السّيادة في الفكر السياسي الحديث: قراءة في نشأة مفهوم
فئة : مقالات
ارتبطت فكرة السيادة بالقدرة على تدبير[1] الشأن العام، فالسيّد هو من يمتلك الكفاءة العالية التي تمكنه من تدبير شؤون الجماعة لما فيه صلاحها على كافة مستويات الحياة، إلا أنّ البشرية في تاريخها عرفت عدّة أطر ومؤسسات كانت الحاضن لمشاريعها الحياتية بدءاً بالعائلة فالعشيرة فالقبيلة وصولاً إلى الدولة. وبما أنّ الدولة هي الشكل الأرقى للتجمّع الإنساني فإنّ مفهوم السيادة ارتبط تاريخياً بجهاز الدولة ولم يرتبط لا بالعائلة ولا بالعشيرة ولا بالقبيلة. وبالتّالي فالسّيادة الجديرة بالاهتمام والفهم في هذا السياق هي سيادة الدولة.
تقوم فكرة السّيادة على وجود سيّد يكون على رأس الدّولة باعتباره ملكها أو أميرها أو ممثّلها، وهو من يسهر على تدبير شؤون الناس في إطارها. والسّيادة هي المبدأ أو الخيط النّاظم للحكم السياسي داخل الدولة، إلاّ أنّ هذا الخيط عرف عنفواناً كما عرف تقطّعات وتعرّجات جعلتا منه مفهوماً إشكالياً، ممّا حتّم علينا في اللّحظة الرّاهنة إعادة التّفكير فيه لاستجلاء إمكانياته والوقوف عند تغيّراته. فالفضاء السياسي الحديث لم يستوعب دلالة واحدة لمعنى السّيّادة ممّا يجعلنا نقدّر أنّه مفهوم إشكالي وثريّ في الوقت نفسه، وبالتّالي قد يمثّل معيناً لا ينضب لمعالجة مشكلاتنا الرّاهنة المتمثّلة في أزمة الحكم لدينا، والمنضوية تحت إحداثية "أزمة العقل السياسي العربي" على حدّ عبارة الجابري.
نروم اكتناه المشكل التّالي: كيف تشكّل مفهوم السّيادة تاريخيّاً؟ وبأيّ معنى مثّل الوثاق الذي انشدّت إليه كلّ منجزات الحداثة السياسية على اختلاف معانيها؟ ثم كيف انبثقت منه عقلنة المجال السياسي وتدبير الحكم؟ وماهي مختلف الدّلالات التي اتّخذها هذا المفهوم ضمن منطق الحداثة السّياسية؟
كانت فرنسا تعتبر في القرن الرابع عشر نظاماً ملكيّاً مطلقاً "monarchie royale" وتعني كلمة مونارشي "الحكم المطلق لرئيس واحد أو النظام السياسي الذي يكون فيه رئيس الدولة ملكاً بالوراثة، بمعنى تمركز كلّ السلطات في يد الملك الذّي لا ينازعه أحد في فخامته الملكية"[2] هذا الإقرار هو ما قام جون بودان بصياغته النظرية النهائية لأوّل مرّة في كتابه العمدة "الكتب الستة للجمهورية" سنة 1576. لقد كان منطلق نظرية السيادة لديه تعويض المقدّس بالدّنيوي، من السّيادة الإلهية المقدّسة إلى سيادة بشرية تخضع لمحدّدات زمنية بمعنى الصيرورة التّاريخية. لذلك ترتكز الدولة لديه على "القوّة والعنف"[3]، هذه القوّة لا تستند إلى أي مرجعيّة خارقة أو مفارقة سواء كان ذلك لاهوتياً أو طبيعياً وإنّما هي علّة ذاتها وديمومتها من عدمه يعود إليها لا غير. وبهذا المعنى تكون الدّولة صناعة إنسانيّة وبقاؤها من عدمه يعود إلى مدى عبقريّة التّدبير الزّمني الإنساني.
تعرّف الدولة باعتبارها "القوة المطلقة والدّائمة للجمهوريّة"، وبما أنها مطلقة فهي التي تحتكر قوّة القوانين وتتولّى التّحكم في توزيع تلك القوّة بغاية تنظيم مختلف مفاصل الجمهوريّة والاستجابة لطلبات الأفراد داخلها. وبما أنّها أبدية ومطلقة لا يمكن أن تكون السّيادة ظرفية ووقتية، كما لا يمكن أن تكون منقسمة أو مجزّأة، إنّها العلامة المميّزة لاستمرارية سلطة الدولة.
