الشخصيّة التونسيّة: محاولة في فهم الشخصيّة العربيّة
فئة : قراءات في كتب
تقديم كتاب:
"الشخصيّة التونسيّة: محاولة في فهم الشخصيّة العربيّة"
تأليف: المنصف ونّاس
لم يكن تناول الشخصيّة التونسيّة بالدرس والتحليل مبحثاً جديداً، فقد سبق البشير بن سلامة خلفه المنصف ونّاس في البحث عن خصائص الشخصيّة التونسيّة ومقوّماتها[1]، ولئن انتهج صاحب كتاب "الشخصّية التونسيّة خصائصها ومقوّماتها" منهج البحث في اللّغة والشغف بالتعلّم والتعليم والتركيز على المؤالفة وروح التعاون، فنزع بذلك إلى استحضار روح المواطنة والتماهي مع الخطاب السياسيّ السائد الذي كان يدعو إلى التشبّث بالهويّة دون انغلاق، ويؤمن بالتعليم سبيلاً إلى تحقيق تلك الأهداف، ويشيع نزعة تفاخر بالأمّة التونسيّة، فإنّ كتاب المنصف وناس يعدّ قراءة نقديّة متسلّحة بالمناهج الحديثة، نهلت، بحكم تكوينه، من مكتسبات علم الاجتماع، واعتمدت في مقاربتها للشخصيّة التونسيّة منهجاً يقوم على المراوحة بين المنهجيّة الكيفيّة والكمّيّة.
فأمّا المنهجيّة الكيفيّة فتقوم على الملاحظة المباشرة والملاحظة بالمشاركة والمقابلات العلميّة وخاصّة المقابلات التفهّميّة ويعتمد أيضاً على تحليل أربع حالات من مسارات الحياة بغية التعرّف على تفاعلات الأجيال مع مجتمع الجامعة[2].
وأمّا المنهجيّة الكمّية فتقوم على إجراء دراسة ميدانيّة تشمل عدداً من الولايات التونسيّة وعيّنة من الشبّان والكهول، قوامها خمس مائة شخص تمّ انتقاؤهم بشكل عشوائيّ.[3] ويقوم البحث على أساس مفهوم الشخصيّة القاعديّة، وهي تعني الخصائص التاريخيّة والأنثروبولوجيّة والاجتماعيّة المميّزة لمجمل مكوّنات المجتمع. وهي نوع من البناء المنهجيّ العام الذي يساعد على اكتشاف العناصر البنيويّة المتماثلة، التي تبني وعياً ومزاجاً مشتركيْن وسلوكيّات عامّة متقاربة أو تكاد. كما يعني هذا المفهوم البنيات الذهنيّة والفكريّة والمواقف المختلفة وأنماط التفكير وتمثّلات الأخلاق والقيم والحياة والموت والميتافيزيقا.[4]
لقد كان هذا المفهوم، رغم ما يثيره من الاختلاف، منطلقاً للحفر في مراحل تشكّل هذه الشخصيّة التي يتّسم مجتمعها بالاستقرار وبالتجانس العرقي، على الرغم من أنّها عرفت تنوّعاً نسبيّاً في مكوّناتها البشريّة التي جمعت بين القرطاجيين والرومان والوندال والأندلسييّن والأتراك والأجانب من الفرنسيّين والإيطاليّين والمالطيّين، وسيظلّ مفهوم الشخصيّة القاعديّة منطلقاً أيضاً لدراسة الشخصيّة الليبيّة.[5]
وقد بيّن المنصف ونّاس خصائص الشخصيّة التونسيّة الكبرى، فلاحظ أنّ لها قدرة على صهر كلّ التراكمات التاريخيّة وعلى تقبّل الإضافات الحضاريّة الوافدة، بما فيها المتناقضة منها، والتأقلم معها بكلّ ما يقتضيه ذلك من تقديم تنازلات.[6]
لقد أكّد المنصف ونّاس في أكثر من موضع على انفتاح الشخصيّة التونسيّة ومرونتها وعبقريّة تكيّفها، ولكنّ هذه السّمة لم تمنع من القول إنّ الفتح العربي الإسلامّي جعل من الإسلام، باعتباره ديناً وثقافة وحضارة، مرتكزَ شخصيّة البلاد التونسيّة، وقد حاول بورقيبة أن يعطي هذه الشخصيّة هويّة وطنيّة قطريّة متباعدة عن السياق العربي وخاصّة المشرقيّ.[7]
لقد حفر الكاتب في عمق الشخصيّة التونسيّة ليبحث في الرَّوْمَنَة وتأثيرها في مجتمع إفريقيا، وقد تجلّى هذا الأثر ثقافيّاً ودينيّاً ولغويّاً. وهو يعتبرها المسؤولة عن تهيئة شخصيّة مطواعة ومتقبّلة للواقع ومهادنة له جرّاء سياسة الاستعباد وفشل الانتفاضات. ويمضي الكاتب بحثاً في أثر الوندال والبيزنطيين وصولاً إلى تأثير الفتوحات الإسلاميّة والدول التي حكمت باسم الإسلام على أرض إفريقيّة.
