الصداقة وحاجة المرء إليها (مقارنة موجزة بين مسكويه ونيتشه)
فئة : مقالات
الصداقة وحاجة المرء إليها
(مقارنة موجزة بين مسكويه ونيتشه)
"كلّ واحد منّا على العموم، إنّما يريد الخير لنفسه قبل كلّ شيء"
أرسطو
يظنّ بعض الناسِ أنّ أخطرَ شخصٍ هوَ الذي ليس لديه شيئًا يخسره، فِي حينْ أنّ أخطرَ شخصٍ بالفعلِ هوَ الذِي يستحيلُ تهديدُه بالوحدةِ مهمَا كانَ بحاجةٍ إلَى الدعمِ والمؤانسةِ؛ لأنّ ما يملكه لنفسه لا يستطيع أيّ صديقٍ أن يأخذه عند الرحيل. يحتاج المرء من الناحيتَين النفسيّة والاجتماعيّة إلى الأصدقاء، وإنكار هذا الأمر يُعدُّ مكابرةً، حتّى إنّ الكثير من النظريّات التي تدخل في إطار فلسفة الأخلاق تثبتُ حاجة المرء ولو إلى صديقٍ واحدٍ، على أنّ هذه الحاجة لا يمكن أن تعلو على حبِّ المرء لذاته أو على سَعيه إلى تحقيق ذاته، إلّا إذا تبدّلتْ نظرة المرء إلى أصدقائه وتخطّت علاقته بهم حدود الصداقة الحقّة.
فما الصداقة؟ ومن الصديق؟ ومتى يحتاج المرء إلى الأصدقاء؟
الصداقة محفوفةٌ بالفضيلة، وقوامها المحبّة، والمرء بحاجةٍ إلى الاجتماع بالأصدقاء الذين يشبهونه متى أراد أن يحقّق كماله وسعادته؛ هذا ما أعلنه أحد أهمّ مؤسّسي الفكر الفلسفيّ التقليديّ أرسطو[1]، وسارَ على خطاه العديد من الفلاسفة العرب كما الغربيّين الذين أبدوا اهتمامًا بنظريّة الصداقة. في المقلب الآخر، الصداقة هي ضربٌ من التغلّب على الفضيلة التي تنشدُ بها الفلسفة التقليديّة وتحرّرٌ من التبعيّة المغلّفة بغلاف المحبّة؛ لأنّ من شأن الأصدقاء الحقيقيّين أن يساعدوا المرء على تحطيم منظومة القيم التي تحدّ من إبداعه بدلًا من أن يشاركوه في المحبّة أو في القِيَم نفسها؛ هذا ما أعلنه مؤسّسو الفكر العدميّ في أوروبّا[2] الذين كتبوا عن الصداقة، وعن حاجة المرء إليها، من منظارٍ مغايرٍ للمنظار التقليديّ. ولكي نعرف إلى أيّ صداقة يحتاج المرء حقًّا، فنجيب عن التساؤلات الرئيسة التي طرحناها سابقًا، نتّخذ مسكَوَيه (932-1030م)[3] كنموذج يمثّل الموقف التقليديّ من الصداقة ومن حاجة المرء إليها، لكَونه من الفلاسفة العرب الذين أسرفوا في الحديث عن الصداقة، بالأخصّ على الطريقة الأرسطيّة. في المقابل، نتّخذ نيتشه Friedrich Nietzsche (1844-1900م) كنموذج يمثّل الموقف العدميّ الذي نشأ في أوروبا، باعتباره أحد أعلام الفكر العدميّ الذين تناولوا نظريّة الصداقة بصورةٍ مناقضة للصورة التقليديّة. وهكذا، وباعتمادنا المنهج التحليليّ-المقارِن، نتناولُ موضوع "الصداقة وحاجة المرء إليها" تحت هذَين العنوانَين:
أوّلًا- الصداقة وحاجة المرء إليها عند مسكَوَيه
ثانيًا- الصداقة وحاجة المرء إليها عند نيتشه
أوّلًا- الصداقة وحاجة المرء إليها عند مسكويه
يظهر اهتمام مسكَوَيه بموضوع الصداقة في كتابه تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق؛ وذلك خلال تبيانه أنواع المحبّة بأسلوبٍ يكشفُ فيه عن تأثّره الشديد بأرسطو، إلى جانب تمسّكه بمقتضياتِ الشريعة الإسلاميّة. إنّ مسكَوَيه واحدٌ من الفلاسفة العرب الذين يهدفون إلى رسم طريق الفضيلةِ والكمال والسعادة[4]، وبالتالي فإنّ حرصه على إبرازِ قيمة الصداقة في كتابه، بالإضافة إلى تشديده على حاجة المرء إليها، عائد إلى الاعتقاد الكلاسيكيّ الذي أرساه الفلاسفة القدماء (أي فلاسفة اليونان)، والذي يتّفق مع بعض ما جاء في الدين. إنّه الاعتقاد بأثر الصداقة البديهيّ والبالغ في سلوك المرء، وكماله، وسعادته.
في كتابه الذي يرمي إلى إصلاحِ أخلاق الإنسان وتعليمه كيفيّة بلوغ الكمالِ، يقدّم مسكَوَيه مفهومه للصداقة، ويذكر أشكالها كما تظهر في المجتمع، ويحدّد إلى أيّ شكلٍ من أشكال الصداقة يحتاج المرء بالظّبط لكي يسيرَ على درب الفضيلة من جهةٍ، ولكي يحقّق كماله نفسيًّا واجتماعيًّا من جهةٍ أخرى.
