الشيخ محمد الغزالي بين الراديكالية والعقلانية

فئة :  مقالات

الشيخ محمد الغزالي بين الراديكالية والعقلانية

الشيخ محمد الغزالي بين الراديكالية والعقلانية

لا يمكن لأيّ مشتغل بالفكر الإسلامي العاصر، إلاّ وأن يقف على أعمال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله وقفة تدبر وتأمّل ودراسة بكل موضوعية، ليس فقط بسبب سعة علم الشيخ وغزارة تأليفه من كتب ومقالات في شتى مجالات العلوم الإسلامية، ولا لأنّه حاضر في كثير من الجامعات في الدول العربية، بل نظراً لأثره البالغ في صناعة الفكر الإسلامي على المستوى الأكاديمي[1] والاجتماعي[2].

على الرغم من قساوة الأنظمة العسكريّة والملكيّة التي حكمت بلداننا بالحديد والنّار، وقلة رجال الدين نقداً لها، إما خوفاً من غياهب السجون وسوط الجلاد، أو طمعاً في رغد العيش وتسلّق المناصب، فإن الشيخ كان من هؤلاء القلّة؛ إذ هاجم الفساد السياسي الذي ينخر أمتنا واعتبره سبب تخلفنا، يقول: "الفساد السياسي مرض قديم في تاريخنا، هناك حُكّام حفروا خنادق بينهم وبين جماهير الأمة؛ لأن أهواءهم طافحة وشهواتهم جامحة، لا يؤتمنون على دين الله ولا دنيا الناس، ومع ذلك فقد عاشوا آماداً طويلة، وقد عاصرت حكاماً تدعو عليهم الشعوب، ولا تراهم إلاّ حجارة على صدرها توشك أن تهشمه ..."[3]، كما لم يسلم من غضّ بصره عن هذا الفساد من الدعاة الإسلاميّين أو كان من المشاركين فيه، يقول: "ومع هذا البلاء، فقد رأيت منتسبين إلى الدعوة الإسلامية يصورون الحكم الإسلامي المنشود تصويراً يثير الاشمئزاز كله، قالوا: إن للحاكم أن يأخذ برأي الكثرة أو رأي القلة، أو يجنح إلى رأي عنده وحده ... ووضع بعضهم دستوراً إسلامياً أعطى فيه رأس الدولة سلطات خرافية لا يعرفها شرق ولا غرب ..."[4].

لقد ظلّ الغزالي ناقماً على النظام الدكتاتوري وما يمارسه من طغيان واستبداد، هدفه عودة الحُكام إلى العدل والصدق وتحمّل مسؤولية رعيّتهم؛ لأن الظلم الاجتماعي والتخلف الاقتصادي وانتشار الفقر والبطالة والجهل والآفات تبعد الناس عن جوهر دينهم ... ورغم ما أصابه من تضييق ومحاكمات قضائية وتهجير، إلاّ أنّه لم يتنازل عن مواقفه، وبقي ذلك الداعية الثائر الرافض للفساد السياسي.

صحيح أنّ الغزالي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهو متشبّع بأفكارها كما أوضح في كتابه "دستور الوحدة الثقافية للمسلمين"، إلاّ أنّ هذا لم يمنعه من معارضتهم والردّ عليهم، وخاصة القطبيّين والمتشدّدين منهم الذين اختاروا العنف والسلاح طريقاً لتغيير نظام الحكم وإقامة دولة دينيّة، وقد تمكّن من الردّ على سيد قطب ودعوته (الحاكمية) وما لزمها من تكفير شمولي، معتبراً أنّ تأثّر قطب بالمودودي الباكستاني لم يكن صائباً لاختلاف البيئة والظروف (باكستان كانت تحت الاحتلال البريطاني، فكانت دعوة المودودي كردّ على سياسة التغريب الذي يتعرض له قومه)، وفعلاً فقد ساهم في عقلنة خطاب الإسلام السياسي وتهذيبه ومنع الكثير من الشباب المتحمّس من الالتحاق بالتيارات المتطّرفة والدمويّة بما في ذلك شباب الإخوان، يقول عبد المنعم عبد الفتوح: "الشيخ محمد الغزالي كان الموجه للصحوة الإسلاميَّة في الجامعات المصرية التي بدأت في الستينيات والسبعينيات دون مرشد ولا موجه ولا معلم، حيث كانت الأفكار خلطة تجمع بين السلفية والإخوانية والجهادية، حتى أكرمنا الله للوصول إلى الشيخ محمد الغزالي في مسجد عمر بن العاص الذي كان يقيم فيه ندوته الأسبوعية؛ فكان الموجه والمرشد لنا في حركتنا الإسلامية في الجامعات"[5]، كما رأى أنّ الانفتاح على الآليات السياسية الحديثة في الحكم لا حرج فيها شرعاً، فالديمقراطية والانتخابات وتشكيل الأحزاب والتداول على السلطة ميكانيزمات لا تتصادم مع نظام الشورى الإسلامي، ويكفي فقط الاجتهاد من خلال الموروث الفقهي (القياس).