وقد اعتبر الكاتب أنّ من أهداف دولة الاستقلال التي تزعّمها بورقيبة تحديث المجتمع، من خلال توحيد التشريعات وتطوير البنيات الذهنيّة الجماعيّة وتوحيد مرجعيّات المجتمع وإعادة تشكيل هويّة الإنسان التونسيّ، حتّى صارت تتميّز بالاعتدال وتنسف صرح الإسلام الشعبي القائم على الزوايا. ولكنّ هذا التحديث الدولانّي لم ينتج شخصيّة فاعلة حسب زعم الكاتب وإنّما ولّد شخصيّة تهرّبية تسمها الواقعيّة المفرطة التي تتحوّل في بعض الأحيان إلى شخصيّة قاعديّة شديدة المهادنة واللّامبالاة.
لم تكن الشخصيّة التونسيّة في نظر المنصف ونّاس متأثّرة بالأنظمة السياسيّة المتعاقبة على حكم إفريقيّة، ولكنّها تأثّرت أيضاً بالأوبئة والمجاعات، ممّا ولّد حسب رأيه ميلاً إلى طقوس الابتلاع في المناسبات الدّينيّة وهَوساً بالكنوز رسخت لديه عقليّة البحث عن الحلول الفرديّة. وقد كان الغذاء إجمالاً عاملاً أساسيّاً في رسم سمات الشخصّية التونسيّة، وولّد ظواهر مختلفة مثل حبّ الإثراء وشرعنة السلوك غير السويّ من أجل الوصول إلى الغايات المنشودة.
وينتقل الكاتب في هذا المستوى من تشخيص علل الشخصيّة التونسيّة إلى وصف للدواء المتمثّل حسب رأيه في إيجاد نماذج متعدّدة من القدوات، أو احتذاء مرجعيّات محدّدة تسمح له بتبيّن النماذج الإيجابيّة.
إنّ ما يميّز الشخصيّة التونسيّة عن الشخصيّة الأوروبيّة كونها تراوح في علاقتها بين الفرديّ والجماعيّ، وهو ما ولّد الشِّلليّة النفعويّة التي تقوم على مبدأي العلاقة النافعة والسعي المشترك للوصول إلى الموارد المادّية والاجتماعيّة والرمزيّة. ولا يستثني الكاتب الفضاء الجامعي من هذه الظّاهرة، بل يمضي في قراءة نقديّة ترصد كلّ سلوك اجتماعيّ سائد أساسه الوساطة والمحسوبيّة واعتماد الشتيمة في مواجهة الخصم، ليعبّر ذلك عن رفض المواجهة بدل المحاورة وتفضيل أسلوب الالتفاف على الصعوبات والمشاكل والتنازل عن ممارسة الحقّ، أو قل عدم الوصول إليه بطريقة قانونيّة ومؤسّسات مشروعة.[8]
لقد خصّص المنصف ونّاس الفصل الثاني من كتابه لتبيّن تجلّيات الواقعيّة في الشخصيّة التونسيّة، فبيّن أنّها شخصيّة زبونيّة وعرّفها بأنّها "جمهوريّة تبادل الغنيمة مقابل الولاء أيّاً كانت هويّته."[9] وهو قسم تأليفي حاول فيه الكاتب أن يجمل ما فصّل من السّمات العامّة للشخصيّة التونسيّة.
