السوسيولوجيا البراغماتية لدى لوك بولتانسكي
فئة : مقالات
مفتتح القول
تسعى هذه المقالة إلى تسليط الضوء على تيار سوسيولوجي جديد، بدأ ينتشر في سنوات الثمانينيات من القرن العشرين، حيث يشار إليه بالعديد من الأسماء، مثل "سوسيولووجيا النقد" أو "سوسيولوجيا أنظمة الفعل" أو "سوسيولوجيا الامتحان" أو "سوسيولوجيا التعاهدية" (conventionalism)، غير أنه مشهور كثيرا باسم "السوسيولوجيا البراغماتية". فقد احتل هذا المنظور السوسيولوجي مكانة متميزة بفرنسا، نظرا لأنه أصبح له تأثير كبير على باقي العلوم الاجتماعية مثل الأنثروبولوجيا وعلم الاقتصاد.
إن مهمتنا في هذه المقالة، بطبيعة الحال، ليست بالمهمة السهلة، لأننا نتحدث عن سوسيولوجيا تنتمي إلى أحد أهم علماء الاجتماع بفرنسا، وهو عالم الاجتماع الفرنسي "لوك بولتانسكي" (Luc Boltanski)، وذلك لأن هذه السوسيولوجيا تتميز بالتعقيد والغموض حتى بالنسبة إلى المختصين في علم الاجتماع، بسبب أن بولتانسكي يستخدم مفاهيم مختلفة كثيرا عن المفاهيم الكلاسيكية المتعارف عليها في الحقل السوسيولوجي، والتي يستمدها من حقول معرفية أخرى مثل (السياسة، والاقتصاد، القانون، الفلسفة، علم النفس، والإدارة، إلخ).
تتميز السوسيولوجيا البراغماتية بأنها تأخذ بعين الاعتبار قدرة الفاعلين على التكيف مع الأوضاع المختلفة للحياة الاجتماعي
أولا: نبذة عن لوك بولتانسكي
ولد لوك بولتانسكي في باريس عام 1949، وهو متخصص في علم الاجتماع، ورئيس قسم الدراسات في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس، حيث أسس مجموعة علم الاجتماع السياسي والأخلاقي "(Groupe de Sociologie Politique et Morale (GSPM"، وهو شخصية معروفة بأحد رواد المدرسة "البراغماتية" Pragmatic الجديدة التي تعد في الأصل اتجاها متعدد التيارات، ومستوحاة من الإثنوميدولوجية وسوسيولوجيا العلوم وسوسيولوجيا الفعل.
يعدّ بولتانسكي شخصية بارزة في الفكر النقدي، فقد كتب أعمالًا لها تأثير واسع النطاق في مجالات علم الاجتماع والاقتصاد السياسي والاجتماعي والتاريخ الاقتصادي، حيث يهتم حاليا بالتعبيرات الحالية في نقد الرأسمالية. كما أنه يدرس تداعيات التغييرات في الرأسمالية على أداء عالم الفن، ومن أهم أعماله المنشورة ما يلي:
- التسويغ: اقتصادية العظمة (De la justification. Les économies de la grandeur).
- إنتاج الإيديولوجيا السائدة (La Production de l'idéologie dominante)
- الروح الجديدة للرأسمالية (Le nouvel esprit du capitalisme).
- النقد: سوسيولوجيا متحررة (De la critique. Précis de sociologie de l'émancipation).
ثانيا: طبيعة السوسيولوجيا البراغماتية
تعد البراغماتية في الأصل، من أحدث النظريات التي ظهرت في الحقل السوسيولوجي المعاصر بفرنسا. فقد كانت انطلاقتها الرسمية مع لوك بولتانسكي ولوران ثيفنو (Laurent Thévenot) من خلال صدور كتاب مشترك لهما بعنوان (Les économies de la grandeur) الصادر في سنة 1987، والذي أعيد تناول جزء أساسي منه في كتاب آخر بعنوان (De la justification) في سنة 1991، ليتم توسيع قاعدتها بمقالات ودراسات تم جمعها في مجلة اقتصادية في سنة 1992.
يعود أصل هذه السوسيولوجيا إلى تيار "الفردانية المنهجية"، وتسعى أن تكون نقدية تجاه الاقتصاد الكلاسيكي الجديد الذي ينتصر للفرد، ونقدية تجاه السوسيولوجيا الكلاسيكية التي تنتصر للبنية وتأخذ ما هو اجتماعي على حساب الفرد، موضحة بذلك أن الفرد يمارس فعله ضمن ما هو اجتماعي من خلال التوافقات والمعاهدات التي تحدث بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع.
