السياسة العربية من وجهة نظر فلسفية إسلامية كلاسيكية
فئة : مقالات
قلّما ينظر إلى السياسة من منظور الصحة والمرض، ربما لأنّ الناس قد ألفوا أن يروا في أولئك الذين يتهافتون على المواقع الرسمية والأمامية للمجتمعات الإنسانية: قديمها وحديثها أو حتى معاصرها، كما لو أنّهم الأفراد الناجحون والمميزون بامتياز، والذين يستحقّون أن يُتشبّه بهم حين يقدّمون أنفسهم للشعب، باعتبارهم نماذج ناجحة. حقّاً إنها لمظاهر خدّاعة تلك التي تحفّ بعالم السياسة المملوء بالمتناقضات الإنسانية (المكر والخداع والتملّق والمراوغة...)؛ لكن، ألا ينمّ هذا العالم عن حقيقة الفعل السياسي بما هو مجال تَكَشّفِ مرض النوع البشري؟ إلى أيّ حدٍّ تخفي المظاهر الخدّاعة المصاحبة للممارسة السياسية عالماً مصاغاً صياغة هجينة؛ عالماً مريضاً بأشدّ الأمراض الإنسانية المزمنة فتكاً مثل: إرادة الاستئثار بالحكم وحب السلطة والتسلّط والاستبداد الذي لا يزال يفتك بالناس؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو هذا الوصف الدقيق للتعبير عن المرض السياسي في سياقنا التاريخي العربي مثلاً؟ كيف طرق فلاسفتنا المسلمون هذا الموضوع؟
إننا نسعى في تحليلنا لهذا الموضوع إلى طرق الطابع المفارق للممارسة السياسية في ثقافتنا العربية، عبر قلب المنظور الإيجابي الذي دأبت الأدبيات السياسية في إضفائه على الفعل السياسي، باعتبار أنه معطى تاريخي سعيد معتدّ بنفسه. يغفل فكرنا السياسي، في أغلب الأحيان، التطرق إلى دور الدوافع المتنوعة والمتضاربة في تبرير أو حتى تحليل المعطى السياسي بما هو ممارسة تاريخية تصيبها الأمراض الثقافية والاجتماعية. ذاك هو منظور الصحة والمرض الذي سبق للفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" مثلاً أن اعتمده في قراءة الثقافة الفلسفية الغربية التي تمتد إلى اليهودية الأولى مروراً بالمسيحية والأفلاطونية (التي نعتها بكونها مجرد فلسفة الضعفاء أو العجزة المرضى فكرياً وجسدياً) انتهاء بحداثة القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، التي لا تعدو أن تكون مجرد أفلاطونية مسيحية متنكرّة في ثوب عقلاني مخادع.[1]
تقدّم هذه القراءة النتشوية المستندة إلى النقد السيكولوجي والتأويل الجينيالوجي أنموذجاً نظرياً لمعرفة مدى صحة أو مرض المعطيات الثقافية والتاريخية لحضارة أو ثقافة معينة استناداً إلى ما يسمّيه نيتشه "الحس التاريخي". لكن تجنباً لأي إسقاط لمثل هذا الأنموذج على ثقافتنا، نطمح هنا إلى تسليط الضوء على العلاقة المحتملة بين الممارسة السياسية ومشكلة "المرض السياسي" كونها حالة عربية مزمنة، يتوجب علينا اليوم لفت النظر إليها ولو على سبيل ذكر بعض النماذج الفلسفية التي حاولت مقاربتها، على اعتبار أنّ حقل الفلسفة السياسية الإسلامية لا يخلو من المحاولات الجادة لتحليل الأمراض السياسية التي ابتلينا بها منذ القدم كالاستبداد مثلاً؛ فالسياسة بدورها قد تمرض وتعتلّ تماماً مثلما تمرض الحياة العضوية، حيث تولد الكائنات الجديدة بعدما تموت القديمة التي مرضت وفسدت ثم ماتت.