إنّها تأتلف حول محور الواقعيّة الذي يتجلّى عقلانيّة و"تركيزاً في مستوى التمثّل والسّلوك على تدبير المعيش اليومي وعلى الوفاء بمستلزمات الحياة."[10] مهما كانت السبل التي تؤدّي إلى تلك الأهداف. والتونسيّ بحسب ما انتهى إليه بحث المنصف ونّاس يتّصف بقَدَرِيّة وجبريّة واضحتين من خلال التأكيد على أنّ القدرة الإلهيّة هي التّي تهب الثروة، ولكن من المفارقات التي تحكم سلوكه أنّ الثروة يمكن أن تكتسب بطرق مختلفة خارج السياقات الدّينيّة، فالمال كثيراً ما يتحوّل في تصوّر التونسيّ إلى أولويّة. ولعلّ ذلك ما يفسّر السلوك الارتشائيّ الذي كثيراً ما يغتصب حقّ الغير، ويعبّر عن عدم امتثال للأخلاق الاجتماعيّة والقوانين والأعراف.
وإضافة إلى هذه السّمة الغالبة على الشخصيّة يبيّن المنصف ونّاس ملامح الشخصيّة التونسيّة المتوتّرة والعنيفة من خلال رصده لظاهرة العنف اللفظي في فضاء المقاهي والملاعب والمطاعم والحدائق العامّة، وانتشار هذه الظّاهرة بين شرائح واسعة من المجتمع التونسيّ، ونتيجة لهذه الظاهرة فقد اعتبر "الحجاب أعمق من أن يكون مجرّد علامة دينيّة. إنّه استراتيجيّة معيشيّة ذكيّة تهدف إلى التحايل الاجتماعيّ قصد تحصين الذات وتجنّب التعرّض للإساءة في الفضاء العمومي في مجتمع مفتتن بإثبات فحولته."[11] ولعلّ السبب الرئيس لهذه الظاهرة حسب رأي الكاتب هو خلوّ المجتمع من الحكماء الذين يتولّون دوراً أخلاقيّاً حاسماً.
لم يكتف الكاتب برصد العنف اللّفظي، بل سعى إلى بحث ميدانيّ درس فيه ظاهرة العنف المادّي في المجتمع التونسيّ، بكلّ ما يحمله من استخفاف بقداسة الذّات البشريّة، ويركّز على استعمال السلاح الأبيض وأثره المادّي والرمزيّ في مجتمعات مُولعة بالتصنيف حسب قوله.
تكاد تخرج من الكتاب على يقين بأنّ المجتمع التونسيّ هو مجتمع الشتيمة والعنف، وقد اعتبرهما الكاتب اغتيالاً رمزيّاً ودماراً معنويّاً ينسف الحوار والحكمة. وتلك في ظنّنا حقيقة نسبيّة إذ صارت اليوم حكراً على فئات من المجتمع من الشباب العاطلين والفئات الشعبيّة، وهي تقلّ بشكل كبير في الفضاءات التربويّة والعائليّة، وقد لعب التحوّل السياسيّ في تونس دوراً كبيراً في إعطاء المواطن دوراً أوسع للحوار قلّص من حدّة هذه الظاهرة، وليس أدلّ على شذوذ هذه الظّاهرة من أنّها تظلّ حكراً على المجالس الضيّقة، وإن جاهر بها التونسيّ صارت حجّة ضدّه وسمة لمستواه الأخلاقيّ المتدنّي. فلم تتحوّل الظاهرة في اللاوعي الجمعي إلى عنصر قوّة، بل هي علامة ضعف وعجز عن الحوار، ولئن وجدنا كثيراً من المشاركين في الجماعات المقاتلة اعتماداً على الشرعيّة الدينيّة للإسلام يحملون الجنسيّة التونسيّة، فإنّ التجاءهم إلى الهجرة من أجل تصريف عنفهم يظلّ دليلاً على رفض المجتمع التونسيّ تلك الظاهرة، إذ يظلّ المؤمنون بخيار العنف مبعدين نحو دول أخرى أو طريدين في الجبال، لا حظّ لهم في نيل شرعيّة التأييد والتعاطف، ويوجد اليوم شبه إجماع على استهجان العنف واعتباره أكبر العوائق التي تحول دون استكمال البناء الديمقراطي.
