السوسيولوجيا النقدية في المغرب: الراحل محمد جسوس أنموذجا
فئة : مقالات
حدد محمد جسوس (1938-2014) وظيفتين للسوسيولوجيا في المغرب: من جهة أولى أن تسهم في تفسير وتحليل بعض آليات ومكونات الواقع. ومن جهة أخرى، أن تستجيب لطموحات المغاربة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي مجال العقلنة وتغيير النسق المجتمعي. إن هاتين الوظيفتين لا تنفصلان بأي حال من الأحوال، لأنهما كامنتان منذ النشأة في التراث السوسيولوجي العالمي. ويمكن التعبير عنهما بكلمتين، هما: الفهم والتغيير.
والحق أن مفهوم النقد بما يعنيه من فهم للموضوع وتفكيك لمكوناته وشروط وجوده ومنطق تحولاته في أفق إحداث تغيير في بنيته وسيرورته، يلخص وجهة نظر جسوس في مهمة السوسيولوجيا داخل المجتمع. إن النقد بهذا المعنى المضاعف لن يخفى على القارئ، وهو ينتقل من صفحة إلى أخرى في أعمال محمد جسوس، ولا يفتأ يتصاعد حرارةً وجرأةً كلما امتدت الصفحات. لا يهادن أي موضوع مهما بلغت حساسيته أو هدد مصالحه، سواء تعلق بالسلطة أو المجتمع أو التربية أو الأصولية، بل وحتى فعل الكتابة في حد ذاته الذي يجسد صورة المثقف في المجتمع.
لنقف في هذا المقال مع بعض القضايا التي ترجم فيها محمد جسوس هذا النقد في واقع المجتمع المغربي.
نقد فعل الكتابة: إذا كانت الكتابة أول ما يميز هوية المثقف، فإن محمد جسوس لم يعرّف نفسه على هذا المنوال. نقرأ له بعد أزيد من أربعين سنة من "الإضراب" على الكتابة: " أنا لا أتوفر على منظومة فكرية عامة (...) ولا أستغل مكانة الأستاذ والعلاقة الطيبة مع الشباب والطلبة (...) لغرس أفكار أو لبيع خردة، هي في الواقع خليط من معطيات معرفية ربما، ولكنها في نفس الوقت خليط من قناعات واختيارات ومراهنات من حق أي أحد أن يطعن فيها أو يختلف معها، أو يبحث عن بديل لها (...) أنا بالفعل لم أنتج، ولا أريد ولا أتمنى بأية صفة من الصفات أن أنتج سوسيولوجيا جسوسية أو مدرسة جسوسية".
يفسر صديقه وتلميذه الدكتور إدريس بنسعيد الهوة الكمية الكبيرة الفاصلة بين إنتاج محمد جسوس وبين المنشور منه، بأنه يرجع إلى ما يتطلبه البحث السوسيولوجي من "المزاوجة الدائمة من جهة بين التباعد النظري الضروري بين الباحث وموضوعه- بما يحتاجه ذلك من تفكيك بنيات هذا المجتمع بحثا عن عوامل الثبات والتغير- ذلك وبين الانخراط المستمر في قضايا المجتمع وتدبير رهاناته الكبرى ووضع خلاصاته النظرية وكفاءاته في خدمة مشروع مجتمعي محدد، تتم ترجمته على مستوى الممارسة بالتزام سياسي فاعل. غير أن الانتقال بين سجلين يقتضي من السوسيولوجي، حرصا على صرامة ودقة العلم، عدم الخلط بين السجلات من جهة، والتروي في الأحكام القطعية" ومن واجب "المثقف الملتزم أن يميز بالفعل بين ما يمكن أن يطرحه من اجتهادات، وبين الحقائق العلمية الثابتة" كما يقول جسوس.
من أجل إنصاف الإنتاج العلمي لمحمد جسوس، لا بد من النظر إليه على مستويين: الأول: مستوى الإنتاج الوثائقي، ويحتل المكتوب الاعتبار الأبرز. ثم المستوى الثاني: التدريسي والتكويني. وهذا الأخير هو الذي وسَم به جسوس تاريخ السوسيولوجيا بالمغرب، ولم يكن المستوى الأول إلا رجع صدى للثاني قام به تلامذته، ولم يؤمن به لحظة حتى آخر أيامه.
نقد نسق السلطة: كتب محمد جسوس سنة 1992 أن "من أهم مميزات ممارسة السلطة السياسية في المغرب إلى يومنا هذا، كانت وظلت تعني ليس السهر على حماية القانون بقدر ما هي أولا جعل من يمارس السلطة خارجا عن نطاق القانون، وثانيا تحديد الامتيازات الخاصة، وتحديد من له الحق في ألا يخضغ للقانون، وكيفية خرق القانون بصفة علنية، وعن طريق المؤسسات المفروض فيها السهر على حمايته". وهذا المنطق السلطوي الذي يجد معناه في ضد غايته، يفككه محمد جسوس في مختلف مظاهره العليا والدنيا.
