العدالة كمفهوم سياسيّ عند جون رولز
فئة : مقالات
أوّلًا: تمهيد:
جون رولز (John Rawls1921م - 2002م): من أعلام الفلسفة السّياسيّة المعاصرة، حاصل على درجة الدّكتوراه في الفلسفة (فلسفة الأخلاق) من جامعة برنستون عام 1950م، وأستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد منذ عام 1962م حتّى وفاته في عام 2002م.
أثارت كتاباته* كثيرًا من القضايا المتداولة على السّاحة الدّولية - اليوم - الّتي يحتدم في الغرب حوار وجدل مستمرّان بشأن موضوعاتها، مثل: العدالة والإنصاف، واللّيبراليّة السّياسيّة، وحقوق الإنسان، وغيرها من المفاهيم الّتي أصبحت متداولة في الفكر السّياسيّ المعاصر[1].
في عام 1958م نشر جون رولز مقالة مطوّلة في (المجلّة الفلسفيّة) معنوّن بـ (العدالة كإنصاف** رسم فيها الخطوط العريضة لمشروعه الفكريّ، الّذي أخذ صورته الكاملة - غير النّهائية - في كتابه (نظريّة العدالة) الصّادر في عام 1971م، وأُعيد نشره، بعد مراجعته، في عام 1975م[2].
لا تقتصر أهميّة هذا الكتاب "نظريّة العدالة" في نظر مؤرّخي الفلسفة المعاصرة، على ما تضمّنه من مفهومات جديدة فقط؛ بل لأنّه - أيضًا - ظهر في فترة عانت فيها الفلسفة السياسيّة - خاصّة - في الفكر الأنجلوساكسونيّ خمولًا وركودًا أقرب إلى الموت.
وفي السّنوات السّابقة واللّاحقة للحرب العالمية الثانيّة تراجعت الفلسفة السّياسيّة، وتراجع دورها إلى هامشيّة لا يكاد يلحظها أحد، وأصبح الاهتمام الأوّل - حينذاك - في المنطق واللّغة، وأهمل شأن قضايا تمسّ - أخطر ما تمسّ - الحياة الإنسانيّة، مثل: الحريّة والمساواة وحقوق الإنسان، وجاهدت الفلسفة السياسيّة لتجد لها - بشقّ الأنفس - موضع قدم في الفكر المعاصر.
حين كانت الفلسفة السّياسيّة في حالة الاحتضار هذه، جاء كتاب (نظريّة العدالة) ليبعث فيها الحياة من جديد.
كان ظهور هذا العمل الفذّ علامة فاصلة في تاريخ الفكر المعاصر، وبعثّا جديدّا للاهتمام بمفاهيم العدالة ومبادئها والعناصر المقترنة بها؛ لإقامة نظم اجتماعيّة تحقّق العدالة، والحرّيّة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والحقوق الأساسيّة للإنسان[3].
غير أنّ صدور الكتاب، والتّعليقات - الإيجابيّة والسّلبيّة - على مضمونه، وردود رولز عليها، أن بيّن لرولز أنّ ثمّة أفكار ذات عيوب ونواقص في الكتاب، لا بدّ من مراجعتها وتنقيحها، وربما الاستغناء عنها؛ فجاء كتابه الجديد بعنوان: (العدالة كإنصاف: إعادة صياغة) الّذي صدر في عام 2001م، لتصحيح كثير من الأخطاء، وإدخال بعض التّنقيح المفيد، ووضع أجوبة عن قليلٍ من الاعتراضات - الأكثر عموميّة - الّتي جاءت على الكتاب السّابق (نظريّة العدالة)، وصياغة براهين في مواضع كثيرة[4].
في البداية؛ لا بدّ من التّأكيد أنّ نظريّة رولز في العدالة: هي نظريّة سياسيّة وليست أخلاقيّة، وهذا يعني أمورًا كثيرة، منها: أنّ هذه النّظريّة لا تهدف لتحديد الخير من الشّرّ، أو كيف يعامل النّاس بعضهم البعض، بقدر ما تهدف إلى وضع المبادئ الّتي يجب أن تُأسّس عليها البنية الأساسيّة السّياسيّة للمجتمع، والمقصود بالبنية الأساسيّة، هنا: مجموعة المؤسّسات الأوّلية التّشريعيّة والاقتصاديّة، ودستور البلاد، والتّعليم، ....إلخ، هذه البنية هي موضوع نظرية رولز للعدالة.[5]
ثانيًا: المجتمع المنظّم عند رولز:
يمكن أن نعدّ ما ينادي به رولز في نظريّته للعدالة: هو إعادة توزيع نتائج الفرص الاقتصاديّة أو المنافع الاقتصاديّة في المجتمع؛ فهو لا يؤمن بأنّ وظيفة الحكومة تنحصر في حفظ النّظام الاجتماعيّ؛ بل تتعدّى ذلك إلى تحقيق العدل التّوزيعيّ، على نحو يراعي مصلحة الشّرائح الأكثر والأشد احتياجًا في المجتمع.