لقد توقّف المنصف ونّاس عند حادثة قتل شنيعة طالت طفلاً أزهق روحه ثلاثة رجال على مرأى ومسمع من أمّه التي كسرت يدها، لتكون منطلق بحث أثبت فيه شمول العنف فئات مختلفة، وبيّن فيه ارتفاع نسب العنف المسلّط على النساء، وأثبت دلالة العنف المدرسيّ على التنشئة المتوتّرة، والشخصيّة الأسريّة المتوتّرة. وبيّن تفكّك الروابط الاجتماعيّة في شخصيّة الحرفيّ، ومعضلة الفقر العلائقيّ في شخصيّة الجامعي من خلال عيّنات نقل بها مظاهر الفرقة بين الزملاء الجامعييّن وانتشار سلوك إلغاء الآخر وتبخيس جهده وشخصه. واعتمد شهادات حيّة لجامعيين أثبتوا أطروحته ودعّموا قوله بفقر العلاقات بين الباحثين في العلم.
ويخلص الكاتب إلى بيان دور الدّولة في تشكيل الهويّة الجماعيّة فيعتبر "أنّ الشخصيّة التونسيّة ذات قدرة على الصّهر، وهي قادرة على تقبّل الآخر وعلى الاندماج معه وتحصيل مكاسب عدّة."[12] وهو ما خلق أرضيّة ملائمة للاستقرار المجتمعيّ ونجاح البناء الدولانيّ، فشخصيّة التونسيّ مندمجة ومنفتحة رغم قسوة التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ، ولكنّها بالمقابل شخصيّة غير منتجة تهدر الوقت ولم تستبطن العمل، وهي كثيرة التذمّر والتأفّف، وليست المقاهي حسب رأي الكاتب سوى دليل حيّ على اغتيال الوقت وإهدار التواصل والتلاقي والتفاعل بين مكوّنات المجتمع، ويمضي أكثر في إثبات هذه الفرضيّة من خلال بحوث ميدانيّة، يستنتج بعدها أنّ الشخصيّة التونسيّة غير خلاّقة، إذ هي "تعتمد النقل بدل العقل والإشاعة بدل التدقيق والتمحيص وتبنيّ المعلومة دون تثبّت".[13] ونتيجة لذلك فقد كانت العلاقات الاجتماعيّة فضفاضة ورخوة.
لقد رصد المنصف ونّاس بحسّ نقدي ما ترسّب من سمات الشخصيّة التونسيّة، بل إنّ البحث في خصائصها صار يميل إلى تعديد مثالبها أكثر من تثمينه لمناقبها، وكأنّه ثار على كتاب بن سلامة ليقلبه رأساً على عقب ويستبدل مدحه هجاء، ولكنّ فضل هذه القراءة في كونها لم تكتفِ بمجرّد رصد لأزمات الشخصيّة التونسيّة، وإظهار الجرأة في كشف أمراضها الاجتماعيّة، وإنّما تجاوز ذلك نحو فصل ثالث عقده لإعادة بناء الشخصيّة والإنسان من مجتمع الزبونيّة إلى مجتمع الاقتدار، وفي هذا الفصل بيّن الانشطار اللافت في العيّنة الكمّية بين منظومة القيم التقليديّة ومنظومة القيم الحداثيّة، ولاحظ وجود مراوحة بينهما.[14] فقد صار الاستقرار المهنيّ أولويّة الأولويّات، ثمّ يأتي الاستقرار الصحّي. وهو يبدي توجّساً من المستقبل، ولكنّه مع ذلك حريص على أهميّة العمل وعلى صيانة العائلة من التفكّك وحريص على الانفتاح على التكنولوجيا وعلى استيعاب قيمها.[15]
تظلّ مسؤوليّة النخب كبيرة حسب تصوّر الكاتب في تفعيل التحوّل الديمقراطيّ والنهوض بالحياة السياسيّة والاجتماعيّة والمدنيّة والجمعياتيّة، وتلك آراء عرضها المنصف ونّاس قبل قيام الانتفاضات الشعبيّة التي أثبتت أنّ وسائل الاتصال الحديثة وأنّ الفئات المهمّشة من الشباب والعاطلين من العمل هي التي تولّت قلب الأوضاع وطرد الاستبداد، فقد ظلّت النخبة شبه متفرّجة، بل لعلّ هذه النخبة هي التي أغرقت الواقع الديمقراطيّ الجديد في خلافاتها الإيديولوجيّة القديمة، ولم تقم بدورها التاريخيّ في رسم ملامح المرحلة الجديدة، فهيمن السياسيّ على الاقتصاديّ والاجتماعيّ وغلبت النفعيّة على المصلحة العامّة وحقوق المستضعفين.
