السهروردي وفلسفة الإشراق
فئة : ترجمات
السهروردي وفلسفة الإشراق
دائماً ما ينزع الباحث نحو النظر إلى السهروردي بنظرة رومانسية ([1]). والحقيقة أنه ليس هناك سبب معيَّن لتجنُّب هذه النظرة إليه كشخص. فقد عاش حياة حكيم متجول، وتضم حياته شخصيات متعدِّدة: أمير وساحر وصلاح الدين الأيوبي، وأخيراً وفاة مأساوية. ويمكننا النظر إليه كما نظر إليه معاصروه - وربما كما نظر هو إلى نفسه- كشخصية فلسفية فولكلورية، لم يُشْهَد لها مثيل منذ أبولونيوس التياني Apollonius of Tyana. ورغم ذلك؛ فمن الخطأ في نظري أن ندرس فلسفته الإشراقية بعيون رومانسية، على الرغم من محاولاته لإضفاء طابع عجائبي على مشروعه؛ ذلك لأنه كان مفكِّراً نقدياً صارماً ومبدعاً وضع أسساً للفلسفة الإسلامية التالية عليه. لم تترك محاولة الغزالي فصل الدين عن العقل وأرسطية ابن رشد الصارمة سوى آثارٍ ضئيلة في الفلسفة الإسلامية المتأخرة. أما نقد السهروردي لأنطولوجيا ابن سينا وللإبستيمولوجيا الأرسطية، فقد كانت نقطة البداية للفلاسفة اللاحقين على السهروردي. والوصف الحديث لفلسفته على أنها «فلسفة صوفية» theosophy لا يوفيه حقَّه ولا يقدِّر براعته وتأثيره الفلسفي ([2]).
ولد السهروردي في الغالب حوالي سنة 549 هـ/ 1154م بقرية سهرورد بالقرب من زنجان في شمال غرب إيران ([3]). ولا نعرف شيئاً عن عائلته أو أصله العرقي. وكان أول ظهور له في مدينة مراغة القريبة من محل مولده، حيث درس المنطق والفلسفة على يد مجد الدين الجيلي، وكان عالماً متميزاً ومعلِّماً لفخر الدين الرازي. وفيما بعد درس على يد فخر الدين المرديني، إما في مَردين جنوب شرق الأناضول أو في أصفهان. وكان المرديني معلِّماً للطب والعلوم العقلية وصوفياً. وفي أصفهان درس كتاب «البصائر» لابن سحلان الصاوي، وهو كتاب مُجدِّد في المنطق، مع ظاهر الفارسي (أو القاري). ويبدو أنه قضى العشرينيات من عمره متجولاً في آسيا الصغرى وشمال سوريا بحثاً عن رعاة يتولون الإنفاق عليه، وقد أهدى أعماله التي كتبها في هذه الفترة للبعض منهم.
وفي وقت ما أثناء تجواله، تخلَّى السهروردي عن فلسفة ابن سينا المشَّائية التي تعلَّمها في صغره وصار أفلاطونياً. وكان الذي دفعه إلى ذلك كما يخبرنا؛ هو تصوفه ورؤيته لأرسطو في المنام. ولم يشرح لنا تفاصيل تجربته الصوفية، ويبدو أنها كانت متعلقة برؤيته للمثل الأفلاطونية ([4]). أما عن المنام، فقد رأى فيه أرسطو في إحدى الليالي، يشع بالنور. وكان السهروردي آنذاك مهموماً بمشكلة المعرفة، وقد شرح له أرسطو أن مفتاح فهم المعرفة هو الوعي بالذات، وهو أساس مذهب المعرفة بالحضور، والذي سأتناوله بعد قليل. وبعد أن أتم أرسطو شرحه؛ ألقى بالثناء على أفلاطون، وبعد اندهاش السهروردي من ذلك؛ سأله السهروردي عمَّا إذا كان أحد من فلاسفة الإسلام قد وصل إلى هذه المكانة [التي لأفلاطون]. وكانت الإجابة هي بعض المتصوفة أمثال البسطامي والتُّستري اللَّذَين لفتا نظر أرسطو ([5]).
وانتقل إلى حلب في 579هـ/ 1183م، والتي كان قد استولى عليها صلاح الدين مؤخراً، ودخلها السهروردي في ملابس رديئة حتى اعتقده الناس مُكارياً [سائقاً للحمير]. ودخل المدرسة هناك، وسرعان ما لاحظ القائم عليها نبوغه، فأرسل له مع ابنه ملابس لائقة. وأعطى السهروردي للابن جوهرة كبيرة وأرسله للسوق كي يقدِّر ثمنها. وعاد الابن وأبلغ السهروردي أن الأمير الذي كان ابناً شاباً لصلاح الدين ثَمَّنها بثلاثين ألف درهم. عندئذ حطَّمها السهروردي بحجر وقال للغلام إنه كان يمكنه الحصول على ملابس أفضل إذا أراد ذلك ([6]). وسرعان ما صار السهروردي في حماية الأمير، وأكمل أهم أعماله وهو كتاب «حكمة الإشراق» بعد ذلك بثلاث سنوات، في آخر جمادى الآخرة سنة 582هـ/ 15 سبتمبر 1186، في ليلة اجتمعت فيها الشمس مع القمر والكواكب الخمسة المعروفة آنذاك في برج الميزان ([7]).
وأثارت حظوة السهروردي لدى الأمير الملك الظاهر غيرةَ زملائه هناك، ولم تنفعه قواه السحرية وقدراته الصوفية التي قيل إنه يحوز عليها في علاقاته الشخصية. ووصلت الشكايات منه إلى صلاح الدين الذي ربما فهم هو ومستشاروه من رجال الدين المتشدِّدين فلسفة السهروردي على أنها تشبه الإسماعيلية، في الوقت الذي كانت فيه حلب تتمتَّع بأهمية استراتيجية كبيرة، خاصة في ظل التهديد الصليبي. وتبعاً لذلك، حكم صلاح الدين على السهروردي بالموت، وامتثل لأمره الأمير الشاب، والغالب أن السهروردي مات في 587هـ/ 1191م، رغم تضارب الأخبار حول ذلك التاريخ ([8]). وتفرَّقت مجموعة التلاميذ التي كانت قد تحلَّقت حوله، ولم يعرف أحد عنهم شيئاً ولا أسمائهم.
مؤلَّفات السهروردي والتحول من المشَّائية إلى الإشراق
تواجهنا صعوبة كبيرة في تفسير فلسفة السهروردي؛ فهو يُعرف على أنه «شيخ الإشراق»؛ أي: سيِّد الاتجاه الإشراقي وزعيمه ومؤسس المدرسة الإشراقية. والسؤال هنا هو: ما الذي يعنيه كل هذا؟ في مقدمته لكتابه «حكمة الإشراق»، يقول السهروردي:
وقد رَتَّبْتُ لكم قبل هذا الكتاب وفي أثنائه عند معاوقة القواطع عنه كتباً على طريقة المشَّائين ولخَّصْتُ فيها قواعدهم، ومن جملتها المختصر الموسوم بـ«التلويحات اللوحية والعرشية» المشتمل على قواعد كثيرة، ولخصت فيها القواعد مع صغر حجمه، ودونه «اللمحات»، وصنفتُ غيرهما، ومنها ما رتَّبته في أيام صباي. وهذا سياق آخر وطريق أقرب من تلك الطريقة، وأنظم وأضبط وأقل إتعاباً في التحصيل، ولم يحصل لي أولاً بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر، ثم طلبت عليه الحجة حتى لو قَطَعْتُ النظر عن الحجة مثلاً، ما كان يُشكِّكُني فيه مُشكِّك ([9]).
وإذا جمعنا بين هذا الإعلان وما نعرفه عن مؤلَّفات السهروردي؛ يمكننا إقامة التصنيف الرباعي التالي:
1) أعمال الشباب
2) أعمال صوفية أغلبها حكايات رمزية
3) أعمال تشرح فلسفة المشائين وفق طريقتهم
4) كتاب «حكمة الإشراق».
ونصف هذه الأعمال فقط هو المنشور حتى الآن، وكتاب «حكمة الإشراق» والحكايات الرمزية وحدها هي التي حازت على اهتمام الباحثين، ولذلك فكل ما نستطيع أن نقوله عن فلسفته يتصف بالعمومية الشديدة. وحتى الآن فُهِم تصريح السهروردي السابق عن مؤلفاته بطريقتين مختلفتين.