فرولز يدرك تمامًا أنّ هناك من الفروق والتّباينات في المزيّات الفرديّة ما لا يمكن تقليله، طالما أنّ الطّبيعة لا تمنح كلّ إنسان نفس المزيّات - الجسديّة والعقليّة - الّتي تمنحها لسواه، ورغم أنّه لا يمكن إلغاء هذه الفروق أو تحجيمها، إلّا أنّه يمكن تحجيم الآثار المترتّبة عليها، بحيث يمكن لمن هم أتعس حظًّا - ممّن لم تمنحهم الطّبيعة قدرًا كبيرًا من المواهب والقدرات - أن يستفيدوا من إنجازات الموهوبين والمتفوقين، ولا شكّ في أنّ هذه النّظرة غريبة عن المجتمعات المؤمنة بالاقتصاد الحرّ، والقائمة على السّماح للأفراد بحرّيّة إقامة المشروعات، وهي - في الوقت ذاته - غريبة عن المجتمعات الشّيوعيّة والاشتراكيّة؛ الّتي تلغي استقلال الفرد لحساب رفاهيّة المجتمع[6].
هكذا، واجهت نظريّة رولز النّقد من جهتي اليسار واليمين السّياسيّ في نفس الوقت؛ فلم يرض مفكرو اليسار عنها؛ لأنّها تخلّت - في نظرهم - عن مقتضى أساسيّ لتحقيق العدالة: هو المساواة الكاملة في الأوضاع، بين النّاس والقضاء، ضمن مظاهر اللّامساواة كافّة، واكتفت - فقط - بتقييد اللّامساواة بشرط أن يستفيد منها الجميع - خاصّة - من يكون الأكثر تضرّرًا من جهة قسمة الموارد المتوفّرة، أمّا أنصار اللّيبرالية الاقتصاديّة المتطرفة في أمريكا؛ فقد عدّوها محاولة جديدة لإيجاد تسويغ فلسفيّ لدولة الرّفاه اللّيبراليّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، الّتي في حالة وهن، وتتداعى للسّقوط نتيجة لاستنزافها موارد المجموعة القوميّة، في الإنفاق على جهاز إداريّ متضخّم، وعلى برامج اجتماعيّة فاشلة لم تحلّ مشاكل البطالة والفقر[7].
ورغم هذا النّقد - من جهتي اليسار واليمين - لنّظرية رولز في العدالة، إلّا أنّ رولز كان يحاول البحث عن صيغة، تضمن للفرد البحث المعقول عن مصلحته الخاصّة، وتحقيق تصوّره الخاصّ للخير، وفي نفس الوقت؛ تضمن وجود إطار عامّ للتّعاون يحمي الرّابطة الاجتماعيّة من التّفكك، ولا يمكن أن يكون ذلك، إلّا إذا نظرنا إلى المجتمع على أنّه مغامرة تعاونيّة مشتركة قائمة على المصلحة المتبادلة؛ ففي هذا النّموذج هناك - من جهة - تماثل في المصلحة بين الأطراف المشاركة في هذا المشروع التّعاوني؛ إذ إنّ كلّ الأطراف له مصلحة في استمراره ونجاحه في تحقيق فوائد، وتنازع في المصلحة - من جهة أخرى - حيث إنّ كلّ طرف في هذا المشروع التّعاونيّ، يريد أن يحوز لنفسه ولمجموعته أكبر نصيب من فوائد وأرباح هذا التّعاون الاجتماعيّ.
لذلك؛ فالجميع شركاء في قاعدة المساواة في الانتماء إلى الجماعة السّياسيّة، والمواطنة، والحرّيّة المتساوية بين الجميع، والكرامة، وحرمة الشّخص الّتي لا تقبل الانتهاك والتّعري تحت أيّ داع، ولو كانت المصلحة الجماعيّة.
لهذا؛ ينتهي رولز إلى أنّه لا يمكن أن يستمر التّعاون بين هذه الأطراف، إلّا إذا وجد اتّفاق - في إطار عامّ - يساعد النّزاعات الفرديّة والخلافات حول تقسيم مغانم العيش المشترك وأعبائه، في أن تجد طريقها للحلّ دون جنوح إلى العنف أو تهديد به، ولا يكون ذلك ممكنًا - في رأيه - إلّا بتأكيد أولويّة العدالة في كلّ تنظيم لمؤسّسات المجتمع الحديث.