أ- الصّداقة عند مسكويه: إنّها المودّة بعينها، وأساسها التشابه بين الأفراد
في إطارِ عرضه لأنواعِ المحبّة، يعرّفُ مسكَوَيه الصداقةَ على أنّهَا "نوعٌ منَ المحبّةِ إلّا أنّها أخصُّ منها، وهي المودّةُ بعينهَا، وليسَ يمكنُ أن تقعَ بينَ جماعةٍ كثيرينَ كما تقعُ المحبّة."[5]. وبكلماتٍ أخرى، الصداقة هي شكلٌ من أشكالِ المحبّة؛ لأنّها مبنيّةٌ على المودّة، لكنّ المودّة تتميّزُ عن المحبّة بكَونها خاصّة وليست عامّة؛ ما يعني أنّها تقع بين أفرادٍ محدودينَ لا بين أفرادٍ يؤلِّفونَ جماعةً غفيرةً.
وربطًا بمفهوم الصداقة، يعرّفُ مسكَوَيه الصّديقَ عند مخاطبته للقارئ على أنّه: "آخرٌ هو أنتَ إلّا أنّه غيرك بالشّخص"[6]، وتفسير ذلك أنّ الصديق مماثلٌ للذات من حيث الصفات التي يتمتّع بها والأشياء التي يطلبها[7]، لكنّه الآخر لأنّ له كيانٌ مستقلّ. ولعلّ أكثر ما يفسّر هذا التعريف محاكاته لمبدأ "الشبيه يبغي الشبيه" عند أرسطو، الذي يُقصد به انجذابُ المرء في أغلب الأحوال إلى من يشبهه في الطِباع والشخصيّة؛ فقد ذكر الفيلسوف اليونانيّ هذا المبدأ المهمّ في كتاب علم الأخلاق إلى نيقوماخوس لدى شرحه نظريّةَ الصداقة[8].
إذن، الصداقة هي المودّة التي تقع بين أفراد محدودينَ يتشاركون الطِباع والاهتمامات نفسها؛ فالصديق بالنسبة إلى مسكَوَيه، بصفته شخصًا شبيهًا لنا في الطباع وفي الأشياء التي يطلبها، يصبحُ شخصًا عزيزًا، أي شخصًا محبوبًا... وهو، علاوةً على ذلك، قد يكون أخًا من نسبٍ أو والدًا أو ولدًا أو غريبًا[9].
ب- حاجة المرء إلى صداقة الأخيار
إنّ المرء بحاجةٍ إلى الأصدقاء لأنّه كائنٌ مدنيٌّ[10]؛ أي إنّه بطبعه بحاجةٍ إلى الاجتماع بالآخرين لكي يحقّق كماله وسعادته. ومن كان كماله عند الآخرين تعذّرَ عليه في الوحدة والتفرّد أن يحقّق سعادته التامّة؛ فالسعيد إذن من اكتسبَ الأصدقاء ليتكسب بهم ما يصعبُ عليه أن يكتسبه بذاته[11]. لكنّ الأصدقاء الذين يحتاجهم المرء حقًّا هم الأخيار؛ أي أولئك الذين تبقى مودّاتهم وتستمرّ لكونها غير مرهونة بلذّةٍ زائلةٍ أو منفعةٍ مؤقّتةٍ.
يوضحُ مسكَوَيه أنّ هناك ثلاثة أنماط للصداقة[12]:
1- الصداقة بين الأحداث (الصغار)، ومن كان في مثل طباعهم، وهي تحصلُ لأجل اللذّة؛ فهم يتصادقون سريعًا ويتقاطعونَ سريعًا، لأنّ صداقتهم تبقى بقدر ثقتهم ببقاء اللذّة ومعاودتها حالًا بعد حال، فإذا انقطعت هذه الثقة ببقاء اللذّة ومعاودتها انقطعت الصداقة بينهم في الحال.
2- الصداقة بين المشايخ (الكبار)، ومن كان في مثل طباعهم، وهي تحدثُ لأجل المنفعة؛ فإذا كانت المنافع مشتركة بينهم وطويلة الأمد كانت صداقتهم باقية، بينما إذا انقطعت منافعهم المشتركة انقطعت مودّاتهم وانحلّت صداقتهم.
3- الصداقة بين الأخيار، وهي تكون لأجل الخير، وسببها الأسمى هو الخير. لكنّ الخير هنا، بعكس اللذّة أو المنفعة المؤقّتة، هو شيءٌ ثابتٌ وغير متبدِّلٍ لأنّه يحاكي الجزء الإلهيّ من الإنسان[13]، وبالتالي فإنّ مودّة الأصدقاء في هذه الحالة هي كسبب وجودها ثابتة وغير متبدِّلة. وبما أنّ إرادة الخير هي التي تجمع الأصدقاء وتحفظ الألفة بينهم، فلن تكون بينهم أيّ مخالفةٍ أو منازعةٍ؛ إنّما يشتركون في نصحِ بعضهم البعض ويتلاقون بالعدالة والتّساوي في التماسِ الفضيلةِ، كفضيلةِ الإحسانِ أو فضيلة صلاة الجماعة مثلًا[14]، وهذا التّساوي هو الذي يوحّدهم.
يحتاج المرء إلى مثل الشكل الثالث والأخير من الصداقة. ولكي يحمي نفسه من الغشّ والخداع في علاقاته مع الآخرين، فيضمن قيام صداقاته على الخير كما على اِلتماسِ الفضيلة بالفعل، ثمّة شروط وآداب يجب أن يتنبّه إليها؛ وخلاصتها أن يكون الصديق من جهةٍ حسن السّيرة، منصفًا ومِعطاءً، ورصينًا بحيث ينأى عن ضروب اللّهو والمجون والمضاحيك[15]. ومن جهةٍ أخرى، أن يُراعى هذا الصديق، حيث لا يُستهان بحقّه من بشاشة الوجه كما رحابة الصدر، ولا يتمّ التركيز على عيوبه البسيطة، وكذلك لا يُترك في ظروفه العسيرة[16].
