السيرة وأصول المناقب
فئة : مقالات
اهتمت السيرة في العصور القديمة بتاريخ الرجال العظام والأبطال الكبار، من الملوك والوزراء والقادة العسكريين، والبطل في هذه السير هو الصانع الوحيد للتاريخ، ذلك ما آمن به المؤرخون القدامى في بلاد الإغريق وروما، فقد سادت نظرية "الرجل العظيم" في الكتابات التاريخية والسِّيَرِيَة، واستمرت بصماتها في الكتابات اللاحقة، ومازالت تحتل سير العظماء إلى يومنا هذا مكانًا مركزيًّا تبوأته منذ النشأة الأولى.
لقد مَثَّلَتْ الكتابات التي تمجد الرجال العظام في العصر اليوناني جزءًا من التاريخ وذاكرة الشعوب، وفي أحضان هذا التاريخ ازدهرت كتابات البيوغرافيا، واستمرت على المنوال نفسه خلال العصور الوسطى، حيث كثرت سير القديسيين، واحتلت منذ ذلك الوقت في مجال التاريخ والأدب مكانًا مرموقًا.
تسعى السيرة إلى إحياء الموتى، فحياة الإنسان إذا ما دُوِّنَتْ سلمت من الموت، إذ كاتب السيرة يقوم عن طريق اللغة بخلق الحياة من جديد، وبالتالي تخليدها، لقد كان ذلك غاية ما سعى إلى تحقيقه كزينيفون في شأن معلمه الفيلسوف سقراط، حيث وضع كتابه المخلدون، ولقد حالفه التوفيق. ويؤكد مؤرخو العصور القديمة أنّ عادة تأبين عظماء الرجال بعد موتهم تخليدًا لذكراهم انتشرت في روما وفي مصر، فلقداسة الملوك الفراعنة حُنِّطَت أجسادهم صونًا لها من الاندثار بعد الدفن، وبنيت لهم –بالتخصيص- أهرام خالدة حملت أسماء أصحابها[1].
ولأهمية السيرة في تتبع مسار حياة الفرد بغرض رسم صورة واضحة عن شخصيته وتخليد ذكراه، ازدهر هذا النوع من الكتابات في التراث العربي الإسلامي أيضًا، ويمكن اعتبار الكتب السماوية الثلاثة من الناحية الفنية واحدًا من أهم المصادر الرئيسية للتراجم الغيرية، كما أصبحت قصص الأنبياء السابقين، وحكايات الصالحين، وكرامات الأولياء تمثل روافد غنية لفن التراجم الغيرية لدى الكتاب المسلمين، فنتج عن ذلك لاحقًا تراكم عدد من التراجم تتفاوت درجتها من حيث القيمة والأهمية كما أكد أندري موروا[2].
يعد محمد بن إسحاق (ت151هـ/768م) أول مؤرخ عربي كتب سيرة النبي (ص)، وأطلق تسمية سيرة رسول الله على كتابه الذي يعتبر من أكثر سير النبي شيوعًا بين المسلمين حتى اليوم، والمعروف بـ سيرة ابن هشام. وبقي هذا المدلول قائمًا حتى القرن الرابع عشر الهجري، حيث كتب أحمد بن يوسف (ت340هـ/951م) سيرة أحمد بن طولون، ولاحقًا تم التمييز بين السيرة والترجمة، حيث استعملت لفظة الترجمة بمعنى آخر في اللغة، فتَرْجَمَ كلامَه إِذا فسره بلسان آخر؛ ومنه التَّرْجَمانُ، والجمع التَّراجِمُ، أما السِّيرَةُ، بالكسر: فمعناها السُّنَّةُ، والطريقةُ، والهيْئَةُ، والمِيرَةُ، وسِيرَةً: بمعنى جاءَ بأحاديثِ الأَوائِلِ، (أنظر القاموس المحيط)، وهذا المعنى نفسه في صحاح اللغة يقال: سارَ بهم سِيرَةً حَسَنَةً، والسِّيْرَةُ: السُّنَّةُ، وقد سَارتْ وسِرْتُها؛ وفي لسان العرب السِّيرَةُ: الطريقة، يقال: سارَ بهم سِيرَةً حَسَنَةً. والسَّيرَةُ: الهَيْئَةُ. وفي التنزيل (سنُعيدها سِيرَتها الأُولى)، وسَيَّرَ سِيرَةً: حَدَّثَ أَحاديث الأَوائل، وسارَ الكلامُ والمثَلُ في الناس: أي شاع[3].
