الشيخ أمين الخولي رائداً للدرس الهِرْمِنيوطيقي بالعربية
فئة : قراءات في كتب
الشيخ أمين الخولي رائداً للدرس الهِرْمِنيوطيقي بالعربية
في العدد الجديد 63 ـ 64 (صيف وخريف 2015) لمجلة قضايا إسلامية معاصرة
لم تخصّص دورية عربية مهتمة بالأديان خمسة أعداد للهِرْمِنيوطيقا والتفسير الجديد للنصوص الدينية مثلما فعلت مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، التي أنتجت على مدى عامين ونصف أكثر من 2000 صفحة في هذا الموضوع. والذي هو موضوع بالغ الأهمية؛ إنْ من حيث إضاءة النصوص ووضعها في السياق الراهن، أو من حيث عبور ما هو مكرر من قراءات، تنتمي لمراحل تاريخية مضت وانقضت، ولم تعد متطلباتها موجودة، وهي عبء تنوء بحمله النصوص، ويعطل حياة المسلم المعاصر.
في عددها الصادر تواً تواصل هذه الدورية نهجها الذي دشنته قبل عشرين عاماً؛ لتصدر للمرّة الخامسة عددها المرقم 63 ـ 64 (صيف وخريف 2015)، في 424 صفحة معالجاً أيضاً: "الهِرْمِنيوطيقا والمناهج الحديثة في تفسير النصوص الدينية"... اتسع العدد لمساهمات جادة لمفكرين وباحثين معروفين، بدءاً من كلمة التحرير فيها، التي اهتمت بمنجز الشيخ أمين الخولي، بوصفه "رائداً للدرس الهِرْمِنيوطيقي باللغة العربية"، حسب توصيف رئيس التحرير عبد الجبار الرفاعي، الذي دلل على تجاوز الشيخ أمين الخولي وجهة الإحياء والإصلاح، التي بدأت مع الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي في القرن التاسع عشر، وتواصلت فيما بعد مع الشيخ محمد عبده، ومن تلاه، واستطاع أن يشتق نهجاً، يتلمس في ضوئه درباً مغايراً لما عرفناه من أصول ومبادئ في قراءة وتفسير النصوص الدينية. فمع الخولي، وللمرة الأولى، يتصدع جدار الدرس اللغوي والبلاغي التقليدي، كما تنفتح الفلسفة الأخلاقية في التعليم الأزهري على أفق جديد. ظلّ الخولي مسكوناً بفكرة التطور، واستبدت به هذه الفكرة، إلى الحد الذي استند إليها بوصفها مرجعية لإعادة بناء المعارف الاسلامية، وآداب وعلوم اللغة العربية. ولم يتردد في الدفاع عن نظرية التطور الدارونية في الأحياء، وأصرّ على تبريرها ومنحها المشروعية، في ضوء ما يحاكيها ويقاربها من إشارات في "رسائل إخوان الصفا"، وآثار ابن مسكويه، وابن سينا، وابن الطفيل، ممن ألمحوا أو صرحوا بتصنيف الموجودات في سلم تراتبي، يحتل فيه الإنسان الذروة في تكامله، فيما يليه الحيوان، فالنبات، إلى أدنى مرتبة، وهي الجماد. وشغف الخولي بالتجديد إلى الحد الذي كان برأيه هو الثورة الكبرى في كل قرن، إذ يقول: "إنّ ذلك التجديد على رأس القرون هو ذلك العمل الثوري الكبير الذي تحتاجه الأمّة، كأنما هو ثورة اجتماعية دورية".
توسّع الخولي في تطبيق فكرة التطور على علم الكلام والفقه واللغة، بل في تعميمها لتشمل أبعاد الوجود البشري المعنوية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية كافة. وأصر على أنّ التطور هو الناموس الشامل في الخلق والحياة، وليس ناموساً خاصاً بعلم الأحياء فقط. ففي نقاشه مع شيخ الأزهر رفض الشيخ الخولي انحصار التطور ببعض أحكام العبادات، فذهب إلى أنّ "التغير والتطور سنّة شاملة في الأصول: العقائد والعبادات والمعاملات، وفي هاتين الأخيرتين شريعة الإسلام هي انتخاب ما نراه أيسر عملاً وأصلح للبقاء". ولا يتردد في القول إنّ "تطور العقائد ممكن، وهو اليوم واجب لحاجة الحياة إليه، وحاجة الدين إلى تقريره، حماية للتدين، وإثباتاً لصلاحيته للبقاء، واستطاعة مواءمة الحياة، مواءمة لا يتنافر فيها الايمان مع نظر ولا عمل".
