السلطة استباحة للحياة لدى جورجيو أغامبين 1942-....
فئة : مقالات
السلطة استباحة للحياة[1]
لدى جورجيو أغامبين
1942-....
بعث مفهوم السلطة في القرن 20
يرى غوي روشر[2] أن موضوع السلطة قديم في تاريخ الفلسفة، خاصة لدى الفكر الذي أنشد المدينة المثالية، شروطها، وعلاقة المجتمع المدني بالدولة، من أفلاطون إلى شيشرون، أغسطين وعند الرومان طبعا، وفي العصر الحديث هيجل وماركس وراسل؛ إذ تم فهم السلطة بوصفها القدرة على التحكم في الآخرين باستعمال القوة والهيمنة، إلا أنه لوحظ انبثاق نقاش ساخن وحيوي في الربع الأخير من القرن الماضي؛ فبالإضافة إلى الفلسفة، دار النقاش داخل السوسيولوجيا والعلوم السياسية.
ويرجع روشر هذه الصحوة الملحوظة إلى أسباب متعددة[3]، لعل أبرزها هو تصاعد سلط الدولة وتضخمها داخل المجتمع الرأسمالي الليبرالي، وبشكل أكثر عمقا في المجتمعات الاشتراكية المعاصرة، سواء على المستوى المحلي، وكذلك المستوى الدولي. هذا كما يرجع نقاش السلطة إلى تعدد وتشعب فضاءات ومصادر السلطة، والتي أصبحت تسجل حضورها بقوة خارج نطاق الدولة؛ بمعنى آخر حضور السلطة خارج الدولة، حيث يتعلق الأمر بالسلطة لدى الأحزاب السياسية، والجمعيات والنقابات ووسائل الإعلام والرأي العام، يبدو إذن أن العصر الراهن يعرف نظاما مركبا من العلاقات السلطوية، تبلور داخل مختلف هذه الأليات السلطوية؛ ذلك أنه لن يكون أي تحليل جاد للمجتمع المعاصر دون فهم هذه الدينامية.
هناك عامل آخر ساهم في تعميق النقاش عن مفهوم السلطة، وقد يكون غير ضروري كفاية لنا نحن المتفلسفة، ولكن علينا معرفته على أي حال، ويتعلق أساسا بتطور واستقلالية العلوم السياسية في فرنسا خاصة، وهو العلم الذي صار شيئا فشيئا علم عن السلطة ومن أجل السلطة، حيث يعتقد روشر أن مفهوم السلطة أصبح مركزيا في العلوم السياسية بعد الحرب المدمرة الثانية.
وبالنسبة إلى تعريف السلطة مفهوميا، فيثير هذا الموضوع صعوبات كثيرة؛ لأنه ليس مفهوما محايدا، فلا نستطيع اقتراح تعريف دون أن نأخذ تموقعا أيديولوجيا أو سياسيا؛ فالسلطة موضوع ملتبس وجدلي، مما يجعل تعريفه غير خاضع للإجماع. فماكس فيبر Max Webber يقصد بالسلطة كل فرصة ملائمة لفرض الإرادة الخاصة داخل العلاقات الاجتماعية، حتى مع حضور المقاومة؛ فالسلطة تعني فرض الإرادة الخاصة، كما تعني في سياق آخر إنتاج التأثيرات المقصودة، غير أن Talocott parsons يضيف عنصر الإلزام[4]؛ فالسلطة هي القدرة على فرض الإرادة وإنتاج التأثيرات المقصودة؛ أي التأثير على حياة الآخرين، هذا التأثير إلزامي تصاحبه القوة.