وبهذه الخصائص لا يمكن أن تكون السّيادة مجرّد ظاهرة لممارسة القوّة بصورة مرتجلة وعشوائيّة، وإنّما هي "ظاهرة حقوقيّة"[4] وحتّى إن كانت مطلقة فلا يعني أنها ليست مقيّدة، لذلك يقرّ بودان بخضوع السّيادة لثلاثة ضوابط تعتبر بمثابة الحدود الخارجية، وهي كالآتي:
1) تخضع السّيادة للقوانين الإلهية والطبيعيّة.
2) لا يمكن أن تخرق النّواميس الأساسية للملوكية ولا حتى تغييرها.
3) من واجب السّيادة احترام الذات البشرية في خصوصيتها لأنّ ذلك من مقدّرات الحق الطبيعي.
إنّ بودان وهو يفكرّ في الجمهورية يتأمّل النّظام الإنساني باعتباره جزءاً من العالم الطبيعي أو لنقل من الانسجام الطبيعي، ففي نظره من المحتّم أن يوجد إله واحد يدبّر هذا الكون على أفضل شكل ممكن ليكون "أفضل العوالم الممكنة" على حدّ عبارة ليبنتز. "إنّه الملك الأكبر للعالم"[5] وبالتّالي يستلهم أمير الجمهورية القانون الطبيعي والإلهي كل ّالفضائل التي تجعل منه أميراً فاضلاً باعتبار أنّ "الأمير الذي نفترضه هو الذي يكون على شاكلة الإله"[6]، لكن رغم هذه الهبة الرّبانيّة التي يغنمها الأمير، يؤكّد بودان أنّ ذلك القانون لا يتّدخل البتّة في ماهية السّيادة، كما لا يقوم مبرّراً كافياً على تقلّد الأمير زمام الحكم.
وعلى العكس من ذلك فإنّ الصياغة النّظرية النّهائية لمفهوم السّيادة مع بودان تأتي من خلال قطع الصّلة التي تربط الإله بالملك على مستوى عمليّة التّدبير السياسي (وإبقاؤها في مستوى عمليّة الإلهام) وبالتّالي قطع الصّلة بين الملك والمؤسسة الكنسيّة التي طالما كبّلت الحاكم وطالما احتكرت السّيادة، لذلك يقرّ صراحة "لن أتحدّث سوى عن سيادة زمنيّة"[7]. يتجلّى هذا الطابع الزّمني في ربط بودان الواضح بين السّيادة والسلطة الملكية، وغايته القصوى هي التّشريع لشخصية سياسية قويّة في شكل أمير جبّار أو وزير مقتدر يتولّى حكومة مطلقة الصلاحيات، وقد التقط تاريخيّاً هنري الخامس هذا الدّرس العميق لمفكر مثل بودان من أجل تأسيس سلطة قويّة كانت فرنسا في أمسّ الحاجة إليها غداة الحروب الدّينيّة.
يظلّ السيّد مميّزاً عن شعبه وهو رغم ضرورة احترامه للقوانين الطبيعيّة والإلهية فإنّه يظلّ حاكماً أو أميراً مطلقاً، وطاعة إرادته تكون كليّة وإلزامية. يأتي هذا الولاء المطلق من ضرورة إرجاع الكثرة للواحد. لقد فكّر بودان في أنّ بنية الجمهورية تتشكّل من الاتّحاد بين أعضائها. والواحد هو مبدأ تنظيم لهذه البنية التي يسمّيها بودان بـ"الجمهورية جيّدة التنظيم" la république bien ordonnée، وهو كذلك العقل المدبّر لشؤونها، لذلك يجب أن تنشدّ كلّ عناصر الجمهوريّة إليه ضماناً لوحدة السّيادة ودوامها. إنّ تماسك السّيادة من تماسك السيّد الذي يمسك بها كي لا تنفرط كالعقد، وبالتالي تتشظّى إلى عناصر منفصلة تنذر باضمحلال السّيادة وبالتّالي تفكّك الدّولة، فالعنصر الواحد الأوحد سواء كان أميراً أو عاهلاً أو ملكاً أو وزيراً هو وحده الضّامن لاستمراريّة السيادة في عنفوانها.