استخدمت لفظة السيرة للتعبير عن تواريخ الحياة المسهبة، والترجمة للتواريخ المختصرة، وتعد كلمة "السيرة" أقدم استعمالاً في التراث العربي من حيث مدلولها في تتبع تاريخ حياة شخص من الأشخاص. ويرجع بعض الدارسين أصلها إلى اللغة الآرامية، وقد استعملها أبو جعفر محمد العقيلي وعبد الرحمان ابن أبي حاتم في القرن الرابع الهجري، ولاحقًا استعملها الخطيب البغدادي في القرن الخامس الهجري. في معجم البلدان، وقصد بها حياة الشخص.
إنّ اهتمام شيوخ الحديث بالحياة الشخصية والعلمية لرواة الحديث تمخض عنه لاحقًا تدوين سير الرجال، وبرز "علم الجرح والتعديل"، وهو من التجارب الرائدة في تمحيص تاريخ حياة شخصية ما. وقد تأثرت السير الأولى بمنهج المحدثين، حيث كان الكاتب كلما ساق خبرًا قدم له بسلسلة الرواة، وهذا ما يعرف بالسند، وبمرور الوقت تخلص كُتَّاب السير من هذه السلاسل، وأنجزوا معاجم لطوائف من العلماء، والقضاة، واللغويين، والفقهاء، والمؤرخين، والمتصوفة، وغيرهم، فيما عرف بفن التراجم والطبقات والمناقب، وقد أدى ذلك إلى توفر إنتاج مهم في مجال كتابة السٍّير، وفتح المجال واسعًا أمام تناول تراجم الرجال في شتى فنون المعرفة الأخرى، وقد أضحت المادة البيوغرافية توضع حسب تتابع الأجيال باستخدام الأسلوب الأبجدي في الترتيب، كما كانت تشكل الحياة الجزء الأساس من المادة البحثية.
أسست السيرة النبوية -إذن- فنًّا جديدًا هو فن السيرة، انتقل منذ فترة مبكرة إلى مجال الكتابة التاريخية، وأخذ المؤرخون من السيرة النبوية الكثير من تفاصيل النموذج، ففي البداية تبدأ السيرة بذكر النسب، ثم تنتقل إلى تعداد الأوصاف والشمائل وبعض المناقب والكرامات، على غرار المعجزات النبوية، حتى لم يعد في بعض هذه السير لاحقًا –خاصة لدى الزهاد والمتصوفة - مكان للحديث عن الوقائع التاريخية.
ومن أشهر السير التاريخية التي كتبت بعد السيرة النبوية، نجد سيرة عمر بن عبد العزيز التي كتبها محمد بن عبد الحكم أواخر القرن الثالث الهجري، وسيرة صلاح الدين الأيوبي المسماة النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية التي كتبها القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد في القرن السادس الهجري، وهذان النموذجان من السير التي تتمحور حول شخصية الحاكم أو السلطان سَيُشكِّلان نموذجًا يُحتذى في جل كتابات السير على مدار التاريخ الإسلامي ككل، ونقف في القرن التاسع الهجري على مثال آخر لسيرة ملوكية اعتمدت الاختلاق والتلفيق بشكل مبالغ فيه، فقد كتب البدر العيني السيف المهند في سيرة الملك المؤيد شيخ المحمودي[4]، وهي سيرة لسلطان من المماليك الجراكسة، الذين خطفهم النخاسون من بلادهم وباعوهم بمصر، فلا يَعرف لهم أحد نسبًا، لكن الكاتب العيني خصص بابًا كاملاً عن أصل السلطان المؤيد وجنسه، رصد فيه تاريخ البشرية من عهد آدم إلى أن وصل إلى الفرع المسمى الجراكسة، ثم تتبع مراحل تاريخهم حتى وصل إلى بطن منهم يُكَنَّى كرموك، ثم تتبع ملوك كرموك إلى أن وصل إلى رجل يقال له إينال، فجعل السلطان المؤيد من ذريته، وذكر أنّ له أصلاً شريفًا كبيرًا بينهم، مشهورًا بالشجاعة والشهامة والمروءة والكرم، وبعد البحث في الأصل والفرع، خصص العيني بابًا آخر في معنى اسم السلطان وما يدل عليه، فذكر أنّ ذاته معظمة وموقرة، فالشين في اسمه تدل على شرفه، والياء