تتميز السوسيولوجيا البراغماتية بأنها تأخذ بعين الاعتبار قدرة الفاعلين على التكيف مع الأوضاع المختلفة للحياة الاجتماعي، وهي تنتمي إلى ما يسمى بنظرية النقد التي تقوم على «وصف وتحليل الطريقة التي يسم من خلالها الفاعلون في حد ذاتهم الموجودات التي تشكل محيطهم، مساهمين بالتالي في إنجاز العالم الاجتماعي»[1].
وتمثل سوسيولوجيا بولتانسكي أسلوب جديد لفهم العالم الاجتماعي، فهي تحاول أن تتجاوز كل التفسيرات والتحليلات حول نظرية العالم الاجتماعي التي تميز بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، والتي تقوم أساسا على الهيمنة، وهي عبارة عن تيار توليفي يتجاوز ذلك التعارض بين الفردي والجماعي، من خلال إدماج مجموعة من النظريات المتعددة، سواء التي ظهرت في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في قالب نظري واحد وقوي يعتمد على الأبحاث الإمبيريقية في مقاربة مجموعة من القضايا المرتبطة بالقانون والعدالة والهجرة، إلى جانب الأخلاق، فهي عبارة عن «سوسيولوجيا أخلاقية تريد أن تعطي للنشاط المعياري مكانته الكاملة»[2] ضمن الحقول الاجتماعية والثقافية.
وما يميز البراغماتية أنها حاولت الإفلات من التعارض الطقوسي بين الجماعي والفردي، بين النسق والفعل، بين الكلي والجزئي، بين الذاتي والموضوعي، إذ يتميز إطارها التحليلي «تناول مشكلة مركزية في العلوم الاجتماعية، وهي إمكانية الاتفاق بين أعضاء المجتمع، أو بصفة أخرى ترى في مسألة الاتفاق إحدى المسائل الأساسية التي ورثتها العلوم الاجتماعية عن الفلسفة السياسية»[3]، وهي سوسيولوجية ترفض الحتمية عند بورديو، كما ترفض وجود فرد عقلاني أحادي الشكل عند ريمون بودون (Raymond Boudon)، حيث ترى أن الفاعلين (acteurs) هم أشخاص تتنوع أحوالهم بحسب الوضعيات والسياقات والشروط الاجتماعية، التي تجعلهم كائنات متعددة، فهذه السوسيولوجيا «تدعونا، إلى صقل أدوات تحليل تأخذ بعين الاعتبار تعدد صيغ الانخراط في العالم على حد تعبير فيليب كوركوف، عوض المقولات السوسيولوجية المألوفة مثل الطبقة الاجتماعية، والمكانة والدور والثقافة والمجتمع والسلطة وغيرها»[4].
في كتابه بعنوان: "النقد: سوسيولوجيا التحرر"، يدافع بولتانسكي عما يسميه "علم اجتماع النقد" في مقابل "علم الاجتماع النقدي" الذي يتميز به بورديو؛ فهو يرى «أن المشاكل التي طرحتها الطريقة التي استخدمت بها فكرة الهيمنة في علم الاجتماع النقدي تتميز بأنها غامضة في طابعها. فالاستخدام الواسع لمفهوم الهيمنة يؤدي إلى تصور جميع العلاقات والأفعال في أبعادها العمودية، انطلاقا من العلاقات الهرمية الواضحة إلى أكثر الروابط الشخصية (...) وأن الفاعلين غالبا ما يعاملون على أنهم كائنات مخدوعة، حيث يتم الاستهانة بهم وتجاهل قدراتهم الحيوية على الخصوص، ويتم الأخذ بقاعدة الممارسة وإهمال المواقف. في حين يمكن ملاحظة المواقف ووصفها بوضوح من قبل الجهات الفاعلة في سياق حياتها اليومية»[5].
ويصف الأستاذ محمد أركون حول نقد بولتانسكي لسوسيولوجيا بورديو بقوله: «يركز على المحدوديات الوصفية والسلبية للفكر النظري أو التنظيري لبورديو. إنه يركز على ذلك بشكل منتظم وعلى طول الخط (...) فهو يريد أن يدفن بسرعة غريبة الفكر الأكثر خصوبة وغنى مع جثة صاحبه»[6].
