والأولية تفقد معناها، وتغدو الأوائل مخالطة لما هي مبدأ له، تؤثرّ فيه وتتأثّر به، تفعل فيه وتنفعل به، كما يسمح الدور المنطقي للمبادئ بأن تؤدي دوراً توسطيّاً؛ لأنّها غير لابثة، ولا مستقرّة؛ بل هي في تحوّل مستمرّ، تتبادل المواقع مع ما هي مبدأ له، في مقابل الأنطولوجيا التي يبدو فيها الأوّل لا ثاني له.
يذكرنا هذا الجو التأويلي بأمباذوقل، بخليطه الذي يشتمل على الحب والكراهية، على مبدأ الوحدة والتفكيك. التأويلية المعاصرة هي، بجهة ما، إعادة اكتشاف الجو الأمباذوقلي المحفوف بالرموز، والأسرار، والتناقضات، التي يجب فك طلاسمها، والمفعم بازدواجية الظاهر والباطن، اللذين ينبغي العبور من أحدهما إلى الآخر. وفي هذا الجو الأمباذوقلي أعادت التأويلية المعاصرة اكتشاف غنى الكتب الدينية الكبرى، التي تعرض الوجودَ على شكل قصة مرتبطة بالإنسان مرتكب الكبيرة، وتحثنا على تأويل رموزها، وإحالاتها، وتناقضاتها، وتخيلاتها العجيبة، بسبكها في منظومة عقلية قابلة للفهم.
إن شعورنا بالحاجة إلى تأويلية تنويرية يحركه إدراكنا بأنّ الإنسان لم يعد راعي الوجود، وإنما ثقب أسود يبتلع الوجود، كما يحركه اكتشافنا خيانة الإنسان لأمانة خلافة الله في الأرض، حيث صار يخرّبها ويخرّب من فيها استناداً إلى تأويلات شيطانية. وبتخلّي الإنسان عن واجب الرعاية والخلافة، يفقد الوجود قيمته، والحقيقة جاذبيتها، ونقطة ارتكازها، فتغدو متأرجحة لا قرار لها بين الحقّ والباطل.
هل معنى هذا أنّنا ينبغي أن نتخلّى عن فكرة كون الإنسان هو الموجود الذي يجب أن يحتكر الكلام باسم الوجود، والعودة إلى إعطاء الكلمة للوجود نفسه، والرجوع إلى كهف الهرمسية، في مقابل التنوير، الذي هو نضال عنيد للخروج منه إلى النور. لكن إذا كانت الأصوليات تخرج من التأويليات، أفلا يكمن الصواب في ممارسة التأويل بكيفية تنويرية حتى يتوقّف عن توليد الأصوليات، ويتحوّل التأويل إلى تنوير؟
ما نخشاه هو أن يوقظ النظر إلى الوجود، عبر حجاب النص، التنين التأويلي المقدّس ذا الرؤوس السبعة، الذي ينفث النار في كلّ ناحية واتجاه بطريقة عمائية لا ضمير لها، ولا دين، دون أن يستطيع العقل العربي «التنويري» مواجهته؛ لأنه كلما اتخذ مبادرة لتطويقه تحوّلت إلى فخٍّ يمنعه من التحرّك داخله.
[1] ألقيت هذه الورقة في ندوة: "التأويل في الفكر العربي والإسلامي المعاصر"، المنعقدة تونس: 11 و12 فبراير/شباط 2015م، تنسيق: د. محمد محجوب. مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.