وفق هذا المنظور؛ تفترض العدالة عند رولز تنظيمًا للمؤسّسات الكبرى للمجتمع، على نحو يكون فيه توزيع فوائد التّعاون الاجتماعيّ وتكاليفه، توزيعًا عادلًا على أساس المواطنة، حتى لا يشعر أيّ طرف شريك بالضّيم أو يشكو الإجحاف في حقّه.
بناء على ذلك؛ يرى رولز أنّه من الممكن وضع تصوّر أو نموذج لمجتمع حسن التّنظيم (ordered)society) Well)، يمكّن من نقد المؤسّسات القائمة، والعمل على إعادة تنظيمها، ويرى رولز: أنّ مجتمع مثل هذا، لا بدّ أن تكون مؤسّساته تدار من خلال تصوّر عموميّ للعدالة، يكون موضع وفاق بين أفراده والمجموعات المكوّنة له، ويكون معروفًا منهم، ويحظى بقبولهم الحرّ[8].
هذا المجتمع حسن التّنظيم: هو نظامٌ اجتماعيّ منظّم وفقًا للتّصور السّياسيّ للعدالة، تحكمه مؤسّسات، تخضع في سيرها لقواعد يعترف بها جميع المواطنين، ويعملون بها في الحقل العموميّ. ولا يتحقّق هذا النّظام - في صورته المثلى - إلّا إذا توافرت مجموعة من الشّروط الآتية:
- أن يقبل كلّ فرد تصوّرًا معيّنًا للعدالة ومبادئها، وأن يكون على علم أنّ الأفراد الآخرين يقبلونها كما يقبلها هو.
- أن تستجيب بنية المجتمع الأساسيّة أو المؤسّسات الأساسيّة الّتي يتألف منها النّظام الاجتماعيّ لهذه المبادئ، وأن يكون هناك ما يبرّر - بشكل معقول - اعتقاد النّاس بأن هذه المؤسّسات تحقّق لهم العدالة بالفعل.
- أن ينظر الأفراد إلى أنفسهم على أنّهم متساوون في الحرّيّة، ولهم نفس الشّخصيّة الأخلاقيّة الّتي تبعث فيهم الإحساس بالعدالة - خاصّة - في بعدها السّياسيّ.
- أن يكون للأفراد تصوّر للخير، يجعلون منه هدفهم الأساسيّ، ويتيح لهم إمكانيّة المطالبة بحقوقهم المشروعة في إطار مؤسساتهم.
- أن ينظروا إلى أنفسهم على أنّ لهم الحقّ في نيل ما يستحقونه من الاحترام والتّقدير، بتمكينهم من المساهمة في تحديد المبادئ الّتي تنظّم البنية الأساسيّة للمجتمع.
- ضرورة أن تشتغل المؤسّسات الأساسيّة بطريقة تولّد الإحساس بالعدالة في نفوس النّاس، من أجل إرساء دعائم الاستقرار في المجتمع[9].
يرى رولز أنّ المجتمع حسن التّنظيم يأتي - نظريًّا - من تخيلنا لعقد اجتماعيّ، يتداول وفقه الشّركاء في وضع افتراضيّ، يختارون فيه مبادئ عدالة تحكم مؤسّسات مجتمعهم، ولا يعرفون - في ذلك الوضع - الفئة الّتي ينتمون إليها؛ أي إن كانوا من الميسورين أو المعوزين، ولا مواهبهم ومؤهلاتهم الطّبيعية؛ كالذكاء، أو الإقدام على المخاطرة، أو القدرة على المساومة، أو قواهم البدنيّة، ...إلخ، ولا يعرفون: أيُّ التّصورات للخير يفضلون (التّديّن، أو الزّهد، أو حبّ المال، أو المتعة الحسّيّة والجماليّة، ...إلخ)، وضمن أيّة فئة يضعهم ذلك التّصور؛ سواء ضمن الأقليّة - دينيّة كانت أم عرقيّة أم ثقافيّة أم اجتماعيّة - أو ضمن الأغلبيّة، ولا يعرفون - أيضّا - الثّروات والقدرات الّتي يتوافر عليها مجتمعهم، ولا مكانته ضمن الأوطان، في حين أنّهم يعرفون أنّ لهم وطنًا يخلصون له.
يقول رولز: إن المداولة بين أطراف متساوية من حيث المعلومات التي لديهم - عن أنفسهم وعن مجتمعهم - ستقودهم إلى اختيار اجتماعيّ للمبدأين الآتيين:
المبدأ الأوّل: لكلّ شخص حقّ متساو مع غيره في النّسق الشّامل من الحريّات الأساسيّة المتساويّة، وعلى نحو يتّسق مع نسق مماثل من الحريّة للجميع.