وعليه، طور لوك بولتانكسي ولوران ثيفنو ما يسمى "سوسيولوجيا النقد"، من أجل التغلب على أوجه القصور الملحوظة في "علم الاجتماع النقدي" البورديوسي (Bourdieusian)، حيث كانا يهدفان معا إلى الابتعاد عن سوسيولوجيا بورديو التي طغت عليها الشمولية، من خلال الاعتراف بدور عدم اليقين في الحياة الاجتماعية. وأيضا بسبب إهمالها النسبي لوجهات النظر الفاعلة في المجتمع، بالإضافة إلى نظرتها للفاعل الاجتماعي بأنه غير واع بأشكال الهيمنة الخفية التي تمارس عليه، وأنه مجهز بنوع من أنظمة الكمبيوتر الداخلية، التي تمكنه من إجراء الحسابات الإستراتيجية حتى توفر له خيارات عملية معينة.
إن الغرض من السوسيولوجيا البراغماتية عند بولتانسكي هو أن يشرح للأشخاص المعنى الحقيقي لما يفعلونه، من خلال الأخذ بمواقفهم وتبريراتهم التي تجعلهم يمارسون أفعالهم وفق منظورهم الخاص، وليس على افتراض أن المهمة الرئيسة لعلم الاجتماع هي شرح وتوضيح، حيثما أمكن، من خلال اعتماد نموذج نظري جاهز في فهم العالم الاجتماعي، والذي يمارسه بعض علماء الاجتماع، باعتبارهم وحدهم هم القادرون على رؤية كيف يتم إخضاع الناس من خلال البنية والعمليات الاجتماعية. وخلافا لذلك، فإن بولتانسكي يدعو إلى "علم اجتماع براغماتي" الذي «يقر تماما بالقدرات الحاسمة للجهات الفاعلة والإبداع الذي ينخرطون به في التأويل والفعل»[7]، حيث يفترض في هذا الجانب، أن يقوم عالم الاجتماع بإظهار الكيفية التي يستفيد منها الأشخاص من التصرفات والأفعال التي تحدث لهم في المواقف المختلفة اعتمادا على منطقهم الخاص، وخصوصا إن كانت داخل نزاعات معينة.
تتميز أعمال بولتانكسي أنها تبحث عن الطرق التي يبرر بها الأشخاص تصرفاتهم ويضفون الشرعية على آرائهم للآخرين في مواقف يومية عادية، فقد عمل بولتانسكي وزميله تيفينو في أحد أهم أعمالهما المشتركة بعنوان "التسويغ: اقتصاديات العظمة" بطرح مشكلة في العلوم الاجتماعية، «وهي مشكلة أشكال المشروعية التي يستند إليها الأفراد في الحياة الاعتيادية من أجل التوفيق بين أفعالهم أو من أجل تسويغ النقد الذي يوجهونه إلى بعضهم البعض»[8]. فالسؤال الجوهري الذي ينطلق منه بولتانسكي وتيفينو هو كيف يبرر الفاعلون مواقفهم؟ كيف يتوصل الفاعلون إلى اتفاق؟
والكتاب كما هو معلوم، لا يقدم إجابات دقيقة فقط، بل إنه يقدم طريقة جديدة في ممارسة علم الاجتماع، مما يعطي اهتمامًا واضحًا للبنية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية.
بالنسبة إلى بولتانسكي وتيفينو، فإن موضوع البحث السوسيولوجي ليس هو الفاعل الاجتماعي أو البنية الاجتماعية، ولا طبيعة العلاقة التي تربط بين الاثنين. الأمر الأكثر أهمية بالنسبة إليهما هو "أنظمة التبرير"؛ أي مجموعة من الحجج ومبادئ التقييم التي يستعملها الأفراد في عملية تحديد ما إذا كان سيكون الإجراء أو الفعل أكثر مشروعا. والتبرير عبارة عن نظام عمل عندما يكون هناك نوع من الخلاف بين الأفراد، حيث يجب تبرير الممارسة أو التصرفات، وذلك عن طريق تقديم بعض الحجج التي تحدث لهم في مواقف معينة. وقد ركز بولتانسكي على مفهوم «التوافقات conventions التي تسمح بالتصرف أو العيش المشترك حول أشكال من العظمة grandeurs؛ أي مبادئ وقيم مرجعية يلجأ إليها الفاعلون الاجتماعيون عندما يريدون إظهار عدم رضاهم. عدا عن ذلك، فإن القيم والمعايير المضمرة التي تنتظم حولها التصرفات غالبا ما تتكشف في أوقات النزاع»[9].