1- التقديم
يمكن إدراج مساهمة جيورجيو أغامبين في سياق المراجعات العديدة للحداثة، حيث اختار مساءلتها من الزاوية القانونية والسياسية، متوسلا في ذلك بمنظومة مفاهيم ذات حمولة ثقيلة فلسفيا وسياسيا، من قبيل السلطة، والدولة، والسيادة، والاستثناء، والحياة والموت، في سبيل تشييد نظرية عن الدولة وسياستها، مسترشدا بعمالقة النقد السياسي المعاصر، وعلى رأسهم مشيل فوكو، وكارل شميت، وفالتر بنيامين...حيث جعل أغامبين من التاريخ الغربي القديم والحديث أداته في الكشف والاستدلال على تصرفات السلطة، شطحاتها ونوباتها، غير أنه من زاوية أخرى، خفف العبء على الحداثة وأنصف صيرورتها؛ وذلك حينما توصل إلى أن الأزمنة الحديثة ليست هي العتبة الأساس لبروز ممارسات السلطة الباثولوجية، وآلياتها البشعة في فرض السيادة؛ ذلك أن حضور الإقصاء والاعتداءات، والإبادات الجمعية والممارسات الوحشية بدأت مبكرا جدا في التاريخ، وهي أقدم من الحداثة بكثير.
2- مفهوم السياسة الحيوية
يمكن عدًّ مفهوم السيادة la souveraineté مدخلا جوهريا لاستيعاب نظرية الإيطالي جيورجيو أغامبين عن السلطة والسياسة الحيويةpouvoir et biopolitique، التي هي أساس المناقشة في هذا المقال. وقبل أغامبين، فمفهوم السلطة الحيوية ولد أول مرة في اللحظة المعاصرة داخل البنيوية الفرنسية مع مشيل فوكو[5] وخاصة في عمله الذي يحمل عنوان: "droit de mort et pouvoir sur la vie" الذي يمكن نقله للعربية بــالحق في الموت والسلطة على الحياة، قبل أن يتطور المفهوم فيما بعد داخل العلوم الاجتماعية المختلفة، فيصبح معناه يدل على تطور السياسات على الصحة العمومية وذلك على مرحل طويلة، كما يوظف مفهوم السياسة الحيوية لاستيعاب صيرورات الحضارة، والتكنولوجيا التي توظفها الدولة للمراقبة الاجتماعية، سواء على الأفراد أو الجماعات.
إن السياسة الحيوية مفهوم مركب من طبقات متلازمة ومتعالقة، تشمل أساسا السياسة من جهة والحياة من جهة ثانية، ووسيلتها في ذلك عدد من الأدوات والآليات التي ميزتها هي المرونة، بغرض إخضاع الحياة لاستراتيجيتها؛ وذلك نابع من الهدف الأساسي للسلطة وهو الهيمنة في المقام الأول، ثم في المقام الثاني القمع والإقصاء والسيادة الكاملة على الأفراد والجماعات.
فالمتأمل في أعمال فوكو، سيجده لا محال قد تتبع التحولات العميقة التي عرفتها السلطة عبر تاريخها الطويل، محاولا البرهنة على ولادة مفهوم جديد للسلطة مختلف تماما عن مفهومها السيادي الكلاسيكي، هذا المفهوم الذي كان يمنح حق الحياة والموت للحاكم، الذي له وحده حق السماح للفرد بأن يحيا ويعش أيامه أو أن ينزع منه حياته نهائيا. هذا المفهوم الجديد يطلق عليه السلطة على الحياة، فيوضح ذلك فوكو بالقول إن: السلطة قبل كل شيء حقا للقبض على الأشياء والزمان والأجساد، وفي النهاية على الحياة، ولعلها تبلغ ذروتها في امتياز الاستيلاء على هذه الحياة لإلغائها كليا.[6]
إن السلطة وفق فهم فوكو تخترق الحياة بواسطة المعرفة، حيث تشتغل كثنائي مركب السلطة-المعرفة، من تسليط الأضواء على الكيفية التي تعامل وفقها السلطة مع الحياة؛ وذلك من خلال الدراسات العلمية والاجتماعية. من جهة ثانية يستبعد فوكو البعد الأحادي للسلطة، كما عُرفت تاريخيا بيد الملك أو الإمبراطور كقطب واحد يمارس السيادة المطلقة، فالمفهوم الجديد يشير إلى تشتت السلطة وانتشارها في شبكات، تتجلى على شكل فاعلية بين الأفراد الخاضعين والممارسين لها معا، حيث يعود الفرد كنتيجة من نتائج السلطة[7].
