السلفية والمغرب؛ رؤية في المصادر والتقاطعات
فئة : مقالات
السلفية والمغرب؛ رؤية في المصادر والتقاطعات
محسن الودواري[1]
ملخص:
يحاول هذا البحث، أن يقف على المستوى الجنيالوجي، عند الأسباب الفكرية والمعرفية لبروز الحركات الإسلامية منذ الفترة الوسطى، وتحليلها في الإطار المعرفي والتاريخي، عبر التحولات السياسية والإيديولوجية، وما مدى مساهمة هذه التحولات في الدفع بالحركات الإسلامية في الهيمنة تاريخيا على المجال السياسي والاجتماعي، ثم الاصطدام المزدوج بالغرب من خلال فترتين؛ الفترة الأولى، المتجلية في الاستعمار الأوروبي الذي انطلق منذ أواخر القرن 18 م، والصدمة الفجائية الناتجة عنه، المعبرة عن التفاوت الصارخ، وما أفرز من تنشيط لمخيال السلفية آنذاك، ثم المرحلة الثانية التي انطلقت إرهاصاتها ما بعد الاستقلال، وكيفية استمرار هذا المخيال المجسد للنظرة الحمائية تجاه الغرب، وبالتحديد هنا النموذج الأمريكي، منذ أحداث 11 شتنبر/ أيلول 2001، وما مدى انعكاسه على المغرب كدولة إسلامية، ثم ما هي المنطلقات المبدئية للسياسة العمومية التي يتطلب أن ينهجها المغرب للتعامل مع الحركات الإسلامية.
عرف المغرب منذ السبعينيات، ومازال إلى حدود اليوم، حركات سياسية ذات مرجعية دينية إسلامية، تهدف إلى بناء مجتمع بديل عما هو كائن حاليا، الذي يجسد الوضعية غير المرغوبة، إذ اختلفت هذه الأخيرة من حيث البناء التنظيمي وكذا التصورات الفكرية، وهذا ما انعكس على مستوى الفعل في الديناميكية السياسية؛ فمنهم من اختار المرونة (la flexibilité([2])) كاختيار سياسي بهدف إصلاح ممكن للنظام السياسي، ومنهم من اتجه نحو الجذرية (la radicalisation([3])) في الفعل بهدف تغيير النظام، ويمكن القول بأن ما شملهم في هذه المستويات المعبر عنها، شمل أيضا بشكل مشابه الحركات اليسارية المعارضة من قبل.
وإذا كان حضور الحركات الإسلامية بالمغرب يعبر في العمق عن الدينامكية السياسية الداخلية بالدولة، ثم التحولات الجيواستراتيجية التي طرأت في العالم، على الأقل منذ ثورة الخميني، أو ما يدعى بـ ’’الصحوة الإسلامية([4])‘‘، التي كانت محركا إيديولوجيا وحافزا لتحرك الشعوب المسلمة، بهدف الخروج من الوضعية الارتكاسية التي تعانيها هذه الأخيرة، منذ أواخر القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت([5])، ولذلك، فإن التعبيرات السياسية التي عرفتها هذه الشعوب هي رد فعل على وضعية معينة متعددة المستويات، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، تاريخية...إلخ.
سيتم من خلال الورقة البحثية تناول النظم المعرفية([6]) للحركات الإسلامية، وبالتحديد السلفية في وجهها الجهادي، بارتباطها مع الإشكالية ذات الجذور التاريخية والمعرفية، التي تتمثل في التحول المعرفي الذي أدى إلى سلبية الحضور الإسلامي من حيث الإبداع والابتكار الفكري، إلى الفقر المعرفي واللاهوتي المتجسد في الحركات الإسلامية وبالتحديد الحركة السلفية الجهادية، وتفاعلها مع الآخر؛ أي الغرب؛ إذ يمكن الافتراض بأن التحول الذي طرأ هو في عمقه تحول معرفي وفكري، تبدت تجلياته على المستوى السياسي والاجتماعي، من خلال هذه الحركات، دون أن تدرك معرفيا ونظريا هذا التحول الذي ينبغي البحث فيه ابستمولوجياً على المستوى الجينيالوجي([7])، حتى يتشكل تصور واضح المعالم والآثار. واتخذت من الغرب الذي عرفته في شكله الاستعماري البشع، موقفا سلبيا على المستوى المبدئي، دون إدراك التمايز بين الواقعي والمبدئي. ولهذا السبب، سنحاول الوقوف عند هذه الإشكاليات المعرفية والتاريخية في ثلاثة محاور أساسية وهي؛ أولا؛ الحركية المعرفية التي عرفها الإسلام، ثانيا؛ الآثار الناتجة عن هذه الديناميكية والمولدة للسلفية كأرضية فكرية للجمود، ثالثا؛ الحركات الإسلامية المعاصرة وأثرها على المغرب.
إن الدافع وراء هذا التصور، هو دافع معرفي صرف يروم البحث عن عمق الإشكاليات المطروحة، من خلال زعمها أولا أن أية سياسة عمومية ممكنة، لا يمكن أن تكون ذات نجاعة وفعالية دون ارتباطها بالبحث العلمي كأرضية معرفية تقوم عليها السياسة العمومية، ثانيا، إن تحليل أية ظاهرة ممكنة يتطلب فهمها على أساس نظم معرفية مؤطرة من خلالها نستطيع الخروج بنتائج أكثر موضوعية وفهما بشكل أعمق وأقل اختزالية، وللسبب ذاته تم سلك هذا المسلك على المستوى المعرفي والمنهجي.
1. الحركة المعرفية التي عرفها الإسلام.