في هذا العمل التأسيسي لما يسمى البراغماتية، يدرس بولتانسكي وزميله تيفينو مجموعة واسعة من المواقف التي يبرر فيها الناس تصرفاتهم، ويعتبران معا أنه من أجل الحد من الخلافات والنزاعات لا بد من التوافق، وهذا الأخير «هو الإطار المشترك الذي يسمح بالقيام بالفعل: اتفاق على إيقاع العمل أو حول نوعية العمل المنجز»[10]؛ معنى ذلك أن الرابط الذي يجعل من الأفراد يتوافقون هو ما يتعلق بإلزامية التبرير التي تنتج عن دافع الأفراد في القول والفعل، «وعليه تكون أفعال الفرد عقلانية تقبل التبرير عندما توجد مبررات تقف وراء قراره (بمعنى أنها تعبر عن نفسها في إطار القيود المفروضة أيضا على الآخرين) يفهمها المجتمع، فنقول أن متطلب المبرر الحسن يختلط بطابع القبول من الآخرين والموضوعية لتأسيس مقولة واحدة للمعقول»[11].
يعتبر كل من بولتانسكي وتيفينو أن التبريرات تقع في ستة عَوالم أو مدائن (Cités) رئيسة تستمد من نصوص ومرجعيات خاصة بالفلسفات السياسية والأخلاقية، وهي: الإلهام (أوغسطين Augustine)، والمنزلي (بوسوي Bossuet)، والرأي أو الشهرة (هوبز Hobbes)، والمواطنة أو المدنية (روسو Rousseau)، والسوق (آدم سميث Adam Smith)، والصناعي (سان سيمون Saint-Simon).
تمثل هذه المدائن تلك المشروعيات التي يتم حولها بناء التوافقات، حيث يقول ببولتانسكي: «في "عالم المنزل"، تكتسب الأفعال مشروعيتها عن طريق الصلات الشخصية. وفي "عالم المواطنة" يكون مبدأ المشروعية المسيطر هو الصالح العام، أو المصلحة العامة. أما "عالم الصناعة"، فيشدد على المردود والإتقان. وبخصوص "عالم التجارة"، وحدها المصالح الفردية، التبادل والتنافس، هي صاحبة المشروعية. أما "عالم الرأي"، فتكون السمعة والشهرة ونظرة الآخرين هي التي تشرعن الأفعال»[12].
وهذه "المدائن" تعتمد عليها الجهات الفاعلة في ميدان النزاعات، فكل فرد يبحث لنفسه عن مدينة، لكي يتطابق معها من أجل مصلحته الخاصة، ومن مميزات هذه المدائن أنها تبقى في معظمها منغلقة على ذاتها، كما أن كل واحد من هذه المدائن «لا يتقاطع مع نطاق من الأنشطة أو مع وسط ما، ففي داخل كل مجال من الفعاليات هناك مبادئ للتسويغ متباينة تأتلف أو تتصادم»[13].
يمكن القول، إن السوسيولوجيا البراغماتية تنظر إلى المجتمع على أنه مركب وأكثر تعقيدا؛ بمعنى أنه متعدد القراءات، فهي تعتبر وجود أنظمة متمايزة ومتعددة يكون فيها الفرد يوميا متصلا بها حسب وضعية الحياة الاجتماعية، حيث يفترض دائما في الفرد أن يكون مستعدّا للتعرف عليها وإظهار قدرته على التطابق معها. فهي تولي أهمية كبرى لتعدد السجلات التي يحملها الفاعل أي تعدد نسق الفعل، مما يسمح له بالتصرف في عوالم مختلفة. وهذا راجع أساسا إلى امتلاكه مجموعة من الكفاءات الضرورية التي تجعله يعيش ويتطابق مع عوالم متعددة ومتمايزة.
تتميز أعمال بولتانكسي بكونها تبحث عن الطرق التي يبرر بها الأشخاص تصرفاتهم ويضفون الشرعية على آرائهم للآخرين في مواقف يومية عادية
ثالثا: مفاهيم السوسيولجيا البراغماتية
تتميز كل سوسيولوجيا بأنها تؤسس مفاهيمها الخاصة، مثل ما نجده عند بيير بورديو بالنسبة إلى مصطلح "الهابيتوس" (Habitus)، وعند أولريش بك (Ulrich Beck) بالنسبة إلى مصطلح "المخاطرة" (Risk). أما بالنسبة إلى السوسيولوجيا البراغماتية، فإن كل من مفهوم "البراغماتية" ومفهوم "المدينة/المدائن" ومفهوم "الكفاءة" (Capacity) ومفهوم "الامتحان" (test)، يمثلون جميعا جوهر هذا الأسلوب الجديد في السوسيولوجيا.
