العقلانية: تعريفها وأسباب ندرتها وأهميتها
فئة : قراءات في كتب
العقلانية: تعريفها وأسباب ندرتها وأهميتها
ستيفن بينكر
ترجمة: دينا عادل غراب
مراجعة: الزهراء سامي
فكرة الكتاب
من الأفكار الرئيسة في هذا الكتاب أنَّ أحدًا منَّا، لا يستطيع وهو يفكِّر وحدَه، أن يكون عقلانيًّا بما يكفي لإنتاج أي شيء قادر على الصمود: فالعقلانية تنبثق من مجتمعٍ من أصحاب التفكير المنطقي يرصد بعضهم مغالطات البعض الآخر.[1]
كثيرة هي الكتابات والمؤلفات التي اعتنت بموضوع العقل، وماهيته، وطريقة ومنهج استعماله، وهل هو جوهر أمر ملكة وغريزة يتم استخدامها سلبا أو إيجابا، وكيف للعقل أن يتأثر بالمحيط والثقافة والظروف والأحوال؟ وهل العقل واحد أم متنوع ومتعددة، من داخل مجالات المعرفة؟ إذ بالإمكان الحديث عن عقل طبيعي تقني؟ يستجيب ويتفاعل مع مختلف قوانين المعرفة التقنية، وبهذا فهو تحت سلطة التقنية ولا قدرة لديه لنظر ولتقييم مختلف نتائج التقنية، وهل بالإمكان الحديث عن عقل أخلاقي يمتلك القدرة على تقييم مختلف ما تؤول إليه المعرفة التقنية؟ في جميع الأحوال، فالعقل يُمثّلُ حجرَ الأساسِ للمعرفةِ الإنسانيّة.
الكتاب لا يقدم أجوبة كافية ومفصلة، على مختلف هذه الأسئلة بالرغم من أنه يحوم حولها، ولكنه يقربنا كثيرًا من موضوع العقلانية وبالأخص في المجال العلمي؛ أي كيف يمكن لتفكيرنا أن يكون عقلانيا؟ وما هي الخطوات التي يمر منها الإنسان لنصف تفكيره بالعقلانية، فهناك كثير من المعارف في مجال المعرفة والتعليم، يتلقاها الأطفال في مجال التربية والتعليم تدخلهم إلى مجال التفكير العقلاني، أي التفكير العلمي.
الكتاب يقربنا كذلك من مجال إشكالي يتعلق بطبيعة تصورات الناس، وقناعاتهم الخاطئة وهم يصدقون الكثير، من الإشاعات التي تظهر في مجال الساحة السياسية أو الاجتماعية، فمثلا في زمن الكوفيد ظهرت الكثير من الإشاعات التي صدقها جمهور واسع من الناس، السؤال هنا كيف لكثير من الناس، رغم تقدم مستوياتهم التعليمية والعلمية أحيانا، أن يصدقوا كثير من الإشاعات في مختلف المجالات؟
فصول الكتاب
حاولت فصول الكتاب أن تقرب القارئ من مفهوم العقلانية بشكلها التطبيقي والعملي، وسيجد القارئ للكتاب الكثير من الأمثلة والتجارب والبيانات والإحصاءات والرسومات... ونذكر من أهم موضوعات الكتاب: الإنسان: إلى أي درجة هو حيوان عقلاني؟ العقلانية واللاعقلانية. المنطق والتفكير النقدي. الاحتمالية والعشوائية. الاعتقادات والأدلة. النتائج الصحيحة والإنذارات الكاذبة. الارتباط والسببية. لماذا العقلانية مهمة؟
في مفهوم العقلانية
يبدأ "ستيفن بينكر"[2] كتابه بقوله: "ينبغي أن تكون العقلانية هي النجم الذي نهتدي به في كلِّ ما نفكِّر فيه ونفعله. (إن كنت لا تتفق معي، فهل اعتراضك عقلاني؟) ورغم أننا في عصرٍ ننعم فيه بموارد غير مسبوقة للتفكير العقلاني، نرى الدوائر العامة وقد تفشَّت فيها الأخبار الزائفة، والعلاج بالدجل، ونظريات المؤامرة، وخطابات «ما بعد الحقيقة»."[3] لا شك أن جميع الناس مع العقلانية؛ فمن البديهي ألا يعترض أحد على ألا يسير في طريق العقلانية، ليس هناك أحد يختار طريق الجنون والحمق والجهل بوعي واختيار منه، المشكلة هي أن الكثير يرى في تفكيره بأنه عقلاني ولكنه غير ذلك؛ إذ يكون قريب من لا عقل. إذا نظرنا إلى حياة الإنسان في مختلف الثقافات، فإننا نجد مساحة كبيرة من المسلمات، الغير العقلانية، والغريب أنك تجد البعض من الفئات الاجتماعية يقبلون على خيارات لا تعود عليهم وعلى محيطهم بالنفع، وبالتالي فهي غير عقلانية، الإنسان الفرد في حياته وتدبير مختلف أموره اليومية يقبل على كثير من القرارات، يتضح في الأخير بأنها غير عقلانية، والسؤال هنا كيف نكون عقلانيين؟ هل العقلانية مبادئ وقواعد ووسائل وآليات يتم تلقينها التدرب عليها... أم إن العقلانية تعود إلى ملكات فطرية في بنية الإنسان النفسية والجسدية، أم تعود إلى المحيط الاجتماعي والثقافي الذي نشأ فيه الفرد...