ج- الصّداقة أكثر من حاجة، إنّها فضيلة ونعمة!
تأكيدًا منه على أهميّة الصداقة وعلى حاجة المرء إليها نفسيَّا واجتماعيًّا، يورِدُ مسكويه في كتابه قولَ أرسطو: "إنّ الإنسان محتاجٌ إلى الصديق عند حسنِ الحال وعند سوءِ الحال، فعند سوءِ الحال يحتاج إلى معونة الأصدقاء، وعند حسنِ الحال يحتاج إلى المؤانسة وإلى من يحسن إليه. ولعمري أنّ الملك العظيم يحتاج إلى من يصطنعه ويضع إحسانه عنده، كما أنّ الفقير من الناس يحتاج إلى صديق يصطنعه ويضع إحسانه عنده المعروف. ومن أجل فضيلة الصداقة يشارك الناس بعضهم بعضًا ويتعاشرونَ عشرةً جميلةً، ويجتمعونَ في الرياضيّات والصيد والدّعوات."[17]. فالإنسان إذن، أكان ملكًا عظيمًا أم شخصًا عاديًّا فقيرًا، هو بحاجةٍ إلى الأصدقاء؛ إذ إنّه عند سوء حاله يحتاج إلى من يعينه، وهو عند حسن حاله يحتاج إلى من يسأتنس به، حتّى إنّ لأبي الفلاسفة سقراط تشديد على المودّة التي تقوم عليها الصداقة وعلى عدم استطاعة العيش من دونها، وله رأيٌ يقتبسه مسكويه، مفاده: "لا يستطيع أحد من الناس أن يعيش بغير المودّة وإن مالت إليه الدنيا بجميع رغائبها، فإن ظنّ أحدٌ أنّ أمر المودّة صغيرٌ فالصغيرُ من ظنّ ذلك...لكنّي أعتقد وأقول إنّ قدر المودّة وخطرها عندي أعظم من جميع ذهب كنوز قارون ومن ذخائر الملوك، ومن جميع ما يتنافس فيه أهل الأرض من الجواهر وما تحويه الدنيا برًّا وبحرًا، وما يتقبّلون فيه من سائر الأمتعة والأثاث، ولا يعدل جميع ذلك ما اخترته لنفسي من فضيلة المودّة."[18]. فالمودّة أثمن من كلّ الكنوز التي يجمعها المرء والتي لن تفيده بشيء، وبالتالي إنّ الصداقة هي أكثر من حاجةٍ بالنسبة إلى المرء، إنّها فضيلة ونعمة! فمن حظيَ بإخوانٍ مُحبّينَ وذوي ثقةٍ، على حدّ تعبير الفيلسوف العربيّ، وجدَ عيونًا وآذانًا وقلوبًا كأنّها بأجمعها له[19].
إذن، الصداقة بالنسبة إلى ممثّل الفكر الفلسفيّ التقليديّ مسكَوَيه هي علاقةٌ ودّيةٌ بين أفرادٍ يتشابهون في إرادة الخير وطلب الفضيلة. والمرء بحاجةٍ إلى صداقة من يشبهه في إرادة الخير وطلب الفضيلة لأنّه لا يقدر أن يحقّق كماله بمفرده، نظرًا لما تقتضيه الفضيلة من إحسانٍ تجاه الآخرين وأعمالٍ جماعيّةٍ كصلاة الجماعة. حتّى أنّ كلًّا من المنطق والواقع يثبتان للمرء أنّ ليس بمقدوره أن يشعر بتمام الحال نفسيًّا واجتماعيًّا من دون أصدقاء يقفون إلى جانبه ليؤنسوه ويدعموه.
ثانيًا- الصّداقة وحاجةُ المرءِ إليها عند نيتشه
يرتبط مفهوم الصّداقة عند الفيلسوف المعاصر نيتشه بإرادة القوّة، أي بإرادة تحطيم المرء للثقافة التي أسّسها كلٌّ من الدّين والفكر الفلسفيّ التقليديّ، لكي يبلغ بعدها حالة "الإنسان الأعلى"، حيث يصبح متحرِّرًا من الأفكار والقيم الشموليّة[20] التي وضعتْ حدًّا لرغباته تحت مسمّيات المحبّة، والتواضع، والشّفقة، والإيمان[21]. يربط نيتشه الصداقة بإرادة القوّة في كتابه الشهير هكذا تكلّم زرادشت، فيقدّم مفهومًا جديدًا للصداقة يتناسب مع فكرة "الإنسان الجديد" أو "الإنسان الأعلى"، وبالتأكيد، يتعارض مع المفهوم القديم الذي حثّ عليه فلاسفة اليونان، أمثال سقراط وأرسطو، والناهجون على منوالهم. ولكي تُفهم هذه العلاقة بين الصداقة وإرادة القوّة عند نيتشه بشكلٍ صحيحٍ، ينبغي أن يُطرح السؤال التالي: متى تؤدّي الصداقة إلى بلوغ المرء حالة الإنسان الأعلى؟ فالإنسان الأعلى هو المعيار، وبالتالي ليس للصديق أيّ قيمة إلّا إذا كان وجوده يساعد المرء على بلوغ حالة التّحرّر والتفوّق.