1 ـ مفهوم البراغماتية
يحيل مفهوم البراغماتية عند بولتانسكي إلى «البراغماتية اللغوية من حيث إنها تؤكد على استعمالات الفاعلين لموارد القواعد النحوية في امتحان الوضعيات الملموسة التي يعيشونها»[14]؛ أي أنهم يستخدمون مجموعة من التعبيرات اللغوية التي تمكنهم من تبرير أفعالهم وتصرفاتهم التي تكون في كثير من الأحيان متعارضة فيما بينهم، وهذه التعبيرات اللغوية تكون مستمدة من القيم والمبادئ التي تدخل ضمن إطار العوالم أو ما يسميه بالمَدائن.
هذا ويدعو بولتانسكي، وبصورة أدق، إلى التمييز المشترك بين الدلالات (التي تفهم المعنى كعلاقة بين رمز وكائن مرمز) والبراغماتية (التي تدرس الاستخدامات السياقية للغة وهذا يعني الاعتماد على السياق)[15]. فالدلالات تدور حول العلاقة بين الوضعية والتركيبات الرمزية؛ أي أنها تتعلق بـ "بناء الواقع" في مجال الخطاب. أما البراغماتية اللغوية، فإنها مهتمة بالإنتاج السياقي لمعاني الألفاظ، وتأخذ في الحسبان أفعال الكلام، ومبادئ الاستنتاج، التي تسهل فعل التواصل لدى المتكلم.
وما هو مميز في نهج بولتانسكي أنه يسعى إلى بناء "قواعد واسعة للعمل نحو الأخلاق"، حيث تتضمن عملية البناء هذه أربع عمليات[16]:
ـ العملية الأولى: تناول مسألة النقد بطريقة تختلف عن علم اجتماع بورديو؛ أي من خلال ربطها بأسباب أخلاقية، أبرزها الإحساس بالعدالة.
ـ العملية الثانية: تحليل الفعل من خلال مراعاة كل من المتطلبات المعيارية التي تواجهها والقيود التي يجب أن تأخذها بعين الاعتبار، خاصة لأنها مدرجة في عالم الأشياء.
ـ العملية الثالثة: تحديد المبادئ التأسيسية وتنظيمها في "نموذج". تطبق هذه النمذجة على "الإحساس بالعدالة"، وهي تعيد بناء "تنظيم الدعم المعياري الذي يمكن أن يستند إليه الأشخاص في انتقاداتهم".
ـ العملية الرابعة: تتمثل في ربط تحليل الفعل بتحليل المواقف.
2 ـ المدائن الست:
المدينة أو المدائن عند بولتانسكي وتيفينو تعني نموذج عدالة وليست وصفا إمبيريقيا لأحوال العالم، فالمدائن مفهوم «يرمي إلى نمذجة نوع العمليات التي يقوم بها الفاعلون خلال خصامهم عندما تعترضهم إلزامية التسويغ»[17]. كما أنه مفهوم يعبر عن شبكة لقراءة التصرفات الفردية والتعبير عن تغلغلها فيما هو اجتماعي.
- المدينة الملهمة: وتسمى أيضا مدينة الإله، وهي تستمد مرجعيتها من القديس أوغسطين، وتتضمن مجموعة من العلاقات المنسجمة للوفاق بين الكائنات، فهي تشير إلى عالم يحدد فيه الأشخاص موقعهم نسبة إلى القيم المتعالية، وأساس هذه المدينة هو الإلهام باعتباره نعمة، نظرا لأن هذه الأخيرة تتأسس على الإحسان ومحبة القريب، وقائمة على التضحية ونكران الذات، فالأولياء والصالحين والمجددين موجودون في هذه المدينة.
- مدينة المنزل أو البيت: وهي مدينة بنيت من أفكار بوسوي، فالرابط الأساسي بين الكائنات داخل هذه المدينة هو ما يتأسس على نموذج القرابة، حيث يضحي الفرد بنفسه وبسعادته من أجل سعادة مشتركة، إذ يتوقف عظمة الأشخاص على الموقع الذي يحتلونه داخل الروابط الاجتماعية التي تقوم على التراتبية الاجتماعية، وهذا الأمر ينطبق على المثال الذي قدمه بوسوي حول الملك باعتباره الأب الذي يضحي بنفسه من أجل رعيته.