دشن الإسلام أهم لقاء عرفته البشرية في تاريخ الفكر والمعرفة عموما، تجسد بين الفلسفة والدين، من خلال حركة الترجمة ([8])«mouvement de traduction» التي كانت مع الخليفة العباسي "عبد الله المأمون"، حيث كان لها الأثر القوي لدينامكية الإسلام، وما لعبه هذا الدين كمنظومة فكرية ومعرفية، في جعل اللغة العربية تستوعب التراث اليوناني([9]) إذ قام هذا الأخير (الدين) بدور المحرك الإبستمولوجي([10])، حيث تعرف المسلمون على الفلسفة اليونانية، التي عملت على استيعاب المعطيات الدينية المنزلة، استيعابا مفهوميا واستشكاليا قائما على الحجة والبرهان؛ وذلك بهدف منح العالم المعقولية والمعنى([11])، من خلال فاعليتهم الفكرية التي جعلت الكلام الإلهي الموحى به، له معنى معقول يستطيع الإنسان إدراكه عقليا؛ أي أنها حولت الإقرارات الدينية من بعدها اللاهوتي المتعالي غير المعقول، إلى نتائج فلسفية معقولة، وتجلى هذا مثلا في الإبداع الذي قام به أبو نصر الفارابي، في كتاب المدينة الفاضلة، ومع ابن طفيل في كتابه حي بن يقضان، الذي نرى فيه القصص القرآني من مثل قصة تشكيل آدم، أو قصة النبي موسى وهو طفل، وكذلك استعماله للآيات القرآنية في قوالب فكرية فلسفية، لكن هذا اللقاء لم يكن لقاءً سهلا، بل متوترا أبدع فيه المسلمون نظريات منسجمة بين الفلسفة والدين، وهذه العملية هي التي استفاد منها علماء الكلام، وبالتحديد المعتزلة، كأول حركة فكرية وسياسية عملت على بلورة اللاهوت الإسلامي على أسس فلسفية، وفي هذا السياق يقول محمد أركون: "لقد حصل في الإسلام، .. نوع من التوتر، بل نوع من الهوة السحيقة بين المدافعين عن فكرة الله الموحى وبين الفلاسفة الذين يجهدون في دمج التعاليم الدينية عن الله والكون والمصير البشري داخل الإطار المفهومي والمنطقي والميتافزيقي الموروث عن أفلاطون وأرسطو والعلم الإغريقي. [..] كانت المحاولات أكثر تعقيدا واصطناعا للتوفيق بين تعاليم الوحي الديني، وتعاليم الفلسفية الإغريقية، قد جرت على يد ابن رشد بالنسبة للمسلمين([12])."
إن المعتزلة كانت من بين أول الفرق التي استفادت من الإنتاجات الفلسفية للمفكرين المسلمين، واستطاعت أن تبلورها على المستوى اللاهوتي من خلال إبداعها لخماسية لاهوتية، هي التوحيد([13]) (المُنَزِّه)، العدل، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين. هذه الخماسية تقوم على مبدأ، أن الله واحد منزه عن كل شر، وأن الإنسان مسؤول عن أفعاله سيجازى ويعاقب عنها في الآخرة، وبالتالي ينبغي له أن يتحمل مسؤولية أفعاله، غير أن هذا الإبداع الفكري الذي قامت به المعتزلة ينبغي ربطه بالصراع الدائر بين الفرق الإسلامية وغير الإسلامية الموجودة آنذاك، التي دفعت المسلمين من بينهم المعتزلة إلى ما يسميه أركون بخط التبجيل الدفاعي، أي تيار يدافع وينافح عن اللاهوت بطرائق فلسفية وجدالية، ولهذا السبب سموا بعلماء الكلام، وكانوا هم المنطلق في بلورة علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه([14]). والتحول الذي وقع هو أن هذه الحركة الفكرية الاعتزالية ارتبطت بالسلطة السياسية. ويمكن القول، بأن هذا الارتباط من بين أهم العوامل النشوئية للحركات السياسية الإسلامية، وتميز هذا التعالق بين الحركة الفكرية والسلطة السياسية في بعده الابتدائي من خلال نظرية "خلق القرآن" التي أدت إلى محنة "أحمد بن حنبل([15])"، وينبغي الذكر أيضا، بأن سردية المحنة ([16])«histoire de tragédie» التي تؤسس عليها الحركات الإسلامية وجودها السياسي والإيديولوجي، من بين أهم منابعها "محنة ابن حنبل" الذي صمد أمام العقيدة الرسمية التي فرضتها السلطة السياسية العباسية وقتئذ على رعيتها قائمة بحملة ضد كل من خالف عقيدتها الرسمية، وهو ما انعكس سلبا على المعتزلة بدورهم مع "الخليفة" المتوكل الذي ناصر ابن حنبل فيما بعد، ولاحق خصومه([17]).
إن التحول الذي طرأ على المعتزلة كفرقة فكرية ولاهوتية، مرتبط من الناحية السياسية بزواجها سلطة الحكم الموجودة آنذاك، ومن الناحية المعرفية بالإنتاج الفلسفي والفكري، الذي أبدعه الفلاسفة المسلمين من خلال التقاء الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي، ويعتبر هذا الأخير هو جوهر التحول لكن بعلاقته والصراع السياسي، لكونه هو المنظومة الميتافزيقية التي أطرت الفكر الإسلامي عموما، وهي أن العقلانية الفلسفية اليونانية الإسلامية التي نهل منها المعتزلة، كانت تفترض وجود يقين واحد ينفي كل ما عاداه، يقين لا يتوافق مع التسامح النقدي لكل أشكال الحقيقة([18])، وهذا اليقين هو منتوج لبناء ميتافزيقي يقوم على أن هذا العالم ينبغي له أن يكون ومثال الحقيقة الموجودة في السماء، لكونها الحقيقة الثابتة، ولكن برؤية إسلامية وهي أن الله خالق للعالم، ومنه خالق لحقيقته، ومن يحيد عنها، اتجه نحو الزلل. وهنا اختلطت الأفكار النظرية التي ابتدأت مع الفلاسفة، بأفكار مجسدة حاملة لآثار إنسانية، وتحول الصراع بين الأفكار والنظريات إلى حرب بين الجماعات والأفراد([19])، برغباتهم ومصالحهم، من خلال الإسقاطات العقلية في تشكيل النصوص الدينية ونزعها عن سياقها وظروفها التاريخية([20]). وبالتالي، حادت الحقيقة النظرية عن سِكَّتها المطلوبة، كما انطلقت والفلاسفة، لتتحول إلى إيديولوجية مع المعتزلة التي أرادت فرضها على الباقي؛ لأنها هي الحقيقة وفق منظورها. مما جعل باقي الفرق الأخرى خصوصا فرقة الحنابلة التي تصدت لها على خطأ. ومنه اتجه الصراع إلى الاحتكام المادي والقوة، بدل الصراع النظري والفكري، وهو ما سيهيمن على فترات تاريخية مديدة من تاريخ الإسلام إلى اليوم، مع مختلف التيارات، ومنها الحركات الإسلامية، حيث حلول العنف المادي محل الصراع النظري الفكري([21]).