تكتسب مداخلة بودان كامل وجاهتها في تكوين الواحد السّياسي الحديث باعتبار أنّ الجمهورية ذات سيادة واحدة أو لا تكون. السّيادة واحدة وبسيطة ولا يمكن أن تكون مركّبة أو مختلطة. هذا الموقف من السيّادة الممركزة والبسيطة سيلقي بظلاله على موقف بودان السّلبي من أي تقسيم للسلطة، بما في ذلك الجمهورية الشّعبية حيث يكون الشّعب هو المصدر الأصلي للسّيادة "إنّه لا وجود البتّة لجمهوريّة شعبية حيث يكون الشعب سيّداً"[8]. يعرّف بودان الجمهورية من خلال المفهوم الذي يهبها الوجود وبالتّالي ليست السّيادة شكل السلطة التي يمارسها السيّد لكنّها شكل القوّة التي تمارسها الدّولة. ولا وجود لسيادة يكون الشّعب طرفها الأصلي والجوهري. وقد يكون من المشروع الإقرار بوجود شعب سيّد لكن لا يمكن أن نقرّ بوجود سيادة شعبيّة.
إنّ اللّغز الذي تركه بودان لمن بعده من منظري الحداثة السياسية وما يتبعها من تشريع وتبرير لنظام سياسي ديمقراطي، يتمثّل أساساً في إقصاء الشعب كمقولة سياسية من حقل السّيادة وهذا محيّر فعلاً، فأن تكون جمهورية فيها الغلبة للشّعب فهذا يتنافى والجمهورية بالفعل. الحجّة في ذلك أنّه لا يمكن أن يكون الشعب سيّداً وخاضعاً في الوقت نفسه، وعندئذ لا وجود لإكراه، لذلك يجب احترام الفصل التّكويني لجوهر السّيادة، ذلك أنّ الجمهورية "جيّدة التنظيم" تنقسم إلى حاكم ومحكومين، أمير وذوات محكومة، الواحد السيّد والكثرة المطيعة. في ظلّ هذا التقسيم لا يمكن أن تتّحد كلّ العناصر لتلعب الدّور نفسه، وهذا الأمر ليس غريباً عن النّظام والقانون الطبيعيين، "إنّه القانون الطبيعي الذي جعل من البعض أكثر فطنة وابتكاراً من البعض الآخر كما أنّه أيضاً من هيّأ البعض ليحكم والبعض الآخر ليطيع"[9]. لا يمكن حسب بودان أن تنقسم السّيادة إلى ما لا نهاية حسب تعدّد أفراد الشّعب نظراً لأنّ كلّ فرد يرى في نفسه "ملكاً صغيراً حيث تجتمع في ذات الشّخص ذات سياديّة وذات أخرى خاضعة للسيّد وهذا يُعدّ خلفاً. يستتبع هذه البرهنة المنطقية النفي المطلق للإمكانية التّاريخية والواقعية للسّيادة الشّعبية، بل أكثر من ذلك إنّ القول بالشّعب السيّد يمحي ماهيّة السّيادة. النتيجة التي نصل إليها هي أنّ السّيادة واحدة وبسيطة وغير قابلة للقسمة أو التّقاسم مع أيّ طرف كان. تعتبر هذه النتيجة بمثابة النّواة النظريّة لمؤلّف "الكتب الستة حول الجمهوريّة".