الطريقة الأولى: هي طريقة هنري كوربان؛ الباحث الرئيس الذي تولَّى تعريف العالم المعاصر بالسهروردي ونشر أعماله، وقد فهم فلسفته على أنها صوفية وأسطورية. أما الأعمال المشائية للسهروردي؛ فهي في نظر كوربان مجرد تدريب لمن لم يدخل بعد في السلك الصوفي، أو بتعبير كوربان «الثيوصوفيا» theosophia. وبالتالي، فإن أعمال السهروردي ذات القيمة والكاشفة عن فكره؛ هي حكاياته الرمزية و«حكمة الإشراق»، الذي يحوي في قسمه الأول مذهباً في المنطق ونقداً للمدرسة المشائية. وبهذه المعالجة يظهر السهروردي على أنه مُحْيي للحكمة الفارسية القديمة، كما تشير إلى ذلك استخداماته لكلمات «النور» و«الظلمة» كمصطلحات فلسفية رئيسة، وتمجيده لعدد من الحكماء والآلهة الزرادشتية. وبذلك ترجم كوربان عنوان «حكمة الإشراق» إلى Le livre de th´eosophie orientale، [كتاب الثيوصوفيا المشرقية]، وسَوَّد صفحات كثيرة في الحديث عن أهميَّة «الجغرافيا الروحية» لفكر السهروردي ([10]).
ولم تكن هذه هي الطريقة التي فهمَه بها مَن أتوا بعده في العالم الإسلامي، ذلك لأن تابعيه أمثال قطب الدين الشيرازي وناقديه أمثال صدر الدين الشيرازي قد نظروا إليه على أنه فيلسوف أسهم في مباحث الفلسفة مثل الميتافيزيقا والأنطولوجيا والإبستيمولوجيا. وقد بدأ السهروردي بنقد الفلسفة السائدة في عصره، وهي مذهب ابن سينا المشائي، وهاجمه في نقاط عديدة. منها: أن ابن سينا في محاولته الغامضة لتعريف مفهوم الوجود الأرسطي؛ بدأ بالتمييز التصوُّري بين الوجود والماهيَّة، ثم افترض أن هذا التمييز الذهني ينطبق على الوجود الحقيقي. هاجم السهروردي هذا التمييز؛ محاججاً بأن تصورات مثل الوجود هي «اعتبارية»؛ أي: من إنتاج الذهن فقط. وقَبِلَ أتباع السهروردي نقدَه لابن سينا، لكنهم اختلفوا حول حله لإشكالية مفهوم الوجود. فصدر الدين الشيرازي، على سبيل المثال، أكد على أن الاعتباري هو الماهيَّات التي هي عنده تمييزات الأشياء عن بعضها. ومن جهة أخرى نقد السهروردي مفهوم ابن سينا الأرسطي عن المعرفة باعتبارها تجريداً للصور؛ أي: للمعاني الكليَّة من الجزئيات، وبدلاً من ذلك حاجج بأن المعرفة هي الحضور المباشر بدون وسيط للشيء المعروف أمام العارف. وكانت هذه النظرية هي أساس توظيفه للتصوف باعتباره أداة للنظر الفلسفي. وقد قَبِلَ مَن أتوا بعده من تيَّاره الإشراقي هذا النقد لابن سينا والبديل الذي قدَّمه كذلك. وأخيراً حاجج السهروردي بأن الكوزمولوجيا الفلسفية تتطلَّب افتراض أن الموجودات تختلف لا في النوع فقط، بل كذلك في الشدَّة، وكانت هذه الفكرة مؤثرة في أتباعه بشدة.
كما قدَّم السهروردي العديد من الانتقادات الأخرى للمشائية السينوية السائدة في عصره: منها تمسُّكه بنظرية الصور الأفلاطونية، وهجومه على النظرية المشائية في التعريف بالماهية، وعلى النظرية المشائية في المادة. وكانت هذه مواقف فلسفية واضحة، وهكذا فهمها أتباعه. وعلاوة على ذلك؛ فإن كتاب «حكمة الإشراق» الذي هو أهم مؤلفاته بالإجماع؛ فهمه أتباعه على أنه عمل فلسفي وكُتبت فيه شروح فلسفية عديدة منها شرح الشهرزوري وقطب الدين الشيرازي وتعليقات صدر الدين الشيرازي. عملت هذه الشروح على ترجمة اصطلاحاتها الفلسفية الجديدة إلى اللغة الفلسفية السينوية، مثل «القيد» الذي تحوَّل إلى «البدن»، و«النور الهادي» الذي تحوَّل إلى «النفس» ([11]). ولم تتعرَّض هذه الترجمة للمساءلة من داخل التراث الفلسفي الإسلامي، وإن كان البحث الحديث قد اعترض عليها.
وبصرف النظر عن صواب أو خطأ كوربان وتلاميذه في وصف السهروردي على أنه متصوِّف فلسفي [ثيوصوفي]؛ إلا أنهم كانوا على حق في التشديد على أهمية حديث السهروردي عن ترقِّيه المعرفي والروحي. فقد نظر السهروردي إلى نفسه على أنه مُحيي الحكمة القديمة. ينظر أغلب الباحثين المعاصرين لأصل الفلسفة الإسلامية على أنه يرجع إلى أرسطو، بطريقة فهم شرَّاحه اليونان المتأخرين، مع بعض المؤثرات الأفلاطونية المحدثة من كتب منحولة مثل «أثولوجيا أرسطوطاليس». ولا شك في وجود بعض المؤثرات الخافتة من مدارس فلسفية يونانية أخرى ومن أمم أخرى في مجالات الفكر السياسي والأخلاقي. وفيما بعد كان هناك تأثير من الصوفية، والذي كان السهروردي مثالاً هاماً عليه.
أما السهروردي، فقد كانت له نظرة مختلفة. إذ نظر إلى الحكمة على أنها تعود إلى أصول ثلاثة: مصرية، وهندية- صينية، وفارسية. ويعود التراث الفلسفي الإسلامي في نظره إلى نقطة انطلاق أولى من مصر مع هرمس الثلاثي الحكمة Hermes Trismegistus، والمسمَّى إينوخ وإدريس ([12]). [وربما كان السهروردي على حق]، فأنباذوقليس دَرَسَ في سوريا، وفيثاغورس في مصر وبلاد الرافدين، وكانا هما اللَّذَين أسَّسا تراث «الفلسفة الإلهية» في التراث اليوناني. وكان سقراط وأفلاطون تحت تأثير قوي منهما، وكان أرسطو تلميذاً لأفلاطون. وأخذ تلاميذ أرسطو فلسفته في اتجاهين: الفلاسفة الأرسطيين الذين يعرفهم العالم الإسلامي ركزوا على السطح الظاهري لفلسفته، وكان زعيمهم هو ابن سينا، وانتمى إليهم السهروردي نفسه في بدايته. لكن كان هناك فلاسفة أرسطيون آخرون، منهم أرسطو نفسه في تطوُّره الأخير، والذين تبنَّوا فلسفة أفلاطون الإلهية التي يمثِّلها كتاب «أثولوجيا أرسطوطاليس». وفي الوقت نفسه كان هناك تراث فيثاغوري استمر حياً في مصر لدى علماء الخيمياء في مدينة أخميم [بسوهاج في صعيد مصر]، ومثَّلَهم في العصر الإسلامي؛ الخيميائي ذو النون المصري وتلميذه سهل التستري*. أما التراث الفارسي السابق على الإسلام، فمثله في العصر الإسلامي أبو يزيد البسطامي المتصوف الفارسي، والحلَّاج، وأبو الحسن الخرقاني (351 - 425هـ). أما المصدر الثالث للحكمة، وهو الهندي-الصيني، فليس واضحاً. ويبدو أن السهروردي قد نظر إلى الحكمة الهندية-الصينية على أنها احتوت على نفس التيارات الفلسفية، وحصلت على حكمتها إما من الفرس أو من الفيثاغورثيِّين؛ الذين كان يُعْتقد أنهم تجوَّلوا في الشرق وكان لهم أتباع في الهند. وبذلك يكون السهروردي هو أول فيلسوف مسلم يجمع كل هذه الأصول القديمة للحكمة، والواضح من تعابيره أنه كان يُبجِّل أفلاطون على وجه الخصوص ([13]).
وعلى الرغم من احتواء معالجة السهروردي لتاريخ الفلسفة على جانب أسطوري كبير، إلا أنها تستحق التأمُّل لاعتبارات تاريخية وفلسفية. في هذه المعالجة تمَّ تجاهل الطبيعيين الأوائل من المدرسة الأيونيَّة، رغم معرفة الفلاسفة المسلمين بهم من خلال الإخباريين وأرسطو وتراث جالينوس، كما لا تحتوي المعالجة على مسيحيين أو مسلمين، سوى الصوفية، وحتى هؤلاء ليس من بينهم الذين يُحسَبون في العادة من بين مؤسسي التصوف الإسلامي. والفرس المذكورون ليسوا حكماء زرادشتيِّين، بل ملوك ووزراء فرس أسطوريين نُظِرَ إليهم على أنهم حكماء. والصلات التي يعقدها مع الشرقيين -فرس وهنود وصينيين- غامضة أكثر من تلك التي يعقدها مع اليونان. واليونان الذين يقصدهم ويسمِّيهم «متألِّهون» هم مَن يسمِّيهم الإخباريون «المدرسة الإيطالية». والمؤكَّد تاريخياً أن سقراط وأفلاطون كانا على صلة بالأيونيِّين والإيطاليين، لكنني أعتقد أن السهروردي كان على حق في قوله إن أفلاطون يجب النظر إليه على أنه خليفة أنباذوقليس وفيثاغورس وليس طاليس والأيونيِّين. وعلاوة على ذلك؛ فالرأي القائل إن الخيميائيين المصريين احتفظوا بتراث فلسفي سابق على أفلاطون وانتقل منهم إلى المسلمين؛ لاقى مَن يدافع عنه من الباحثين المعاصرين ([14]). وقد انتقل الفكر اليوناني مع العلوم الباطنية* والطب إلى المسلمين بالتوازي مع ترجمات أرسطو وغيره من الفلاسفة ([15]).