- مدينة الرأي: تسمى مدينة السمعة كذلك، وهي مستوحى من وصف "توماس هوبز" للشرف، وتتأسس بالضرورة على رأي الآخرين، وهي مستقلة عن التقدير الذي يوليه الشخص لنفسه، في هذه المدينة يرتبط بناء العظمة بالاعتراف العام، وذلك من خلال تقدير الناس لبعضهم البعض، مثل القادة والزعماء والصحفيين، نظرا لكونهم يستطيعون التلاعب بالرسائل والتأثير والتماهي وممارسة الإغراء.
- مدينة المواطنة: أساس هذه المدينة تعود إلى أفكار روسو في كتابه العقد الاجتماعي. داخل هذه المدينة تصبح الروابط الاجتماعية خاضعة للإرادة والمصلحة العامة عن طريق تنازل الأفراد لبعضهم البعض من أجل تحقيق الخير المشترك فيما بينهم.
- مدينة السوق: كما حددها آدم سميت، تتميز هذه المدينة بضمان السلم من خلال تأمين الروابط الاجتماعية والاقتصادية القائمة على ما هو مادي بالدرجة الأولى، حيث تعتمد عظمة الأشخاص على قدرتهم في تأمين امتلاك الثروات النادرة التي يطلبها الآخرون، ذلك لأن الأفراد بإمكانهم أن يدخلوا في صراع مع الآخرين من أجل مصالحهم الخاصة، وهو ما يجعل من التجارة تلعب دورا مهما في ضبط أهواء الناس وفي بناء التوازن الاجتماعي.
- مدينة الصناعة: بنيت هذه المدينة انطلاقا من أعمال سان سيمون، تتأسس العظمة في هذه المدينة على الفاعلية والإبداع والتنظيم وعلى المردود الجيد والمستمر والتخطيط للمستقبل، وهي مدينة يسهم المجتمع في تسييرها عبر التشغيل والمراقبة والقواعد الحسابية والقياس وغيرها.
3 ـ مفهوم الكفاءة
لا ترتبط "الكفاءة" لدى بولتانسكي وتيفينو بالقدرة الكلامية فقط كما نجدها عند نعوم تشومسكي (Noam Chomsky)، وإنما ترتبط بما هو أخلاقي بالدرجة الأولى، حيث يمكن أن نتحدث عما يسمى بـ"الكفاءة الأخلاقية"، فهي نوع من الامتياز الذي يخول للأشخاص بأن يدلوا بأحكامهم ومواقفهم، بهدف أن تتطابق أفعالهم وتصرفاتهم مع الوضعية التي يعيشونها، ولكي يتم استعمال هذه الكفاءة بشكل فعال وجيد، فإنها لا بد أن تتطابق مع نظام العوالم التي تناسبها.
يتمثل دور عالم الاجتماع في فهم دور الكفاءة على المستوى الإمبيريقي، من خلال «استكشاف الطريقة التي يستعملها الأشخاص لاختبار كفاءاتهم ويتصرفون بتجنيد تجهيزات ذهنية خصوصية تبعا للوضعيات»[18]. فعالم الاجتماع البراغماتي يهتم عن غيره من السوسيولوجيين بأنه يأخذ بعين الاعتبار ما يعرفه الأشخاص حول تصرفاتهم وأفعالهم والتبريرات التي يقدمونها بشأنها في سياق المواقف والوضعيات، وهو الأمر الذي يفترض وجود كفاءة لديهم، لأنه كما يقول بولتانسكي وتيفينو:
«إن معرفة التصرف بطريقة طبيعية هي إمكانية الولوج في الوضعية، وكي نقدر على مواجهة متطلب التسويغ يجب عدم التراجع أمام الوضعية، تسترعي، مثلما هو الحال بالنسبة لمهمة أو واجب، أن تنجز إلى غاية نهايتها، والحال نفسه لقابلية التعرف على ما هو مؤسس، فنعتبر إذن أن جميع الأشخاص عليهم التحلي بالمؤهلات الضرورية للتكيف مع وضعيات في كل واحد من العوالم»[19].