ما يمكن استشفافه من هذه الدينامكية بين النظري والعملي في تاريخ الإسلام، وهي أن دخول المعتزلة كحركة فكرية إلى معترك السياسة، كان له الأثر السلبي على الحركية المعرفية التي عرفها الفكر الإسلامي، ومنه ستكون هذه الأخير من المصادر الأولى لنشوء الحركات الإسلامية في بعدها الابتدائي، ما يؤكد ذلك الانقلاب الذي طرأ على فرقة الاعتزال بحد ذاتها، والفلاسفة بصفة عامة، ليخرج العالم الإسلامي من مجال النظر والفكر، ويرتكز على المجال العملي الصرف، من خلال تبني "الخليفة" المتوكل للمنهج الحنبلي القائم على الكتاب والسنة ويدعون بأهل السنة والجماعة([22]) مبتعدا عن علم الكلام، الذي تم القضاء عليه.
2. الأثار المولدة للسلفية، وديمومتها
إن السلفية ليست وليدة لحظة اليوم أو حتى أواخر القرن 18 مع دخول الغرب للفضاء الإسلامي، وإنما لها جذور تاريخية ضاربة في القدم، وهي بدورها نتاج تفاعلات داخل هذا المجال، تراكمت عبر التاريخ، لتشكل أوْجَهَا في القرن الثالث عشر مع ابن تيمية، بوصفه الرمز التاريخي للسلفية، تشكلت عبر ثلاثة مستويات، أولا مستوى الفقه، الذي انطلق مع أبي حنيفة النعمان، وانتهى مع أحمد بن حنبل، ضمن سيرورة داخلية، انطلقت من الرأي والاستحسان كقواعد فقهية، مقابل الاعتدال والواقعية([23])، ومرت عبر تدوين التواتر([24]) مع الإمام مالك بن أنس، مقابل هذه الصلاحية الواسعة للفقيه، واستمر مع إدريس الشافعي الذي أصل لمبدأ أن القرآن لا يفهم مقصده إلا على ضوء السنة، فهو محكوم بها ولا يتجاوزها بحال([25])، وانتهت مع أحمد ابن حنبل الذي ارتأى أنه من الضروري تأسيس كل حكم على السنة، من خلال توسيع نطاقها في مختلف مجالات الحياة العامة والخاصة([26])، وهو الأمر الذي سيبني عليه ابن تيمية بوصفه نموذج للسلفية التي لازالت مستمرة إلى حدود اليوم، فإذا ذهبنا إلى كتابه العقيدة الواسطية أو الفتوى الحموية، كنموذجين. وبالرغم من كونه يزعم تجاوز المذهبية، من خلال أخذه من مختلف الأئمة، لكنه لا يأخذ إلا ما ينضبط وفق معايير الاستنباط المحددة من السنة التي يعود فيها إلى الأصول الأولى للإسلام، باعتبارها النموذج المثالي وصفوة القرون، من خلال بتر النصوص من أطرها التاريخية والمعرفية، وهذه العملية استفادتها السلفية من المعتزلة التي كانت هي الأولى من نزعت النصوص عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية، بغية إسقاط رغبات سياسية عليها، ولكن من زاوية الحديث والنص الظاهري مع السلفية، وليس على العقل كما قامت المعتزلة، وهو ما يمكن ملاحظته في علم الكلام كمستوى ثان.
وكانت المعتزلة تنطلق في لاهوتها من مبدأ بسيط، وهو أن الله كذات واحد، وليس كمثله شيء، ولا يوصف بشيء من الخلق الدالة على حدوثهم([27])، والغاية من هذه المسألة هو تنزيه الله عن كل خصائص البشر، المعروفة بالنقص والخطأ، ويسميها الاتجاه السلفي بالتعطيل؛ أي تعطيل الله من أدواره التي يقولها من خلال النص الديني، كالقرآن مثلا. وهذا التصور له دلالات سياسية خطيرة، تتجلى في، أنه إذا كان الله منزها عن البشر بما فيهم من نقص وتغير، بالرغم من كونه خالقهم، فهو لا يتدخل في شؤونهم، إنهم يتحملون مسؤولية أفعالهم، وبناء على هذا الضابط فالحاكم كذلك ينبغي له تحمل مسؤوليته، ويمكن اعتبار هذا المنعكِس، أي تحول مبدأ التنزيه النظري، إلى المسؤولية الأخلاقية عمليا، هو الذي يمكن الافتراض فيه أنه دافع المتوكل للانقلاب على المعتزلة، وثبت مكانهم الحنابلة، الذين يقوم تصورهم أيضا على مبدأ بسيط هو لا نقول عن الله إلا ما قاله هو بنفسه بلا زيادة ولا نقصان، بلا تدقيق ولا تأويل([28])؛ أي لا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلام عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله تعالى وآياته، ولا يكيّفون، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه([29])، بمعنى أنهم يثبتون ما يثبته الله في الخطاب القرآني على ظاهر النص، فإذ قال بأنه يحكم فهو يحكم بالفعل، وإذا قال بأنه استخلف الإنسان في الأرض، فهو استخلفه كذلك، باعتباره عبدا له وخليفة له على الأرض، ومنه فالحاكم وكيل الله على العباد، وهذا الأمر يحقق سلطة قوية للحاكم وصلاحيات كبرى في الحكم. لذلك، نجد اليوم أن الحركات الإسلامية خصوصا السلفية الجهادية تطالب بحكم الله على الأرض من خلال نموذج الخلافة المفترض؛ لأنها هكذا تتمثل العلاقة بين الله والعباد، مستبطنة منظومة ميتافزيقية غير موعى بها معرفيا، قائمة على التراتبية والنظام في العالم والكون، ينبغي الانضباط إليها، وهذا عائد في عمقه الفكري إلى كون الله هو الحقيقة القصوى ومن يحيد عن هذه الحقيقة فهو يتجه نحو الضلال، بل ينبغي تنزيل هذه الحقيقة حتى يعم الخير في العالم، وهكذا تأسست على المستوى اللاهوتي السلفية، ولكن من مرتكز نصي حديثي بالأساس؛ لأنه هو مفسر للقرآن ومبين له ودال عليه([30]). أما المستوى الثالث هو مستوى التصوف، إذ حاربت السلفية كل أشكال التصوف الإشراقي القائم على الحلولية اللاهوتية الناسوتية، كما تجلى عند الحلاج، وابن عربي...إلخ، لكونه محدث لم يكن في عهد النبي محمد، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ كما يقول الحديث، وحاربت الأضاريح والزوايا، وحتى إن كان هناك تسامح مع التصوف، يكون تسامح نسبي مع التصوف السني القائم على الذكر.