3- مفهوم السيادة من شميت إلى أغامبين
عادة ما يتحرج المفكرون من الإحالة على كارل شميت[8] Carl Chmidt، بسبب المأزق الأخلاقي الذي سقط فيه كما سقط هايدغر من قبله، حيث انضم للنازية عام 1933 كمثقف نشيط، وبرر أعمال هتلر بكونه قائدا يحمي القانون، وهو نفس العنوان الذي حملته إحدى مقالاته، كما رافع من أجل تطهير القانون الجرماني من الروح اليهودية. ورغم ذلك، فقد أثر بشكل عميق في مفكرين بارزين بدءا من هنتغتون، ثم راولز، مرورا بليو شتراوس، وأغامبين، وصولا إلى سلافيو جيجيك وشونطال موف، خاصة في نقد الليبرالية[9]، رغم تحرج معظمهم من الإحالة عليه.
استند أغامبين على كارل شميت بوجه مكشوف خاصة في فهمه لحالة الاستثناء، فشميت في سياق تقويضه لشرعية لحداثة، ذهب يؤكد عبر فترات متباعدة على أن المفاهيم السياسية التي اقترنت بالدولة هي مفاهيم لاهوتية في الأصل جرت علمنتها، ويشير إلى أن حالة الاستثناء في الدولة التي هي أبرز مثال على السيادة أنها تماثل بشكل رهيب المعجزة في اللاهوت، حيث تتنحى القواعد المألوفة والقوانين الجاري بها العمل جانبا، وتبعا لذلك فكل فهم لا يراعي هذا التماثل بين السياسي واللاهوتي لن يكون فهما كافيا لمفهوم السيادة، التي وفق هذا الاعتبار ترتقي الدولة فوق القانون وخارج الحدود الطبيعية، فتبرز كسلطة مطلقة.
ويعرف شميت الحاكم السيادي بأنه من يقرر في الحالات الاسثنائية[10]، بل إن حالة الاستثناء هي ما يجعل موضوع السيادة يثير النقاش والاهتمام، ويعني الفيلسوف هنا مسألة السيادة بشكل عام، وحتى نتقرب أكثر من هذا المفهوم، فالتعاريف الأكثر بساطة، تشير إلى أن السيادة هي قدرة الحكومة أو الحاكم على أن تكون له اليد الطولة في إقليمه الترابي، سواء فيما يخص الشؤون الداخلية أو ما يتعلق بالمصالح الخارجية، بدون قيود أو إلجام من أي جهة كانت، كما أن قرارات وأعمال السيادة لا تخضع لمراقبة القضاء ولا سلطة له عليها، والمثال الحديث لدينا هو إقدام حكومتنا الفائتة في 10 دجنبر 2020 على التنفيذ الفعلي لقرار التطبيع مع دولة إسرائيل، رغم اعتراض الإرادة الشعبية والمجتمع المدني وبعض الأحزاب والنقابات والهيئات، بل هنالك من خلق تحالفا لمقاضاة الحكومة أمام القاضي الإداري، لكنه تم إحباط كل ذلك، ولم يتأت سماع الدعوى حتى، بوصفه قرارا يدخل في دائرة الأعمال السيادية للبلاد، لا يختص بها القضاء الإداري ولا أي قضاء أخر سوى قضاء الله وقدره.
4- أغامبين من الاستثناء إلى السيادة
لقد توسل جيورجيو أغامبين بأطروحة شميت عن التلازم بين السيادة والاستثناء، من أجل نسج تصوره التي يختزل العلاقة بين السيادة والقانون والإنسان. من جهة أخرى، وفي سياق تطويره لمفهوم السلطة الحيوية، يبرهن الفيلسوف كيف أن السيـادة تحمل في بينيتها وتكوينها السلطة المطلقة على الحياة، كما تتجلى بشكل بارز في حكم الاستثناء، بوصفها سلطة فوق القانون، بل إن الاستثناء هو تعطيل للقانون تماما.[11] لذلك يرى أغامبين أن حالة الاستثناء ليست مجرد واقعة قانونية عارضة كما يرى فقهاء القانون وعموم المختصين، بل إنها نقطة اختلال التوازن بين القانون العام والفكر السياسي، لذلك يدعو إلى فهم هذه الظاهرة من المنظور السياسي أولا وقبل كل شيء، وبالضبط منظور الفلسفة السياسية، وليس من وجهة نظر القانونية والدستورية[12]، التي لا يمكنها أن تقدم شيئا حيال هذه المعضلة الفلسفية عن حق. وفي هذا الشأن تماما، يعتبر أغامبين فيلسوف ذي أصالة؛ لأنه لم يتوقف عند الحدود القانونية المحضة، بل تعداها بانتباهه المدهش، إلى العلاقة الجدلية بين القانون والإنسان، خاصة بإثارته سؤال السلطة والحرية والشرعية في وقت الاستثناء.
