الطرح الميتافيزيقي للحرية بين الوهم والنفي
فئة : مقالات
الطرح الميتافيزيقي للحرية بين الوهم والنفي
لا نجد مشكلة أكثُر مرية، أشدُ وطأة، كثيرة المرآء، يخفق لها القلب ويتحير لها العقل، مثل الحرية. فهي الكلمة القوية المبنى، الشديدة المعنى التي تستدعي الفهم وتطلب القلم حثيثاً يذعن لها، يسود الصفحات ويملأ الكتب بمواقف الفلاسفة هنا وآراء المفكرين هناك، وومضات علماء النفس تتناثر بين هنا وهناك. وفي طرح الموضوع والكتابة فيه تعد الحرية إحدى أقدم المشاكل، والقضايا التي بحثتها الفلسفة، ما دامت مرتبطة بصميم الوجود الإنساني كماهية وجوهر وعلاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع الذي يتواجد فيه؛ فالحرية أزهار ولها رائحة زكية، وتعبير عن رأي وفكر وإرادة طبيعية، ذات قيمة عزيزة في حقل الدراسات الفلسفية وميادين علم النفس ومختلف المجالات السياسية والاقتصادية، الاجتماعية والثقافية خاصة بعد التقدم المتسارع للحضارة الإنسانية وتطور الاتصال والتكنولوجية مما يجعلنا نثير هذه التساؤلات:
هل الحرية وهم أم نفي؟ أم هي مشكلة الإنسان في صراعه مع الطبيعة والمجتمع والعديد من الحتميات التي تحاصره من كل حدب وصوب، وفي كل وقت وحين، فكيف يمكن للحتمية أن تعيق الحرية؟
الطرح الميتافيزيقي للحرية وهم أم نفي:
إن كلمة الحرية تحمل في طياتها كثيراً من المعاني، متعددة الدلالات، مما جعل بعض الفلاسفة لا يزالون في مرية وحيرة إزاء هذه المشكلة التي تعني تجاوز كل إكراه داخلياً كان أم خارجياً، هذا التجاوز يغيب في انعدام الحرية وتتلاشى عند فلاسفة الطرح الميتافيزيقي من المدرسة الرواقية إلى الجهمية وتعتبر وهماً عند باروخ سبينوزا في العصر الحديث.
المدرسة الرواقية ونفي الحرية:
الرواقية تنتسب إلى زينون الذي بدأ التدريس الفلسفة في الرواق، لا مقيد بالأكاديمية التي حصر أفلاطون تدريس الفلسفة فيها، تقوم فلسفة زينون على مبادئ تجلت في: النزعة العقلية، «واعتقاده بأهمية الإحساس وماهيته في الطبيعة[1]».
الإنسان في نظر الرواقيين يعيش عالمين، داخلي قوامه الحرية، وخارجي قوامه الضرورة؛ فالإنسان يستطيع بإرادته أن يؤثر في ميوله ورغباته، نوازعه وصوارفه ويسيطر عليها، لكنه لا يستطيع أن يؤثر في الأشياء الخارجية كالجسم والخير والشر؛ لأنها تخضع لضرورة أعلى وأسمى. وكل الحوادث الطبيعية والبشرية يتحكم في مجراها نظام ثابت وهنا نفيٌ للحرية. «فما أشبه الإنسان عند الرواقيين بممثل يؤدي الدور الذي حدده له القدر فقد يكون فيه عظيماً أو فقيراً، مريضاً أو سليماً، بائساً أو سعيداً فليؤد الدور وليقبله أيا كانت الأحوال فعلينا أن نحسن أداء الدور أما اختياره فليس من شأننا.»[2]
الجهمية، قيد الفعل وجبر السلوك:
تؤسس هذه الفرقة الكلامية بقيادة جهم بن صفوان المتوفي سنة 128 هجرية إلى نظرية الجبر؛ فالإنسان مثل الكائنات الأخرى يخضع لضرورة متعالية هي القدرة الإلهية، فسلوك المرء مقيد، خلق الله الإنسان وحدد أفعاله وسلوكياته بقدرته الكلية المطلقة، فلا مناص لك أيها الإنسان إلا أن تكون مسيراً في حياتك لا مخيراً، يقول جهم بن صفوان: «لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده وأنه الفاعل، وأن الناس إنما تنتسب إليهم أفعالهم على المجاز.»
القول بجبر السلوك وقيد الفعل يؤدي إلى شل إرادة الإنسان وفقدان ثقته في إرادته ومصيره، «إذ إننا نشعر جميعاً بأن حريتنا تنحصر في تحقيقنا لأفعالنا دون الخضوع لشروط أو ظروف خارجية.»[3]
الفيلسوف سبينوزا ووهم شعور الحرية المزعوم:
فتحت فلسفة نقولا مالبرانش الباب على مصاريعه أمام باروخ سبينوزا، ومهدت عقيدته الدينية اليهودية لبلورة فكره الفلسفي، «وعاش سبينوزا حياة زهد وتقشف وعزلة آثر فيها السلامة الجسدية والنفسية كما آثر فيها التأمل والفكر على المجد والشهرة.»[4] هذه الحياة البسيطة والإرهاصات الفكرية جعلت باروخ كثير الأفكار عميق الطرح، تناول إشكالية الحرية من زاوية الوهم بالشعور، من هنا نجد أن الشعور يعبر عن حرية ناقصة «لأنها مستمدة من حرية الله الكاملة أو إرادته المطلقة، التي هي الغاية في نهاية المطاف.»[5] هذه الحرية خاصة بالله تعالى فقط. أما الإنسان، فيخضع للنظام العام في نطاق الطبيعة، وفي علاقته بالجوهر الإلهي، فشعور الإنسان المزعوم مجرد وهم بالحرية، فهو يجهل البواعث لذلك يقول سبينوزا: «إن الناس ليخطئون إذ يظنون أنفسهم أحراراً. ولكن ما منشأ هذا الظن؟ إن مرجعه أن الناس يشعرون بأفعالهم، وإن كانوا يجهلون العلل التي تدفعهم إلى العمل.»[6]
قائمة المصادر والمراجع:
- سبينوزا: علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس.
- إبراهيم مصطفى إبراهيم: الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، إسكندرية، مصر
- منشاوي عبد الرحمن إسماعيل : الوجيز في الدرس الفلسفي، تاريخ ونقد، دار الثقافة العربية، القاهرة، طبعة أولى، سنة 1991
- زكريا إبراهيم: مشكلات فلسفية، مشكلة الحرية، مكتبة مصر، طبعة ثالثة، دون سنة.
- أميرة حلمي: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، طبعة جديدة، 1998
[1] أميرة حلمي: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، ص: 371
[2] المرجع سبق ذكره، ص: 386
[3] زكريا إبراهيم: مشكلات فلسفية، مشكلة الحرية، ص: 183
[4] إبراهيم مصطفى إبراهيم: الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، ص: 186
[5] منشاوي عبد الرحمن إسماعيل : الوجيز في الدرس الفلسفي، تاريخ ونقد، ص: 247
[6] سبينوزا: علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، ص: 293