المبدأ الثّاني: لا بدّ أن تنظّم مظاهر التّفاوت الاجتماعيّ والاقتصاديّ على نحو:
أ - تكون فيه لصالح الأقلّ امتيازًا.
ب - تكون مرتبطة بوظائف وبمواقع مفتوحة أمام الجميع، وفي إطار من المساواة العادلة[10].
ثالثًا: رولز وفكرة التّعدديّة المعقولة
يميّز رولز بين اللّيبرالية بوصفها؛ فلسفة تؤسّس الحياة في كونها أيديولوجيّة شاملة، واللّيبرالية الّتي هي مبدأ سياسيّ فقط، وإذا كانت الفلسفة اللّيبرالية الشّاملة تنطلق، في تحديدها لما ينبغي أن يكون عليه النّظام الاجتماعيّ والسّياسيّ، من تصوّر مسبق عن طبيعة الفرد والحياة الخيّرة؛ فهي تدافع عن التّرتيبات السّياسيّة باسم جملة من المثل الأخلاقيّة، نجد أنّ اللّيبراليّة السّياسيّة - عند رولز - لا تقبل ولا ترفض أيّة عقيدة شاملة خاصّة؛ فهي تقرّ أنّ لهذه العقائد حقّها في البحث عن الصّدق الدّينيّ والأخلاقيّ والفلسفيّ، لكنّها تفضّل أن تكون على الحياد من النّزاعات الجدليّة المتزمّتة، وتتجنّب اعتماد أيّة نظرة شاملة معيّنة.
حسب منطق المصلحة العموميّة الّذي يسعى إليه رولز: لا سبيل إلى وجود مشروع للمواطنين، لمناقشة مسائل سياسيّة ودستوريّة أساسيّة بالاعتماد على مثلهم الأخلاقيّة أو الدّينيّة فقط.
ويرى رولز أنّ الفصل بين هويّتنا السّياسيّة وهويّتنا الخاصّة، يجد مصدره في الطّبيعة الخاصّة الّتي تميّز المجتمعات الدّيمقراطية المعاصرة؛ إذ تتميّز المجتمعات الدّيمقراطيّة الغربية المعاصرة بوجود كثير من المذاهب الشّاملة المعقولة المتعارضة - دينيّة وفلسفيّة وأخلاقيّة - ويدرك المواطنون أنّهم لا يستطيعون التّوصل إلى اتفاق، أو حتّى مجرّد التّوصل إلى تفهّم متبادل على أساس مذاهبهم الشّاملة المتعارضة، ويؤكّد رولز أنّ هذا التّنوع في العقائد الشّاملة الموجود في المجتمعات الدّيمقراطيّة المعاصرة، ليس مجرّد حالة تاريخيّة سرعان ما تزول؛ بل إنّه ملمحٌ دائمٌ للثّقافة الدّيمقراطيّة العالميّة، وفي حالات سياسيّة واجتماعيّة تؤمّنها الحقوق الأساسيّة والمؤسّسات الحرّة.
هذه السّمة الّتي تتّسم بها المجتمعات الحرّة يسمّيها رولز (واقعة التّعدديّة المعقولة)؛ التي يعدّها سمة مطلوبة في المجتمعات الدّيمقراطيّة المعاصرة؛ لأنّها تعبّر عن التّنوع البشريّ[11].
في كتابه (اللّيبرالية السّياسيّة) تخلّى رولز عن البعد الكونيّ الّذي جعل نظريّة العدالة - في صيغتها الأولى - تبدو وكأنّها نظريّة صالحة لكلّ المجتمعات، مهما كانت ثقافاتها، ومهما كان عصرها وتاريخها، وأعاد تقديمها على نحو يجعلها وثيقة الصّلة والارتّباط بالتّقاليد الخاصّة بالدّولة الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة الحديثة؛ الّتي تتميّز بثقافة عموميّة، تتأصّل فيها قيم المساواة والحرّيّة الفرديّة.
فمبادئ العدالة - عند رولز - لم تعد تندرج ضمن تصوّر عامّ، يقوم على مثال أعلى ليبراليّ جامع وشامل؛ إنّما أصبحت تشكّل رؤية سياسيّة، يمكن أن تقبل بها مذاهب واتجاهات - فكريّة وفلسفيّة ودينيّة - لا تقبل بالرّؤية الفلسفيّة اللّيبراليّة الشّاملة، كما نجدها لدى جون ستورت ميل أو كانط - مثلًا - فاللّيبراليّة السّياسيّة - على خلاف اللّيبراليّة الشّاملة - أكثر مواءمة لواقعة التّعدديّة الأخلاقيّة الّتي تسم المجتمعات المعاصرة؛ فالنّاس لا يتّفقون اليوم حول المثل الأعلى للحياة الطّيبة، وحول القيمة الأخلاقيّة للأفعال، لكنّهم - رغم ذلك - مجبرون على التّعايش داخل مجتمع واحد تتعدّد فيه رؤى العالم، وينقسم أفراده حول معنى الحياة المثلى، وحول قيم الخير، وحول ما يجب أن يكون موضوع تثمين أخلاقيّ[12].