إذن هذه هي المستويات الثلاثة التي أنتجت السلفية في الفضاء الإسلامي، وهي متولدة عن آثار سبقتها تحددت في الصراع بين العقل النظري والعقل العملي الإسلاميين، لينهزم الأول، ويتجه نحو مسار آخر، سكون رد فعله على هذا الفضاء بعديا، وينحصر في الصورة السلفية السنة القائمة على مبدأ المطابقة «identité» وتعني أن الدليل على صحة ما تقوله، وتقرره وتفعله، الآن وهنا، وهو أنه قيل بالصورة نفسها سابقا وفي أماكن متباعدة. يصدّق البعيد القريب والسابق اللاحق([31]).
وبهذه الصورة يمكن القول إن السلفية تشكلت عبر مسار طويل، انطلقت ملامحه النشوئية من خلال الصراع الدائر بين الفلسفة والدين، الذي تجلى في دخول المعتزلة أولا هذا المعترك وتحويله من بعده النظري المعرفي، إلى بعده الإيديولوجي السياسي، وهنا كانت العملية التحويرية الأولى، التي أخرجت المعقولية الفلسفية والنظرية، من خلال دخول ما يسميه عبد المجيد باعكريم، بالعائق الابستمولوجي «obstacle épistémologique([32])»، الذي تجلى في دخول الإنسان بمصالحه ورغباته وأهوائه السياسية لا المعرفية، وتشكيلها وفي تصور معين، من خلال الاستفادة من المنهج والأداة الفلسفية، ثانيا تمكن الجانب العملي السياسي على الجانب النظري وانسحابه كليا، من خلال الارتكاز على النصوص الدينية عبر عملية اختزالية غير تاريخية، وإسقاطية، بغية استملاكها بهدف استراتيجي متمثل في السلطة على المرجعية العليا([33]) للإسلام، إذ أصبح الفقهاء بسرعة شديدة قمة الذرى الممثلة للهيبة التفسيرية والمعيارية فيما يخص بلورة مضامين الإيمان الأرثوذوكسي والقانون المدعو بالإلهي([34]).
هذه الدينامية هي التي استمرت إلى حدود اليوم، واستنهضت من خلال دخول الاستعمار للبلدان الإسلامية، مما جعلها تنشط مجددا وتستمر عبر إحياء مخيال متجدد، لمواجهة الغرب الاستعماري، دون استيعاب الإشكالية في عمقها، وهي أن دخول الغرب ما هو إلا مجرد رد فعل على فعل كان سابقا في التاريخ، ألا وهو خروج الفلسفة والفكر والعلم المجال الإسلامي، واحتضانه في الغرب منذ القرن 14 مع النهضة، ليمتد ويتوسع في شكل الاستعمار على هذا الفضاء، ومنه ستكون المواجهة بين طرفين غير متكافئين لا معرفيا ولا علميا.
3. الحركات الإسلامية السلفية المعاصرة، والآثار على المغرب.
إن اللقاء الإسلامي الغربي «Islamo-Occidentale»، انطلق أواخر القرن 18 م، مع حملة نابليون بونابرت، وهو على خلاف اللقاء الإسلامي اليوناني «Islamo-Hellénique»، فهذا الأخير كان مرتبطا بما هو نظري وفكري، واللقاء الإسلامي الغربي، تعلق بما هو عملي سياسي، إذ كان بمثابة صدمة لكل المسلمين الذين كانوا يعتقدون بأنهم في صدارة الأمم، ولازال هذا الاعتقاد راسخ في المخيال الجماعي، إلى حدود اليوم، لكن بصورة معكوسة تتطلب من الناحية العملية العودة إلى أفضل قرون الإسلام، من أجل النهضة بالنسبة إلى الحركات الإسلامية السلفية، بالرغم من تبايناتها السياسية المرتبطة بالفعل السياسي في إطار حركيتها. وهذه الفكرة انطلقت أساسا مع كل من جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده، اللذان كانا يعتبران أن الإسلام لا يتنافى والروح العلمية كما ظهرت في الغرب، يكفي فقط إعادة توفير الظروف المادية الملائمة لكي تعود أمة الإسلام إلى "الإبداع" العلمي. (..) وشرط التغيير يكمن في احترام مبادئ الإسلام([35]). كما انطلقت مع محمد بن عبد الوهاب، في نفس السياق الزمني، من جهة أخرى بشكل آخر. ستكون هذه الفكرة الممثلة في العودة إلى الأصول الأولى للإسلام هي المؤطرة والأرضية لعمل الحركات الإسلامية المعاصرة بمختلف تجلياتها، وهي فكرة ذات عمق تاريخي ومعرفي موجودة في مصادر الفكر والتشريع الفقهي الإسلامي السني السلفي، تحت شعار: "لا يصلح آخر هذه الأمة، إلا بما صلح أولها([36])." (مالك بن أنس).