تظهر فرادة الشيخ أمين الخولي في محاولته الرائدة بتوطين الهِرْمِنيوطيقا والمناهج الجديدة في تفسير النصوص الدينية في المجال التداولي العربي. بعد استقراء وتتبع يمكن القول إنّ الخولي هو أول هِرْمِنيوطيقي بالعربية، وربما في عالم الإسلام. إذ لا أعرف أحداً سبقه إلى ذلك. لم يقتصر الخولي على علم النفس في الدعوة لتوظيفه في التفسير، بل رأى ضرورة الانفتاح على علم الاجتماع والعلوم الإنسانية، خاصة علوم التأويل الحديثة، فيما ينشده من تفسير. ولعلنا لا نجانب الصواب حين نقول إنه استقى رؤيته الجديدة للتفسير من الهِرْمِنيوطيقا الألمانية. وهو ما تجلى بوضوح في حديثه عن "أفق المفسّر"، فلم تعد عملية التفسير في مفهومه تلقّياً سلبياً صامتاً للمفسّر، وإصغاءً من المفسّر لما يمليه عليه النص، لا دور فيه للمفسّر سوى الكشف عن المعنى الكامن في العبارات، وإنما أصبح التفسيرُ في رأي الخولي عملية إنتاج متبادلة للمعنى، يشترك فيها المفسّر مع النص. وذلك ما شرحته الهِرْمِنيوطيقا الحديثة، بوصفها "فناً للفهم"، أو قراءةً للقراءة، أو فهماً للفهم، أو تفسيراً لكيفية تلقي المفسّر القارئ للنص، وطريقة إنتاجه للمعنى المقتنص منه، في ضوء: أفق انتظاره، ورؤيته للعالم، وإطار ثقافته، ومسلماته وأحكامه المسبقة.
تحدّث الخولي عن هذه الفكرة بوضوح في قوله: "إنّ الشخص الذي يفسّر نصاً يلوّن هذا النص ـ ولاسيّما النص الأدبي ـ بتفسيره له وفهمه إيّاه. وإنّ المتفهم لعبارة هو الذي يحدد بشخصيته المستوى الفكري لها، وهو الذي يعين الأفق العقلي، الذي يمتد إليه معناها ومرماها، يفعل ذلك كله وفق مستواه الفكري، وعلى سعة أفقه العقلي، لأنه لا يستطيع أن يعدو ذلك من شخصيته، ولا تمكنه مجاوزته أبداً، فلن يفهم من النص إلا ما يرقى إليه فكره، ويمتد إليه عقله. وبمقدار هذا يتحكّم في النص، ويحدد بيانه".
ربما اقتبس أمين الخولي مصطلح "يلوّن النص" من التعبير المشهور للمتصوف الجنيد البغدادي: "لون الماء لون الإناء". وذلك يؤشر للأهمية الفائقة لنصوص المتصوفة والعرفاء، وطرائقهم في تبصر واكتشاف ما لبث مجهولاً خارج فضاء مفهومهم للحقيقة الدينية، وتجربتهم الروحية، ومناهج قراءتهم للنص، خارج أسوار أصول التفسير والفقه الموروثة، مثلما يصطبغ الماء بلون الإناء، يؤشر الخولي في تحليله للكيفية التي يغدو فيها النص مرآة تنعكس فيها ألوان صورة المفسر وأحكامه المسبقة، ليتشكل معناه في ضوء ما يرسمه أفق انتظاره.
إنّ الموقف الارتيابي من الهِرْمِنيوطيقا غير مفهوم، فضلاً على أنه غير مبرر، ذلك أنّ الهِرْمِنيوطيقا سواء كانت: فناً، أو علماً، أو اتجاهاً، أو منهجاً، أو أداة للفهم، ليست إلا ضرورة يفرضها وضع التراث في سياقه الزماني المكاني الثقافي الخاص. وهي تبوح بأنه ليس هناك فهمٌ نهائيٌ للنص، فكلُّ قراءة له تاريخية، مشتقةٌ من عصر القارئ، ونظام إنتاج المعنى في عالمه، ورؤيته للعالم، وأفق انتظاره، وأحكامه المسبقة.