فرولز من (واقعة التّعدديّة المعقولة) تحديدًا، يسعى إلى البحث عن ماهيّة المبادئ العامّة للعدالة؛ الّتي يمكن أن يتبنّاها مواطنون أحرار متساوون، بغرض الاصطلاح على معياريّة معيّنة للوصول إلى مجتمع عادل، دون أن يكونوا مضطّرين إلى التّراجع عن قناعاتهم أو توجّهاتهم الخاصّة، فإذا كان المواطنون في المجتمعات الديمقراطيّة المعاصرة لا يتّفقون - عادة - في تصوّر أخلاقيّ، أو فلسفيّ، أو دينيّ شامل؛ لأنّ هذه القناعات من الصّعب أن تتّفق؛ فإنّه من المعقول البحث عن اتّفاق في مبادئ العدالة السّياسيّة، الّتي تكون محايدة إزاء المجادلات الواقعة بخصوص هذه المسألة[13]، فإذا ما تحقّق هذا الاتّفاق بين التّصورات الشّاملة المختلفة، تنال ما يسمّيه رولز (وفاقًا من خلال تراكب عقائد مقبولة (Overlapping consensus، تسلّم في إطاره كلّ الجماعات والمذاهب - دينيّة أو غير دينيّة - بضرورة تعزيز الحرّيّات الأساسيّة وحمايتها[14].
ولتجسيد فكرة (الوفاق من خلال التّراكب) يتطرّق رولز إلى مسألة حرّيّة الضّمير، ويميّزها وفق ضربين من الحجج؛ في الضّرب الأوّل: ينظر إلى المعتقدات الدينيّة على أنّها موضوع قابل للمراجعة والنّظر العقلانيّ؛ فحريّة الضّمير ضروريّة لنا لعدم وجود ما يضمن لنا أن تكون أساليبنا الرّاهنة في العيش، مناسبة لنا أو ليست في حاجة إلى مراجعة أو إعادة نظر، وهذه الحجّة الّتي تقوم على فكرة المراجعة العقلانيّة: هي الحجّة الّتي يستند عليها اللّيبراليون لتبرير مقتضى الحرّيّات الأساسيّة، أمّا الضّرب الثّاني من الحجج؛ فينطلق - في دفاعه عن الحريّة الدّينية - من أنّ العقائد الدّينيّة راسخة، وليست - بالتّالي - موضع مراجعة أو محلّ نقد، وإن كنّا في حاجة إلى حريّة الضّمير لوجود تصوّرات دينيّة متعدّدة داخل المجتمع، الّتي إن لم تقبل المراجعة أو المساءلة، تقبل بحقّ التّصورات الدينيّة الأخرى في الوجود والتّعبير عن نفسها، في إطار تعدّديّة تجعل التّعايش ممكنًا، وترى هذه الحجّة: أنّنا ما دمنا ننتمي جميعنا إلى مجموعات دينيّة مختلفة، ومتنافسة أحيانًا؛ فإنّنا نحتاج إلى تبنّي مبدأ الحرّيّة الدّينية في صيغة حرّيّة الضّمير، وإقراره ضمن الموادّ الدّستوريّة، والدّفاع عنه على أنّه موضوع (وفاق من خلال التّراكب)، ليكون - بذلك - أساسًا من أسس العدل في مجتمع تعدّديّ[15].
ويؤكّد رولز أنّ (واقعة التّعدديّة المعقولة) أو (فكرة العقل العامّ)، كما كان يطلق عليها أيضًا، سترفض من المذاهب المعادية للدّيمقراطيّة الدّستوريّة؛ كالمذاهب الدّينيّة الأصوليّة، ومذهب الحقّ الإلهيّ للملوك، ومختلف أشكال الأرستقراطيّة، وكذلك، الأشكال الكثيرة للأوتوقراطيّة والدّيكتاتوريّة، لأنّهم يعتقدون أنّ الدّيمقراطية تؤدّي إلى ثقافة مناقضه لعقائدهم الدّينيّة، أو تنكر القيم الّتي لا يمكن الحفاظ عليها سوى بالحكم الدّيكتاتوريّ أو الأوتوقراطيّ، ويزعمون أنّ ما هو صواب دينيًّا، أو ما هو صواب فلسفيًّا يتخطّى - أو يتجاوز - المعقول سياسيًّا.