أ- المفهوم الجديد للصّداقة: الصّداقة استنهاضٌ لما في الأغوار وتحقيقٌ لإرادة القوّة
"واحدٌ فقط إلى جانبي كافٍ ليكونَ فائضًا عن اللّزومِ، -هكذا يفكّرُ النّاسك المتوحّد. واحدٌ وحيدٌ مع نفسه على الدّوام –ذلك ما سينتج عنه إثنان مع مرور الزمن؟ أنا وأناي في جدالٍ ساخنٍ لا ينقطع: من أين للمرء أن يتحمّل ذلك لو لم يكن هناك صديق؟"[22]. هكذا يفتتحُ نيتشه عن لسان زرادشت كلامه حول الصّداقة، مشيرًا إلى وحدةٍ يتخلّلها جدالٌ ساخن، وهذا الجدال الساخن الذي من صنيع المتوحّد لا بدّ أن تنتج عنه حاجة ماسّة إلى صديق واحدٍ لا أكثر، باعتبار أنّ الصديق هو: "شخصٌ ثالثٌ دومًا بالنسبةِ إلى الناسك المتوّحد: الثالث هو الفلّينة التي تمنع محادثة الإثنين من الانحدار إلى الأعماق..."[23].
بعكس الفلاسفة التقليديّين الذين يشدّدون على كَون الإنسان اجتماعيًّا بالفطرة، وعلى عدم استطاعته العيش من دون الاختلاطِ بالآخرين، يمجّد نيتشه الوحدة ويعتبرها فرصةً لجدالٍ داخليٍّ عميقٍ يخوضه المرء بينه وبين نفسه لكي يعرف دوافعه الحقيقيّة ومكامن قوّته[24]، لكنّ هذا الجدال إذا ما طالَ يصعب تحمّله من دون صداقةٍ تمنع الغرق في الأعماق، وهي تمنع الغرق ليس بردِّ المرء عمّا يفكّر فيه بنفسه ولنفسه، كما قد يظنّ البعض، بل بمساعدة المرء على إيقاظ أفكاره من كبواتها! فالصديق الذي تتمّ الإشارة إليه والذي يحتاجه المرء خلال وحدته هو ذاك الواقف على المرتفع ليشدّ المرء إلى الأعالي: "آه، هنالك أعماق كثيرة لكلّ المتوحّدين: لذلك تتوق أنفسهم إلى صديقٍ وإلى المرتفع[25] الذي يقف فوقه صديق."[26].
تأكيدًا منه أنّ الصديق ليس هو الشخص اللّطيف الذي يخلّصنا من وحدتنا، أو الذي يلهينا عن التفكير بدوافعنا التي تعكس حقيقتنا، ينتقد نيتشه محبّة الناس للقريب (= الشخص الذي نعتبره مثلنا وأخانا في الإنسانيّة)[27]، فيقول إنّها دليلٌ على عدم تقدير الذات وهروبٌ منها: "أراكم تتكالبون على القريب ولكم كلمات جميلة عن ذلك، لكنّني أقول لكم: إنّ محبّتكم للقريب إنّما هي قلّة محبّتكم لأنفسكم... تفرّون من أنفسكم إلى القريب وتريدون أن تجعلوا لكم فضيلةً في ذلك: لكنّني أنظر في ما وراء نكران ذاتكم."[28]. ليس على المرء أن يتعلّق بالقريب لأنّ في ذلك هروبٌ من الذات وممّا تريده بالفعل، بل يجب على المرء أن يحبّ ذاته فينظر إلى ما هو مناقضٌ للقريب، أي البعيد، والبعيد هو الإنسان الأعلى الذي يمثّل مستقبل المرء والأهداف التي يريد تحقيقها: "هل أنصحكم بحبّ القريب؟ بل إنّني لأفضّل أن أنصحكم بالهروب من القريب وبحبّ البعيد! أسمى من محبّة القريب هي محبّة البعيد والمستقبليّ..."[29]. باستطاعة المرء أن يرمي إلى تحقيق ذاته بمفرده طبعًا؛ إذ يجب أن يتحرّرَ من القيود التي يفرضها عليه الآخرون، ليغدو مبدعَ القيمِ والطرائق الملائمة لأهدافه[30]، لكن إذا دعته الحاجة إلى صديق فليعلم أنّ صديقه ليس هو القريب، بل إنّه الشخص الذي يناظره في الإبداع ليكون مصدر إلهامٍ له، فيعْبرُ بفضله إلى حالة الإنسان الأعلى: "لا أعلّمكم القريبَ، بل الصديقَ أعلّمكم... ليكن الصديق حفل الأرض بالنسبة لكم ونكهة أولى تستبق مجيء الإنسان الأعلى...أعلّمكم الصديق الذي يحمل العالم جاهزًا في داخله، قدحًا يطفحُ خيرًا-الصديقُ المبدعُ الذي لديه دومًا عالم جاهز للهبة... ليكن المستقبل وما هو أبعد علّة يومكَ الذي تحيا: لتحبّ في صديقك الإنسانَ الأعلى الذي هو علّة وجودك."[31].