قديماً بيّن الفيلسوف الإسلامي أبو نصر الفارابي في تحليلاته للسياسة المدنية، كيف أنّ جسم الاجتماع البشري في المدينة إنّما يشبه اجتماع أعضاء البدن في جسم الإنسان. فكما أنّ صحّة البدن هي من اعتدال مزاجه، ومرضه من الانحراف عن هذا الاعتدال؛ كذلك صحّة المدينة واستقامتها هي من اعتدال أخلاق أهلها. أمّا مرضها، فهو من التفاوت الذي قد يظهر في أخلاق أهلها.[2] لذلك متى انحرف البدن عن الاعتدال في مزاجه، استلزم الأمر عيادة طبيب الأبدان ليحفظه أو يردّ عليه صحته. كذلك الأمر إذا انحرفت المدينة في أخلاق أهلها عن الاعتدال؛ فالذي يردّها إلى الاستقامة ويحفظها عليها هو الحاكم المدني (أي الفاعل السياسي الأول أو ما يُسمى بالحاكم). إنّ الحاكم والطبيب إذن يشتركان في فعليهما ويختلفان في موضوعي صناعتهما؛ الأول موضوعه طب البدن، والثاني يشتغل بطبّ السياسة. فما معنى طبّ السياسة هذا؟
حقاً لم يكن التقليد الفلسفي الإسلامي الكلاسيكي ليتغاضى عن العلاقة بين السياسة والصحة مادامت الخلفيات السيكولوجية الأخلاقية والتربوية هي ما يحكم منظورها الغائي للوجود البشري في مختلف أبعاده. فتحديد الإنسان بأنه "حيوان عاقل"، جعل أيّة نظرة ممكنة للممارسة السياسية لا تخرج عن مقتضيات النظرتين: الكونية والغائية تنزعان نحو إضفاء الطابع التوحيدي المتناغم بين ما هو عليه الكوسموس، وما يجب أن تكون عليه السياسة المثالية في الواقع، تماماً مثلما هو عليه التناظر بين ما يُسمى بالعالم الأكبر أو «Macro cosmos» الذي يمثّل الكون في كليّته، وما يصطلح عليه بالعالم الأصغر أو«Micro cosmos» ويقصد به الإنسان الفرد الذي هو وحدة عضوية وعقلية منسجمة تناظر في وجودها وحدة الكون.[3]
لقد عّبر عن هذا الأمر في السابق الفيلسوف اليوناني أفلاطون: صاحب "الجمهورية"، عندما أراد أن يصلح أمر السياسة في المدينة-الدولة: «Cité polis» اليونانية؛ مقدّماً وصفته العلاجية للمرض السياسي الذي ألمّ بجسم هذه المدينة (بما هي نتاج السياسات الفاسدة للأنظمة الفاسدة التي تعاقبت عليها: الطغيان، الديموقراطية، الأوليغارشية، التيموقراطية) على أنه من الضروري أن يكون رجل السياسة حكيماً فيلسوفاً، حتى يتسنى تقديم الجواب الشافي للحالة المرضية التي كانت عليها السياسة الفاسدة التي جرّت على المدينة-الدولة ويلات الفساد والطغيان في زمانه.
إنّ علاج السياسة الفاسدة لا يمكن أن يتأتى إلاّ على يد الفيلسوف الطبيب القادر على علاج مرض الممارسة السياسية، مادام هو الشخص الوحيد الذي يحيا في صحبة النظام الإلهي لهذا العالم. يغدو الفيلسوف إلهياً منظّماً على قدر ما تتحمل طبيعته البشرية، فيضطر إلى تشكيل طبائع الآخرين وصياغة قالب الحياة العامة والخاصة تبعاً لما يتأمله في عالم المثل من فضيلة وعدالة.[4] يرسي الفيلسوف نظام العدل السياسي في دولته، ثم يجعل مواطنيها عادلين استجابة للبحث عمّا هو هذا النوع من السلوك الفردي والسياسي والديني الذي ينبغي على المرء اتباعه لكي يتحقّق النظام وتنظّم الحياة البشرية عقلانياً فيحدث التوافق بين الكوسموس والدولة، أو بين نظام الكون ونظام المدينة، وبين قوى النفس البشرية فيما بينها.[5]
كانت الوصفة الصّحية التي يقدّمها أفلاطون لمعافاة السياسة هي: أن يتمّ تأسيس الانسجام بين طبقات الدولة، بأن تنصرف كل طبقة إلى شؤونها الخاصة حتى تسود العدالة الحقيقية داخل المجتمع، فيكون الانسجام قائماً على أسس صحية يشبه انسجام قوى النفس في البدن، حيث القيادة تكون للقوة العقلية، ثم تأتي بعدها في الأهمية القوة الغضبية، وأخيراً القوة الشهوية. لقد ظلت هذه الوصفة تعمل في الخطاب الفلسفي السياسي حتى بعد أفلاطون، خصوصاً عند مفكري الإسلام: كالفارابي وابن باجة، ثم ابن رشد تحديداً الذي يعتبر العدالة فضيلة الدولة وغاية تدبيرها المدني والسياسي؛ فهي تقوم على ثلاثة مبادئ: أولها، تقيّد كل طبقة من الطبقات الثلاث (الحكام والحُماة والطبقة المنتجة) بالعمل على تحقيق كمالها الخاص من دون التطاول على كمالات الطبقتين الأخريين؛ وثانيها، أن تتعاون الكمالات فيما بينها لخدمة بعضها البعض الآخر، لإضفاء الطابع الكلي على العدالة. أمّا المبدأ الثالث لعدالة المدينة الفاضلة، فهو تبعية كمال الطبقة الأدنى لكمال الطبقة الأعلى في مقابل إفادة الأعلى للأدنى، واشتراك كل الكمالات (الوظائف) لخدمة الكمال الأعلى للدولة، وهذا هو التدبير العقلي للحكم السياسي الذي يقوم به الفلاسفة.[6]