5- السلطة على الحياة العارية
الحياة العارية هي وصف للوضعية الإنسانية التي يحياها الإنسان المستباح؛ أي ذلك الإنسان الذي أصابته لعنة الزمان، حيث يكون مجردا تماما من مواطنيته، لا يرى فيه الحاكم أو الدولة سوى جانبه البيولوجي الأكثر بدائية[13]، والمتمثل أساسا في حاجة المأكل والنوم، حيث يعيش بدرجة قد تكون متساوية أو أقل من بعض الشيء للحيوانات، ويمكن لأي كان أن يعتدي عليه، أو يتسبب في قتله بلا رحمة أو محاسبة.
فالإنسان المستباح Homo Sacer أو الملعون أو البربري هو المفهوم النقيض للمواطن، فإذا كانت المواطنة تعني اكتساب الحقوق، والتجمل بالواجبات، والمشاركة الفاعلة في تسيير الشأن العام، بل والمشاركة أيضا في صنع القانون والقرار، فالإنسان المستباح يعيش على هامش القانون، فلا رأي له في صناعته أو تطبيقه. على سبيل الحصر، يمكن للإنسان الإفريقي القادم من بلدان جنوب الصحراء أن يكون حاملا لعدد مهم من هذه الأوصاف، وإن كان أغامبين يقصد سياقا آخر، فالبشرية الإفريقية مقصية مسبقا بسبب اختلاف اللون، إقصاء اجتماعي مصدره المجتمع قبل أن يكون سياسيا، فالإنسان الإفريقي يصعب تخيله كمواطن بنفس الوضعية السياسية مع المغربي، كما أنه يعش خارج القانون، لا يعرف عن وضعه ولا سريانه أي شيء، حيث يمكن مع بعض التحفظ اعتبار البشرية الإفريقية بشرية مستباحة في أقاليمنا المغربية والعربية.
توسل أغامبين بمفهوم الإنسان الحرام، أو الإنسان مستباح الدم لأن في وضعه الإنساني تكون حياته عارية من الحماية القانونية بأشكالها، يكون معرضا لإمكانية قتله أو الاعتداء عليه عند أحسن الحالات، ولكي يوضح أكثر، عمد إلى وضع تقابل بين صنفين من حياة الأفراد، يستدعي أغامبين فهم الحياة الإنسانية الذي كان لدى اليونان، بين الحياة المشتركة ZOE، وتعني أنها حياة مشتركة بين البشر والحيوانات، حيث لا يكون اختلاف بين الاثنين في الاعتبار والمعاملة، ثم الحياة المؤهلة BIOS، تأهيلا قانونيا وسياسيا[14]، فينال الفرد في ظلها الاعتراف السياسي اللازم.[15]
تبعا لذلك، فإن حالة الاستثناء بوصفها تمنح الدولة سيادة مطلقة في تطبيق القمع والقتل والإقصاء، حيث تتحول الوظيفة الأساسية للسيادة في تكوين مجتمع سياسي يستبعد فيه الأفراد الذين لا يناسبون الحياة المؤهلة بالقانون والاعتراف السياسي، يتم إقصاء الإنسان المستباح تماما، يستبعد من التشريع القانوني وكذا من حقوقه في الحماية باسم القانون، الذي يصبح بدوره أداة بأس وبطش لا غير. بالتالي يعتبر الإنسان المستباح المعرض للتهديد، هو نتيجة حتمية لفرض حالة الاستثناء، هكذا تحضر الحياة العارية، التي تتحول إلى قاعدة، بعد أن كانت مجرد نموذج عارض في التشريع. يصبح هذا النموذج من الحياة هو الأساس السري الذي يقوم عليه النظام السياسي. بالتالي يتبين أن السلطة السيادية والسلطة الحيوية بوصفهما شيئا واحدا لدى أغامبين[16]؛ ذلك أن السياسة تتجه للحياة وتخضعها لمنطقها واستراتيجيتها، عن طريق ثلاثية الاستثناء والإنسان المستباح والحياة العارية.