الغريب أن الغزالي الذي لا طالما رفض العنف باسم الإسلام وكان من أكثر الدعاة للتسامح وقبول الآخر ومن أكثر رجال الدين دفاعاً عن الحريات حتى صار يلقّب "بالداعية الحكيم"، ورغم إقراره بلا إشكال في القوانين الوضعية السياسية بما أنها لا تتعارض مع أحكام الشريعة، نجده في نفس الوقت من أكثر الدعاة الإسلاميّين عداوة وتشدّداً ضد العلمانيين الحداثيّين دعاة إقامة الدولة المدنية (فصل الدين عن الدولة)، وإن كان قد كفّر الكثير من هؤلاء المفكرين ضمنياً كفؤاد زكريا ونصر أبو زيد ومحمد أركون، فإنّه للأسف كفّر وظلّ يكفّر فرج فودة بشكل مباشر وصريح في كتبه[6] وحواراته الصحفية، بل ودافع عن قتلته في المحكمة مقرّراً أنّ تطبيق حد الردة إن لم يقم بها الحاكم جاز لأي مسلم تنفيذها لأنها واجبة على الأمة؛ فالغزالي تطّرف في مسألة الردّة إلى درجة تكفير من يخالفه الفهم في ثنائية الدين/الدولة ضارباً بحرية التفكير والاعتقاد عرض الحائط، يقول القرضاوي عنه: "والشيخ يقول عن هذا النوع من العلمانيين: لماذا لا نسمي هؤلاء بأسمائهم الحقيقية؟ والاسم الحقيقي لهؤلاء: المرتدون. فهؤلاء قد مرقوا من الدين مروق السهم من الرمية ..."[7]، رغم أنّ كلام فرج فودة أثناء المناظرة ليس فيه أي إساءة للدين، قال: "لا أحد يختلف على الإسلام الدين، لكن المناظرة اليوم حول منطلقات الدولة الدينية، وبين الإسلام الدين والإسلام الدولة رؤية واجتهاد، وأن الإسلام الدين في أعلى عليين. أما الإسلام الدولة، فهو كيان سياسي وكيان اقتصادي وكيان اجتماعي يلزمه برنامج تفصيلي يحدد أسلوب الحكم"، فما الذي أغضب الشيخ الحكيم إلى درجة تحويله المناظرة إلى تحريض وتشكيك في إيمان خصمه الذي يجادله بالتي هي أحسن، هل كان يحمل نفس أفكار التيارات الراديكالية رغم انتقاده لها، أم إنه كان معجباً بما وقع في إيران بعد انتصار ثورة الخميني الدينية من إعدامات في شوارع طهران ضد العلمانيين المعارضين للحكم الكهنوتي ...

يعّد الغزالي من أكثر الدعاة المدافعين عن المرأة وحقوقها في التعليم والعمل، كما أنه ضد تزويج القاصرات وختان البنات، وضد فهم النكاح على أساس تملّك جنسي، يقول: "إن الإسلام سوّى بين الرجل والمرأة في جملة الحقوق والواجبات، وإذا كانت هناك فروق معدودة فاحتراما لأصل الفطرة الإنسانية ... إن هناك تقاليد وضعها الناس ولم يضعها رب الناس دحرجت الوضع الثقافي والاجتماعي للمرأة ..."[8].

أما في مجال الفنون من سينما وموسيقى وغناء ورسم، فإنه لم ير فيها أي تحريم؛ لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة إلاّ ما كان منها قبيحاً، والدليل أنّه صاهر الروائي المثير للجدل إحسان عبد القدوس، والراجح أنّ هذا الانفتاح هو نتيجة مراجعته للأحاديث النبويّة وخاصة خبر الآحاد[9] ما عرضّه لحملة تكفيريّة من التيار السلفي بتهمة إنكار السنّة ومخاصمتها.