أمّا تبرير توماس هوبز للسّيادة المطلقة للحاكم فيتّخذ بُعداً مصلحيّاً وبراغماتيّاً، إذ أضاف الفيلسوف بدقّة مفهوميّة وفلسفية تحليلاً صارماً لهذا المفهوم، فقد تمخّضت السّيادة لديه من فكرة التناسب، وهي عبارة عن حساب غائي للمصالح التي يجب أن تتحقّق في الحالة المدنيّة. إنّه الميزان الجديد للقوى التي تعرّف جوهر الجمهوريّة بما أنّ السلطة المدنيّة لم تتشكّل إلاّ بكليّة الحقوق التي رصدت للحشود بفعل العقد الاجتماعي، وهو الشّخصية المدنية للدولة المكلّف بتمثيلها. هذا الإنسان المبتكر من ناحية يمثّل الشّعب كجسد ومن ناحية يمثّل الجمهورية باعتبارها واحدة ومطلقة. لا ينبغي خرق هذه السّيادة كما لا يجب أن تكون محلّ مواجهة من حقّ المعارضة ولا من حقّ الثّورة عليها، لذلك يتّفق هوبز مع بودان في الإقرار بعدم تقسيم السّيادة، ومن هنا كان رفضه للفصل بين السّلطات، لأنّ ذلك منذر بخراب السلطة المركزيّة. فـ"الدولة بالنّسبة له مبدأ توحيد ينقل الاجتماع البشري من حال الشّتات إلى حال النّظام"[10] وبذلك تستجيب الدولة لمبدأ المصلحة العليا للبشر المتمثّل أساساً في ضمان الأمن والمحافظة على الحياة.
إنّ تحقق المصلحة العليا غير ممكن إلاّ بدولة قويّة ومتجبّرة. غير أنّ هذا الطابع الكلّي للقوّة السيادية أبعد من أن يجعل من هوبز صانعاً للحكم الاستبدادي المطلق، بل الأجدر أن نتنبّه للطابع الهندسي والحسابي للجسد العمومي في كتاب "التّنين". هذا الأخير يمثّل رمزاً لسلطة الدّولة أكثر منه رمزاً لسلطة حكم كلياني. يتمثّل غنم التّصوّر الهوبزي في مواصلة الجهد التّنظيري للدولة الحديثة المعقلنة حيث مثّل معنى السّيادة لديه مؤشّراً على بلوغ نقطة حاسمة في اتّجاه ترسيخ الأفكار السياسية الضامنة لفكرة المواطنة والسير التّدريجي نحو ترسيخ سيادة سياسية زمنية ومن صنع الإنسان.
لكنّ هذه النزعات الإنسانويّة التي عوّضت حكم الواحديّة الميتافزيقية للإله بالواحديّة الحاكميّة للملك أو للأمير قد مثّلت مدعاة للتظنّن عليها، لا سيّما وأنّ مؤلّف "روح القوانين" مونتسكيو (1748) قد بيّن محدوديّة هذه التصوّرات، فقد أثبت أنّ تمركز السّيادة بيد حاكم مطلق ""un monarque يمثّل خطراً على حرية المواطنين، لكنّه لم يضع قطّ فكرة السيادة موضع شك، إذ تظلّ الدولة ذات قوّة سيادية، لكن يتعلق المشكل لدى مونتسكيو بتوبولوجية السيادة بمعنى موقعها ومجال تحرّكها وبيد من تتمركز. لقد أثبتت التّجربة التاريخية أنّ كلّ إنسان يحوز على سلطة يظلّ لديه ميل غريزي لتجاوزها، لذلك من الواجب وضع آليات لمقاومة هذا الزّيغ أو الانحراف المفترض. وأوكد هذه الآليات هو أن توضع حدود داخلية للسّيادة. وبالتّالي ليس أصل السلطة ولا غايتها ما يمنحها الشّرعية، بل الكيفية التي بها تمارس، أي بفرض حدود عليها وذلك بتنسيبها وتقاسمها مع الآخرين. يرى مونتسكيو أنّ "تقاسم السلطات والفصل بينها خير من اجتماعها ووحدتها، فأطراف عدّة خير من طرف واحد حتّى لو كان هذا الطرف هو أفضلها".[11]
لا يكفي حسب صاحب مؤلف "في روح القوانين" أن تكون السّيادة مكوّنة من القوانين الطبيعية، بل يجب أن تكون محدودة دستورياً، مثال دستور أنقلترا هو الذي يسهر على حماية الحرّيات المدنية للمواطنين وليس مقولة القانون الطبيعي.