تدل على يمن أمره ويسره، والخاء تدل على خير أفعاله وأقواله، وتناول في الباب الثالث كُنْيَة السلطان شيخ، جاعلاً منها دليلاً على كونه منصورًا في كل حركاته، وقد تتبع لفظة "نَصَرَ" ومشتقاتها في اللغة والقرآن، ليبين شرف الكنية، ثم أورد في السياق أسماء الخلفاء الذين اشتهروا بهذه الكنية، بغرض إثبات حسن سيرة حياتهم، مؤكدًا أنّ كل أيامهم كانت أيام سعد وفتوحات وانتصارات، وفي الباب الرابع بحث في لقب السلطان المؤيد وما يدل عليه، ولأنّ لقب المؤيد لا يحتاج إلى باب كامل، فإنّ مؤرخنا -وليتخلص من الحرج- اتجه للبحث في الألقاب منذ بدء الإسلام مرورًا بالخلفاء الراشدين، والعباسيين، فالفاطميين، فالبويهيين، فالأيوبيين، حتى وصل إلى المماليك، وذكر منهم المؤيد، وهو بيت القصيد، فتحدث عن لقبه في ما يقل عن ثلاثة أسطر.
إنّ عنوان هذا الكتاب يحيل إلى سيرة الملك المؤيد، ولكن دوره في أكثر فصوله لا يعدو أن يكون مدخلاً للعديد من القضايا البعيدة عن حياته، فشخصيته لا تبدو إلا على مسافات متباعدة داخل المتن، حتى أنّ القارئ يستشعر أثناء قراءتها مدى بعدها عن حقيقة سيرته. وقد صدرت المخطوطة بمكتبة باريس بنبذة مذيلة بهذه الملاحظة: "ومؤلف الكتاب بدر الدين العيني، يبتعد في كل لحظة عن موضوعه، فإذا أراد أنّ يخبرنا أن المؤيد من أصل تركي، فهو يبدأ بخلق العالم، وخلق الملائكة والناس والجن، ولكي يقول لنا إنّ المؤيد كان يلقب بأبي النصر، فإنّه يذكر عددًا كبيراً من الملوك والسلاطين والوزراء الذين اتخذوا ألقابًا، وعليك الانتظار إلى الفصل التاسع-أي قبل أن يوشك الكتاب على نهايته بأربع عشرة صفحة- لكي تعلم أنّ المؤيد مَلَكَ مصر في سنة 815ه".
العديد من كتابات السِّير الملوكية سارت على النهج نفسه، فأغلبها سير ذات رؤية مناقبية، غريبة في مبناها ومعناها، أقرب ما تكون إلى الأعمال الخارقة منها إلى الحقيقة، وعلى سبيل المثال أنجز علي بن محمد السوسي السملالي في القرن 19م سيرة للسلطان الحسن الأول، بنى من خلالها صورة له يتقاطع فيها المعقول بالخيال، فالحقائق التاريخية غائبة تمامًا، وغير خاضعة للنقد والفهم وإعادة التوجيه، بل بالعكس لا تحضر الروايات والوقائع التاريخية إلا في سياق عرض إيجابيات حكم السلطان الحسن، وقد تعمد علي السملالي إضفاء هالة من القداسة على الأحداث، بهدف الرفع من قيمة ولي نعمته إلى مقام الشخصيات غير العادية في التاريخ، وهنا ابتعد المؤلف عن هموم عصره، فقد كان هدفه إقناع القارئ، من خلال استخدام شتى الأدلة، بأفضلية تاريخ المغرب في ظل حكم السلطان الحسن، فخرج بذلك عن حدود العقل ورصد خمسة أدلة -لا منطقية- ارتكز عليها للتدليل على صدق نظريته، شرحها بالتفصيل في الفصل الثالث من كتابه، كما سيأتي لاحقًا، ونقدمها مختصرة هنا، الأولى: الراية المبعوث بها إليه من المدينة المشرفة، وهي على ما قيل ممن كانت تعقد بين يدي الرسول (ص)، الثانية: الفتح الذي وقع له بدخوله فاس في ساعتين، الثالثة: أنّه الثامن ممن تسمى بالحسن منه إلى جده الحسن السبط، والعدد الثامن يدل على أنّه واسطة عقدهم، الرابعة: أنّه السابع ممن جلس على سرير ملكه من آبائه وأجداده منه إلى المولى إسماعيل، الخامسة: الفأل المأخوذ من اسمه الحسن، والفأل موروث عن سيد الأنام، فهذه الأمور الخمسة تدل عقلاً ونقلاً على قوة ملكه وشد أركانه[5].