في تحليله سنة 1987 للأدوار المتعددة التي يضطلع بها المْقدَمْ والشِيخْ -باعتبارهما أدوات السلطة التنفيذية الدنيا- في المجتمع المغربي كوسيلتين لممارسة التحكم، يشير محمد جسوس إلى الوظائف المتنوعة لهذه المؤسسة، وفي نفس الوقت يسلط الضوء على تجلياتها السلبية، فهو يرى أنهم " يتحولون إلى فئات يمكن أن تراكم الامتيازات، والوساطات، وتمارس أكثر فأكثر من أنواع المحسوبية، وتحول المواطنين إلى زبناء، لا يمكنهم الحصول على أدنى وأبسط الحقوق إلا بقدر ما تكون علاقتهم مع المقدم والشيخ، تقوم على الإجلال والاحترام والنفاق، وعلى الهدايا وعلى الإدلاء (...) وينشرون نوعا من الإيديولوجية أو من الثقافة السياسية، وبثها وزرعها وتجذيرها في أوساط المواطنين، وهي إيديولوجية تعتمد على العموم إشعار المواطنين بكل أشكال الإحباط، وبأن قدرتهم محدودة جدا، وبأنهم غير ناضجين، وغير قادرين على إنجاز أي شيء، وأنهم غير قادرين على معرفة مصالحهم ولا على إنجازها وتحقيقها إلا إذا خضعوا لقرارات الأجهزة والمصالح العليا وأعلى هذه الأجهزة هي وزارة الداخلية، وهو النظام المخزني (...) ويسهمون في بث روح اللامبالات واليأس والشك وانعدام الثقة في الذات، والروح التي تجعل المواطنين لا يعتبرون المؤسسات ملكا لهم، ويتهربون من الدولة".
نقد الأصولية: في خضم النقاش المحموم حول التراث وانطلاق مشاريع فكرية متعددة سار محمد جسوس مسارا آخر، وأخضع النقاش التراثي ذاته للنقاش، منتبها إلى فخ ترك التراث حكرا واحتكارا للرجعية واللاعقلانية. ومن منطلق الإيمان بالمستقبل، يؤكد أننا "لن نتمكن أبدا من إعادة فسح المجال للحياة ولإرادة الحياة نفسها إلا بالتحرر من كل ما هو ميت ومميت ومتحجر ومحجر فينا، وفي حاضرنا، وماضينا، ومن كل ما يهددنا بالاستمرار محنطين في مستقبلنا. أما التشبث الأعمى بالأجداد في عصر موت و اختفاء الآباء، فلن يكون إلا انسحابا مبكرا وغير مشرف من العصر". لقد بعثه على هذا النقد معاينته أنه" باسم الإسلام والصالح العام، تجري اليوم محاولات السيطرة على مقاليد الحكم، وغزو العقول والقلوب، وتدبير أمور الناس، وفي هذا كله يستخدم التراث والعقيدة كأداة للعمل السياسي لا كإطار يحدد غايات وأهداف العمل السياسي".
نقد نظام التربية:اعتبر جسوس أزمة التعليم أزمة سياسية، وهي أزمة "الانتقال من النظرة التي ترى التعليم أداة نظامية قي خدمة النظام إلى نظرة جديدة تعتبر التعليم أداة في خدمة المجتمع واستثماره وللأجيال الصاعدة". لنسمعه يتحدث عن الجامعة سنة 1985: "إن أخطر شيء أصبح يهدد الجامعة المغربية في مكانتها ومصيرها، هو: احتمال فقدانها لمجمل وظائفها الإيجابية داخل المجتمع، وإمكانية تحولها إلى هياكل شكلية، ثقيلة، كثيرة التوتر والاختلال، قليلة المردودية، وأن تصبح الجامعة بدورها (...) مؤسسة تائهة مائعة اختلط عليها الحابل بالنابل، تتمسك بهدفيات ومهام فقدت جل ما كانت تتسم به سابقا من صدارة (...) تتجسد معاناة الجامعة اليوم فيقع الإفصاح عنه، في مختلف الأوساط وبدرجات متفاوتة من مواقف واختيارات وتدابير وسلوكات تعتبر أن الدور الأساسي الذي لعبته الجامعة، في توفير حد أدنى من الثقافة والعلوم والمعارف والتخصصات المتقدمة، قد أصبح يشكل خطرا على أجهزة الدولة والطبقات السائدة من جهة، ويهدد النسق المجتمعي ككل في استقراره وتماسكه، ذلك أن نمو القطاع الجامعي يؤدي بالضرورة إلى المزيد من توسع حجم الطبقات المتوسطة. وأن هذا التوسع لا يمكن أن يترتب عنه إلا المزيد من التوتر والاختلال في التوازنات الاجتماعية العامة. إنه يهدد بتغليب كفة الجاذبية الطبقية والإيديولوجية الدنيا داخل المجتمع".