رولز يرفض مثل هذه المذاهب، ويعدّها غير معقولة سياسيًّا في إطار اللّيبراليّة السّياسيّة، نظرًا إلى أنّ معيار المعاملة بالمثل الّذي يعدّ من المكوّنات الضّروريّة، الّتي تحدّد الفعل العامّ ومضمونه، غير متوافر في هذه المذاهب.
كما أنّ وجود هذه المذاهب يقف عقبة أمام هدف التّحقيق الكامل لمجتمع ديمقراطيّ معقول، بمثله الأعلى الّذي يتمثّل في فكرة العقل العامّ، وفكرة الشّرعيّة القانونيّة.
ويؤكّد رولز أنّ المذاهب الشّاملة - دينيّة كانت أم غير دينيّة– بإمكانها أن تشارك في المناقشة السّياسيّة في المجتمع في أيّ وقت، بشرط أن تقدّم هذه المذاهب أسبابًا سياسيّة تتفق والعقل العام، لتأييد المبادئ الّتي تطرحها، وهو شرط ملزم لمشاركة هذه المذاهب في المناقشة السّياسيّة في المجتمع.
نستنتج مما سبق: أنّ اللّيبراليّة السّياسيّة - عند رولز - تنشأ من واقعتين: واقعة التّعدديّة المعقولة من جهة، وواقعة أنّ السّلطة السّياسيّة في النّظام الدّيمقراطيّ: هي سلطة مواطنين أحرار ومتساوين، بوصفهم كيانًا من جهة أخرى، ومن هاتين الواقعتين تنشأ مسألة المشروعيّة السّياسيّة اللّيبراليّة[16].
رابعًا: نقد رولز للمذهب النّفعيّ
المنفعة أو النّفعيّة ****(utilitarianism): مذهب فلسفيّ في الأخلاق، مفاده تقويم الأفعال بمقدار ما تنتجه من منافع، وفق مبدأ السّعادة الكبرى greatest happiness principle) The)، ويعني؛ ضرورة سعي الإنسان إلى تحصيل أكبر قدر ممكن من المنفعة، ويعدّ جيرمي بنثام صاحب المذهب والمنظّر له، فقد وضع جميع نظريّاته في كتاب شهير عنوانه (مدخل إلى مبادئ الأخلاق والتّشريع)، وروّج تلميذه (جون ستورات مل) للمذهب ودافع عنه، ثمّ عمل على إدخال تعديلات جوهريّة عليه في كتاب يحمل اسم (المنفعة).
بما أن رولز كان واعيًا لذلك الكمّ الهائل من الأفكار الّتي تتناول العدالة الاجتماعيّة، وتركّز على مفاهيم الاستحقاق والاحتياج، غير أنّ الهدف الرّئيس من نقده، كان يتمثل في مذهب المنفعة الّذي صار - من وجهة نظره - يهيمن على النّقاشات الّتي ما فتئت تدور - بشكل مكثّف - حول المؤسّسات الاجتماعيّة والسّياسيّة، حتّى أدّى ذلك إلى استبعاد الاهتمام الجادّ بأيّ مناهج تفكير بديلة.
لقد طرح رولز عدّة إشكاليّات بشأن نظريّة المنفعة:
أوّلًا: قال إنّ مذهب المنفعة لا يقدّم ما يكفي من الضّمان للحرّيّة؛ ففي بعض الحالات، ربما يحصل أن تتحقق السّعادة لأغلبيّة النّاس، بحرمان أشخاص قلائل من حريّاتهم؛ فإذا كان المكسب من السعادة الّتي تتحقّق لأغلبية النّاس أكبر من حرمان بعض الأشخاص من سعادتهم، يبرّر مبدأ السّعادة القصوى - عندئذ - فقدان الأقلّيّة لحرّيّاتهم.
تبعًا لرأي رولز، هذا الاحتمال يكفي بحدّ ذاته لبيان عدم كفاية مبدأ السّعادة القصوى[17]، فمن غير الممكن أن تتصوّر رفاهيّة الأغلبية قائمة على تجاهل الأقليّة، وتسخيرها من أجل تحقيق هذه الرّفاهيّة، وهي لا تبالي بسعادة الفرد، وتضحي به باسم الرّفاه الجمعيّ؛ فالتّضحية بالعدالة في سبيل الصّالح العامّ، يعدّ عدم احترام لاختلاف الأشخاص[18].