لقد ظلّ الدور النقديّ ضعيفاً ولم توجد بدائل تتلاءم مع طبيعة الأزمات التي انكشفت حجبها بعد طول طمس وتجاهل، ولم تفلح النخبة في اقتراح القدوة الاجتماعيّة والنموذج المثاليّ.
وتبقى أبواب الإصلاح مشرعة حسب رأي الكاتب متى عاضد الإعلامُ الأسرةَ والمدرسةَ في بناء المجتمع وصياغة نمط الشخصيّة السائدة وفي إنتاج النظام القيمي المهيمن وفي بناء النماذج المرجعيّة التي يحتذيها الشبّان.[16] ويتكامل هذا الدور مع ما يحتاجه المجتمع من ثقافة ديمقراطيّة جديدة أساسها تقديس روح المواطنة الإيجابيّة وإعلاء حقوق الإنسان الأساسيّة والعامّة وتثبيت الحقّ في المشاركة الاجتماعيّة والسياسيّة حتّى لا يتمّ التوصّل إلى مرحلة المجتمع المتفرّج، وضمان المساواة والعدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وتكريس حقّ الاختلاف ومواجهة الاستبداد وابنه الطبيعي الفساد[17].
يظلّ الحلّ السحريّ لأزمات الشخصيّة التونسيّة حسب رأي الكاتب في يد النخبة المثقّفة، ويبدو العلم في نظره ضمانة المستقبل، فالاحتفاء بأهل الكفاءة والخبرة من أجل الإحاطة بهم وتوفير الظّروف المثاليّة التي تساعدهم على العمل والبحث والإنتاج والمساهمة في رسم المستقبل وإنتاج الأفكار وتوليد الخبرات.[18] وهو يعتبر أنّ تحقيق هذه الأهداف لا يمكن أن يصير ممكناً إلا بمراجعة أنماط التنشئة الاجتماعيّة والأسريّة والبيئيّة والمهنيّة والإعلاميّة وطنيّاً وعربيّاً قصد تفعيلها وجعلها قادرة على مغادرة تراث السلبيّات التي تراكمت على امتداد عقود بكاملها. وإعادة بناء الشخصيّة القاعديّة من خلال إصلاحات بنيويّة عميقة في نظام التربية والتعليم والثقافة والقيم، هدفُها تحقيق عمليّة تحديث المجتمع سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً.[19]
ويطرح الكاتب أخيراً بعض المشاريع التي يمكن أن تتجاوز أزمة الفقر العلائقي وسلبيّات الشخصيّة الزبونيّة، مثل ضرورة الانكباب على دراسة الروابط الاجتماعيّة وفهم أسباب ضعفها وتفككها لتشخيص المشاكل الفعليّة، فالشخصيّة القاعديّة في نظره في حاجة إلى إعادة بناء، وهي رهان المستقبل.[20]
ذلك الكتاب، لا ريب، فيه قراءة نقديّة قابلة للدحض والتعديل، فالشخصيّة التونسيّة خاضت تجربة رائدة في تحديث الخطاب الدينيّ وتحرير المرأة وبناء الدولة على أسس حديثة، وكانت سبّاقة في الانتفاضات العربيّة وتركيز أنظمة ديمقراطيّة، وهي سائرة في طريق استكمال مسارها، رغم ما يبدو من الصّعاب، وليست النخبة وحدها هي القادرة على تغيير الواقع، لأنّ التعويل عليها في كثير من الأحيان قد يؤول إلى وهم في زمن صار للصورة أثر كبير على الشخصيّة العميقة، فقد حدث "تحوّل ثقافيّ من نصوص اللّغة إلى نصوص الصّورة، وهو تحوّل يملك طاقة دلاليّة عميقة عبر نظام التورية الدّلاليّ."