إنّ المرض الذي يتهدّد الممارسة السياسية آتٍ بالأساس من انعدام هذه العدالة، مما يتسبّب في نشوء أخطر أمراض السياسة إطلاقاً، وهو "وحدانية التسلط" الذي يعني به ابن رشد الاستبداد بالحكم من طرف الحاكم الطاغية. لذلك فوجود الفلسفة باعتبارها كمالاً أولاً تتجّه إليه كل الكمالات الخاصة، هو الذي يضمن تطابق كمالات الجمهور مع كمالات الخاصة؛ أي وحدة الدولة التي هي غاية العدالة.[7] يصرّح ابن رشد في هذا الخصوص بما يلي: "لمّا كانت نسبة المدينة إلى المدينة (مدينة الاجتماع ومدينة الغلبة) كنسبة الرجل إلى الرجل (صاحب سياسة الاجتماع وسياسة وحدانية التسلط)، فإذن ليس هناك أسعد من الملك الفاضل، وليس هناك أعظم شراً من "وحداني التسلط" (أي الحاكم المستبد).[8]
هذا هو مرض السياسة بامتياز لدى ابن رشد. أمّا باقي الأمراض الأخرى، فآتية منه بلا شكّ؛ فهو أس الأمراض السياسية كلّها كما عبّر عن ذلك خير تعبير عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الرائع "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" حين قال: "إنّ السياسيين يبنون استبدادهم على أساس من هذا القبيل، فهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسّي، ويذللونهم بالقهر والقوّة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم، عاملين لأجلهم، يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون."[9]
أمّا الفيلسوف المغربي ابن باجة (الذي بلور نموذج المفكر المتوحد في رسالته الشهيرة "تدبير المتوحد"[10] كرد فعل على فساد المدينة واستحالة العيش والاندماج فيها للإنسان الفاضل)، فقد دفع بوصفته الصّحية للفعل السياسي إلى مداها الأقصى حينما اقترح مفهومي: التدبير والتوّحد أو الاغتراب عن الوسط السياسي المريض كحل علاجي جذري للمرض السياسي المنتشر في زمانه في المدن الجاهلة. ويقصد هذا الفيلسوف بالتدبير تنظيم جملة من الأعمال على خطة معلومة، وذلك قصد التفكير فيها قبل إنجازها، لتوجيه أعمال الإنسان والمجتمع في ترتيب يقتضي التفكير والرّوية التي تحصل فقط لدى من يملك على هذه الأرض قوة تفكير تُرتّب الأعمال وتُوجّهها نحو هدف معين. أمّا الإنسان الذي يمارس هذا النوع من التدبير، فهو المتوحّد المفرد الذي يحيا حياة مفردة سواء في نفسه أو مع غيره. وقد ينطبق ذلك أيضاً على الجماعة أو المدينة المؤلفة من أفراد مفردين يحيا كل واحد منهم في نفسه ويحيا كلهم فيما بينهم حياة يدبّرها الفكر وتوجّهها الرّوية؛ فهؤلاء كأنهم فيما يخضعون له من فكر وروية وفيما يأخذون به أنفسهم من تدبير في أفعالهم النفسية والخلقية والاجتماعية، إنما يعيشون غرباء عمّن ليس منهم ولا شبيه بهم.[11]
كذلك يعتبر ابن باجة أنّ حكم الفيلسوف هو أحسن أنواع الحكم الممكنة على الإطلاق؛ فهو الحكم الذي يكون فيه المتوحّد المقرّ بوحدانية الله، المنتفع بحسنات الحياة البعيد عن كل مفاسدها، الساعي إلى السعادة الأبدية من وراء كل عمل يقوم به، فإذا سار أفراد مجتمعه على هذه الطريقة كانوا متوحّدين، وإذا استطاعوا أن يستميلوا أبناء بيئتهم إلى ممارسة الفضيلة وحبّ الخير وتحصيل الفلسفة والعلوم أنشؤوا مجتمعاً فاضلاً على رأسه فيلسوف حكيم. لكن ليست هذه السياسة غاية في حد ذاتها عند هذا الأخير، بل هي مجرد وسيلة لغاية أخرى هي الكمال الذي تكون به السعادة الحقيقية التي تحصل بالاتصال الحقيقي بالعقل الفعّال.