الأهمّ من ذلك: أنّ النّفعيّة لا تأخذ بالاعتبار الطّريقة الّتي توزِّع المجموع الإجماليّ للإشباعات بين الأفراد؛ فهي تهتمّ بالموازنة الصّافية للإشباعات فحسب، وما دام توزيع الإشباعات والمنافع لا يهمّ، فلا شيء يمنع أن تبرّر خسائر البعض بمكاسب الآخرين، وأن يجد انتهاك حرّيّة مجموعة صغيرة تبريره في سعادة أكبر بالنّسبة إلى مجموعة كبيرة، بالتّالي؛ في المذهب النّفعيّ لا شيء يمنع - مثلًا - من أن يكون مجتمع الرّقّ مجتمعًا عادلًا، إذا لم تكف العدالة شيئًا آخر سوى دالّة المنفعة الجماعيّة[19].
ثانيًا: يرى رولز أنّ مذهب المنفعة يستند إلى تصوّر أحاديّ لمفهوم الخير؛ فالنّفعيّة بتعاملها مع السّعادة بمقياس فريد ومطلق لرفاهة البشر، تفشل - في رأي رولز - في أن تعطي الاهتمام المطلوب لحقيقة أنّ لدى البشر اهتمامات متشعّبة، وأنّهم يسعون إلى غايات متشعّبة، ويمكن ألّا تكون السّعادة سوى غاية واحدة من بين تلك الغايات.
عند هذه النقطة - تحديدًا - يمكن القول: إنّ وجهة نظر رولز ذات صلة وثيقة برأي أمانويل كانط، في أنّ حرّيّة البشر، لا سعادتهم: هي الّتي ينبغي أن تحتلّ مكان الصّدارة من أفكارنا في العدالة.
فمن وجهة نظر رولز: من المهمّ معرفة أنّ لدى البشر أشكالًا متنوّعة من التّصوّرات عن الخير، ربما يعتقد بعض النّاس أنّ الحياة السّعيدة هي أفضل الأهداف الّتي يطمح إليها الإنسان، بالتّالي؛ ينبغي أن تكون كلّ الأهداف أو الغايات الأخرى في الحياة، أشياء ثانوية بالمقارنة بهدف السّعادة.
وربّما عدّ آخرون حياة الاستقامة - بما يتوافق مع تصوّر محدّد عن تلك الفضيلة - هي أفضل أشكال الحياة البشريّة، وإن كان ذلك على حساب السّعادة، وربّما يؤمن آخرون بأفكار مختلفة عن الأهداف التي تصلح للارتقاء بالحياة البشريّة.
فرولز يعتقد أنّ مذهب المنفعة لا يأخذ بنظر بالأشكال المتنوّعة من أهداف البشر أو تصوّراتهم عن الخير، وهكذا، يخفق ذلك المذهب في إبداء الاهتمام اللّازم بالقدرة البشريّة المميّزة، الّتي تتيح لنا أن نمارس الحرّيّة في تكوين نظرة تعدديّة في أنفسنا، وتنميتها ضمن إطار التّصوّرات الصّحيحة للخير.
ثالثًا: جعل المذهب النّفعيّ العدالة وسيلة لتعظيم المجموع الإجماليّ للإشباعات الفرديّة، بالتّالي؛ فإنّ المذهب النّفعيّ يتجاوز - دون وجه حقّ - المستوى الفرديّ نحو المستوى الكلّيّ، وكأنّ المجتمع ليس سوى فرد واحد، وهذه فكرة خياليّة محضة؛ لأنّها تتجاهل تعدديّة الأشخاص والنّوع البشري، وحقّ كلّ فرد في متابعة رغبته العقلانيّة وتحقيقها؛ أي أن تعددية الأشخاص - عند رولز - ليست مأخوذة على محمل الجدّ عند النّفعيّين[20].
خاتمة:
قدّم جون رولز إطارًا ثريًّا للتّوفيق بين الحريّة والمساواة الاجتماعية، بتركيزه على الموضوع الأساس للعدالة، وهو: الطّريقة الّتي توزّع وفقها المؤسّسات الاجتماعية الكبرى الحقوق والواجبات الأساسيّة، وتحدّد تقسيم الامتيازات من التّعاون الاجتماعيّ، حيث تصبح البنية الأساس للمجتمع مجالًا للتّعاون لا للمنافسة، ورولز كان يبحث في المدى الّذي يمكن أن تبلغه الدّيموقراطية، في تحقيق قيمها الأساسيّة المتمثّلة في الحريّة والمساواة، بصورة مثاليّة؛ أي في المدى الّذي يمكنها أن تحقّق فيه العدالة الاجتماعية كما يجب أن تكون.