=
إن اهتمام السهروردي بالأصول الشرقية لفلسفته وصلاتها التفصيلية بهذه الأصول؛ هو اهتمام مشترك في كل التراث الفيثاغوري/ الأفلاطوني/ الأفلاطوني المحدَث. فقد اهتم كل أعلام هذا التراث بالحكمة القديمة والشرقية وخاصة الحكمة المصرية القديمة، من أفلاطون إلى فرفوريوس ويامبليخوس وحتى أفلاطونيي عصر النهضة المحدثين أمثال برونو**. وكانوا كلُّهم مهتمين بالتأويل المجازي والرمزي للنصوص القديمة، واهتموا بالصور والعلوم الباطنية وتطبيقاتها العملية. واعتقد المنتمون لهذا التراث في أن الحقيقة تكمن في عالم عقلي/ روحي، ليس متاحاً لنا إلا من خلال حدس صوفي عقلي أو روحي، وبطريقة غير كاملة. وليس أمام هذا الحدس إلا اللغة الرمزية كوسيلة وحيدة للتعبير. وقد عَبَّرَت أساطير الشعوب المختلفة عن تلك الحدوس الروحية لحكمائها، وفي هذا الشأن؛ حازت مصر القديمة بثرائها في الأساطير وهيروغليفيَّتها على إعجاب خاص من ذلك التراث الفلسفي/ الصوفي([16]).
الحدس الاسميُّ ونقد ابن سينا
يعتمد تفسير الفيلسوف للكون ولمعرفتنا عنه على توجهه المبدأي نحو العالم؛ ويقال إن المرء يولد إما أفلاطونياً وإما أرسطياً. والحقيقة الثابتة عن السهروردي أنه قد نظر إلى العالم على أنه يُقدِّم لنا نفسه في صورة أشياء عينيَّة بصفات جزئية. وربما لا نبدأ في تعلُّم أي شيء عن العالم إلا بعد نتلقَّى تدريباً دقيقاً مسبقاً -فقد كان السهروردي صوفياً قبل أي اعتبار- لكن حتى معرفتنا بالله وبالأسس الميتافيزيقية للكون؛ ليست استدلالاً وبناءً تصوُّرياً، بل عملية نتعلَّم بها أن نرى ما هو أمامنا على الدوام. فنحن نرى ما هو عيني، والشيء العيني هو الذي يظهر أمامنا على أنه الواقعي. أما البناء الميتافيزيقي لما هو واقعي، فليس وجوده حاضراً أمامنا، بل هو شيء نستدل على وجوده. وبذلك يرفض السهروردي في الميتافيزيقا واقعيَّة الكيانات العقلية الكليَّة؛ متمسكاً بالاعتقاد في أن كل ما يوجد هو الجزئي؛ ولذلك يمكن مقارنته بالاسميين nominalists مثل أوكهام. وفي مجال الإبستيمولوجيا يتمسك السهروردي بفكرة أن المعرفة تتأسس في الوعي المباشر؛ وبذلك يمكن مقارنته بالتجريبيين مثل بيركلي وهيوم. ومثله مثل الاسميين والتجريبيين، فهو يشك في البناءات الميتافيزيقية، وبالتالي كان ناقداً شديداً للأنساق الفلسفية التصورية أكثر من كونه مُنشِئاً لأحدها. وبالنظر إلى الطريقة المعتادة في النظر إلى فكره؛ فإن هذه الرؤية لفكره في حاجة إلى تبرير([17]).
ونقطة البداية هي تلك التي أعلن السهروردي نفسه أنه بدأ منها - أي: النظرية التي عُرِفت بعد ذلك على أنها «المعرفة بالحضور المباشر» Knowledge by presence. كانت النظرية الإبستيمولوجية السائدة في عصر السهروردي هي نظرية ابن سينا؛ التي ترجع إلى نظرية التعقل في كتاب «النفس» لأرسطو. في هذه النظرية المشائية، كما يحلو للسهروردي أن يسميها، تتأثر حواسنا بمؤثرات خارجية. والصور الناتجة عن هذا التأثُّر تنطبع بطريقة ما على الحواس ثم تتجمع في المخ، وتُعالَج بطرق شتى لإنتاج موضوعات الحس والمخيِّلة. أما موضوعات الفكر الخالص -مثل مفهوم «المثلث»- لا يمكنها أن تنطبع في المخ ببساطة؛ لأن أي صورة منطبعة عن المثلَّث يجب أن يقابلها مثلث حقيقي بأضلاع وزوايا معيَّنة. وبالتالي فيجب أن تكون مثل تلك التصوُّرات المجردة في العقل المجرد، والقابل على أن يتعقَّل فكرة الصورة. وتأتي فكرة المثلث إلى الوجود في العقل المجرد من تأمُّل المثلثات الجزئية الماثلة أمام الحواس وباقي قوى النفس المعرفية [مثل المخيِّلة والذاكرة]. وهكذا يكون العقل قادراً على تعقُّل الماهيَّات الخالصة للأشياء من الصور المادية الحاضرة له عن طريق الحواس والمخ. ثم تصير هذه التصورات الموادَّ الأولى للعلوم والمعرفة الحقَّة([18]).
وتتضمن هذه النظرية إشكاليات عديدة كما يعرف كل مَن تَعَرَّف على فلسفة أرسطو بالتفصيل. فهذه النظرية تفسِّر كيف نعرف الكليَّات بمجرد ما أن نكون حاصلين عليها، لكنها لا تفسِّر كيفية معرفتنا بالكليَّات، ولا تفسِّر كذلك كيفية معرفتنا بالجزئيات وراء مجال الحس. والمشكلة الواضحة في هذه النظرية هي أنها تتطلَّب منَّا التعرف على ماهيات الأنواع الطبيعية بمجرد فحصها والتقاط ماهياتها مباشرة ومعرفة مكوناتها. وهذا ممكن إذا كنَّا نتناول المثلثات. أما العلم الطبيعي والبيولوجيا اللَّذان طوَّرهما أرسطو، فلا يمكننا معرفة ماهيَّات موضوعاتها بنفس الطريقة. فطريقة أرسطو تفترض معرفتنا أننا كائنات عاقلة بمقابلة نظرائنا، ثم نعرف بالفحص التجريبي أن الوطاويط والأحصنة تنتمي لنفس الفئة، وهي الثدييَّات، لكن الوطاويط والطيور ينتميان لفئتين مختلفتين. وافتقاد هذه المعالجة للمعقولية دائماً ما أعاقت المشروع العلمي الأرسطي، على الرغم من محاولات أرسطو لمواجهة هذه المشكلة في كتاب «التحليلات الثانية» Posterior Analytics, II.19. ومن وجهة نظر إسلامية؛ فإن الصعوبة الأكبر تكمن في عدم إمكاننا حيازة معرفة عقلية بالجزئيات. فنحن نعرف الهندسة بفضل عقولنا المجردة، لكننا نعرف الأشياء من حولنا باعتبارنا كائنات مادية، مثلنا مثل الحيوانات. ويمكننا أن نتعايش مع فكرة أننا نعرف الأشكال الهندسية في كتاب في الهندسة دون أن نفهم المبرهنات التي تثبت طبيعة هذه الأشكال، لكن هذه النظرية تتضمن كذلك أن الله لا يمكنه أن يعرف الجزئيات. وقد أجاب ابن رشد [على هذه الصعوبة] بذهابه إلى أن الله يعرف الأشياء من أسبابها، لكن لا يبدو هذا الحل مقنعاً([19]).