نشرت المجلة حواراً مع المفكر الإيراني داريوش شايغان، تحدث فيه عن مفهوم "الوعي الهجين". استعار شايغان فكرة "الجذمور" من الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، فبين أنّ أصل الترابط المتبادل يتجلى في جميع أبعاد الحقيقة، ففي الثقافة يتخذ الترابط شكلاً "جذمورياً"، تصطف فيه جميع الثقافات بجوار بعضها بعضاً، مشكلة بذلك لوحة فسيفسائية. في الفلسفة مثلاً تتجلى هذا الظاهرة ضمن طيف من التفاسير المتنوعة، بعد أن فقدت الحقائق الميتافيزيقية العظمى اعتبارها حالياً، فتحوّل الوجود المنهار إلى مسار من التفسيرات المتنوعة لا نهاية لأمده. وفي الهويّة، يتجلى هذا الارتباط المتبادل في ظاهرة يمكن تسميتها بـ"البساط المرقع". أمّا في الإعلام والصحافة فيتجلى ذلك في الفضاء المجازي الذي وسّع من شبكات التواصل على المستوى العالمي. وهكذا في العلوم، ظهر نموذج جديد يتخطى الثنوية الديكارتية، ليؤسس شبكة حيوية من الاتصالات الشاملة والمتبادلة في كافة مستويات الحقيقة. وأشار شايغان إلى أنّ الهويّة التراثية تفتقر إلى الرؤية التي تلقي الضوء على الذات، وتسهل عملية تقييمها تاريخياً. وليست هناك رؤية قادرة على ذلك، بمعنى تكون مشرفة ومطلة من الخارج، وذات منظور نقدي، سوى تلك الرؤية التي ظهرت وترعرعت في الغرب منذ ثلاثة قرون. وأضاف شايغان أنا أقول بضرورة خصخصة التراث. فلا يمكن تعريف التراث بوصفه أمراً كليّاً. التراث أمر نسبي وليس له مفهوم عام وشامل. ولا يخفى أنّ التراثيين كانوا في راحة من أمرهم، فقد كانوا بمنزلة الشخص الذي يحمل عنواناً دقيقاً ويعرف من أين أتى وإلى أين سيذهب. خلافاً للمجددين والحداثيين حيث يفتقرون إلى هذا العنوان، الأمر الذي يحتم عليهم تدبر طريقهم بأنفسهم، ومن الواضح أنّ هذه عملية شاقة ومعقدة للغاية. وفي ختام الحوار يجيب شايغان بطرافة عن سؤال المحاور حول موقفه من الموت، فيقول: (لو تمّ تقسيم جميع نعم الدنيا، لما طمعت بأن أحصل على كل ما حصلت عليه، لذلك أجد التفكير في الموت أمراً ممتعاً، فإنه يعني لي التحرر، ووضع خاتمة لقصة طويلة، لذلك أجد نفسي غير خائف من الموت).
يستهل العدد دراساته بما كتبه د. الزواوي بغوره عن (منزلة التأويل في فلسفة ميشيل فوكو)، فيذهب إلى أنّ بحث ميشيل فوكو في التأويل يندرج في إطار مشروع طموح يخصّ إقامة موسوعة عامة لمختلف التقنيات التأويلية التي عرفها الفكر الغربي منذ الإغريق إلى يومنا هذا. وفي نظره، فإنّ اللغة والثقافة الهندو - أوروبية، تقوم على فكرتين أساسيتين: (الأولى) هي: "الاعتقاد بأنّ اللغة لا تقول بالضبط ما تعنيه، وأنها تتجاوز دائماً صورتها اللفظية الصرفة. و(الثانية) أنّ هناك أشياء أخرى في العالم تتكلم دون أن تكون لغة". هاتان الفكرتان مازالتا قائمتين إلى اليوم في الثقافة الغربية، وتمارسان تأثيرهما على مختلف النظم التأويلية التي عرفها الفكر الغربي. ولكنّ فوكو اقتصر على منظومة التأويل في القرن التاسع عشر، بعد أن قارنها بمنظومة التأويل في عصر النهضة القائمة على التشابه. إنّ كتاب: تأويل الذات، ومجموع الأبحاث المتعلقة بتاريخ الجنسانية، تشكل منعطفاً جديداً في فلسفة ميشيل فوكو، وذلك لأنها تجسد نقلة في الموضوع، نقلة من مسائل السلطة إلى مسائل الذات والأخلاق والجمال، وبشكل خاص علاقة الذات بالحقيقة أو: "كيف تشكلت الذات من خلال ظواهر وعمليات تاريخية مختلفة، أي ما يمكن تسميته في ثقافتنا بمسألة حقيقة الذات".