يبدو أن الشعار المؤطِّر "لا يصلح أمر هذه الأمة، إلا بما صلح أولها" من الناحية الظاهرية، شعار براق بل ذو أهمية، يريد إعادة النضارة للأمة الإسلامية، تتجلى في إلزامية الإصلاح بعد الفساد الكائن، خصوصا وأنه مطلب لا يكون إلا مع وجود فساد، ومن ثم تؤول فيه هذه القضية إلى الرجوع بالوضع، للحال الذي كان عليه قبل طروء الفساد عليه([37])، وهذا ما أرادته الحركة الإسلامية السلفية، إلا أنه في العمق يعبر عن سوء فهم معرفي، قائم على الوقوف عند الإشكالية في بعدها الظاهر والعملي، الذي يتمثل في الإشكالات السياسية والاجتماعية متعلقة بالسلطة والاجتماع، خصوصا حينما يتم التركيز على الفترة الذهبية للإسلام، ويتم اعتبارها المحطة الأساسية كمعيار، لإصلاح الفساد الموجود، لكن دون التعمق في لب الإشكالية المرتبطة بالتحولات التي وقعت في الفترة العباسية، باعتبارها المرحلة التي انطلقت فيها الترجمة، وما نتج عنها من أعمال فكرية وفلسفية عبرت عن الإبداع والابتكار الإسلامي، بالتوازي مع مرحلة التدوين([38]). فهذه المرحلة التاريخية شملت في داخلها مفارقة، سبق أن تم ذكر أهم محدداتها التاريخية، وهي ما نتج عن اللقاء بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي، ومساهمة الدين بوصفه محركا إبستمولوجيا، في إبداع منظومة فكرية وفلسفية، جمعت بين الفلسفة والدين، ووافقت بينهما بحق، ثم كيف استفادت فرقة المعتزلة من هذا الصرح الفلسفي والأداة المنطقية، ووظفتها كفرقة إسلامية ارتبطت بالسلطة، كإيديولوجيا للدولة العباسية، انعكست سياسيا من خلال محنة ابن حنبل، الذي انتصر له بعديا الخليفة المتوكل، وبالتالي لم تتوقف الحقيقية على الصلاحية الأزلية والقيمة الأولية للعلم الذي يؤسسه والممارسات العقلية والثقافية التي يتبعها وإنما على مدى دعمه من قبل السلطة أو القوى الموجودة في الساحة أم لا([39]). أي لا يتوقف على ما يقولونه من الناحية النظرية والمعرفية، هل كونه صحيحا أم لا، وإنما شرعية القوة المرتبطة بالسلطة، وهذا ما انعكس بالسلب على المعتزلة. كما استفادت الحنبلية من عملية تدوين الحديث الذي انطلق مع مالك بن أنس، وقعد له ادريس الشافعي، وتتوج معه، لينتصر الفقه كعلم عملي على الفكر والفلسفة كعلم نظري، وما ينتج عنه من مخاض علمي وسياسي. فهذا التحول هو الذي لم يتم إدراكه مع الحركات الإسلامية السلفية التي نشطت في القرن 18 و19م، لتتبع امتداداته في التاريخ وتتمثله مفهوميا واستشكاليا، وبالتالي لجأت أمام ضغط الواقع الاستعماري إلى الماضي واحتمت به لمواجهة الاستعمار الغربي، وهو الأمر الذي سيستمر مع امتدادات السلفية المعاصرة في القرن 20 و21م، من خلال أبعاد وتجليات اجتماعية وسياسية جديدة، انطلقت على الأقل مع الثورة الإيرانية التي أسقطت نظام الشاه، لتفرز دينامية جديدة للسلفية، نشطت منذ السبعينيات القرن 20 إلى اليوم، وهو الأمر الذي أثر في المغرب كدولة إسلامية.
وإن الحديث عن الصحوة الإسلامية التي عرفها العالم الإسلامي، يأتي في سيرورة منطق التاريخ، بتعدد تحولات الأحداث العرضانية([40]) التي من شأنها تجعل الباحث في الحركات الإسلامية، تائها في دوامة التيارات المتعددة والمتغيرة وما تفرزه من دينامية سياسية. والحديث عن منطق للتاريخ، لا يحمل في طياته بعدا غائيا حتمياً، وإنما يتطلب من الناحية المعرفية فهم الأطر المنظمة والمحركة، التي قد تتغطى بفعل عوامل التاريخ والإنسان، فيصعب كشفها، وهنا تكمن أهمية البحث الجنيالوجي على المستوى المعرفي، الذي نستطيع من خلاله، فهم وتتبع المسار بتعدد وتنوع تجلياته وتمظهراته.
كانت الثورة الإيرانية بمثابة الشرارة لما يسمى بالصحوة الإسلامية، خصوصا الدينامية والعوامل التي عرفتها هذه الأخيرة. فمن حيث الدينامية، كانت هناك مشاركة واسعة لمختلف الفئات الاجتماعية بمختلف الحساسيات السياسية والإيديولوجية، كالشيوعيين والليبراليين والعلمانيين، بالإضافة إلى رجال الدين الشيعة، الذين تمكنوا من السلطة([41])، وعلى مستوى العوامل تحددت في فساد النظام السياسي للشاه بهلوي، وفقدان الحريات المدنية والسياسية، بالإضافة إلى الانعكاسات الاقتصادية التي نهجتها الدولة على الفئات الاجتماعية الفقيرة. لتكون هذه الثورة بمثابة كرة الثلج التي كبرت في العالم الإسلامي، أفرزت حضورها السياسي القوي مع الإخوان المسلمين بمصر، وأحداث جهيمان في السعودية، وكذلك الأحداث الدامية في الجزائر.
وفي هذا السياق، تأثر المغرب بدوره بالحركات الإسلامية في المغرب، بالإضافة إلى مجموعة من العوامل السياسية الداخلية، التي تجلت في الصراع مع الحركة الوطنية، خصوصا المعارضة اليسارية في جناحها الراديكالي، ومحاولة الانقلابين الفاشلين([42])، وعلى المستوى السوسيو- اقتصادي، تتجلى في الأزمات الاجتماعية والاحتجاجات المتوالية على الدولة المغربية. فهذا ما يمكن اعتباره بالدوافع التي ساهمت في تشجيع التدين السلفي، خصوصا وأن الملك لديه صفة أمير المؤمنين، التي تمتعه بصلاحيات فوق دستورية([43])، لكنها تعبر في العمق عن البنية الفكرية والذهنية المتحكمة في الوضع المجتمعي العام، سواء على مستوى السلطة من جهة، أو المجتمع من جهة أخرى، كما أنها تعبر عن استمرارية نفس النهج الذي ابتدأ مع أول الدول الإسلامية في بداياتها.