4 ـ مفهوم الامتحان
يدل مفهوم "الامتحان" على اللحظة التي يواجه فيها الأفراد بعضهم البعض، وذلك من أجل إثبات أنفسهم. فالامتحان يعبر عن فكرة الفاعل الذي يتميز بالفعل والحركة، وقادر أن يتطابق فعله مع الوضعيات التي يواجهها، حيث من المفترض أن يأخذ بعين الاعتبار الشروط والظروف الخاصة بالوضعية التي يوجد بها حتى يستطيع أن يطابق تصرفاته، ويقوم بتنسيقها مع الآخرين الذين يوجدون معه في نفس الوضعية. فالامتحان عبارة عن لحظة عدم اليقين التي يحاول فيها الأشخاص أن يبرهنوا على كفاءاتهم.
وبالتالي، فإن الحياة اليومية العادية التي يعيشها الأفراد هي عبارة عن لحظات متعاقبة من الامتحانات. فالامتحان «عملية أساسية لإبرام الاتفاقات بين الأشخاص، وضعية تسترعي لفض النزاع أو وضع حد لخلاف مشاركة أشخاص وأشياء في علاقات معقدة من التعارض والدعم المتبادل، وذلك معبر ضروري حتى يتفق الأشخاص حول ما يحيل لعظمتهم ولعظمة الأشياء المحيطة بهم»[20].
يقوم الامتحان عند لوك بولتانسكي على نوعين: "امتحان القوة" (the test of strength) و"امتحان المشروع" (the legitimate test)، إلا أنه من وجهة نظر بولتانسكي تكون الامتحانات دائما امتحان قوة مع إمكانية انتقالها إلى امتحان المشروع، حيث يقول بولتانسكي وزميله:
«الامتحان هو دائما اختبار للقوة. وهذا يعني، الحدث الذي تتنافس فيه الكائنات، في تأليب نفسها ضد بعضها البعض (مثل مباراة مصارعة بين شخصين، أو المواجهة بين صياد السمك والسلمون المرقط الذي يحاول أن يراوغه)، فينكشف كل ما تصنعه، وأكثر من ذلك تتجلى مكوناتها. ولكن عندما يكون الوضع خاضعا لقيود تبريرية، وعندما يحكم المنافسين (Protagonists) بأن هذه القيود تحظى باحترام حقيقي، فإن امتحان القوة سوف يعتبر شرعيًا»[21].
يتميز امتحان القوة بأنه امتحان مكشوف حيث تظهر وتتجابه قوى في حالة خام، بينما الامتحان المشروع امتحان تحجبه قيود وترتيبات متنوعة، الأول خاضع لمتطلبات التسويغ فاقد للمراقبة وعلاوة على ذلك ليست خصوصيته محدودة. أما الثاني يمتثل دوما إلى وضع الترتيبات الهادفة لمراقبة طبيعة وتعددية القوى التي يمكن أن تشارك فيه[22].
ختام القول
يبقى الهدف الأساسي لدى بولتانسكي في أنه لا يسعى إلى إظهار التفوق للسوسيولوجيا البراغماتية على "علم الاجتماع النقدي"، بل إيجاد توازن نظري بين الاثنين. كما يؤكد بأن السوسيولوجيا البراغماتية، لن تتقدم بالضرورة إلى موقف منهجي ونظري شامل، نظرا لأنه يرفض النظرية المنغلقة، ويفترض أن تكون النظرية دائما مفتوحة، غير مكتملة، وغير محددة؛ أي ألا تزعم بأنها نظرية عامة عن المجتمع تكامل كافة جوانب العلاقات الإنسانية.
في الأخير، فإن السوسيولوجيا البراغماتية تهدف إلى تحليل وضعية الكلام بهدف وصف مجرى طبيعة الامتحان، وهي تهتم بشكل أساسي بالتحقيق في الأساليب، وعلى وجه أدق، التفكير العملي والحسابات الانعكاسية التي يستخدمها الفاعلين يوميا والتي تجعل من الحياة الاجتماعية إنجازا عمليا مستمرا. كما أنها عبارة عن سوسيولوجيا لها العديد من التأثيرات المختلفة، حيث لا يكون من الواضح دائما ما يجب اعتباره الأكثر أهمية في أعمال بولتانسكي، نظرا إلى تأثيره الكبير على كل من التاريخ الاجتماعي والاقتصاد السياسي.
المراجع المعتمدة
أركون، محمد (2011): نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، دار الساقي، بيروت ـ لبنان، الطبعة 1.
التصرف والعيش بشكل مشترك، مقابلة مع لوك بولتانسكي، ضمن كتاب جماعي: "علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية ـ أعلام وتواريخ وتيارات"، تحرير: فيليب كابان ـ جان فرانسوا دورتيه، ترجمة إياس حسن، دار الفرقد، سوريا ـ دمشق، الطبعة 1، 2010.