أما السهروردي، فقد بدأ بظاهرة الإبصار، التي هي أعلى الحواس ونقطة البداية في كل نظريات المعرفة. وتنازعت نظريتان في الإبصار على امتداد تاريخ الفلسفة، نظرية الانبعاث ونظرية الولوج. في نظرية الانبعاث: يخرج شعاع من العين ويتَّصل بالأشياء؛ وفي نظرية الولوج: يأتي شيء ما من الموضوعات محل الرؤية ويؤثِّر في العين. والنظرية الأولى كانت نافعة في البصريات النظرية لكنَّها لم تكن مقبولة فيزيائياً. وكانت الثانية أكثر قبولاً من الوجهة الفيزيائية رغم افتقادها لمعالجة تفصيلية، لكنها كانت تخلق إشكاليات رياضية. وواجهت النظريتان إشكالية تفسير كيفية تمكين الضوء من رؤية الأشياء (ولم تكن نظرية ابن الهيثم معروفة في عصر السهروردي). وقد أشار السهروردي إلى أن النظريتين غابت عنهما نقطة هامة، وهي أننا «نرى» الأشياء!، لا صور الأشياء. فنحن نرى جبلاً بعيداً وليس صورة صغيرة لجبل في أعيننا. كما أننا نرى البياض نفسه بصرف النظر عن درجة إشعاعه. ويخبرنا السهروردي أن الإبصار في حقِّيَّته بسيط للغاية، فهو يتطلَّب عيناً صحيحة في حضور موضوع للرؤية في الضوء. والضوء هو ببساطة ما يجعل الأشياء تُرى. والأكثر أهمية من ذلك أن الرؤية تتطلَّب كائناً واعياً بذاته. والشيء نفسه ينطبق على باقي الحواس. والواضح أن نظرية ضوئية كاملة تتطلَّب معالجة ميكانيكا المنظورات وعلاقتها بالعين، لكن أشار السهروردي إلى نقطة مهمة، وهي أن العنصر الحاسم في الإبصار هو الوعي المطلوب في كائن واعٍ بذاته وبموضوع إبصاره. وبالتالي، فإن الوعي هو ما يميز الإنسان عن الكاميرا السينمائية مثلاً([20]).
ومن هذه النقطة يوسع السهروردي نظريته في المعرفة عامَّةً. لقد أخبره أرسطو في المنام أن مفتاح فهم المعرفة هو معرفة النفس؛ فالمعرفة مثلها مثل الرؤية تتطلب الحضور الصريح لموضوع المعرفة أمام العارف الواعي بنفسه. وقد أشار الإشراقيون اللاحقون لهذه الفكرة على أنها اتحاد العارف والمعروف والمعرفة، لكن هذه الصيغة تفتقد النقطة التي أعتقدُ أنها الأهم - وهي أن المعرفة هي بأشياء جزئية قابلة للإدراك مباشرة. ولكونه صوفياً، فقد اعتقد السهروردي أن الأشياء المحسوسة ليست وحدها القابلة للإدراك المباشر؛ إذ يمكننا بتدريب مناسب إدراك الموجودات المجردة- مثل الملائكة والصور الأفلاطونية. ورغم ذلك؛ فإن هذه هي أيضاً جزئيات (حول الصور باعتبارها جزئيات، انظر لاحقاً). ونظرية السهروردي كلها هي نظرية اسمية من نوع راديكالي([21]).
كانت هذه النزعة الاسمية هي أساس هجوم السهروردي على النظرية المشائية في التعريف بالماهيَّة. ذهب أرسطو وأتباعه المسلمون إلى أن ماهيات الأشياء تُعرف بالتعريف بالحد. وتتكوَّن مثل هذه التعريفات أو الحدود من جنس يضاف إليه فصل - «الإنسان حيوان عاقل» على سبيل المثال*. ويمكن لحدود أخرى أن تنجح في تعريف نوع طبيعي -مثل «الإنسان ضحَّاك ذو قائمتين»- لكنها لا تنجح في معرفة ماهية الشيء الـمُعَرَّف [أي: إنه عاقل]. وإذا عرَّفنا الفصل [الماهية الفاصلة للإنسان وهو العاقل]، فنكون قد عرَّفنا الإنسان دون شروط التعريف الأرسطية. وعلاوة على ذلك بالكثير من التعريفات الأرسطية تترك الـمُعَرَّف أكثر غموضاً مما قبل. «اللون الأسود يلفت النظر»، لكن كلنا يعرف ما هو اللون الأسود. وإذا لم يكن يعرفه؛ فيمكننا أن نلفت انتباهه إليه. وبما أن أرسطو وابن سينا شدَّدا على أن التصورات تُعرف بالحد المتضمِّن للفصل الماهوي؛ فقد أعلن السهروردي أن المشائين جعلوا معرفة أي شيء محال([22]).
ميتافيزيقا الأفلاطونية المحدثة الإشراقية
يتمثل الجانب الأنطولوجي من نقد السهروردي للإبستيمولوجيا المشائية في نظرية الاعتبارات العقلية؛ أي: الكيانات العقلية الاعتبارية([23]). وتعني كلمة «اعتبار» أخذ شيء ما بعين الاهتمام. والكيانات العقلية عند السهروردي هي تلك التصورات التي تنشأ في أذهاننا عندما يتأمل العقل في الأشياء، ولا تأتي من إدراك الصفات العينيَّة للأشياء. فإذا قلنا: إن فرساً معيناً ذا أربعة أرجل أو أنه بنِّي اللون؛ فهذه صفات عينية نشاهدها في الفرس الحقيقي. لكن إذا قلنا: إن الفرس موجود، أو واحد، أو محدث؛ فهذه صفات تتعلق بكيفية اعتبارنا للفرس الحقيقي. وعندما تتحول الصفات إلى أسماء؛ فإن «البُنِّيَّة» [كون الشيء بُنِّيَّاً] و«القوائم الأربع» تشير إلى شيء عيني، في حين أن الوجود والوحدة والحدوث لا تشير إلى شيء عيني - وإذا ما أشارت إلى شيء واقعي؛ فهي تشير إلى الفرس نفسه([24]).
وكما اعتدنا من السهروردي؛ فإن المستهدف من هذا التحليل هم المشاؤون. أقام ابن سينا تمييزاً بين ماهية الشيء ووجوده، وأشار إلى أننا يمكن أن نطرح سؤالين مختلفين حول الشيء: سؤال الوجود وسؤال الكيفية. السؤال الأول يتعلق بوجوده [وما إذا كان واجباً أو ممكناً أو محالاً]، والسؤال الثاني يتعلق بكيفية وجوده([25]). والأصول الأرسطية لهذا التمييز واضحة، وهو توضيح لنظرية أرسطو ذاتها، وتوظف التمييز اللغوي في العربية بين اسم الفاعل وصيغة المصدر. والتمييز مشروع، لكن يبدو أن ابن سينا يفترض أن تمييزاً واقعياً يقابل ذلك التمييز الذهني، حيث إذا كنَّا قادرين على التمييز ذهنياً بين وجود الشيء وماهيته؛ فيجب بالضرورة أن يكون الشيء نفسه منقسماً إلى وجود وماهية. وهذا ما بدا مشروعاً في نظر ابن سينا؛ نظراً لنزوع الأرسطيين نحو التمييز في الشيء بين قوامه وصورته. لكن هناك صعوبات كثيرة في هذه النظرية. ارتبكَ فلاسفة أوربا في هذا الشأن واعتقدوا أن الوجود عَرَض([26]). والإشكالية التي أشار إليها السهروردي هي أن هذا التمييز يتضمن التسلسل إلى ما لا نهاية. فيمكن للمرء أن يطرح الأسئلة نفسها فيما يخص الماهيَّة والوجود، فهل هناك ماهية ووجود للوجود ذاته وللماهية ذاتها؟ وماذا عن وجود وجود الموجود؟ the existence of the existence of the existence. ويمكن للأمر نفسه أن ينطبق على الاعتبارات العقلية الأخرى مثل الوحدة والحدوث والضرورة وما إلى ذلك.
ويقدم السهروردي نقداً موازياً للنظرية المشائية في المادة والصورة؛ والتي تنص على تركيب كل شيء منهما، وأن الصورة هي مركَّب من صور من أنواع مختلفة: الأنواع والأعراض والعناصر والكيفيات من كل صنف. وقد وجد السهروردي كل ذلك غير مقبول، وحاجج بالمقابل دفاعاً عن تفسير أبسط، وهو أن الأجسام هي مجرد كميَّات قائمة ذاتها مع كيفيات. تجد هذه النظرية أصولها في محاورة «تيمايوس» لأفلاطون، وتظهر على نحو متفرِّق في تاريخ الفلسفة، خاصة مع ديكارت، وهي ليست مركزية في نظرية السهروردي الإشراقية؛ إذ تخلَّى عنها قطب الدين الشيرازي في شرحه للسهروردي، لكنها تميز نقد السهروردي الـمُخْتَزَل للمشائين([27]).
واشتهر السهروردي في العصر الحديث بميتافيزيقا الإشراق التي وضعها في القسم الثاني من «حكمة الإشراق». والعلاقة بين هذا الكتاب ونقده للمشائين في القسم الأول واضحة للغاية: فنقده لنظريات المشائين تنطوي على رفضه لفلسفة ابن سينا وإقامته لبديل عنها([28]). أما غير الواضح؛ فهو علاقة فلسفته الإشراقية بأعماله المسماة بالمشائية، والتي كتبها في الفترة نفسها. والرأي السائد أن هذه الأعمال موجَّهة للذين لم يسيروا بعد في طريق الإشراق، ولذلك فهي غير ذات قيمة لفهم فلسفته الإشراقية ذاتها. وإنني أميل إلى رفض هذا الرأي؛ لأن أتباعه لم يقيموا ذلك التمييز بين المشائي والإشراقي في أعماله، ويبقى حل هذه الإشكالية منتظراً المزيد من الدراسات الجادة.