يقول محمد مصباح: "أن تقارب السلطة مع التيار المحافظ (الإسلامي)، لم يكن تحالفا استراتيجيا، بقدر ما كان تاكتيكا ’’ آلية مرحلية‘‘ أملته الظرفية السياسية للبلاد، وطبيعة موازين القوى السائدة، ولكن هذا التقارب وفر بئية مناسبة لصعود التيار السلفي([44])."
إن هذا التقارب السياسي بين الدولة المغربية، والحركات الإسلامية، يعبر عن مدى التقاطعات التي أملتها الحاجة السياسية للدولة، نحو خصم مشترك، ألا وهو المعارضة اليسارية والوطنية عموما وقتئذ، الأمر الذي سيدفع الدولة إلى تشجيع التدين التقليدي، وإضفاء الطابع المحافظ على المجتمع المغربي([45])، وذلك للحد أولا من التأثير السياسي الإيراني على المستوى الخارجي وتداعياته، ومن تنامي المد اليساري في المجتمع والجامعة المغربيين، ولكن هذا الأمر فرضته التحديات السياسية آنذاك، مما سيجعل الحركات الإسلامية ستنشط في المجال الحضري خصوصا، وهو المجال الذي كان محتكرا من قبل الحركة اليسارية سابقا، لكن الإضافة هنا، هو أن الحركات الإسلامية ستمتد إلى العمق الاجتماعي؛ أي إلى الفئات الاجتماعية التي تعيش في هوامش الحواضر، كالأحياء الشعبية، التي كانت فضاء خصبا لنمو الخطاب الديني الإسلامي، مقابل الخطاب اليساري الذي لم يستطع كليا النفاذ إلى ما يسميه بـ"الجماهير الشعبية"، بل اقتصر وضعه على الفئات المثقفة والمتعلمة. لكن الحركات الإسلامية كان لها هذا الامتياز، فهي من جهة استطاعت أن تكسب الفئات المثقفة والمتعلمة، مثل العدل والإحسان، والتوحيد والإصلاح، وكذا الحركات السلفية بالتحديد، وأن تضيف إليها الفئات الاجتماعية الشعبية ذات التعليم المحدود. ويمكن عزو هذا النفاذ إلى العمق الاجتماعي، إلى البنية الفكرية للمجتمع المغربي، باعتباره مجتمعا مسلما كباقي المجتمعات الإسلامية «Société Islamique»، التي يهيمن فيها الدين على مختلف مجالات الحياة في شموليتها، بالرغم من مظاهر التحديث البارزة، بل وبالرغم من دخول الحداثة التي هي نتيجة لمسار ساهم فيه المسلمون في العصر الوسيط، كما يقول الأستاذ عبد المجيد باعكريم، إلى مجتمعاتنا، كمثال المغرب، واكتساحها لمختلف المؤسسات والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكن في العمق نحن لازلنا نتحرك في إطار البنية الدينية بوصفها بنية فكرية مهيمنة، لذلك كان تعاملنا مع الحداثة، التي عرفناها في وجهها السلبي، الذي يتمثل في التوسع الاستعماري، عبر تمثل عام عن الغرب بصفة عامة، من خلال التقائنا به على هذا المسار، دون أن إدراك العمق المعرفي والفكري، الذي أنتج هذا الغرب بهذه القوة والجبروت، والذي يمكن إرجاعه أساسا إلى خروج الإبداع والابتكار في العالم الإسلامي([46])، واتجه نحو الغرب سواء في صورته المسيحية الأولى أو في الغرب المعلمن، ليستكمل ما أنتجه المسلمين بعد اليونان بكل إبداع وعبقرية فذين، وبالتالي استمرار حل إشكالية الدين والفلسفة، التي لم تحل عندنا وما لها من انعكاسات عملية، تمثلت في الإبداع الفلسفي والعلمي، يهدف إلى فهم الطبيعة بطريقة رياضية كما يقول غاليلي، والسيطرة عليها، كما يرى ديكارت، وبالتالي انعكاسات هذه الدينامية على الإنسان والنظام الاجتماعي والسياسي، ولذلك فالمنظومة الغربية من الناحية المعرفية قائمة على السيطرة، وهذه الأخيرة امتدت إلى شعوب العالم من خلال الاستعمار، فكانت المجتمعات الإسلامية ضحية له، ولكن في العمق هي عامل باطني عميق لخروج هذا المسار الذي ارتد عنها، بشكل عنيف، كما خرج بكل عنف من المجال الإسلامي، ومنه فلكل فعل رد فعل مساوي له، وهذا ما لم تستوعبه المجتمعات الإسلامية، فلجأت إلى تنشيط المخيال الجماعي، عبر تحريك الحس المشترك للجماهير، وهذا يعبر بشكل ضمني، كيف أن الحركات التحررية اليسارية، لم تتجذر في المجتمعات الإسلامية، بل كانت مجرد "حمى" انتهت مع انتهاء الاتحاد السوفياتي، نظرا لكونها مجرد عملية استيرادية من الخارج.