دوران، جان بيار/فايل، روبير (2012): علم الاجتماع المعاصر، ترجمة ميلود طواهري، سلسلة نديم للترجمة، ابن ندير للنشر والتوزيع، وهران ـ الجزائر، دار الروافد الثقافية ـ الناشرون، بيروت ـ لبنان، الطبعة 1.
غربالي، فؤاد: سوسيولوجيا المعاناة من خلال المعيش اليومي لشباب الأحياء الشعبية: شباب أحياء مدينة صفاقس مثالا، مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 16، المجلد 4، ربيع 2016.
الناشي، محمد (2014): مدخل إلى السوسيولوجيا البراغماتية، ترجمة ميلود طواهري، سلسلة نديم للترجمة، ابن نديم للنشر والتوزيع ـ الجزائر، الطبعة 1.
Boltanski Luc & Chiapello Eve (2007); The New Spirit of Capitalism; Translated by Gregory Elliott; London - New York: Verso.
Boltanski Luc (2011); On Critique: A Sociology of Emancipation, Translated by Gregory Elliott; Cambridge: Polity Press.
Susen Simon (ed.), Turner Bryan S. (ed.) (2014); The Spirit of Luc Boltanski: Essays on the Pragmatic Sociology of Critique; (Key Issues in Modern Sociology); Anthem Press.
[1]. فؤاد غربالي، سوسيولوجيا المعاناة من خلال المعيش اليومي لشباب الأحياء الشعبية: شباب أحياء مدينة صفاقس مثالا، مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 16، المجلد 4، ربيع 2016، ص 80
[2]. محمد الناشي، مدخل إلى السوسيولوجيا البراغماتية، ترجمة ميلود طواهري، سلسلة نديم للترجمة، ابن نديم للنشر والتوزيع ـ الجزائر، الطبعة 1، 2014، ص 8
[3]. جان بيار دوران وروبير فايل، علم الاجتماع المعاصر، ترجمة ميلود طواهري، سلسلة نديم للترجمة، ابن ندير للنشر والتوزيع، وهران ـ الجزائر، دار الروافد الثقافية ـ الناشرون، بيروت ـ لبنان، الطبعة 1، 2012، ص 294
[4]. محمد الناشي، مدخل إلى السوسيولوجيا البراغماتية، مرجع سابق، ص 9
[5]. Luc Boltanski (2011); On Critique: A Sociology of Emancipation, Translated by Gregory Elliott; Cambridge: Polity Press; P.P. 20-21
[6]. محمد أركون، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، دار الساقي، بيروت ـ لبنان، الطبعة 1، 2011، ص ص 226 ـ 227
[7]. Luc Boltanski (2011); Op.Cit; P.43
[8]. التصرف والعيش بشكل مشترك، مقابلة مع لوك بولتانسكي، ضمن كتاب جماعي: "علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية ـ أعلام وتواريخ وتيارات"، تحرير: فيليب كابان ـ جان فرانسوا دورتيه، ترجمة إياس حسن، دار الفرقد، سوريا ـ دمشق، الطبعة 1، 2010، ص 341
[9]. المرجع نفسه، ص 341
[10]. المرجع نفسه، ص 342
[11]. جان بيار دوران وروبير فايل، علم الاجتماع المعاصر، مرجع سابق، ص 299
[12]. التصرف والعيش بشكل مشترك، مقابلة مع لوك بولتانسكي، مرجع سابق، ص 343
[13]. المرجع نفسه، ص 344
[14]. محمد الناشي، مدخل إلى السوسيولوجيا البراغماتية، مرجع سابق، ص 14
[15]. Simon Susen (ed.), Bryan S. Turner (ed.) (2014); The Spirit of Luc Boltanski: Essays on the Pragmatic Sociology of Critique; (Key Issues in Modern Sociology); Anthem Press, P.92
[16]. Ibid. P.92
[17]. محمد الناشي، مدخل إلى السوسيولوجيا البراغماتية، مرجع سابق، ص 106
[18]. المرجع نفسه، ص 49
[19]. المرجع نفسه، ص 51
[20]. المرجع نفسه، ص 67
[21]. Luc Boltanski & Eve Chiapello (2007); The New Spirit of Capitalism; Translated by Gregory Elliott; London - New York: Verso; P.31.
[22]. محمد الناشي، مدخل إلى السوسيولوجيا البراغماتية، مرجع سابق، ص 68