فعلى الرغم من أنّ الإنسان مفطور على حاجته إلى الاجتماع والتعاون، ولديه رغبة طبيعية لأن يعيش في الجماعة بما هو كائن مدني بالطبع كما يقول أرسطو، إلا أنه كذلك مدني بالذات، فيجوز أن يعتزل المجتمع إذا كان غير فاضل. لا يناقض ابن باجة هنا ما يقوله المعلم الأوّل أرسطو من قبل من أنّ الإنسان مدني بالطبع وأنّ الاعتزال شر كله؛ لكن قد ينفصل الإنسان بحسب رأيه عما هو بالذات عرضاً، وهذا ما يجري في أحوال كثيرة. فمثلاً اللحم والخبز نافعان بالذات لكن قد يعرض أن يكونا ضارين. كما يحدث في بعض أحوال المرض فيضطر المريض إلى ترك ما هو نافع بالذات ضار بالعرض، أو طلب ما هو ضار بالذات نافع بالعرض كالأفيون والحنظل الذي يستشفى به.[12]
إذن، فالمتوحد يلزمه مراعاة الظروف المدنية التي توجد حوله، فإذا تنافت مع طبيعته العقلية وما تصبو إليه من "الاتصال" وجب عليه آنذاك الانفصال عما هو جزء من طبيعته تحقيقاً لغايته العقلية المثلى. وهذا لا يتناقض مع ما قيل في العلم المدني الأرسطي، ولا مع ما تبيّن في العلم الطبيعي الذي سبق أن تأكد فيه الطابع المدني للإنسان؛ لكن الاعتزال الذي يدعو إليه ابن باجة، إنما هو بالذات كما أنه بالعرض خير للمتوحد، لأنّ له فيه النجاة بنفسه من شرّ المدن الجاهلة المريضة.
هكذا يمكن اعتبار نموذج المفكر المتوحّد لدى هذا الفيلسوف نوعاً من الردّ العنيف على واقع سياسي مريض ونظام اجتماعي أصبح غير مطاق، بل هو مصدر تهديد حقيقي لهذا الأخير، الشيء الذي حتّم عليه الاعتزال قصد تدبير توحده بما يؤدي به إلى النجاة بنفسه على طريقة الفضلاء السعداء في وحدتهم الفكرية والسياسية والوجودية التي تجعل تدبير وحدتهم سياستهم المثلى وعزلتهم الفكرية بمثابة أوطانهم الحقيقية.
إنّ الخلاص الفردي الذي دعا إليه ابن باجة، يؤكّد أنّ الحل الأخير المتبقي للنابت أو المتوحّد في ظل سياسة مريضة تسير بالمجتمع نحو هلاكه حين يغدو مجتمع ظلم وشقوة تحكمه أهواء أهله وحكامه؛ إنّ مثل هذا الخلاص يعزّز فرضية الانسحاب من الساحة كنوع من الاحتماء والنجاة. لذا فمتى تيقن المتوحّد من استحالة قيام المدينة الفاضلة في مجتمعه، عند ذلك أمكنه أن ينتقل إلى حياة العزلة والتوّحد داخل المجتمع نفسه، موجداً لنفسه نمطاً جديداً من الحياة الروحية التي قد تسعده وتحقق له الاتصال بالعقل الفعّال.
تعتبر هذه الحياة الخاصة والفردية الموافقة للعقل والفضيلة أرحم للمتوحّد من الحياة البهيمية الجاهلة التي تكون عليها المدن غير الفاضلة؛ فهي وإن كانت اضطرارية إلا أنّها الدواء والعلاج المؤقت في ظل السياسات المريضة التي تكون عليها المدن الجاهلة. لذلك تسجّل هذه الوصفة الصحية التي يقدمها ابن باجة للسياسة المريضة، حتمية الانسحاب المتدرج للفيلسوف من الحياة الاجتماعية بشكل عام، ومن مهمة تدبير الشأن العام التي حددها له كل من أفلاطون والفارابي بشكل خاص.