ما يهمّ في هذا السيّاق هو منع تمركز سلطات الدولة تحت سلطة عضو واحد. إنّ الواحدية السياسية "le monisme politique" التي تعيّنها السّيادة المطلقة لإنسان أو لجسد أو لشعب تعدّ الأطروحة المضادّة لحريّة المواطنين: ليس فقط نقيض تلك الحريّة وإنّما عدوّها الذي يمحوها. إذن تتمثّل القيمة الفلسفية لمداخلة مونتسكيو في تفكيك مقولة السيادة وإعادة تركيبها على ضوء مقولة على غاية من الأهميّة وهي لا مركزية السيادة. إنّ السّيادة النّاجعة ليست الواحدة والبسيطة وإنّما المنقسمة والموزّعة على المؤسسات الدّستورية والمدنية للدولة.
أمّا روسو فيتموقع - خلافاً لمونتسكيو - في ميدان آخر عند تناوله لمعنى السّيادة، فإنّه يتساءل أقلّ عن ماهيتها وتمظهراتها في جهاز الدّولة ليتحدث أكثر عن منابعها. وتتحدّد إضافته النّظريّة في هذا المستوى في خلخلة الاعتبارات التي تجد في الإله منبع القوّة، ومن ذلك فإنّ فكرة منبع السّيادة لم تعد تعني لديه الأصل بل الأساس "Le fondemen"، وهذا التّناول يفصل روسو منهجيّاً عن كل سابقيه مثل سبينوزا وبوكانان.
حسب روسو ليست السّيادة الامتياز الذي يحصله الأمير من شعبه، بل إنّها تعود للشعب قصراً بمعنى أنها لا تفوّض. يظلّ الشّعب هو المصدر الأصلي للسّيادة ومنه للشرعيّة. لذلك فالسّيادة ليست سوى الفعل الذي تتولاه الإرادة العامّة[12] النّاتجة بدورها عن العقد الاجتماعي. بتعبير آخر فهي تقيم ضرورة في كليّة المواطنين باعتبارهم يمثّلون وجوداً كلّياً وواحداً.
يوجد في الدّولة قوّة كامنة تعضدها، والإرادة العامّة هي التي تقود هذه القوة - باعتبارها ائتلاف للإرادات الفردية- وبالتالي تطبيق الإرادة العامّة في إطار دولة هو تحديداً ما يمثّل المعنى الحقّ للسيادة. بناء على ذلك نرى أنّ السيّد ليس سوى شخصيّة معنويّة، ليس له من وجود سوى الوجود الهلامي والجماعي. وحدها إذن سيادة الشعب ككتلة وكجسد مشروعة. وفي انتمائها إلى جسد الأمّة تبرر عدم قابليتها للتجزئة أو القسمة. وإن ادّعت ذلك فذلك يعني أنه لا وجود البتّة لشعب، وبالتّالي لا أثر لدولة.
السّيادة كما قال بودان هي "ماهية الجمهورية"، أو كما قال أيضاً إنّها "صورة الدولة" وهذا مهمّ. لكن الأهمّ هو أن نشدّد على أنّها تنتمي للشعب الذي اكتسبها في سعيه لأن يكون شعباً، فهي منه وإليه. إنّها لا يمكن أن تغترب عنه أو ينازعه فيها أحد، بواسطتها وبها فحسب يتحقق الوفاق بين الخضوع والحرّية الذي قدّمه روسو باعتباره ماهية الجسد السياسي.
كذلك يدين روسو الملكية المطلقة والحكومة التمثيلية "إنّ السيادة لا يمكن أن تُمثّل، وللسبب نفسه لا يمكن أن تنقسم. إنّها تعكس الإرادة العامة، وهذه الأخيرة لا يمكن أن تُمثّل"،[13] بلغة أوضح سواء فوّض الشعب ملكاً أو انتخب ممثّلين عنه فالأمر سيّان. إنّه لن يعود شعباً نظراً لأنّه فرّط في سيادته، فسيادة الشعب لا يمكن تصوّرها كحضور فيزيائي أو موضوعي عبر عمليّة التمثيل، لذلك لا يمكن أن تكون السيادة حسب هذا الزّعم سوى ضرب من المخيال السياسي أو معيناً معيارياً أساسياً لبناء الدّولة الجمهورية.