والغريب أنّ الشيخ هو أيضاً من تقدّم الصفوف في مهاجمة الفنانين والأدباء، بل استخدم حتى منابر المساجد للانتصار لشخصه كما وقع أثناء خلافه مع رسّام الكاريكاتير بجريدة الأهرام صلاح جاهين سنة 1962، كما هاجم الأديب العالمي نجيب محفوظ معتبراً أن روايته "أولاد حارتنا" محشوة بالكفريّات (تعرّض نجيب لمحاولة قتل من طرف متطرفين بعد هجوم رجال الدين عليه واتهامه بالعداء للإسلام)، وإن كان الشيخ قد اعترف بقراءته لرواية نجيب محفوظ، فكل العجب حين هاجم وكفّر الأديب الجزائري كاتب ياسين وأفتى بعدم دفنه في مقابر المسلمين بسبب روايته "يا محمد خذ حقيبتك"، معتبراً أن هذا إنكار لنبوّة المصطفى عليه الصلاة والسلام وعدم توقيره، ودعوة إلى طرد المسلمين من شمال إفريقيا إلى الجزيرة العربية، أقول عجباً؛ لأنّ هذه ليست أصلاً برواية، ولم تنشر أبدا في كتاب، بل نص مسرحي مكتوب باللغة الفرنسية، وقد تمّ عرض المسرحية مرة واحدة في باريس، فماذا قرأ الشيخ حتى أصدر هكذا حكماً خطيراً؟ وهل يفهم الفرنسية بصيغتها الجزائرية (la littérature maghrébine)، عنوان النص بلغته الأصليّة "Mohamed prends ta valise"[10] وهو لا يقصد النبيّ إطلاقاً، بل اسم "محمد" كان يطلقه الفرنسيون على الجزائريين؛ فالمسرحية تعالج ظاهرة هجرة الجزائريين إلى فرنسا سنوات السبعينيات بحثا عن العمل، وما يتعرضون له من رفض وطرد وتمييز عنصري ... ومنه فقد كان الغزالي يخالف أفكاره الإسلامية العقلانية بالمطلق في الواقع تارة، وتشعر أنّه في المنطقة الرمادية في قضايا معاصرة تارة أخرى؛ إذ لا تستطيع أن تحدد رأيه بدقة في الموضوع.

لقد اعتمد الإسلاميون في تسويق مواقفهم وأحكامهم تجاه الأحداث والشخصيات على الخلط في الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث وفتاوى الفقهاء ما جعلها كلها مقدسة، وهذا بلا ريب منح لهذه المواقف قبولا جمعيا وأتباعا مستعدين للتضحية في سبيل هذه المفاهيم والقناعات، وبعيداً عن ثقافة تقديس البشر، وبعيداً أيضاً عن ثقافة النظر فقط إلى النقاط السلبيّة، يمكن القول إن الشيخ الغزالي ساهم في تجديد الخطاب الديني بجعله من المصادر والقواعد الناظمة للحياة، ومن أدوات تعزيز القيّم والأخلاق في المجتمع، كما ساهم في الترويج للأصوليّة المعادية للمدنية والعصرنة حين ظنّ بإمكانية جعل الدين سياسياً واقتصاديا وقانونيا وإعلاميا ...

[1] أستاذ في جامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية، أستاذ في الجامعة الإسلامية بقطر، أستاذ بجامعة الأمير عبد القادر بالجزائر ورئيس مجلسها العلمي.

[2] إمام خطيب في عدة مساجد، قلم في عدة مجلات عربية، مشارك في عدة برامج دينية تلفزيونية خاصة بالدعوة والموعظة.

[3] محمد الغزالي؛ هموم داعية، نهضة مصر، الطبعة السادسة، سنة 2006. ص 111

[4] المصدر السابق. ص 112

[5] https://www.wasatyea.net/ar/content/أبوالفتوح-لولا-الغزالي-لتحول-الإسلاميون-للعنف

[6] انظر: محمد الغزالي؛ الحق المرّ.

[7] يوسف القرضاوي؛ الشيخ الغزالي كما عرفته، دار الشروق، الطبعة الثالثة. ص 75

[8] محمد الغزالي؛ قضايا المرأة والتقاليد الراكدة والوافدة، دار الشروق. ص ص 15-16

[9] انظر: محمد الغزالي؛ السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث.

[10]https://gerflint.fr/Base/Algerie10/saddek.pdf