إنّ أغلب الكتب التي تتناول سير السلاطين بالمدح، تتطرق إلى البحث في اسم السلطان وما يدل عليه، ونظير ذلك كثير، فعند حديث أبي القاسم الزياني في الروضة السليمانية عن بيعة السلطان سليمان في أول رجب عام 1206هـ، ذكر أنّ هذا الاسم النبوي ما تسمى به أحد من الملوك إلا كان من أهل العدل ببركة النبي سليمان، الذي وهب الله له ملكًا لم يكن لأحد من بعده، بل أضاف بالقول: "وقد اختبرت هذا الاسم الشريف في كل من تسمى به من ملوك الدول، كسليمان بن عبد الملك، وسليمان بن سليم العثماني، وسليمان بن عبد الله المريني، وسليمان بن محمد العلوي".
بالإضافة إلى هذا النوع من السِّير التي يدور جوهرها على تأكيد عُلُوِّ أخلاق السلاطين، ورسوخ حكمهم وحسن سيرتهم، من خلال اقتباسات بالنقول والعقول من سير الملوك الفرس واليونان والروم والعرب، ازدهر نوع آخر يطلق عليه اسم السير الشعبية، وهي نماذج لسير يختلط فيها الخيال الشعبي بالأعمال الخارقة بجزء من الأحداث الحقيقية، كما عليه الحال في سير الأبطال المقاتلين أمثال: سيف بن ذي يزن، وعنتر بن شداد، والظاهر بيبرس، وأبي زيد الهلالي، أو في سير "الأبطال" من المتصوفة أمثال الحلاج والسهروردي.
لقد تفنن المسلمون في كتابة التاريخ والسِّير، وأنتجوا نماذج مختلفة منها، لكنهم لم يفكروا في المذكِّرات الشخصية، وقد افترض بعضهم سبب ندرة السير الذاتية قديمًا أنّ أهل العلم عدلوا عن الترجمة لأنفسهم مادام غيرهم سيتولون ذلك نيابة عنهم، أما الافتراض الثاني فينطلق من كون خُلُقِ العربي وسمات نفسيته لا تسمح له بالحديث عن نفسه، ثم إنّ هناك رؤية أخرى مختلفة في التراث الإسلامي، فرواية حياة المرء لها هدف ديني يتمثل في الحمد والشكر لنعم الله، وهناك نص قرآني يستشهد به (وأما بنعمة ربك فحدث). نجد هذا النص حاضرًا في عناوين أعمال ذات مضمون أوتوبيوغرافي، مثل التحدث بنعمة الله للسيوطي، ولطائف المنن للشعراني، الشيء نفسه ينطبق على كتاب الاعتبار للأمير الشامي أسامة ابن منقذ (1095-1188م)، وهذا كتاب فريد من نوعه، لم يُكتَشَف إلا في أواخر القرن 19م على يد هرتويغ ديرينبورغ، الذي وجده بمكتبة الأسكريال بمدريد، وقد قام بنشره سنة1886م، تُرجم إلى العديد من اللغات الأوربية. روى فيه ابن منقذ جزءًا من سيرته الذاتية، ويمكن عَدُّ هذا الكتاب المُكْتَشف نموذجًا بَدْئِيًا للسيرة الذاتية في الأدب العالمي، وإن كان بعضهم رَشَّحَ نصوصًا لاحقةً باعتبارها نماذج لسير ذاتية أوّلها المنقذ من الضلال للإمام الغزالي (1058-1111م)، والذي حدد فيه مؤلفه غايته من سيرته في بداية كتابه في صورة رد على رسالة على صديق بالقول "سألتني أيها الأخ في الدين أن أبث إليك غاية العلوم وغائلة المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرق"، وهذه السطور توحي للقارئ أنّ الغزالي سيتحدث عن رحلته الفكرية