6- سلطة على الحياة أم سياسة للموت؟
بناء على ما سلف ذكره، فإن الهدف من مجموع هذه السياسات الحيوية، هو طبعا إخضاع الحياة لاستراتيجيات السياسة، غير أن الحياة في هذه الوضعية الخاصة لدى أغامبين تشير كذلك إلى الموت بالمعنى الصريح للكلمة، فأن تكون حياة الإنسان المستباح عارية تعني أنها حياة خاضعة لإمكانية نفيها، فأغامبين يصوغ الموت أولا وأخيرا، لذلك تكون السياسات التي طرحها هي سياسات الموت والنفي وليست سياسات الحياة. فالحياة والموت كلمتان أساسيتنا في أطروحات السياسة الحيوية، حيث إنه قد تكون سياسات الحياة ترمي إلى التحسين والمراقبة والحفاظ على مظاهر الصحة وطول العمر والقوة البيولوجية، وفي نفس الوقت، هي ماضية في تمهيد ظروف أخرى مهددة لتلك الحياة، تهيئ ظواهر ضارة وقاتلة، تسمح بها الظاهرة الأكثر غرابة ورعبا، وهي ظاهرة الاستثناء، حيث يفتح مجال إجازة الإقصاء والمنع والحضر والمراقبة. ونحن إذ نتحدث عن حالة الاستثناء، نتذكر السنوات الأخيرة التي عرفنا خلالها كوفيد 19، الذي أتاح فرصة نادرة للسلطة من أجل إعلان حالة الطوارئ في عموم البلاد، وبالتالي خول هذا الوضع للحكومة المغربية في مباشرة قرارات سياسية وإدارية غير مسبوقة، لعل ما مسنا نحن كموظفي الدولة هو تعطيل وتوقيف الترقيات للعموم، مما وفر على خزينة المملكة أموالا طائلة لم تكن تحلم بها، بالإضافة إلى إنزال القوات المسلحة إلى الفضاءات العمومية، ومباشرة القياد الأعمال الرقابية الصارمة، وما صاحبها من شطط في استعمال السلطة، أدى هذا في كثير من الأحيان إلى اعتقال أسماء لها وزنها في المجال الحقوقي بدواع لا أساس لها، ثم تم فرض بالقوة عمليات التلقيح، التي سجلت مضاعفات خطيرة على عدد من المواطنين، أدت أحيانا إلى الموت، وأحيانا أخرى إلى عاهات تحمل الأفراد وحدهم كلفتها من حياتهم. أما أولئك المشاغبين في نظر الحكومة والقانون، الذين رفضوا الخضوع لعمليات التلقيح، وعبد ربه واحد منهم، فقد واجهوا سياسات إقصائية وعنيفة، سواء لدى الإدارات التي منعت بشكل قاطع الولوج إليها لمن لا يحمل الجواز، بالإضافة إلى المنع من التنقل بين المدن، وكذلك، بشكل أكثر وقعا، على الشباب الذين منعوا تماما من ولوج المباريات والوظائف، خاصة في أسلاك الشرطة والملحقين القضائيين وغيرها، حيث لم تعد حالة الطوارئ دلالة على الموت، بل صارت هي الموت نفسها.