ومادام حال الجامعة هكذا، فهو يصعد النقد أكثر، ويسجل أن المحنة الكبرى للجامعة آنذاك تتمثل في أنها أصبحت ملحقة بوزارة الداخلية، وأصبحت تسهر على تكوين "مثقفوقراطية" طيعة تتكلف بممارسة عدة أدوار سلطوية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والرمزية، وبإدارة وصيانة "الثقافة الرسمية"، والتي لا يمكن لها أن تنتشر وتدوم إلا عن طريق تشويه وتدجين وتخريب أهم مكتسبات العقل والفكر والعلم في عالم اليوم، وباسم تصورات تقنوية سطحية ومزيفة يعمل آخرون على "تحييد" مسلسل التكوين والتدريس والبحث الجامعي تحييدا تاما، وعزله عن كل ما يعتبرونه عوامل "سياسية وإيديولوجية" لا دور لها إلا التشويش والتحريض والشغب". وغيرها من النقود المتعددة للجامعة المغربية.
ولا بد أن نشير إلى قرصة العظم/المقال الشهير الذي كتبه سنة 1989 على صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي تحت عنوان: "إنهم يريدون خلق جيل من الضباع" وتصدت له وزارة الداخلية حينها، وأمرت بتحريك متابعة قضائية ضده ومما ورد فيه: " نعلن تذمرنا من معاملة الشباب كما لو كانوا مجموعة من الفوضويين ومجموعة من المشاغبين ومجموعة من العبثيين ومجموعة من العدميين علما بأن أرقى وأسمى ما أنجز في هذه البلاد أنجزه شباب أو ساهم في فكرته الحاسمة (...) إذا كان شباب هذه البلاد يعاني من تخوف مستمر حول عيشه أولا وقبل كل شيء، ويعاني في مستوى ثان من سياسة على صعيد التعليم وعلى صعيد الثقافة وعلى صعيد التأطير الفكري والإيديولوجي، تحاول خلق جيل جديد لم نعرفه في المغرب، جيل "الضبوعة"، جيل من البشر ليس له الحد الأدنى من الوعي بحقوقه وواجباته".
لقد اكتفينا في هذا المقال بإشارات مقتضبة متعسفة حول ممارسة النقد لدى محمد جسوس الذي نؤكد أنه مشروط بفهم وتفكيك دقيقين للظواهر، ومع ذلك لا ينبغي أن نتجاهل أن الإصلاح مفهوم مركزي بنفس القدر في التفكير والممارسة السوسيولوجية لدى محمد جسوس، وهو رهان مبثوت في ثنايا نصوصه ومحاضراته. إن جسوس آمن بأن الإصلاح مشروع يتحقق جماعيا في المجتمع، وعندما نقول: "نظام مجتمعي لا مجال لإدخال الأشخاص في الحساب". وهذا ما يفسر إصراره على تجربته الحزبية - رغم ما جرته عليه من نقد في الوسط الأكاديمي، وهو لم ير فيها ما يناقض انضباط العلم- ترجمةً لإصراره على الإصلاح كفعل جماعي لا تكفي فيه السوسيولوجيا وحدها.
بكل تأكيد، سيخلّف رحيل محمد جسوس عن عمر ناهز الست وسبعين سنة بعد معاناته لسنوات طويلة مع المرض فراغا رمزيا في حقل السوسيولوجيا بالمغرب لما كان له من بصمة واضحة على معظم خريجي علم الاجتماع، ومساهمته في ترسيخ تقاليد النقد السوسيولوجي للمجتمع. لكن، وهذا الأهم، ستبقى روح النقد سارية، تنبعث بين حين وآخر لتزعج تلك السوسيولوجيا المطمئنة المروّضة.
المراجع:
1-رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب، محمد جسوس، أعده و قدم له، إدريس بنسعيد، منشورات وزارة الثقافة، الطبعة الأولى، 2003
2-طروحات حول المسألة الاجتماعية، محمد جسوس، منشورات الأحداث المغربية، الطبعة الأولى، 2003
3-طروحات حول الثقافة و اللغة و التعليم، محمد جسوس، منشورات الأحداث المغربية، الطبعة الأولى، 2004