لا يمكن عزل المغرب عن هذا السياق المتعدد المسارات، ولذلك فإن حضور الحركات الإسلامية بالمغرب، بالرغم من كونها كانت تعبر عن حاجة سياسية ملحة، فإنها تجسد في العمق الحضور الطبيعي بالبلد، بالإضافة إلى العوامل الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، التي انعكست سلبا على الدولة المغربية، تتوجت بالأحداث الدامية ل16 مايو/ آيار 2003، الذي عاش على إيقاع سلسة من التفجيرات الانتحارية بمدينة الدار البيضاء، بسبب 14 انتحاري من هوامش المدينة([47])، وتأتي هذه الأحداث في تطورات العولمة، وهيمنة النموذج الأمريكي على العالم، وما سبقته من حركيات داخلية انطلقت على الأقل منذ اغتيال السياسي المعارض "عمر بنجلون" سنة 1975([48])، والمتهم كعقل مدبر لهذا الاغتيال عبد الكريم المطيع، الذي كان يتشارك مع بنجلون نفس النقابة، وهي الاتحاد المغربي للشغل، وكذلك حركيات خارجية تمثلت في نكسة يونيو/ حزيران 1967 على شعور الأمة الإسلامية، وغيرها من الحركيات. وامتدادات هذه التحولات التي تتوجت ببروز ما يسمى بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام"، في سياق معولم، له تأثيرات على كل دول العالم، خصوصا الدول التي تدخل في فلك الأمريكا وهوامشها خصوصا المغرب على مستوى الدول العربية، فهذه الأحداث المتعددة التجليات والمظاهر ومتفرعة المسارات المتشابكة، لها جذور على المستوى المعرفي والفكري، ينبغي الكشف عنها جنيالوجياً "نشوئيا"، باعتبارها أطرا معرفية وفكرية منظمة لهذه الأحداث والوقائع بتعقد مسالكها وسبلها المتشابكة بين التاريخي والجغرافي.
وفي الختام نعتقد أنه لا يمكن القيام بسياسات عمومية للحركات الإسلامية بمختلف تياراتها وتنوع مظاهرها، دون فهم المنطلقات النظرية التي كانت دافعة لبروز هذه الحركات، منذ نشأتها البدائية، وهذا ما على الدولة المغربية أن تقتضيه في سياساتها العامة في هذا الجانب، من خلال تشجيعها للبحث العلمي أساسا، وأن تجعل هذه السياسات العامة تنتظم وفق ما يتطلبه البحث العلمي، لا أن تكرر الخطأ التاريخي، المتجلي في رغبات الدولة الإيديولوجية، الذي قد يتقاطع مع اتجاه فكري معين مرحليا، ويتم الانقلاب عليه بعد حين انتهاء نقطة التقاطع. وتتأسس هذه السياسات العمومية على المستوى النظري على مجموعة من المنطلقات، وهي أولا؛ تمثل إشكالية الدين والفلسفة، التي ابتدأت مع الفلاسفة والمفكرين المسلمين، وتتبع مسار حلها عبر التاريخ، إلى حدود القرن السابع عشر، ويتحدد هذا التمثل للإشكالية وهي أن التراث والدين الإسلامي، لا يتعارض مع نموذج الحداثة كما أنه لا يتطابق معها، بل إن هذه الأخيرة هي نتاج لهذا المسار بين الفلسفة والدين، وتعميق هذا الفكر مجتمعيا، من خلال سياسة الترجمة، لكل الأعمال الفكرية والفلسفية التي ساهمت في هذا المسار، منذ الفلاسفة المسلمين، والفلاسفة المسحيين فيما بعد والغرب أيضا، عبر تشجيع إنتاج مراكز الترجمة، كما نادى به عبد الله العروي، ثانيا تنزيل هذا المسار إلى المجتمع، عبر قنوات الإعلام والصحافة والاتصال المعلوماتي التقني التواصلي، للرقي بالحس المشترك العام، عبر المجلات والجرائد، خصوصا مجلات الأطفال، من خلال بيداغوجيات تمكن الطفل.ة من الحس النقدي وتنمية ملكاته ومهاراته المعرفية والفكرية، وكذلك العلمية والتكنولوجية. ثالثا تشجيع لقاءات الحوار القائمة على المناظرة التواصلية بين مختلف الفئات والحساسيات الاجتماعية والفكرية، فهذه مجموعة من المنطلقات المبدئية التي قد تمكن السياسات العمومية للدولة مركزيا ومجاليا من حل إشكاليات التطرف الديني، لكن بالموازاة مع سياسات عامة تهدف إلى تحقيق عدالة ورفاه اجتماعيين، وحريات مدنية وسياسية تمكن الدولة من التطور الإيجابي والتقدم.
المراجع والمصادر:
- محمد أركون، تحرير الوعي الإسلامي، نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى، 2011
- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، دار الساقي بيروت، الطبعة الأولى 1999
- محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟ دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ترجمة وتقديم، هاشم صالح.
- عبد الوهاب المؤدب، أوهام الإسلام السياسي، دار النهار للنشر، لبنان، الطبعة الأولى تشرين الثاني/نونبر 2002، ترجمة محمد بنيس والمؤلف.
- عبد المجيد باعكريم، أوليات البحث في علم الفلسفة، مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية/ جامعة قطر، 2020، الطبعة الأولى.
- عبد المجيد باعكريم، العنف في تاريخ الفكر النظري: إشكالية العقل والإيمان نموذجا، (مكناس؛ منشورات وليلي، نيسان أبريل 2009).
- أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، العقيدة الواسطية، تحقيق علوي بن عبد القادر السقّاف، مؤسسة الدرر السنية، سنة 1423 هجرية، الموافق ل2002/3 ميلادية.
- أبو الحسن الأشعري مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت 1990
- عبد الله العروي، عبد الله العروي، السنة والإصلاح، دين الفطرة، المركز الثقافي للكتاب، الطبعة الأولى، 2018
- محمد عابد الجابري، مواقف؛ إضاءات وشهادات، الكتاب 32، الطبعة الأولى، أكتوبر 2004، دار النشر المغربية، ديما.
- محمد مصباح، الجهاديون المغاربة، جدل المحلي والعالمي، مركز الجزيرة للدراسات، القطر، الدوحة، النسخة الأولى، يناير/كانون الثاني 2021
[1] طالب باحث بسلك الماستر، ماستر الأنظمة المعرفية للخطاب.
[2] المقصود بالمرونة، هي مجموعة من السمات والخصائص والامتيازات التي تجعل شيئا معينا أو شخصا قادرا على التكيف والانضباط لمجال معين، ووفق شروط معينة، لكن دون فقدان الأسس المتقوم بها.
[3] المقصود بالجذرية، هو فعل التجذر؛ أي الاتجاه نحو أقصى درجة معينة في التفاعل مع المجال، والانطلاق منه، لاعتباره هو الأساس المنهجي في الفعل.