رأينا عند مسكَويه أنّ الصّداقة لا تقوم بين أفرادٍ عديدينَ إنّما بين أفرادٍ محدودين، وفي هذا التشديد على الحدّ من عدد الأصدقاء شيء من التلاقي مع نيتشه الذي يجد في الصديق الواحد ما هو كفاية وأكثر من اللزوم. لكنّ سبب الحدّ من عدد الأصدقاء عند مسكَويه مختلف عن ذلك السبب الذي عند نيتشه؛ فمحدوديّة الأصدقاء عند الأوّل عائدةٌ إلى المودّة التي تتميّزُ عن المحبّة بكونها خاصّة، لذا يصعب أن تحدث إلّا بين أفرادٍ متشابهينَ في الخصالِ والإرادة، بينما الصديق الواحد هو كافٍ عند نيتشه؛ لأنّ دوره ينحصر في مساعدة المرء على استنهاضِ دوافعه الخاصّة والضروريّة لتطوّر حياته، لا في أن يشترك مع المرء، كما مع غيره من الأفراد، في أهدافٍ أو خِصالٍ معيّنة. أضفْ إلى ذلك، أنّ الصداقة عند مسكَوَيه تشمل الغريب، لكنّ الغريب أيضًا يصبحُ قريبًا أو عزيزًا لدى تشابهه مع الذات في الطباع والأهداف، وهذا مرفوضٌ عند نيتشه. إنّ الفلسفة التي تنشدُ إرادة القوّة تنبذُ الصداقة القائمة على تشابه الأفراد في طباعهم ومراداتهم، وهي تلفظ الصديقَ التقليديّ (المُحِبّ القريبَ) الذي يلهي المرء عن التفكير بدوافعه التي قد تتعارض مع مصلحة الآخرين؛ فإرادة القوّة هي إرادة ذاتيّة؛ أي إنّها تتطلّب حبّ المرء لذاته ومعرفة ما يريده لذاته، ومن ثمّ تحرّره من العائق الذي يمنعه من تحقيق ما يريد أو تطوير حياته، والآخرون الذين اعتادوا المودّة والقرابةَ هم عائقٌ أمام دوافع المرء ومُراداته؛ لأنّهم بحجّة المودّة والقرابة يبعدون المرء عن ذاته تمامًا مثلما أنّهم يبتعدون عن ذواتهم، وبالتالي فإنّهم أبعد ما يكون عن الصداقة. إنّ الصديق، كما يظهر من كلام نيتشه، يجب أن يَتعاملَ ويُعامَل كشخصٍ مختلفٍ عن سائر الناس... يظهر أنّ الصّداقة هي حاجة الأقوياء لا الضعفاء.
ب- الصّداقة هي حاجة الأقوياء
"هل أنت عبدٌ؟ إنّك لا تستطيع أن تكون صديقًا إذن. هل أنت طاغية؟ لا يمكن أن يكون لك أصدقاء إذن. داخل المرأة كان هناك دومًا عبدٌ وطاغيةٌ متستّرينِ. لذلك ما تزال المرأة غير قادرة على الصداقة: إنّها لا تعرف سوى الحبّ. في حبّ المرأة هناك ظلمٌ وعماءٌ تجاه كلّ ما لا تحبّه. وحتّى داخل الحبّ الواعي للمرأة هناك دومًا هجومٌ مباغثٌ وصاعقةٌ وليلٌ إلى جانب النور."[32]. إنّ العبد في نظر نيتشه غير مؤهّل للصداقة، والعبد هو المرء الذي لا يحبّ ذاته ولا يصغي إلى رغباتها بقدر ما يحبّ أن يسلّم ذاته إلى غيره تحت غطاء الحبّ. إنّ شخصيّة العبد الضعيف مناقضة لشخصيّة الحرّ القويّ؛ فالحرّ القويّ يرفض اتّخاذ مثلٍ أعلى لنفسه غير نفسه، وهو يهتمّ بتحقيق ما يصبو إليه على طريقته حتّى في علاقته بغيره، وهذا ما يعجز عن القيام به من ينتمي إلى فئة العبيد. فضلًا عن ذلك، إنّ الطاغية، أي الشخص الذي يضمر في داخله حقدًا ورغبةً في السيطرة على الآخر، غير مؤهّلٍ للصداقة أبدًا؛ إنّه الحاقد الذي يسعى إلى أن يطغى على ذاتيّة غيره بدلَ أن يسعى إلى تحقيق ذاته، وهو مثل العبد يتستّر بستار الحبّ. ولعلّ أفضل مثالٍ لكلٍّ من العبد والطاغية الذي لا يرقى إلى أن يكون صديقًا: المرأة التي ما زال سقف طموحها أن تسلّم ذاتها للحبيب، أو أن تسيطر على حبيبها لتفرغ من خلال ذلك كلّ ما تحمله من ضغينةٍ. ما زالت المرأة تفعل ذلك بدلَ أن تتحرّر من عقدها وترقى إلى مستوى إبداع السبل والقيم اللازمة لتطوير حياتها، لتستحقّ بعدها أن تكون الملهمة والصديقة.