[21] فقد "جاءت الصّورة لتكسر ذلك الحاجز الثقافي والتمييز الطبقي بين الفئات، فوسّعت من دوائر الاستقبال وشمل ذلك كلّ البشر، لأنّ استقبال الصورة لا يحتاج إلى إجادة القراءة، وهو في الغالب لا يحتاج إلى الكلمات أصلاً، وهنا دخلت فئات لم تكن محسوبة على قوائم الاستقبال الثقافيّ، وأدّى هذا إلى زعزعة مفهوم النخبة، وصار الجميع سواسية في التعرّف على العالم واكتساب معارف جديدة والتواصل مع الوقائع والثقافات."[22] وهو ما يتيح للإعلام فرصة أكبر للتأثير في الشخصيّة القاعديّة، أمّا صوت النخبة فيظلّ حكراً على المجالس الضيّقة يتكلّم لغة لا يفقهها عامّة الناس، وهو يشهد نهاية العقد المبرم مع الاستبداد، وعصر انفلات المعلومة، ونهاية الدّاعية المنفرد برأيه، ممّا يجعله مطالباً بإيجاد صيغ أقدر على التأثير، ودفع الشخصيّة القاعديّة نحو ما تؤمن به النخبة من قيم، وما تستشرفه من حاجات مستقبليّة مادّية ورمزيّة.
لا يغنيك هذا التقديم عن قراءة الكتاب، ففيه من طرافة المداخل وجرأة المواقف ما يخرجك عن نمط الكتب التي يعتدّ أصحابها بأوطانهم ولا يجرؤون على كشف مثالبهم، ففي ثقافة ساد فيها غرض الفخر شعراً، وتملّك أصحابها يقين بتعاليهم عن سائر الشعوب، ولم يكن الهجاء سوى سلاح يستنقص الآخر، قادت النرجسيّة إلى الاعتداد الزائف بالذات والتراجع الحضاري، أمّا نقد الذّات فحظّه ضعيف، ولكنّ أثره في التّاريخ عميق، فهو الذي يدفع الإنسان نحو مساءلة ذاته وإصلاح واقعه، من أجل البقاء في سباق التنافس التاريخيّ بين الشعوب والحضارات، في عالم لا يعترف بالضعفاء ولا يقيم لهم وزناً، وذاك ما نحن به مؤمنون في تونس.
[1]ـ راجع: البشير بن سلامة، الشخصيّة التونسيّة خصائصها ومقوّماتها، ط1، تونس، الدار التونسيّة للنشر والتوزيع، 1974
[2]ـ انظر: المنصف ونّاس، الشخصيّة التونسيّة محاولة في فهم الشخصيّة العربيّة، ط1، تونس، الدار المتوسّطيّة للنشر، 2011، ص 14
[3]ـ المرجع نفسه، ص ص 15، 16
[4]ـ المرجع نفسه، ص 21
[5]ـ انظر: المنصف ونّاس، الشخصيّة الليبيّة ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة، ط1، تونس، الدار المتوسطية للنشر، 2014، ص ص 13، 14
[6]ـ المنصف وناس، الشخصيّة التونسيّة محاولة في فهم الشخصيّة العربيّة، ص 32
[7]ـ المرجع نفسه، ص 36
[8]ـ المرجع نفسه، ص 105
[9]ـ المرجع نفسه، ص 127
[10]ـ المرجع نفسه، ص 135
[11]ـ المرجع نفسه، ص 171
[12]ـ المرجع نفسه، ص 211
[13]ـ المرجع نفسه، ص 248
[14]ـ المرجع نفسه، ص 268
[15]ـ المرجع نفسه، ص 280
[16] ـ المرجع نفسه، ص 291
[17]ـ المرجع نفسه، ص ص 294، 295
[18]ـ المرجع نفسه، ص ص 298، 299
[19]ـ المرجع نفسه، ص 302
[20]ـ المرجع نفسه، ص 308
[21]ـ عبد الله الغذامي، الثقافة التلفزيونيّة، سقوط النخبة وبروز الشعبي، ط2، بيروت/ الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2005، ص ص 197، 198
[22]ـ المرجع نفسه، ص 10