وأيَّاً ما كانت العلاقة بين القسم الثاني من «حكمة الإشراق» وأعمال السهروردي «المشائية»؛ فإن الأهمية الفلسفية لهذه الأعمال واضحة وشدد عليها شُرَّاحه المبكرون([29]). يبدأ السهروردي بوضع تعريفات للنور والظلمة، والقائم بذاته [الغني] والقائم بغيره [الفقير]. والنور هو أوضح الأشياء وهو في غنى عن التعريف، وهو الواضح بذاته، والذي يجعل كل الأشياء الأخرى واضحة، كما أشار إلى ذلك قطب الدين الشيرازي في شرحه على «حكمة الإشراق»([30]). والغني هو الذي لا يفتقر في وجوده وكماله لشيء آخر غير ذاته. والظلمة مفتقرة لغيرها، وهي ضد النور. والنور والظلمة إما أن يقومان بذاتيهما أو يكونان في شيء آخر. وهذا التمييز يناظر تمييزاً آخر سبق وأن أقامه بين الجوهر الذي لا يأخذ وجوده من غيره، والأحوال التي تقوم بغيرها. وتتفرع عن هذه التمييزات كيانات أربعة:
1) الأنوار القائمة بذاتها، والتي عرَّفها الشُّرَّاح على أنها العقول.
2) الظلمات، وهي الأجسام.
3) الأنوار العارضة، وهي الأنوار الفيزيائية والأعراض التي تظهر بذاتها.
4) الأعراض المظلمة، وهي التي لا تظهر بذاتها.
وكل ما يوجد يتوزَّع على هذه الأقسام الأربعة. والنور فاعل، أما الظلمة، سواء كانت جوهرية أو عارضة؛ فهي منفعلة.
1) الأنوار المجردة هي عقول أو أذهان. والكلمة الدالَّة هنا هي أنها «واضحة بذاتها» أو «كاشفة»؛ فهي كاشفة لغيرها مثل كل نور، وكاشفة لذاتها أيضاً؛ أي: إنها واعية بذاتها وبغيرها في الوقت نفسه. وبالتالي فكل ما هو حي؛ يجب أن يكون نوراً لامادياً، والأشياء أنوار متعددة وليست نوراً [لأنه يحتفظ بكلمة «نور» للإله وحده]. ولا يقصد السهروردي بالأشياء أنها منيرة، كونها تشع نوراً أو أنها مضاءة بنور آخر، بل يقصد أنها كاشفة عن ذاتها، ويقصد كذلك أن ماهيَّات الكيانات العقلية كاشفة عنها مثل الأشياء المضيئة، وهي بذلك تشبه المونادات عند لايبنتس أكثر من كونها الواقع الأصلي للوجود مثلما نجد لدى الفلاسفة اللاحقين أمثال صدر الدين الشيرازي والسبزواري*. والكيانات العقلية تتفرد وتتمايز عن بعضها بشدة إضاءتها واختلاف درجاتها في النور والظلمة، وقد حاجَج السهروردي قبل ذلك بأن الأشياء تختلف في وجودها من حيث الشدة، فإذا كانت فوق درجة معيَّنة من الشدة؛ فإن قدرتها على إنارة غيرها تتعدَّى وتصل إلى قدرتها على أن تأتي بغيرها إلى الوجود وتحفظها في البقاء. ويمكن مقارنة مفهومه عن النور اللامادي بالمفهوم المشَّائي عن العقل، لكن بإضافة خاصيتين جديدتين؛ الأولى: أن الأنوار المجردة قادرة على الخلق إذا توافرت فيها درجة معينة من الشدة؛ والثانية: أنها ظاهرة لغيرها من الأنوار المجردة، بحيث يمكننا [إذا وصلنا إلى درجة الأنوار المجردة] أن نرى الله والعقول/ الأنوار السماوية [الملائكة]. 2) وتقابلها العوائق المظلمة أو الأجسام بدرجة أو بأخرى. فهي ليست كاشفة بذاتها، ولا تكشف غيرها. وبالتالي، فلا يمكن رؤيتها إلا بالنور العارض ولا تُعرف إلا بالأنوار المجردة، وهي لا تستمر في الوجود إلا بفضل تلك الأنوار المجردة. وهي منفعلة وليست فاعلة، وكلا الجانبين لديها من آثار الأنوار. 3) الأنوار العارضة هي أنوار فيزيائية، وهي الأعراض المنارة التي تظهر في الأجسام، وهي مثلها مثل الأنوار المجردة كاشفة لذاتها ولغيرها، لكن لأنها تقوم بغيرها؛ فهي ليست واعية بغيرها أو حيَّة. 4) الأعراض المظلمة هي صفات الأشياء المادية التي ليست واضحة بذاتها، وهي كذلك حالات معيَّنة في الأنوار المجردة.
وتتصل كل هذه الكيانات ببعضها بالنور الأصلي وبحضورها إزاء بعضها البعض. ويجب أن تكون الأنوار المجردة سابقة بالسببية؛ لأن العَرَض لا يمكن أن يكون سبباً لجوهر، كما لا يمكن للظلمة المنفعلة أن تكون سبباً للنور الفاعل. وكلما كانت الأنوار المجردة شديدة؛ كانت سبباً لغيرها من الأنوار المجردة، كما يمكنها أن تكون سبباً لأعراض النور والظلمة في غيرها من الأشياء، والتي تختلف فيما بينها تبعاً لاختلاف درجات استقبال هذه الأشياء للنور الأعلى واختلاف درجة افتقارها إليه. وبالتالي، فإن الأنوار المجردة تختلف في الشدة كما في درجات انعكاسها في الأعراض. وأخيراً يمكن للأنوار المجردة أن تكون سبباً للعوائق؛ أي: الأجسام، وفق ضعف استقبال هذه الأجسام للنور. والأنوار المجردة هي سبب الأعراض المنارة في الأجسام المادية -أي: سبب النور المادي- وهي كذلك سبب الأعراض المظلمة. وإذا صعدنا في السُّلَّم المتراتب من الأسباب؛ وصلنا إلى الأنوار المجردة، وأخيراً إلى نور مجرد ليس مُسببَّاً عن غيره، وهو نور الأنوار؛ أي: الله.
ومن هذه المجموعة من الكيانات والعلاقات؛ يبني السهروردي نظريته الكوزمولوجية. فهناك أولاً نور الأنوار - وأولويَّته أنطولوجية وليست زمانية. ويصدر عن نوره نور مجرد ثانٍ، ومن هذا النور الثاني يصدر نور ثالث، وهذا ما يسمِّيه السهروردي: «ترتيب الوجود». وفي نقطة ما من هذا الترتيب نجد أثراً مزدوجاً، ينتج نوراً مجرداً من النور السابق عليه، وفلكاً ماديَّاً ينتج عن اعتماده على نور الأنوار وانفصاله عنه في الوقت نفسه. وهذا الفلك هو الفلك الأقصى للعالم، ومنه يصدر نور مجرَّد آخر وفلك آخر، ويتعدد صدور الأنوار المجردة وأفلاكها تباعاً، حتى يصدر النور المادي المتَّصل بالأفلاك، وتأخذ الأنوار المجردة في التعدُّد في المستويات السفلى بتعدُّد الموضوعات التي تعكس الأنوار المجردة الأخرى. وهذه الأنوار المجردة المتعدِّدة مشتركة في الشدة، لكنها متعددة بالعرض [لوجودها في أفلاك متعددة]، وتُسمَّى بالترتيب الأفقي للأنوار رغم انتمائها لمستويات رأسية عديدة. هذه الأنوار المجردة المتعددة هي الصور الأفلاطونية، وهي «أرباب الطلسمات». ولأن الأنوار تضعف في سُلَّم هبوطها؛ فهي تصل لمستوى لا يستطيع عند النور المجرد خلق فلك جديد، وبذلك نصل إلى الأرض. والأنوار المجردة السفلى هي نفوس الكائنات الحية في هذا العالم.
وتتفاعل هذه الأصناف من الأنوار مع العالم المادي بطرق شتَّى. فالأنوار التي هي نفوس الأفلاك تقود الكواكب. وتتعيَّن حركات وأفلاك الكواكب والنجوم بالعلاقات المعقَّدة بين الأنوار المجردة التي في المستوى الأفقي. والأنوار التي هي الصور الأفلاطونية تحفظ مختلف أشياء العالم، وتمنحها صفاتها المتنوِّعة، وتفعل فيها باعتبارها أسبابها الفاعلة. والنفوس أو الأنوار الحاكمة للأجسام تحكم أشياء العالم المفردة.