يتمثل موضوع: تأويل الذات في مختلف التقنيات التي تتبعها الذات في معرفة ذاتها، أو السيطرة على نفسها، أو حكم نفسها بنفسها. وهو موضوع شغل فكر كثير من الفلاسفة منذ سقراط. ولقد تمّ التعبير عن هذا الموضوع، بمفهوم (الاهتمام بالذات) الذي أخذ أشكالاً مختلفة باختلاف الحقب التاريخية. ويخلص الزواوي بغورة إلى أنه وبالاعتماد على التأويل التاريخي، درس ميشيل فوكو، ثلاثة مجالات أساسية هي المعرفة، والسياسة، والأخلاق. وهو ما حاول الفيلسوف في أخريات حياته، أن يلخصه في عبارة الإنطولوجيا التاريخية التي تقوم، في تقديرنا، على منهج التأويل التاريخي، بحيث لم يعد التأويل تقنية أو موضوعاً، وإنما أصبح طريقة في تحليل المواضيع التي درسها، وذلك لأنّ المجال الأساسي لبحث الفيلسوف هو التاريخ. وفي تقديرنا، فإنّ التناوب القائم بين ما سماه بالوصف الأركيولوجي وبين التحليل الجنيالوجي يُعدّ من صميم عمل المؤرخ والفيلسوف على حد سواء، رغم ما ذهب إليه بعض الدارسين من قول بتعارض الطريقتين بلغ عند بعضهم درجة القطيعة. إنّ ما سعى إليه ميشيل فوكو هو البحث في التاريخ عن تشكيلات خطابية، تقوم كما قال على نوع من (السياسة العامة للحقيقة) التي تقرر ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، وأنّ تنظيم المعارف أو الممارسات الخطابية مرتبط بأشكال إنتاج وتوزيع السلطة أو الممارسات غير الخطابية. وهو ما أدى إلى ظهور وانبثاق مواضيع الذات والهويّة والجنس، أو بعبارة موجزة، تشكل الذات الحديثة.
في العدد أيضاً يدرس د. محمد المزوغي (عودة الديني ومشروعية تأويل الكتاب المقدّس في فكر الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو). فيوضح أنّ فاتيمو ليس هو الوحيد الذي فهم العلاقة الحميمة الممكنة بين النقد ما بعد الحداثي للعقل التنويري وإعادة إحياء الدين، ذلك أنّ فكر ما بعد الحداثة أو "الفكر الضعيف"، من حيث تأكيده على التعددية الراديكالية لوجهات النظر للعالم؛ ورفضه لأية فكرة تأسيس نهائي وقاطع، من حيث اشتباهه في أي نوع من أنواع المقولات الثنائية الثابتة التي تزعم وصف مناطق منفصلة تماماً عن الواقع، يُعقّد الحياة على الملحدين المحدثين، كما قال جون كابوتو، ومن شأنه أن يجعل الفكر محصّناً، إن لم يكن معادياً للإلحاد. الفكر الحديث، لم يعد فكراً إلحادياً مناضلاً، بمعنى أنه لا يُنَظّر صراحة إلى بطلان الدين، وعلى العموم فإنّ صمت الفلسفة عن الله يبدو اليوم خالياً من أية مبرّرات فلسفية معقولة. إنّ ما يسمى بالأسباب النظرية الوجيهة التي يُرسي عليها الفلاسفة براهينهم لإنكار وجود الله تستمد عناصرها من المادية، أو هي مُشتقّة من الوضعية والتاريخانية، لكن مع عصر ما بعد الحداثة أصبحت هذه الفلسفات تنتمي، وفقا لفاتيمو، إلى (مرحلة عفا عليها الزمن تماماً من سيرورة تنوير العقل. الآن، حتى هذه السرديات البعدية فقدت مشروعيتها بحلول نهاية الميتافيزيقا). يكتب المزوغي: يرى فاتيمو أنّ التأويليّة، مثل الفيروس (التّشبيه لفاتيمو)، الذي يُصِيب كلّ شيء يقترب منه. فهي تختزل الواقع إلى رسالة، وتُقصي بالتالي أي تمييز بين علم طبيعي وعلم روحي، لأنّه حتى العلوم الدقيقة تتحقّق من صدق قضاياها أو تُكذبها فقط ضمن نماذج مسبقة. وإذا كانت الوقائع لا تتمظهر إلا كتأويلات، فإنّ التأويل ذاته يتبدّى كـ"الـواقع": الهِرْمِنيوطيقا ليست فلسفة، يقول فاتيمو، بل هي إعلان عن الوجود التاريخي ذاته في عصر نهاية الميتافيزيقا.