ما يمكن أن نخلص إليه إذن، أنّ نظريّات عديدة ومتمايزة دأبت على ترسيخ الحداثة السياسية، وقد اقترن ذلك بمسلمات أساسية: ارتباط التنظير للسيادة بفكرة معقلنة لعملية التدبير السياسي؛ مما نتج عنه بناء الدولة الحديثة القائمة على القانون والمؤسسات، ثم تحييد السيادة عن كلّ إلزام أو إكراه خارجي سواء أكان ذلك طبيعياً أو لاهوتياً، لذلك كان هذا التنظير إنسانياً بامتياز، وحاد عن فكرة تمركز السيادة بيد عاهل أو أمير أو كنيسة. وبالتّالي خضع هذا المفهوم إلى مسار كامل من العقلنة، إذ انطلق من بلورة نظرية مع بودان وحدّد باعتباره جوهراً للدولة وصولاً إلى فتحه على المؤسسات الدستورية والسياسية والمدنية، والغاية من ذلك ترسيم حدود السيادة وتأهيل مفاهيم جديدة كالشّعب والمواطنة كمقولات سياسية مقاومة لأيّ تمركز للسلطة قد يؤدي إلى انحرافها.
المعاجم:
- Dictionnaires des notions philosophique, PUF, Paris, 1998, tome 2, «souveraineté»
- Dictionnaires des œuvres politiques, PUF, Paris, 1986
- Encyclopédie de la philosophie, Librairie Générale Française, 2002
- Dictionnaire La Rousse, 2010
المصادر:
- Jean Bodin, Les six livres de la république, édition Paris, 1583, présenté par Gérard Mairet
- J.J. Rousseau, Du contrat social, union générale d’Editions, Paris, 1973
- T. Hobbes, De Cive, New York, 1972
- T. Hobbes, Leviathan, or the Matter, From and Power of a Commonwealth ecclesiastical and civil, ed. Macpherson, London, 1968
- Benjamin Constant, de la liberté des modernes, éd. Pluriel, Paris, 1980
-باروخ سبينوزا، رسالة في اللاّهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، دار الهيئة المصرية العامّة للتأليف والنشر، 1977
- تزفتان تودوروف، اللاّنظام العالمي الجديد، ترجمة وليد السويركي، أزمنة، عمّان.
المجلات:
- الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، شتاء 2006، عدد مزدوج 134-135
- المجلّة التونسية للدراسات الفلسفيّة، 1996-1997، عدد مزدوج،17-18
- Revue, Le point, les textes fondamentaux de la philosophie moderne, septembre-octobre, 2006
- Revue, Le point, Les textes fondamentaux du libéralisme, Janvier-Février 2007
المواقع الإلكترونيّة:
http: //www.cairn.info/revue-les-etudes-philosophiques
http: //classiques.uqac.ca/
http: //www.vrin.fr/book.php?code=9782711643066
http: //fr.wikipedia.org/wiki/Jean-Bodin
http: //www.vie-publique.fr/decouverte-institutions
http: //www.laviedesidees.fr/La-fin-de-la-souvrainete.html
[1]ـ انظر صالح مصباح، تدبير العالم من روما القديمة إلى روما الجديدة، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، 2006. نجد بلورة رشيقة لمفهوم التدبير وكذلك ربط متميز بين التدبير الإمبراطوري القديم وإعادة تشكيله بمضامين ورؤى جديدة في إطار العولمة بكل أشكالها.
[2]- Dictionnaire La Rousse, 2010
[3]- Jean Bodin, Les six livres de la république, un abrégé du texte de l’édition de Paris, 1583, livre1, chapp 6
[4]- S. Goyard-Fabre, in Dictionnaire des notions philosophique, Tome2, la souvraineté, p, 2440
[5]- Jean Bodin, Les six livres de la république, un abrégé du texte de l’édition de Paris, 1583, livre1, chapp 1
[6]- IBID, livre1, chapp 10
[7]- IBID, livre1, chapp 9
[8]- IBID, livre2, chapp 7
[9]- IBID, livre6, chapp 4
[10]- صالح مصباح، عقد خضوع أم ميثاق تفويض، رهان تحولات نظرية التمثيل السياسي عند هوبز، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، عدد 17-18، 1996/1997، ص 36
[11]ـ تزفتان تودوروف، اللانظام العالمي الجديد، ترجمة وليد السويركي، أزمنة، عمّان، ص 53
[12]- J.J.Rousseau, Du contrat social, Livre2, chap1, Union générale d’éditions 1973, pp, 88-89
[13]- IBID, pp, 83-84