وهناك صعوبة مرتبطة بالنفس الإنسانية؛ فالنفوس هي أنوار مجرَّدة، لكنها محدثة على العكس من الأنوار [الأزلية] التي تحكم الأفلاك أو الصور الأفلاطونية. ويعتقد السهروردي كغيره من الأفلاطونيين في أن النفس منفصلة عن البدن وتبقى بعد موته. وهو مثل باقي الفلاسفة المسلمين كان يعتقد في أن العالم لم تكن له بداية في الزمان، ومن الواضح أنه كان سيجد صعوبة في تفسير كيفية خلق العالم في الزمان بنظريته الكوزمولوجية هذه. والأسئلة التي تطرح نفسها في هذا السياق هي: متى تأتي النفوس إلى الوجود؟ وما هو عددها؟ وما الذي سيحدث لها بعد الموت؟ وما هي علاقتها بنفوس الحيوانات؟ كان أفلاطون يعتقد في هبوط النفس إلى الأبدان من أعلى، وفي التَّناسُخ. ويعني هبوط النفوس أنها كانت موجودة في عالم عُلوي ثم هبطت إلى عالمنا هذا وصارت متلبِّسة بالمادة. وانتقلت صيغة من معالجة أفلوطين لهذه النظرية إلى كتاب «أثولوجيا أرسطوطاليس»، وقد كان السهروردي على معرفة وثيقة به([31]). وكان هبوط النفس موضوعاً أثيراً للسهروردي في حكاياته الرمزية، لكن لا يتَّضح منها ما إذا كانت مجازاً أم أنها تُعبِّر عن رأيه الحقيقي. وفي «حكمة الإشراق» يُقدِّم معالجة موسعة لنظرية التناسخ؛ التي لا يُرجعها إلى أفلاطون، بل إلى بوذا وحكماء الشرق. وفي هذه المعالجة يشير السهروردي إلى أن النفس الإنسانية هي «باب الأبواب» لكل النفوس؛ أي: إن النفس الإنسانية تصدر عند الميلاد، ثم تنتقل بالوفاة إلى الحيوان المناسب لدرجتها الأخلاقية. وتظل النفوس تتوالد في الحيوانات من كل نوع حتى تتخلَّص من كل شرورها وتصير حُرَّة للصعود إلى عالم النور. واعتقد قطب الدين الشيرازي أن هذه النظرية هي رأي السهروردي الخاص، وهو ما يبدو صحيحاً؛ لأن السهروردي لا يشير فيها إلى مصدر. وليس من غير المعقول أن يعتقد السهروردي في التناسخ؛ إذ كانت هذه النظرية مميِّزة للأفلاطونيين في كل العصور، لكن الغريب أن يتبنَّاها مسلم([32]).
موضوع آخر متصل بما سبق؛ هو نظرية عالم المثال. وستكون لهذه النظرية أهمية كبيرة بعد السهروردي، كطريقة لمعالجة ظواهر متنوعة لا يمكن معها اعتبار الصور على أنها في مواد. وتتضمن هذه الصور: الصور في المرآة، وفي المخيِّلة والمنامات، وبعض المعجزات، والكثير من أحداث وكائنات اليوم الآخر. في هذه الحالات هناك «محلٌّ» مادي للصور، لكن هذه الصور تنكشف بواسطة هذا المحل فقط، لكنها ليست فيه. وكان هذا المفهوم للصور التي تنكشف بواسطة المحل يتَّصف بقوة معتبرة؛ إذ مكَّن الفلاسفة من قبول الواقع الحرفي للظواهر الدينية غير المعقولة فيزيائياً، مثل مشاهد يوم القيامة. وكان مُفضَّلاً للفلاسفة الذين مارسوا تأويلاً مجازياً راديكالياً [للقرآن] مثل ابن رشد في تفسير مشاهد القيامة، لكن كان هذا المفهوم عاماً للغاية وغير ناضج عند السهروردي، وقد طوَّره أتباعه خاصة قطب الدين الشيرازي الذي وضع كتاباً فيه([33]).
ويجب عليَّ أن أشير إلى نقطة مهمة متعلقة بنظريته الكوزمولوجية؛ فهي مكوَّنة من وحدات عينية قابلة للإدراك مع أعراضها العينية. صحيح أن بعض هذه الوحدات لا يمكن إدراكها إلا بعد رحلة تدريب صوفي شاقَّة، إلا أن الأنوار المجرَّدة عينية وواضحة كالشمس. والجهاز الميتافيزيقي المطلوب لتدعيم هذه النظرية ليس ضخماً. فليس في النظرية هيراركيَّة من الصور المفارقة مثيلة للتي في المذهب المشائي -عناصر أولى، أجناس، أنواع، ماهيَّات، أعراض ...إلخ- بل جواهر وأعراضها وحسب. ويضمن الفعل المباشر للأنوار المجرَّدة انتظام الطبيعة. وتبقى الحيوانات والنباتات والمواد كما هي وتحتفظ بطبائعها بفضل الأنوار المجردة، أو العقول الملائكية، أو المثُل الأفلاطونية، أو أيَّاً ما كان مُسمَّاها. فالفعل الذي يصدر عن نورها هو الحافظ لكل شيء في الوجود. إن مذهب السهروردي مختصَر وبسيط على نحو شديد ودقيق مثل مذهب أوكهام أو هيوم.
سياسات الإشراق
نظر السهروردي إلى نفسه على أنه وريث التراث الفيثاغوري والأفلاطوني، وهو تراث اصطدم الكثير من أعلامه بالسُّلطة؛ إذ يقال عن فيثاغورس إنه مات حزناً أو جوعاً بعد أن سقطت الدولة التي أسَّسها في جنوب إيطاليا على يد ثورة ديموقراطية. ونُفي أنباذوقليس، وأُعْدِم سقراط بتهمة باطلة؛ وهي إفساد العقيدة الدينية للشباب، لكن لسبب حقيقي وهو صلاته مع تلاميذه السابقين أمثال ألكيبيادس وكريتياس الذين خانوا الديموقراطية الأثينية. وحاول أفلاطون تعليم طاغيةِ صقلِّيَة الشَّاب، لكنه هرب بعد فشل محاولته. ووفقاً للرواية الأسطورية؛ فقد هرب من العبودية لأن أحد تلاميذه تعرَّف عليه واشتراه في مزاد. وهناك الكثير من الغموض حول موت السهروردي وأسبابه، لكن الصورة العامة واضحة. فجُرمه كان هو تأثيره على الملك الظاهر أمير حلب؛ ابن صلاح الدين الأيوبي. فقد اتهمه بعض رجال الدين بهرطقات كثيرة، منها ادِّعاؤه النبوة؛ ما جعل صلاح الدين الحاكم المسلم الغيور يُصدر أمراً بقتله.
إلا أن للأمر خلفية فلسفية. في مقدِّمة «حكمة الإشراق»؛ مَيَّز السهروردي بين [طبقات من] الفلاسفة: «حكيم بحَّاث» وهو يقصد المشَّائين، و«حكيم مُتألِّه» وهو يقصد الإشراقيين. ويمكن للحكماء أن يكونوا متوغلين أو متوسطين أو ضعافاً في كلا النوعين، إلا أن العناية الإلهية ضمنت ألا يخلو العالم أبداً من الحكمة المتألِّهة. وهذا الحكيم المتألِّه هو الإمام الحقيقي، والذي يسمِّيه الصوفية «القطب»، وهو يحكم في الظاهر أو في الخفاء. وإذا جاد الزمان بحكيم متألِّه وباحث في الوقت نفسه؛ «فله الرئاسة وهو خليفة الله... وإذا كانت السياسة بيده؛ كان الزمان نُوريَّاً»([34]). وليست هذه نظرية سياسية متكاملة، لكنها تذكِّرنا بالنظرية الأفلاطونية في الملك - الفيلسوف. وكان صلاح الدين سينظر إليها على أنها مماثلة على نحو مقلِق للمذهب السياسي للإسماعيليين؛ الميَّالين للفلسفة والذين قضى عليهم صلاح الدين بصعوبة في مصر والشام. وفي الوقت الذي كانت فيه الحملة الصليبية الثالثة تضغط عليه بشدَّة، وكانت حلب على خطوطه الأمامية ونقطة اتِّصاله بالشرق، فليس من الغريب أن يرى في السهروردي خطراً مؤكَّداً، فقرَّر أن ينهي تأثيره على ابنه فأمر بقتله.
المدرسة الإشراقية
بعد مقتل السهروردي؛ هرب تلاميذه، كما يخبرنا كُتَّاب السِّيَر. ولهذه الواقعة أهمية فلسفية؛ لأنها أثَّرت في الاستقبال اللاحق لفكر السهروردي. لم يُنسَ السهروردي بالطبع، إذ كان شخصية نادرة ومات صغيراً. وقد اهتمَّ به المؤرخون وكُتَّاب السِّيَر اللاحقون، وعاش بعض معاصريه وأساتذته ليَرووا عنه، لكن الذي لم يبقَ هو الشروح المقدِّمة لفكره أثناء حياته؛ فهو يشير في «حكمة الإشراق» إلى أنه لن يناقش أسرار الكتاب إلا مع تلاميذه: «ولا نُباحث في هذا الكتاب ورموزه إلا مع المجتهد المتألِّه أو الطالب للتَّألُّه»، وهو يُصرُّ على أن الكتاب لن يفهمه إلا الذي تلقَّى تدريباً صوفياً([35]). ويبدو أن هذا مبالغة منه؛ لأن الكتاب مكتوب بلغة واضحة. ورغم ذلك؛ تظل بعض المسائل غامضة، خاصَّةً العلاقة بين «حكمة الإشراق» وأعماله المكتوبة للمشائين.