الصداقة بالنسبة إلى نيتشه هي حاجة الأقوياء. إنّها حاجة من يحبّ ذاته فيرغب في تخطّي وضعه الراهن من خلال تحقيق ما يصبو إليه، إلى حدّ اتّخاذ صديق يناظره في ذلك فيعدّه معلّمًا: "هل حدث لك أن رأيت صديقك وهو نائم؟ ألم يصبك الفزع لرؤية وجهه على تلك الهيئة؟ آه أخي، إنّ الانسان شيء ينبغي تجاوزه. في الحدس والصمت ينبغي أن يكون الصديق معلّمًا: لا ينبغي لك أن تريد أن ترى كلّ شيء بعينك. على حلمك أن ينبئك بما يفعل صديقك في الصحو."[33]. الصديق معلّم لأنّه، في وضعه وفي ما يفعل، يلهم المرء فكرة أن الإنسان شيء ينبغي تجاوزه؛ أي فكرة أنّه على المرء دائمًا أن يتجاوز وضعه القائم، فيسعى إلى بلوغ وضعٍ أرقى وأعلى بتحقيق ما يصبو إليه. علاقة تناظر هي بين المرء وصديقه، لا علاقة تشارك أو مساواة! لا يتعلّم المرء من صديقه قيمًا أو أهدافًا محدّدة ليشترك فيها معه، بل يتعلّم منه فقط أن الإنسان الحاليّ شيء يجب تجاوزه، فيكون المرء مبدعًا لقيمه وأهدافه ليبلغ مثله الأعلى. إنّ العلاقة بين المرء وصديقه هي علاقة تناظر وتمايز، لا علاقة تشارك أو مساواة: "وإذا ما كان المرء يريد صديقًا، فعليه أن يريد خَوْض حربٍ من أجله: ولكي يخوض حربًا لا بدّ أن يكون قادرًا على أن يكون عدوًّا...على المرء أن يُكبر العدوّ في صديقه أيضًا. هل تستطيع أن تقترب كثيرًا من صديقك دون أن تنضمّ إليه؟ على المرء أن يجد في صديقه عدوّه الأفضل. إنّك ستكون أكثر قربًا من قلبه عندما تناهضه..."[34]. ترمز الحرب في فلسفة نيتشه إلى الصراع الذي يجب على المرء أن يخوضه بينه وبين نفسه، كما مع غيره، بأن يجنّد كلّ قواه من أجل تطوّر حياته[35]...على المرء أن يتّخذ بينه وبين نفسه قرار تطوير حياته فيهدم الجمود الذي قد تحدثه ثقافة سائدة في عصره، ويبدع طرقه الخاصّة واللازمة لأهدافه، إلى جانب محافظته على المسافة التي تفصله عن الآخرين ليظلّ متميّزًا عنهم[36]. وفي سياق الحديث عن الصداقة، فإنّ الصداقة التي يفضّلها نيتشه تقوم على التناظر والتمايز لا على التبعيّة أو التشابه إلى حدّ الذوبان؛ إذا ما شعر المرء أنّه بحاجة إلى صديق، فعليه أن يخوض حربًا من أجله بمعنى أن يناظره وينافسه في تطوير ذاته بدلَ أن ينضمَّ إليه، فينظر إلى صديقه كخصمٍ لا كخلٍّ أو كشخصٍ قريب، حفاظًا على المسافة التي تفصله عن صديقه وتميّزه عنه: "إنّك لن تستطيع أن تتجمّلَ بما فيه الكفاية من أجل صديقك: إذ عليك أن تكون بالنسبة إليه سهمًا وتوقًا إلى الإنسان الأعلى...حدسًا ينبغي أن تكون شفقتك: أن تعرف أوّلًا إن كان صديقك يريد شفقةً. فلعلّه يحبّ فيك العين الباردة ونظرة الأبديّة."[37]. يتّضح من هذا الكلام أنّ ليس الصديق وحده معلّمًا وملهمًا، بل إنّ المرء أيضًا يتعامل مع صديقه على نحوٍ يساعده على التحرّر وبلوغ العلوّ؛ يجب على المرء أن يتمتّع بأنجادٍ عاليةٍ لا تحطّ من قدرها الشفقة التي يفترضها الضعفاء شرطًا أساسيًّا للصداقة، فلعلّ الصديق الحقيقيّ، الذي سبق أن تمّ نعته بالمعلّم نظرًا لقوّته وقدرته على الابداع، يريد من المرء أيضًا شيئًا أسمى من المراعاة أو الشفقة؛ أي شيئًا يحمله إلى الأبديّة التي ترمز إلى التفوّق وبلوغ المثال الأعلى.
رأينا عند مسكَوَيه حاجة المرء إلى صداقة الأخيار؛ أي صداقة أولئك الذين يشتركون مع المرء في إرادة الخير ويتساوون معه في طلب الفضيلة، وهذا حتمًا يتعارض مع ما يطلبه نيتشه من الصديق؛ فقد تأكّدَ أنّ الصداقة عند نيتشه لا تقوم على التشارك أو المساواة إنّما على التناظر، حيث ينظر المرء إلى الصديق على أنّه النظير في الإبداع وفي الرغبة بتجاوز الوضع الراهن، تحقيقًا لإرادة القوّة وبلوغًا لمستوى الإنسان الأعلى. علاوةً على ذلك، وجدنا في فلسفة مسكويه مبدأ "مراعاة الصديق" خلال الحديث عن آداب الصداقة، وفي هذا تعارض واضحٌ مع ما يطلبه نيتشه من المرء في علاقته مع صديقه؛ فبحسب الأخير، يجب على المرء أن يكون مع صديقه صارمًا وباردًا لا شفوقًا؛ لأنّ الصديق ليس خِلًّا يطلب المحبّة والإحسان بقدر ما أنّه خصمٌ يجب مناهضته لحثّه على الاِبداع ودفعه صوبَ ما هو أرقى وأعلى. بالنسبة إلى مسكويه، على المرء ألا يركّز على عيوب الصديق ولا أن يتركه في الظروف الصعبة، حفاظًا منه على الودِّ ومنعًا لحدوث أيّ منازعة، لكن بالنسبة إلى نيتشه، على المرء أن يتحلّى بالقسوة والبرود، وأن يعزّز في صديقه روح المنافسة والتمايز بهدف مساعدته على الارتقاء وتطوير ذاته.