أحيا رولز طرح موضوعات الفلسفة السياسيّة الأكثر أهميّة داخل السّياق اللّيبراليّ المعاصر، بعد أن كانت غائبة - غيابًا كبيرًا - في ظلّ سيادة مذهب المنفعة، وعلى الرّغم من وعيه بالأفكار الّتي تتناول العدالة الاجتماعيّة، وتركّز على مفاهيم الاستحقاق والاحتياج، غير أنّ الهدف الرّئيس من نقده يتمثّل في مذهب المنفعة؛ الّذي صار - من وجهة نظره - يهيمن على النّقاشات الّتي تدور حول سياسات المؤسّسات الاجتماعيّة، ودورها في المجتمع، مما أدّى إلى استبعاد الاهتمام الجادّ بأيّ منهج تفكير آخر.
في خلاصة القول: لا بدّ من التأكيد أنّ هدف رولز لم يكن تحديد الخير من الشّر، أو كيف يعامل النّاس بعضهم البعض، بقدر ما هدف إلى وضع المبادئ الّتي يجب أن تُقام عليها البنية الأساسيّة السّياسيّة للمجتمع، والمقصود بالبنية الأساسيّة هنا: مجموعة المؤسّسات الأوليّة التّشريعيّة والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والتربويّة، فموضوع نظريّة رولز للعدالة: هو موضوع سياسيّ أكثر منه أخلاقيّ.
* من أهمّ هذه الكتابات:
- Theory Of Justice, Cambridge, Massachusetts: Belknap Press Of Harvard University Press, 1971.
- Political Liberalism, New York: Columbia University Press، 1993.
- The Law Of Peoples: The Idea Of Public Reason Revisited, Cambridge, Massachusetts Harvard University Press, 1999.
- Justice As Fairness: A Restatement, Cambridge, Massachusetts: Belknap Press, 2001
[1] عادل صابر راضي، الفكر اللّيبراليّ السّياسيّ المعاصر: جون رولز أنموذجًا، مجلّة الفلسفة، العدد العاشر، 2013م، ص 89
* John Rawls, ''Justice as Fairness'' Philosophical Review, Vol: 67, No: 2, 1958, Pp 164 - 194
[2] أحمد أغبال، اللّيبراليّة السّياسيّة ومبادئها الأخلاقيّة لدى جون رولز، مدخل إلى فلسفة جون رولز. دراسة نُشرت على الرّابط الإلكتروني: Http://sophia.over –biog.com/article
[3] جون رولز، قانون الشّعوب: عودة إلى فكرة العقل العامّ، ترجمة: محمّد خليل، ط1، القاهرة: المجلس الأعلى للثّقافة، 2007م، ص ص 7 - 8
[4] جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ط 1، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربيّة للتّرجمة، بيروت، 2009م، ص ص 11 - 12
[5] عبد الله المطيري، جون رولز: فيلسوف الإنصاف نظريّته في العدالة سياسيّة وليست أخلاقيّة، صحيفة الشّرق الأوسط اللّندنيّة، العدد 12744، 19 أكتوبر 2013م
[6] أنطوني دي كرسبني، كينث مينوج، أعلام الفلسفة السّياسيّة المعاصرة، ترجمة: د. نصّار عبد الله، مكتبة الأسرة، القاهرة، 1996م، ص ص 123 - 124
[7] نور الدّين علوش، حوار مع الدّكتور منير كشو حول نظريّة العدالة عند رولز، مجلّة الحوار المتمدّن، العدد 3850، 2012م.
[8] المرجع السّابق
[9] أحمد أغبال، مرجع سابق
[10] نور الدّين علوش، مرجع سابق
[11] عادل صابر راضي، مرجع سابق، ص ص 90 - 91
[12] نور الدّين علوش، مرجع سابق.
[13] عادل صابر راضي، مرجع سابق، ص 91
[14] نور الدّين علوش، مرجع سابق.
[15] المرجع السّابق
[16] عادل صابر راضي، مرجع سابق، ص ص 91 - 92
**** للتوسّع في موضوع الفلسفة النّفعيّة، انظر:
- عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، الجزء الأول، ط1، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، 1984م، ص ص 362 - 366.
- عبد الوهاب الكيالي، موسوعة السّياسة، الجزء السّادس، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، د. ت، ص 603
[17] ديفيد جونستون، مختصر تاريخ العدالة، ترجمة: مصطفى ناصر، سلسة عالم المعرفة، العدد 387، إبريل 2012م، الكويت: المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، 2012م، ص 236
[18] عادل صابر راضي، مرجع سابق، ص 93
[19] مراد ديالي، حريّة - مساواة - اندماج اجتماعيّ: نظريّة العدالة في النّموذج اللّيبراليّ المستدام، ط 1، الدّوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، 2014م، ص 90
[20] مراد ديالي، مرجع سابق، ص 89