التي ترتبت عليها رحلته المكانية من بغداد إلى نيسابور، وبالفعل فقد قدم نقدًا للمذاهب والفرق الكلامية في عصره، وفي الوقت نفسه عبر عن أحاسيسه الداخلية، ومشاعره الروحية، والملاحظ أنّ الكتاب لا يتطرق للحديث عن السياسة والدولة السلجوقية التي عاصرها ولا الغزو الصليبي الذي تعرض له العالم الإسلامي في عصره، وهي سيرة ذات لغة فلسفية ودينية[6]. أما الكتاب الثاني فهو التعريف لابن خلدون (1332-1406م)، وقد سجل فيه سيرة حياته بقلمه، وتتبع فيها تقلباته بين أهم الدول في عصره، وتحدث عن الملوك والشخصيات التي عاصرها والأحداث التي كان طرفًا فيها، وإلى جانب ما سبق تحدث عن مؤلفاته وأشعاره ورحلاته. إنّها سيرة تجمع بين الأحداث العامة في بلاد الغرب الإسلامي والأحداث الخاصة المرتبطة بشخصه.
ومهما يكن من أمر، -وإذا استثنينا ابن خلدون - فإنّ ما يؤخذ على مجمل كُتَّاب السير والتراجم عند المسلمين عمومًا نمط الكتابة الذي ظل على حاله، وبالمكونات نفسها، فالمنهج المتبع في التصنيف يبدأ في مجمله بالحديث عن سلسلة النسب، ثم تاريخ الميلاد، والشيوخ، والكتب التي نهلوا منها، ثم الإجازات التي حصلوا عليها، والمناصب التي تقلدوها، والأسفار، والمؤلفات...، كان الهدف الأساسي من هذه التراجم والسِّير التوثيق الأدبي والعلمي، والتفاخر بالأنساب، وبالعلم، والصلاح، ولم يكن الهدف تقديم صورة عن تطور الذات، مما لا يسمح بتتبع تاريخ الشخصية ولا بتصوير الحياة اليومية. فالعديد من النصوص تزخر بالحديث عن شخصية الولي الذي يعرف ما جرى وما سيجري، فالتحدث بالغيب والظهور في المنام للإخبار بشيء ما، هي بعض من الأعمال العجيبة التي تقوم بها هذه الشخصيات لتوجيه الأفعال أو لتحريك الأحداث. إنّ الولي الصالح والعالم التقي سواء كان حيًّا أو ميتًا يساهم بدور هام في صنع الأحداث، فشخصيته تكتسب ضمن المخيلة الجماعية خاصيات تفريدية، من بينها خرق العادة، والإعجاز، والشفاعة، وطي الأرض، والمشي فوق الماء، وتأويل الرؤية، وتشوف المستقبل، وتقديم النجدة عند المرض ونزول البلاء. وفي كل هذه المواضيع يكتشف القارئ أنّه أمام قصص نمطية تعيد بوضوح قصص الأنبياء بعد تحويرها، ولا تُنْسَبُ هذه الخوارق بشكل اعتباطي إلى هذا الولي أو ذاك، بل تنتمي إلى أنواع تعكس درجات المجاهدة، ومراتب الولاية، وفق تعريفات وردت في أدبيات علم التصوف، فأحداث الكرامة هي إذن علامات ورموز لا تخلو من منحى استعاري، وهي في آن واحد نصوص تربوية تُرَغِّبُ في منافع مجاهدة النفس حسب المؤرخ عبد الأحد السبتي. وعليه فكتب التراجم والمناقب توظف عناصر ملازمة لها، وذلك قصد إثبات الشرف أو الوجاهة، ويَتِمُّ استحضار هذه المعطيات البيوغرافية داخل العائلات التي تبحث عن تأييد هيبتها، أو رأسمالها الرمزي، وهذا الأمر تفطنت له العديد من الدراسات التي اهتمت بهذه المسألة[7].