معايير العقلانية
يرى "ستيفن بينكر" بأن "معايير العقلانية التي كثيرًا ما يعجز الناس عن الارتقاء إليها لابد أن تكون من أهداف التعليم والعلوم المبسَّطة. فمثلما ينبغي أن يُلِمَّ المواطنون بأساسيات التاريخ والعلوم والكلمة المكتوبة، يجب أيضًا أن يمتلكوا الأدوات الذهنية للتفكير المنطقي السليم. تشمل هذه الأدوات المنطق، والتفكير النقدي، والاحتمالية، والارتباط والسببية، والطُّرق المثلى لتعديل معتقداتنا واتخاذ قرارات بِناءً على أدلةٍ غير مؤكَّدة، إضافةً إلى المعايير اللازمة لاتخاذ قرارات عقلانية بمفردنا ومع آخرين. إنَّ هذه الأدوات ضرورية لتفادي الحماقة في حياتنا الشخصية وفي السياسات العامة؛ ذلك أنها تساعدنا على تقييم الخيارات المحفوفة بالمخاطر، وتقييم المزاعم المريبة، وفهمِ المفارقات المحيِّرة، وسبْر أغوار تقلُّبات الحياة ومآسيها. غير أنني لا أعرف كتابًا حاول شرْحَها كلَّها."[4]
العقلانية التي يقصدها "ستيفن بينكر" هي العقلانية العلمية التي نكتسبها من التعليم والتعلم، ومختلف برامج الترقي التعليمي، والحقيقة أن هذا وجه من العقلانية، وهو ضروري وفي غاية الأهمية بما كان، ولكن بالنظر إلى مختلف نتائج التقنية وما ينتج عنها من خراب العالم والإنسان؛ وذلك بصناعة مختلف الأسلحة للوجود بما فيه الإنسان، ألا يعني هذا أن العقلانية التعليمية التقنية والتكنولوجية الحديثة منا هي الآن، يمكن أن توصف بكونها عقلانية قاصرة، أو عقلانية عمياء لا تبصر الأفق الذي تتجه نحوه، وهذا يعني أن هناك مجال آخر، فوق العقلانية، قد يعمل على توجيهها، وهذا المجال ليس شيئا آخر غير الأخلاق. وهو أمر يأخذنا إلى إشكال آخر، هل العقل والعقلانية التقنية قادرة على أن توجه نفسها بنفسها نحو الأفضل؟ هل سنعول على العقل في تخليق العقل؟
يربط "ستيفن بينكر" معيار العقلانية بالقدرة على استخدام المعرفة لبلوغ الأهداف. وتُعرَّف المعرفة عادةً بأنها اعتقاد صحيح له ما يبرره، فنحن لن نصف شخصًا بأنه عقلاني إذا كان يتصرَّف بناءً على اعتقاداتٍ يعرف أنها خاطئة، مثل البحث عن مفاتيح في مكانٍ يعلم أنها لا يمكن أن تكون فيه، أو إذا كان من غير الممكن تبرير هذه الاعتقادات، كأن تكون صادرة مثلًا عن رؤيةٍ ناجمة عن تعاطي مخدِّرات. هذا الربط بين المعتقد والعقلانية ربط غير واضح من خلال مجمل فصول الكتاب، لماذا لأن الكل يرى في مسلماته واعتقاداته بأنها صحيحة، وبالتالي فهي عقلانية في نظره. والسؤال هنا هل هي أخلاقية؟ تراعي مصالح الإنسان بمعزل عن اعتقاده، ام هي مسلمات واعتقادات، مصلحية متمركزة حول الوصول إلى هدف اقتصادي أو ربحي، حتى ولو كان ذلك على دماء شعب بعينه، حتى ولاو كلف ذلك الهدف الاقتصادي، تلوث البيئة. هذا هو الإشكال الواقعي في الحديث عن العقلانية في الزمن الراهن، مع العلم أن العالم اليوم سار تحت ظل هيمنة عقلانية واحدة وهي العقلانية الغربية.
القارئ للكتاب سيجده بعيد عن الفكر المجرد وعن الإشكالات المعرفية والمنهجية، حول سؤال مفهوم العقل والعقلانية...ولكنه قريب للمختلف التجارب التطبيقية والعملية، من أجل فهم قريب وتطبيقي للعقل كيف يشتغل وكيف تتكون العقلانية في مجال التربية والتعليم، وهذا يعني أن نقد وترشيد العقلانية المعاصرة سيكون من مجال التربية والتكوين ببسط مفهومات جديدة للعقلانية أكثر إنسانية وأخلاقية.
[1] ستيفن بينكر، العقلانية: تعريفها وأسباب ندرتها وأهميتها، ترجمة دينا عادل غراب، مراجعة، الزهراء سامي، مؤسسة هنداوي، ط.1، 2023م، ص. 12
[2] ستيفن بينكر: اختصاصيُّ عِلم النفس الإدراكي وعِلم نفس اللُّغويات، ومفكِّر شهير. وُلد عام 1954م، ويحمل الجنسيتَين الكندية والأمريكية. حصل على درجة البكالوريوس في عِلم النفس من جامعة ماكجيل الكندية، ودرجةِ الدكتوراه في عِلم النفس التجريبي من جامعة هارفارد. من أشهر كتبه: «الصفحة البيضاء: الإنكار الحديث للطبيعة البشرية»، و«التنوير الآن: دفاعًا عن العقل والعلم والنزعة الإنسانية والتقدُّم».
[3]ص.11
[4] نفسه، ص. 12