خاتمة
بناء على ما سبق، نستنتج أن حالة الاستثناء التي تكتسب أهمية مركزية في قوانين جميع الدول تقريبا، إنما تحمل في طياتها بقايا أحلام الاستغلال والتسلط التي تركتها البشرية وراءها في عصور الظلام والتقاليد، وهي بذلك تشكل عارا على الحداثة الغربية التي رأى فيها العالم لحظة مجيدة من تطور الحضارة والمدنية، غير أن الوقائع المتكررة تقيم الدليل على أن ما وقع فعلا هو تزايد الرقابة على الأفراد، وتقلص مساحات الحرية والسلام التي كانت مقدسة في عصور خلت، ولم يكن من السهل اختراق الحيوات ولا النفاذ إليها أو التشويش عليها كما أصبح متفشي اليوم، حيث أضحى اليوم الكل يتجسس عليك حتى هاتفك وأنيسك الذي يسترق السمع، ويقيم على حميميتك الدليل، وكأننا جميعا في عدّاد الموقوفين مع تأجيل التنفيذ...
مصادر ومراجع:
1- جيورجيو أغامبين، حالة الاستثناء، الإنسان الحرام، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للبحث والنشر، الطبعة الأولى، 2010
2- كارل شميت، اللاهوت السياسي، ترجمة الساحلي، وياسر الساروط، المركز العربي للأبحاث والدراسات، قطر، الطبعة الأولى، 2018
3- مصطفى الحداد، كارل شميت واللبرالية، موسوعة الفلسفة الغربية المعاصرة، الجزء2
4- عامر شطارة، مفهوم السياسات الحيوية بين فوكو وأغامبين، مجلة تبين، العدد 40، المجلد 10، ربيع 2022
5- Guy Rocher, “Droit, pouvoir et domination”. Un article publié dans la revue Sociologie et sociétés, vol. 18, no 1, avril 1986, Montréal
6- https://www.cairn.info/revue-internationale-de-politique-comparee-2011-4-page-7.htm
[1]- هذا المقال بتوجيه الدكتور الحسن أسويق.
[2]- M. Guy Rocher (1924 - ) professeur de sociologie et chercheur au Centre de recherche en droit public de l'Université de Montréal.
[3]- Guy Rocher, “Droit, pouvoir et domination”. Un article publié dans la revue Sociologie et sociétés, vol. 18, no 1, avril 1986, Montréal: PUM. p 04
[4]- Guy Rocher, p 11
[5] https://www.cairn.info/revue-internationale-de-politique-comparee-2011-4-page-7.htm
[6]- عامر شطارة، مفهوم السياسات الحيوية بين فوكو وأغامبين، مجلة تبين، العدد 40، المجلد 10، ربيع 2022، ص 95.
[7]- نفس المرجع، ص 97.
[8]- كارل شميت (1888-1985) هو مفكر سياسي وقانوني ألماني من أبرز مفكري القرن العشرين، عرف بنقده للبرالية، ودراسته عن حالة الاستثناء ونقد الحداثة، كان عضوا في الحزب النازي، من مؤلفاته كتاب حالة الاستثناء.
[9]- مصطفى الحداد، كارل شميت واللبرالية، موسوعة الفلسفة الغربية المعاصرة، الجزء 2، ص 891
[10]- كارل شميت، اللاهوت السياسي، ترجمة الساحلي، وياسر الساروط، المركز العربي للأبحاث والدراسات، قطر، الطبعة الأولى، 2018، ص31
[11]- جيورجيو أغامبي، حالة الاستثناء، الإنسان الحرام، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للبحث والنشر، الطبعة الأولى، 2010، ص. 26
[12]- نفس المصدر، ص. 41
[13]- نفس المرجع، ص. 31
[14]- شاطر عمارة، مفهوم السياسات الحيوية بين فوكو وأغامبين، مرجع سابق، ص104
[15]- أرسطو في تصنيفه للمواطنين، لم يمنح الاعتراف السياسي سوى للذكر، وليس الأنثى الشاب الشديد وليس الشيخ الهرم، العاقل وليس المجنون، الحر وليس العبد، هذا النموذج وحده من يستحق صفة المواطن، بينما من جهة أخرى، أقصى تماما الأطفال والعبيد، والنساء، والشيوخ، والمرضى والمجانين من الاعتراف السياسي والمشاركة في تدبير الشأن العام.
[16]- شاطر عمارة، مفهوم السياسات الحيوية بين فوكو وأغامبين، المرجع السابق، ص105