هكذا، يتضح مدى اهتمام بعض فلاسفتنا المسلمين في فتراتهم التاريخية بمشكلة صحة أو مرض السياسة، بل كانتهذه المشكلة تقع في صلب اهتمامهم بمجتمعاتهم الإنسانية التي كانوا يعاينون ظواهرها الأخلاقية والسياسية. إنّ صرف النظر إلى فحص السلوك السياسي للمدنيين والحكام على حدّ سواء، يكشف عن مدى صحة ممارستهم السياسية أو عدمها؛ وهذا ما يساعد على تحديد طبيعة النقد الذي يستوجبه واقع تلك الممارسة. فجملة الأمراض التي قد تصيب مجتمعاً بشرياً حين تفسد أحواله السياسية أو تقع في أيدي أناس جهلاء قد يسيرون بها نحو الهلاك والفساد هي: الاستبداد أو وحدانية التسلّط كما قال ابن رشد، أو الغلبة والخسّة والضلالة والجاهلية والنذالة كما عبّر عن ذلك سابقاً الفارابي، أو البهيمية والجهالة كما تحدّت عن ذلك ابن باجة.
لذلك من المفيد جدّاً استعادة هذه المقاربة الطبّية التي ركزّت عليها الفلسفة السياسية الإسلامية الكلاسيكية، بالنظر إلى حجم الفساد الذي تعرفه السياسة في عالمنا العربي الإسلامي اليوم، ومدى حاجتها الماسة حالياً إلى تقويم علاجي جديد، يتجاوز الطروحات الاختزالية والتحليلات السياسوية والأيديولوجيّة التي لا تغني ولا تسمن من جوع في أغلب الأحيان.
لقد اتضح لنا عند عرض هذه المواقف توافق الآراء الفلسفية الإسلامية إزاء مشكلة مرض السياسة، حيث يلحّ كل من الفارابي وابن باجة وابن رشد على الدور الطبّي للفيلسوف في علاج المدن الضالة والجاهلة، رغم أنّ نموذج ابن باجة الطبّي في نظريته للمتوحّد يسير نحو أفق الانسحاب من الممارسة السياسية تماماً لاقتناعه باستحالة علاج المجتمع الجاهل البهيمي من مرضه السياسي المزمن، وذلك قصد الحفاظ على صحّة وسلامة المتوحّد من عدوى هؤلاء البهيميين الذين يشكلّون الأغلبية في هذا المجتمع.
إنّ السياسة العربية مريضة بالجهالة والبهيمية منذ البداية؛ أي منذ تشكل الدولتين التيوقراطيتين الأوليتين: الأموية والعباسية. فهي ولدت معوّقة منذ بدايتها الأولى، وللأسف الشديد لم تقم الأحكام السلطانية وأدبياتها إلا على تعزيز مرضها ذاك، بينما ظلّت المحاولات الفلسفية التي قارب بها فلاسفة الإسلام هذه الظاهرة الثقافية والتاريخية بعيدة حتى عن التقويم والاهتمام، والاختبار والتجريب، رغم علاتها الكثيرة هي أيضاً. لكن تبقى تلك المحاولات ذات قيمة تاريخية وفلسفية عندما نريد مساءلة مدى صحّة أو مرض السياسة العربية القروسطية في شكليها: الجاهلي والبهيمي الكلاسيكيين.
[1]ـ نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بدون تاريخ، بيروت ـ لبنان.
[2]ـ الفارابي، فصول منتزعة، تحقيق فوزي النجار، الطبعة الثانية، سنة 1993، دار المشرق، بيروت- لبنان، ص 23
[3] ـ ابن مسكويه، الفوز الأصغر، تحقيق صالح عضيمة، سنة 1987، الدار العربية للكتاب، ص 118
[4]ـ أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكرياء، دار الوفاء، طبعة سنة 2004، ص 387
[5]ـ عبد السلام بن عبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، دار الطليعة بيروت، ط4، سنة 1997، ص 71
[6]ـ م المصباحي، فلسفة ابن رشد، سلسلة سير وأعلام، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2011، ص 24
[7]ـ م المصباحي، المرجع السابق، ص 25
[8]ـ ابن رشد، الضروري في السياسة، نقله عن العبرية أحمد شحلان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 2002، ص 201
[9]ـ عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار النفائس، الطبعة الرابعة، 2011، ص 46
[10]ـ ابن باجة، تدبير المتوحّد، تحقيق معن زيادة، دار الفكر الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1978
[11]ـ زينب العفيفي، ابن باجة وآراؤه الفلسفية، دار الوفاء الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2001، ص ص 334- 335
[12]ـ زينب العفيفي، المرجع السابق، ص 336