أمّا د. حسن الخطيبي فقد تناول في بحثه (هرمنيوطيقا هانز جورج غادامير: من سلطة المنهج إلى تاريخية الفهم)... يقول الخطيبي: إنّ كلّ عمليات بناء المعرفة والثقافة والفكر لا تتم إلا عبر آلية التأويل، بل إنّ الحياة برمتها لا تستقيم ولا تكون ذات معنى إلا بالتأويل، والانتقال من "المعنى" إلى "معنى المعنى"، فالحياة بمقتضى الظاهر فقط تبدو مستحيلة، ولا يمكن أن تعاش، فتسمية الأشياء هي تأويل أولي يجعل الحياة ممكنة. التأويل يزيل الغرابة عن النصوص التي تفصلنا عنها مسافة تاريخية وثقافية ليدسها في الألفة. الهِرْمِنيوطيقا تقتحم كل المجالات المرتبطة بالوجود الانساني، وهذا ما يبرر راهنيتها، ويبرر حاجة الناس إليها في زمن هيمنت فيه التقنية بدرجة خطيرة. إنّ هدف الهِرْمِنيوطيقا عند غادامير هو الوصول إلى فهم الآخر ومحاولة النفاذ إليه، حتى نكتشف المعنى الذي يحتوي عليه، ومن ثمّ فإنها صورة من صور التواصل. لقد ركز غادامير كثيراً على الحوار لأنه هو السبيل للتعرف على الآخر، كما يعلمنا أنه لا يمكن لأحد الطرفين أن يكون وحده محقاً في رأيه، ممّا يفتح الطريق نحو الحوار مع الآخر بمعزل عن إرادة الهيمنة التي تفرض على شركاء الحوار الخضوع والامتثال إلى حقيقة معينة يرتضيها طرف دون آخر، وبذلك يكون الحوار إنتاج المعاني وصياغة الأحكام وتشكيل التصورات. هذه الحقيقة مبدعة، وهي مشاركة وليست امتلاكاً.
يتضمن العدد مجموعة أبحاث جادة أخرى، فقد درس د. مصطفى الغرافي منطق الفهم في (النص والتأويل). كما عالج د. شراف شناف (تأويل العقل الحداثي العربي لجدل اللاهوت والناسوت). أمّا د. محمد جنايد الحداد فقد تحدث عن (الهِرْمِنيوطيقا الفلسفية عند بول ريكور). وكتبت إليزابث سوشلر عن (تفسير الكتاب المقدّس ولاهوت التحرير). وبحثَ (قصدية المؤلف في الهِرْمِنيوطيقا) أورليك مارتنسون. وفي دراسته تناول علي المدن (الواقع والممارسة وإشكالية التعالي في التفكير الديني في الإسلام). وفي باب (أفكار للمناقشة) واصلت المجلة نشر الفصلين الثامن والتاسع من (نظرية القراءة النبوية للعالم) للشيخ محمد مجتهد شبستري. وختمت المجلة هاجر القحطاني بمراجعة لكتاب عبد الجبار الرفاعي (الدين والظمأ الأنطولوجي).