ترجع أقدم الشواهد على تفسير علمي لـ«حكمة الإشراق» إلى النصف الثاني من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي - أي: إلى جيل أو اثنين بعد وفاة تلاميذ السهروردي المجهولين، وأقصد بذلك شرح شمس الدين الشهرزوري لحكمة الإشراق. يعلن الشهرزوري بوضوح في مقدِّمته أنه شرح على نص السهروردي (وبإلهام صوفي)، وهذا يعني أنه لم يكن يتبع تراثاً شفاهياً للتفسير. وكذلك شرح قطب الدين الشيرازي، المنشور في 694هـ/ 1295م، إذ هو يتبع نصَّ السهروردي وحسب([36]). والشاهد الآخر على الاهتمام المبكر بكتاب السهروردي؛ فهو الذي يشير إليه ضيائي وأتَّفِق أنا معه، والذي يسمِّيه «النص الصحيح» الذي استخدمه قطب الدين في شرحه. هذا النص الصحيح يُصحِّح الكثير من الأخطاء في النص الذي استخدمه الشهرزوري، والذي كان يعرفه قطب الدين الشيرازي كمخطوط راجعه السهروردي بنفسه. ورغم أننا لسنا على يقين من ذلك؛ إلا أن النص الصحيح يحمل لمسة احترافية. وإلى هذين الشرحين يمكننا إضافة شرح سعد الدين بن كمونة (توفى 683هـ/ 1284م)، وهو فيلسوف من خلفيَّة يهودية؛ شرح أحد أعمال السهروردي «المشائية» حوالي 668هـ/ 1270م([37]). كان هؤلاء الشُّرَّاح الثلاثة هم أوائل دارسي السهروردي، وبعد ذلك صارت فلسفته محلَّ اهتمام الباحثين، إذ استشهدوا به وأدخلوه في كتب تاريخ الفلسفة وعلقوا على أفكاره، لكن لم ترقَ هذه الأعمال إلى المستوى الأكاديمي، وكان «هياكل النور» من أكثر أعماله شرحاً لدى هؤلاء([38]).
ودائماً ما كان قرَّاء السهروردي المتأخرين يعاملونه على أنه فيلسوف. كما عمل شُرَّاحه الأوائل على ترجمة ميتافيزيقا الأنوار في مذهبه إلى اللغة الفلسفية. كانت هذه الميتافيزيقا محلَّ إعجاب، لكنها أثَّرت بشدة على الشعراء والصوفية، لا الفلاسفة. والنقاط التي كانت محل اهتمام فلاسفة الإسلام المتأخِّرين؛ كانت هي التي نقد فيها ابن سينا: الوجود، باعتباره وجوداً اعتبارياً في العقل، والصور الأفلاطونية، والمعرفة بالحضور المباشر، ونقاط أخرى معدودة. كانت هذه مسائل حاسمة، وشكَّلت أجندة الفلسفة الإسلامية التالية عليه. فقد ناقش الفلاسفة المتأخرون مسائلَ مثل ما إذا كانت الأولوية للماهيَّة، وهو موقف السهروردي والميرداماد، أو ما إذا كان للوجود أولوية، مثلما نجد لدى صدر الدين الشيرازي والسبزواري، من بين كثيرين آخرين. وقد تشكَّلت خلافات عميقة واحترافية حول هذه المسائل، واستمرت إلى يومنا هذا في مدارس قُم.
وكان لتراث السهروردي جانب شعبوي وقومي؛ إذ إن إعلاءه من شأن حكماء الشرق لفتَ انتباه الشُّرَّاح، ومن أهمهم العلماء الزرادشتيُّون في الهند الذين اعتقدوا أن تأكيده على المصدر الفارسي القديم لفلسفته يعني أن فلسفته كانت تعبيراً عن الحكمة السرِّيَّة للحكماء الزرادشتيين. وبذلك اتخذت صورة شعبوية من فلسفته هالة من التبجيل في الهند، في صورة نص فارسي قديم منحول، وهو «الدساتير». وأخيراً نجد أن تفسير هنري كوربان بالغ التأثير لفلسفة السهروردي يستند على مؤلِّفي «الدساتير» الزرادشتيين وعلى نصوص أخرى مرتبطة بهذا التراث([39]).
وشهدت فلسفة السهروردي إحياءً ثانياً في القرن العشرين في عهد الأسرة البهلوية في إيران. وكما حدث في تركيا؛ سعى حكَّام إيران في القرن العشرين لتخليص لغتهم القومية من تأثير العربية، وكان تأثير العربية يضمحل على المستوى الثقافي لدى الشباب الإيراني الذي كان يُفضِّل تعلم اللغات الأوروبية، واجتمع هذان التوجُّهان [لدى النخبة ولدى الشباب] في إحداث زيادة في الطلب على كلاسيكيات الأدب الفارسي -فقد كان الشعر الفارسي متوافراً ووفيراً- وعلى أبطال القومية الفارسية. وتناسبت فلسفة السهروردي بأصولها وأقاصيصها الرمزية الفارسية مع هذا التوجُّه الحديث. وصارت قصصه الرمزية مقروءة على نحو واسع، ونظر إليها الكثير من الباحثين والفلاسفة [الإيرانيين] على أنها النقطة الجوهرية في فلسفته. والحقيقة أن هذه النظرة خاطئة؛ لأن أقاصيصه الرمزية كانت تعليمية [هدفها إعداد الطالب لقبول مذهبه الإشراقي]، ولا تحوي مذهبه الذي طوَّره لاحقاً. وإنني على يقين من أنها كانت للقارئ العادي وللطُّلاب وحسب([40]).
يمثل السهروردي لحظة فارقة في الفلسفة الإسلامية، وهي القطيعة مع فلسفة ابن سينا المشَّائية. فقد هاجم السهروردي نظريات مشَّائية أساسية، مثل تشيُّؤ ·reification التجريدات الميتافيزيقية كالوجود، مدافعاً بدلاً من ذلك عن نزعة اسمية أفلاطونية دقيقة. وكان تأثيره حاسماً على المستوى الفلسفي، ووضع الأجندة التالية للفلسفة الإسلامية المتأخرة [التي انشغلت بمسائل نابعة من فكره مثل]: ما هي طبيعة الوعي وكيف يُشكِّل ما نعرفه؟ وكيف نخبر المعرفة أياً ما كان مصدرها الحسي أو آلياتها في التجريد؟ والأسئلة التي طرحها هي نفسها أسئلة الأفلاطونيين والصوفية، مثل طبيعة العالم المعقول وطبيعة العالم الداخلي للنفس البشرية. وأخذ الفلاسفة التالين مثل صدر الدين الشيرازي -أعظم الإسكولائيين المسلمين- يبنون قصوراً عقلية ضخمة على قواعد وضعها السهروردي. ولا يزال علماء الدين المتفلسفون في المدن المقدَّسة مثل مشهد وقُم يتجوَّلون حيارى في أروقة هذه القصور الضخمة، والأسئلة التي حيَّرتهم هي نفسها التي طرحها السهروردي.
([1]) كتبت هذا الفصل بالاستناد على ثلاثة مؤلَّفات وضعتها عن السهروردي ومدرسته: Walbridge [154] ,,[155],[156]. ويجد القارئ عدداً من الكتب الأخرى المخصصة للسهروردي من بينها: Corbin [150] , Corbin [7], Nasr [151], and Aminrazavi [149]; and also Ziai [158].
([2]) لا تتصل كلمة «فلسفة صوفية» theosophy في هذا السياق بالفرقة الدينية الحالية، إذ استخدمها أحد أهم دارسيه المعاصرين وهو هنري كوربان، والذي أخرج لنا الطبعة الحديثة المحققة لمؤلَّفاته. والحقيقة أن تفسير كوربان لفكره يعكس مشروعه الخاص، المتأثر بالدعوة إلى دراسة نصوص الفلاسفة القدماء كهدف في حد ذاته وكطريق لتنمية فكر المرء، وكذلك الفكر الماسوني الحديث والفلسفة القارية خاصة فلسفة هايدغر ويونج. وقد أيد تفسير كوربان للسهروردي كل من سيد حسين نصر ومهدي أمينرازافي وغيرهما من الباحثين المعاصرين المتخصصين في فكره. هذا التفسير الصوفي لفلسفة السهروردي هو جزء من تيار معاصر يعالج تاريخ الفلسفة في الإسلام بالتشديد على العناصر الصوفية المتجذرة في التراث الصوفي والأسطوري الإيراني القديم. وسوف أوضح تباعاً اختلافي عن هذا التيار، لكن يجب على القارئ الانتباه إلى أنني أمثِّل أقليِّة من الباحثين.