ما تتضمنه السير والتراجم والمناقب والأنساب والفهارس من أخبار وروايات لا تمنحنا الصورة الحقيقية لحياة الفرد، فهذه المصنفات لا تهتم بالجوانب البيوغرافية للشخصيات المترجم لها، بقدر ما يستهويها التركيز على الجوانب البلاغية، والمغالاة في الإطراء والتبجيل، من خلال تعداد الخصال الحميدة، والأخلاق الفاضلة، والمناقب والكرامات التي تضفي على الشخصية المترجم لها طابع القدسية والولاية والصلاح، بالإضافة إلى أنّ نِصْف التعريف بالشخصية يضيع في استطرادات وأشعار لا علاقة لها بقصة حياة المترجم له، فعلى الرغم من أنّه يمكن العثور على كثير من المعلومات التاريخية بين ثنايا هذه الكتابات، داخل ترجمة ولي من الأولياء أو زاهد من الزهاد، فإنّ المؤلف لم يقصد بها الإفادة من هذا الوجه، لأنّ هذه الكتب لا تفصل الكلام إلا في المناقب والكرامات والمشاهدات والفتوحات الربانية، فيصعب على الباحث أن يجد مادة تصور له الحياة الاجتماعية الحقيقية لهؤلاء، والشيء نفسه ينطبق وبصورة أكثر مغالاةً على سير القديسين المسيحيين في العصور الوسطى، والتي ترتكز على الخوارق والمعجزات. لابد إذن- حسب سعيد يقطين- من قراءة تاريخية جديدة تتوخى إزالة مختلف الترسبات الأسطورية ذات الملامح غير القابلة للإدراك، والتي تشكلت عبر الزمن بفعل العملية الخيالية التي ساهم الرواة في تشكيلها، وذلك بهدف الوصول إلى بعض الملامح الحقيقية والواقعية لهذه الشخصيات كما هي في التاريخ. لابد من قراءة نقدية وواعية لمختلف هذه الكتابات، باعتماد طرق التمحيص الحديثة، والعمل على تشكيل نسيج فني من حياة المترجم له، كما يجب استثمار هذه السير والتراجم عن طريق جعلها مدخلاً أساسيًّا لاستنباط جوانب من التاريخ الفكري والأدبي والديني والسياسي للمرحلة التي عايشوها، خاصة وأنّ هذه الألوان من الكتابات تدخل في إطار اهتمام دائرة كبيرة من القراء تتجاوز عشرات المرات حجم دوائر المهتمين بالقصيدة أو القصة[8].
[1] على سبيل المثال كلف بناء هرم خوفو جهودًا جبارة، فقد بني في مدة طويلة جاوزت 25 سنة، تناوب خلالها مائة ألف عامل كل ثلاثة أشهر.
[2] أندري موروا، فن التراجم والسبر الذاتية، تقديم وترجمة وتعليق أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، 1999، ص 5، من تقديم المترجم.
[3] راجع: لسان العرب لابن منظور مادة: السيرة.
[4] البدر العيني، السيف المهند في سيرة الملك المؤيد شبخ المحمودي، حققه وقدم له فهيم محمد علوي شلتوت، راجعه محمد مصطفى زيادة، دار الكتب والوثائق القومية، الطبعة الثانية، 1998، دار الكتب المصرية، القاهرة.
[5] انظر: علي بن محمد السوسي السملالي، مطالع السعادة في فلك سياسة الرئاسة. مخطوط بالخزانة الملكية تحت رقم 11445.
[6] راجع: أبو حامد الغزالي. المنقذ من الضلال، تحقيق سعد كريم الفقى، دار ابن خلدون، بدون، ص 6
[7] عبد الأحد السبتي، بين الزطاط وقاطع الطريق-أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2009، ص 312
[8] اندري موروا، فن التراجم والسبر الذاتية، م.س، ص 6 من تقديم المترجم.