هكذا يتبيّن الفرق بين المفهوم القديم/التقليديّ للصداقة والمفهوم الجديد لها؛ ولقد تبيّن الفرق باتخاذ كلّ من الفيلسوف العربيّ والفيلسوف الغربيّ المعاصر نموذجًا لتحديد الصداقة وإثبات حاجة المرء إليها، مع إجراء المقارنة اللازمة. وفي الختام، نعود ونتساءل: إلى أيِّ صداقةٍ يحتاج المرء لكي يحقّق كماله أو مثله الأعلى؟
يتّفق مسكَوَيه ونيتشه حول فكرة حاجة المرء إلى الأصدقاء، ولقد ربطَ مسكويه هذه الفكرة بسعي المرء إلى بلوغ الكمال والسعادة، تمامًا مثلما أنّ نيتشه ربط هذه الفكرة بتشديده على إرادة القوّة وعلى ضرورة تحقيق المرء لمثله الأعلى، بيدَ أنّ التعارضَ بين الفيلسوفين يبرزُ في تحديدهما للصداقة ولكيفيّة تحقيق المرء لكماله بواسطة الأصدقاء؛ فالصداقة التي يحتاجها المرء بنظر مسكويه قائمة على المودّة التي بين الطّيّبين والأخيار؛ أي بين الذين يتشاركون الأهداف الخيّرة والاهتمامات نفسها، في حين أنّ الصداقة الحقّة بنظر نيتشه، والتي يحتاجها المرء في طريقه إلى الكمال، قائمة على المنافسة في الإبداع والتميّز والاختلاف؛ إذ ينحصر دور الصديق عند نيتشه في مساعدة المرء على تحقيق ذاته وفرادته، لا على انتشاله من التفرّدِ أو التشابه معه في القيم والأهداف. ولكي نوفِّقَ بين هاتَين النظرتَين المتقابلتَين إلى الصداقة وحاجة المرء إليها، فنكون بعيدين عن المكابرةِ من جهةٍ ومشدّدينَ على إرادة القوّةِ ومركزيّةِ الذات من جهةٍ أخرى، نقرُّ أنّ المرء نفسيًّا واجتماعيًّا بحاجةٍ إلى المودّة التي يكنُّها إليه الأصدقاء، شرط أن لا تعلو هذه المودّة على مصلحته وفرادته. يمكن للمرء أن يحبّ أصدقاءه وأن يتشارك معهم الأفراح والأتراح وكذلك الاهتمامات، لكن ليس عليه أن يضحّي بنجاحه وبشخصيّته الفريدة لأجل أصدقائه. المرء كائنٌ اجتماعيٌّ، لكن ليس من الطبيعيّ أن يخشى الوحدة؛ لأنّ الذين يخشونَ الوحدة هم الأكثر استعدادًا للتضحية بأحلامهم وبسبل نجاحهم بغية الشعور بالأمان مع الأصدقاء. كثيرون هم الذين يحبوّننا، لكنّ محبّتهم تتحوّلُ كرهًا متى كشفنا عن رغباتنا وعن فكرنا المميّز؛ فيهدّدوننا بالرحيل، أو يخيّروننا بين بقاء مودّتهم وبقائنا على مواقفنا. كثيرون أيضًا هم الذين يحبّوننا، لكنّهم يرفضون إعطاءَنا طرف الخيط ليكشفوا لنا عن سرِّ النّجاح، أو ليساعدوننا على تحقيق طموحاتنا... لتكن الصداقة، كما يقول مسكَوَيه، مبنيّة على المودّة، شرط ألا تكون المودّة زائلة عند معرفة الأصدقاء بدوافع المرء وأحلامه، التي هي السبيل الأفضل أمامه لتحقيق قوّته، كما نفهم من فلسفة نيتشه. ليكتفِ الأصدقاء بمودّتهم فيصفّقون للمرء عند نجاحه وتميّزه، أو حتّى عند تفكيره بالنجاح والتميّز، بدلَ أن يتخلّوا عنه أو يحقدوا عليه في الخفاء. تلك الذات القويّة والطامحة إلى العُلا، كم بودّها أن تقتنع بأنّ بعض الأصدقاء موضوعيّون في عدم مساعدتها على تحقيق أهدافها، لولا علمها بأنّهم يريدون لذواتهم الشيء نفسه الذي تريده لذاتها! إنّ نصحهم لها أحيانًا بعدم سَعيها خلفَ طموحها الجريء والصعب، يحملُ في طيّاته غيرةً هدّامةً ولا واعية... كم بودّ الذات أن تحافظ على بعض الصداقات وعلى نجاحها في الوقت عينه، فلا تختار بين من ترتاح إليهم وأهدافها، لكنّها تعرف أنّ لا أحد أكثر من ذاتها سيساعدها على تحقيق ذاتها إلى النهاية، وأنّه متى تعلّق الأمر بتحقيق الذات فإنّ النّجاح أهمّ من بقاء الصداقات كلّها. ليكوّنَ المرء صداقاتٍ كثيرة، وليحبّ أصدقاءه كثيرًا، لكن ليحبّ نفسه أوّلًا فلا تكون صداقاته هربًا من الذات أو تعبيرًا عن جهل الذات بمصلحتها.
[1]) أرسطوطاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، الجزء الأوّل، ترجمة أحمد لطفي السيّد، القاهرة، دار الكتب المصريّة، 1924، ص ص. 219 و220
[2]) الفكر العدميّ في أوروبّا: يُعتبر الفكر العدميّ جزءًا لا يتجزّأ من الفلسفة الغربيّة المعاصرة، وهو يتّخذ طابعًا إلحاديًّا، ونوعًا ما تشاؤميًّا، نظرًا لاعتقاد أعلامه بـ"الذاتيّة المطلقة"، بحيث تُعتبر الذات المصدر الأوحدُ للقيم ولمعاني الأشياء، وبالتالي لا شيء في العالَم قد يبالي لمعاناتها في مسار تحقيقها لأهدافها. أمّا "الآخر"، الذي قد يُنظر إليه على أنّه زميلٌ أو صديق أو حبيب، فهو بحسب العدميّينَ مماثلٌ للذات من حيث تمتّعه بالحريّة وسَعيه إلى تحقيق أهدافه، لكنّه أيضًا مختلفٌ عن الذات لأنّه يتميّز عنها في ما يريد وفي طريقة وصوله إلى ما يريد، والذات أحيانًا ترى فيه الوسيلة المهمّة لكي تصل إلى ما تطمحُ إليه وتبلغ علوَّها. الفلاسفة الغربيّون العدميّون كُثر، ومن أشهرهم: نيتشه صاحب مقولة "لقد ماتت كلّ الآلهة؛ والآن تريد أن يحيا الانسان الأعلى"، وجان بول سارتر رائد "الوجوديّة الإلحاديّة"، وإميل سيوران صاحب مقولة "المياه كلّها بلون الغرق".