([3]) انظر قائمة بالمصادر الأصلية عن حياة السهروردي في: Suhrawardi [152] , 165 n. 1. وأهم مصدرهو كتاب الشهرزوري، نزهة الأرواح، وهو معجم للسير الذاتية للفلاسفة القدماء وفلاسفة الإسلام، والجزء المتعلق بالسهروردي مترجم في Suhrawardi [153] , ix–xiii، والسير الذاتية الحديثة مكتوبة بالاعتماد على هذا الجزء.
([4]) Suhrawardi [152], para. 166
([5]) السهروردي، التلويحات، ص70 – 74؛ تَرْجَمتُ هذا الجزء في، Walbridge [155], at 225–9، حيث أضفت إحالات لترجمات أخرى ودراسات عن منام أرسطو.
([7]) Suhrawardi [152], para. 279
[السهروردي، حكمة الإشراق، في «مجموعة مصنفات شيخ إشراق»، بتصحيح ومقدمة هنري كربين، طهران، 1373هـ، ص258 (فقرة 279). المترجم].
([8]) انظر Ziai [159] and Walbridge [155] , 201–10. لمناقشة موسعة لظروف موت السهروردي وبواعث قتله.
([9]) Suhrawardi [152], para. 3
[السهروردي، حكمة الإشراق، مرجع سابق، ص10، فقرة 3. (المترجم)].
([10]) See Suhrawardi, Le livre de la sagesse orientale : Kitab hikmat al-ishraq, ed. Christian Jambet (Paris: 1986), and the introductions to Suhrawardi, Majmu‘a-yi musannafat-i shaykh-i ishraq: Oeuvres philosophiques et mystiques, ed.H. Corbin, 3 vols. (Tehran: 1976–7), (1)بالإضافة إلى أعمال كوربان المذكورة في الهامش .
([11]) See Walbridge [154], 194–5
([12]) إدريس ذُكِر في القرآن على أنه نبي في (مريم 56)، و(الأنبياء 85)؛ حول هوية هرمس وربطه مع إينوخ وإدريس، انظر Walbridge [156] , 17–24
* أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس التستري (200 – 283هـ)، متصوف سني فارسي من خوزستان.
([13]) See Walbridge [155], 27–35
([14]) P. Kingsley, Ancient Philosophy, Mystery, and Magic: Empedocles and Pythagorean Tradition (Oxford: 1995).
* العلوم الباطنية هي التنجيم والخيمياء والسحر.
** Giordano Bruno (1548 – 1600) فيلسوف ورياضي وشاعر إيطالي، تبنى نظرية كوبرنيقوس في الفلك ومذهب وحدة الوجود، وقال بعوالم متعددة وبلاتناهي الكون، وأنكر العقائد الدينية الكاثوليكية مثل الثالوث وألوهية المسيح وولادته من عذراء وبعثه، وأنكر الخلود في النار، وأُحْرِقَ في روما سنة 1600
([16]) Walbridge, J. The Wisdom of the Mystic East: Suhrawardi and Platonic Orientalism (Albany, NY: 2001).
([17]) Walbridge [154], 40–55, Walbridge [155], 21–3
([18]) See Avicenna [205], Yazdi [157].
([19]) عرض الغزالي هذه الإشكالية في «تهافت الفلاسفة» و«المنقذ من الضلال»، ورد عليه ابن رشد في «تهافت التهافت»، والفقرات كلها مترجمة في، Freedom and Fulfillment: An Annotated Translation of Al-Ghazali’s “al-Munqidh min al-Dalal” and Other Relevant Works of al-Ghazali (Boston, MA: 1980), and Averroes [139].
([20]) [السهروردي، حكمة الإشراق، في «مجموعة مصنفات شيخ إشراق»، بتصحيح ومقدمة هنري كربين، ص99 – 103 (فقرات 101 – 105)]؛ Walbridge [155], 157–64.
([21]) Walbridge [155], 164–81
* حيث «العاقل» هو الماهية التي تفصل نوع الإنسان عن جنس الحيوان.
([22]) [السهروردي، حكمة الإشراق، ص19 – 21 (فقرة 14 – 15). Ziai [158], 77–127; Walbridge [155], 143–8; Walbridge [154], 101–4.
([23]) ليست هناك ترجمة إنجليزية دقيقة لهذا المصطلح، وليس هناك معادل له في الفكر الفلسفي الغربي الحديث، وإن كان المصطلح الوسيط «ترانسندنتالي» يقترب منه؛ أما مصطلح «المقاصد الثواني» second intentions فهو بعيد عنه قليلاً، ويجب الاحتفاظ به لترجمة «المعقولات الثانية» في المنطق. وقد استخدمتُ مصطلح أنشأتُه من عندي هو «خيالات عقلية» intellectual fictions في دراستي Walbridge [154]، أما في هذا الفصل فأستخدم «كيانات عقلية» beings of reason وهو مصطلح وسيط استعرته من صديقي بول سبيد Paul Spade. وحول سؤال الوجود وما إذا كان اعتبارياً، انظر T. Izutsu, The Concept and Reality of Existence (Tokyo: 1971), 99–102
([24]) [السهروردي، حكمة الإشراق، ص64 – 72، الفقرات (56 – 68]
([25]) ابن سينا، الشفاء (الإلهيات)، نشرة مدكور وقنواتي وزايد، ص29 – 36
([26]) Thomas Aquinas, Commentary on Aristotle’s “Metaphysics,” trans. J. P. Rowan (Notre Dame, IN: 1995), paras. 556–8
([27]) [السهروردي، حكمة الإشراق، ص74 – 88، الفقرات (72 – 88)]؛ Walbridge [154], 98–100; J. Walbridge, “Suhrawardi on Body as Extension: An Alternative to Hylomorphism from Plato to Leibniz,” in T. Lawson (ed.), Reason and Inspiration: Essays in Honour of Hermann Landolt (London: 2005). لا تزال أعمال السهروردي في الفلسفة الطبيعية غير منشورة، إلا أن ابن كمونة قد ناقش بتوسع نظريته في الأجسام والمادة والصورة: ابن كمونة، التنقيحات في شرح التلويحات ed. H. Ziai and A. Alwishah (Costa Mesa, CA: 2002).
([28]) See Walbridge [154], chs. 32–9
([29]) إن ميتافيزيقا السهروردي في «النور» واضحة في القسم الثاني من «حكمة الإشراق»، وقد قمت بتلخيصها في Walbridge [154], 40–78، وبطريقة أكثر اختصاراً في Walbridge [155], 19–26.
([30]) قطب الدين الشيرازي، شرح حكمة الإشراق، تحقيق عبد الله نوراني ومهدي محقق، طهران 1379هـ، ص275
* هادي بن مهدي بن هادي السبزواري (1797- 1873)، فيلسوف إيراني ومتصوف، يمثل في عصره تيار الحكمة المتعالية.
([31]) Walbridge [154], 130–41. The Theology of Aristotle, trans. G. Lewis in Plotini Opera, ed. P. Henry and H.-R. Schwyzer (Paris: 1959), vol. II, 219
([32]) [السهروردي، حكمة الإشراق، الفقرات 229 إلى 236، ص216 – 222]؛ Walbridge [154], 141–9;Walbridge [156], 73–80. See further P. E. Walker, “The Doctrine of Metempsychosis in Islam,” in W. B. Hallaq and D. P. Little (eds.), Islamic Studies Presented to Charles J. Adams (Leiden: 1991), 219–3.
([33]) حول الكتاب وترجمته، انظر Walbridge [154], 196–271.
([34]) [السهروردي، حكمة الإشراق، الفقرة 5، ص12]، انظر أيضاً، Ziai [159]; Walbridge [155], 201–10.
([35]) [السهروردي، حكمة الإشراق، الفقرة 6، ص13].
([36]) شمس الدين الشهرزوري، شرح حكمة الإشراق، تحقيق حسين ضيائي، طهران، 1993؛ يشرح الشهرزوري كل فقرة من «حكمة الإشراق»، أما قطب الدين فيجمع عدة فقرات ويقدم لها شرحاً واحداً.
([37]) ابن كمونة، التنقيحات في شرح التلويحات، تحقيق مظفر حسين كاشاني، مخطوط مؤرخ بسنة 1850. انظر H. Ziai, “Ebn Kammuna,” in E. Yarshater (ed.),Encyclopaedia Iranica (New York: 1999).
([38]) انظر على سبيل المثال، B. Kuspinar, Isma‘il Ankaravi on the Illuminative Philosophy (Kuala Lumpur: 1996). ولسوء الحظ، فإن المنشور من هذه الدراسات قليل للغاية، ولم تُتَرجم إلى لغات أوروبية.
([39]) The Desatir, or Sacred Writings of the Ancient Persian Prophets ..., 2 vols. (Bombay: 1818). H. Corbin, Encyclopaedia Iranica, s.v. “Azar Kayvan”; Walbridge [156], 91–105
([40]) Suhrawardi [153]; Walbridge [155], 97–116; Walbridge [156], 105–10