[4] محمد أركون، تحرير الوعي الإسلامي، نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى، 2011، ص 49
[5] عبد الوهاب المؤدب، أوهام الإسلام السياسي، دار النهار للنشر، لبنان، الطبعة الأولى تشرين الثاني/نونبر 2002، ترجمة محمد بنيس والمؤلف، ص ص، 21، 22
[6] النظم المعرفية «les systèmes cognitives»: المقصود بها الأطر النظرية المحددة لكل الخطابات العلمية والفلسفية والفكرية، وهي التي تكون الأفق الذي يتم التفكير من خلاله، مثلا: النظام المعرفي الوسطوي هو نظام هيمن فيه الدين كإطار فكري، لا يمكن مطالبة صاحبه أن يأتي بأفكار خارج هذا الأفق، ولا يمكن الإسقاط عليه أفكار حديثة عنه.
[7] الجيناليوجيا: هي علم الأنساب، وتهدف من الناحية المنهجية تحديد الجذور النشوئية المؤسسة؛ أي تحديد شجرة الأنساب. وعند نيتشه، هي دراسة تشكيل وتطور الأفكار والأخلاق والقيم، وبالنسبة إليه خصوصا في الحضارية اليهودية- المسيحية.
[8] انطلقت حركة الترجمة أواخر الفترة الأموية، وفي العصر العباسي تحديدا، بهدف ترجمة العلوم اليونانية والهندية والسنسكريتية إلى اللغة العربية، لأهداف إدارية وسياسية.
[9] عبد الوهاب المؤدب، أوهام الإسلام السياسي، ص 28
[10] عبد المجيد باعكريم، أوليات البحث في علم الفلسفة، مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية/ جامعة قطر، 2020، الطبعة الأولى، ص 46
[11] المرجع نفسه، ص 47
[12] محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟ دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ترجمة وتقديم، هاشم صالح، ص 208
[13] أبو الحسن الأشعري مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت 1990، ص 235.
[14] محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، دار الساقي بيروت، الطبعة الأولى 1999، ص، 107
[15] عبد الوهاب المؤدب، أوهام الإسلام السياسي، ص 28
[16] سردية المحنة، هي قصة نموذجية، تحكي عن الألم الذي تعرض له رمز معين، مثل أحمد بن حنبل هنا، وصبره أمامها ثم خروجه منتصرا، مشكلة إيديلوجيا رمزية لكل أشكال المحنة التي تمر منها التنظيمات التي لها نفس الأفكار والمنهج.
[17] محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ص، 128
[18] محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ص 241
[19] عبد المجيد باعكريم، العنف في تاريخ الفكر النظري: إشكالية العقل والإيمان نموذجا، (مكناس؛ منشورات وليلي، نيسان أبريل 2009)، ص 88
[20] أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ص 50
[21] عبد المجيد باعكريم، العنف في تاريخ الفكر النظري، ص ص 94، 95
[22] أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، العقيدة الواسطية، تحقيق علوي بن عبد القادر السقّاف، مؤسسة الدرر السنية، سنة 1423 هجرية، الموافق ل2002/3 ميلادية، ص 131
[23] عبد الله العروي، عبد الله العروي، السنة والإصلاح، دين الفطرة، المركز الثقافي للكتاب، الطبعة الأولى، 2018، ص، 140
[24] المرجع نفسه، ص 141
[25] المرجع نفسه، ص 141
[26] المرجع نفسه، ص 141
[27] أبو الحسن الأشعري مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت 1990، ص 235
[28] عبد الله العروي، السنة والإصلاح، دين الفطرة، ص 143
[29] أحمد بن تيمية، العقيدة الواسيطية، ص 92
[30] المرجع نفسه، ص 106
[31] عبد الله العروي، السنة والإصلاح، دين الفطرة، ص 172
[32] إن مفهوم العائق المعرفي هو من إنتاج غاستون بشلار، ويعني به كل تمثل أو تفسير للواقع الذي يعيق أو لا يسمح للفهم، والمقصود به هنا، كل التفسيرات والتمثلات التي كانت قائمة على مجموعة من الرغبات والمصالح الذاتية التي من شأنها أعاقت الحركة المعرفية بين الدين والفلسفة.
[33] محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ص 23
[34] محمد أركون، نحو نقد العقل الإسلامي، ص 250
[35] عبد الوهاب المؤدب، أوهام الإسلام السياسي، ص 47
[36] محمد عابد الجابري، مواقف؛ إضاءات وشهادات، الكتاب 32، الطبعة الأولى، أكتوبر 2004، دار النشر المغربية، ديما، ص 28
[37] المرجع نفسه، ص 22
[38] محمد عابد الجابري، مواقف؛ إضاءات وشهادات، الكتاب 32، ص 40
[39] محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ص، 128
[40] المقصود بالأحداث العرضانية، هي تلك الأحداث التاريخية الكبرى، التي تكون مفاجئة للتوقعات المسبقة، خصوصا تلك الأحداث الانقلابية، التي تقلب تاريخ دولة رأسا على عقب، من مثل "الثورة الإيرانية، أحداث 11 شتنبر/ أيلول 2001، الربيع العربي"، ولكنها في العمق هي نتيجة عنيفة لمسار ضاغط.
[41] https://www. france24.com/ar/20190211-إيران-ذكرى-40-سنة-الثورة-الإسلامية-الخميني-روحاني-صور-الشاه-خامنئي
[42] محمد مصباح، الجهاديون المغاربة، جدل المحلي والعالمي، مركز الجزيرة للدراسات، القطر، الدوحة، النسخة الأولى، يناير/كانون الثاني 2021، ص 18
[43] المرجع نفسه، ص 18
[44] محمد مصباح، الجهاديون المغاربة، جدل المحلي والعالمي، ص، 19
[45] المرجع نفسه، ص 19
[46] عبد المجيد باعكريم، أوليات البحث في علم الفلسفة، الطبعة الأولى، ص 35
[47] الجهاديون المغاربة، جدل المحلي والكوني، ص 5
[48] المرجع نفسه، ص 25