[3]) مسكَوَيه (932-1030م): هو أحمد بن محمّد بن يعقوب مسكَوَيه، أصله من الرَي، وعُرِف في زمانه بسِعةِ آفاقه إذ عُنيَ كفيلسوفٍ مسلمٍ بالأخلاقيّات والإلهيّات، فضلًا عن كَونه شاعرًا ومؤرّخًا. تتلمذَ على يدِ الفيلسوف العربيّ المسيحيّ يحيى بن عديّ، وتأثّر في بعض كتاباته بالفيلسوف العربيّ الأوّل الكندي. من أهمّ مؤلَّفاته: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، الهوامل والشوامل، وطهارة النفس.
راجع: جمعة (محمّد لطفي)، تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليليّ لآرائهم الفلسفيّة، لا طبعة، القاهرة، مؤسّسة هنداوي للتّعليم والثقافة، 2012، ص. 305
[4]) جمعة (محمّد لطفي)، تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليليّ لآرائهم الفلسفيّة، لا طبعة، القاهرة، مؤسّسة هنداوي للتّعليم والثقافة، 2012، ص. 305
[5]) مسكَوَيه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق عماد الهلالي، الطبعة الأولى، بغداد، منشورات الجمل، 2011، ص. 361
[6]) المصدر نفسه: ص. 368
[7]) يمكن استنتاج هذا التفسير من كلامِ مسكَوَيه عن اشتراك الأصدقاء في إرادة الخير والفضيلة، في السياق نفسه الذي يذكرُ فيه حدَّ الصديق.
عُدْ إلى المصدر نفسه: ص. 368
[8]) أرسطوطاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، الجزء الأوّل، ص. 222
[9]) مسكَوَيه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق عماد الهلالي، ص. 379
[10]) المصدر نفسه: ص. 376
[11]) المصدر نفسه: ص. 376
[12]) المصدر نفسه: ص. 361
[13]) الجزء الإلهيّ في الإنسان هو نقيض الجزء البهيميّ الذي يتمثّل بالشهوات والغرائز. إنّه النفس الناطقة التي تدرك الخير في ذاته وتطلب الخير لذاته، وهي بترفّعها عن الحسيّات والشهوات قادرة على الاتّصال بالإله الخالق وبالعالَم الربّانيّ المناقض لعالَم الأشياء الحسيّة.
عُدْ إلى المصدر نفسه: ص. 363 و376
[14]) مسكَوَيه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق عماد الهلالي، ص. 364 و374
[15]) المصدر نفسه: ص ص. 380-381
[16]) المصدر نفسه: ص. 381-383
[17]) المصدر نفسه: ص. 377
[18]) مسكَوَيه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق عماد الهلالي، ص. 378
[19]) المصدر نفسه: ص. 379
[20]) القِيَم الشموليّة: أي القيم الكلّيّة التي إمّا تكون عائدة إلى طبيعةٍ انسانيّةٍ عامّةٍ ومشتركةٍ (كرجوع قانون الواجب الأخلاقيّ عند كنط إلى العقل الإنسانيّ العامّ)، أو إلى المعتقدات والشرائع التي أرستها الثقافات الدينيّة، كالثقافة المسيحيّة التي لم يتردّد في انتقادها العدميّون الغربيّون.
[21]) للإطّلاع بإسهابٍ على فكرة "إرادة القوّة" عند نيتشه، وتعارض هذه الفكرة مع أهمّ المبادئ التي تنادي بها الثقافات الدينيّة والفلسفة التقليديّة، راجع: كامل (فؤاد)، أعلام الفكر الفلسفيّ المعاصر، الطبعة الأولى، بيروت، دار الجيل، 1993، ص. 188-190
[22]) نيتشه (فريدريش)، هكذا تكلّم زرادشت: كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة علي مصباح، الطبعة الأولى، بغداد، منشورات الجمل، 2007، ص. 115
[23]) المصدر نفسه: ص. 115
[24]) عُدْ إلى كلام نيتشه عن "طريق المبدع" المرتبط ارتباطًا وثيقًا بعظمةِ الوحدة، في كتاب هكذا تكلّم زرادشت: كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة علي مصباح، ص. 126
[25]) المرتفع في فلسفة نيتشه هو رمز الارتقاء والعلوّ، وهو نقيض المنحدر الذي يشدّنا إليه التبعيّون والمتخاذلون: "إلى هدفي أسعى، وفي طريقي أمضي؛ وسأقفزُ فوق كلِّ المتردِّدين والمتلكِّئين. وليكن مضيّي انحدارهم وأُفولهم إذًا !".
المصدر نفسه: ص. 58
[26]) عُدْ إلى الهامش رقم (1)، في المصدر نفسه: ص ص. 123 و124
[27]) المصدر نفسه: ص. 123
[28]) نيتشه (فريدريش)، هكذا تكلّم زرادشت: كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة علي مصباح، ص. 123
[29]) المصدر نفسه: ص. 125
[30]) المصدر نفسه: ص. 127
[31]) المصدر نفسه: ص. 125
[32]) نيتشه (فريدريش)، هكذا تكلّم زرادشت: كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة علي مصباح، ص ص. 117 و118
[33]) نيتشه (فريدريش)، هكذا تكلّم زرادشت: كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة علي مصباح، ص. 117
[34]) المصدر نفسه: ص. 115 و116
[35]) المصدر نفسه: ص. 98 و99
[36]) عُدْ إلى الهامش رقم (1)، في المصدر نفسه: ص. 98
[37]) المصدر نفسه: ص. 117