العلمانية الثالثة.. (خارطة طريق إسلامية)
فئة : مقالات
العلمانية الثالثة..
(خارطة طريق إسلامية)*
لا يبدو أن الحديث عن مشكلة العلمانية بات حديثاً عقيماً وفاقداً للقيمة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، كما يحب أن يصوره البعض؛ فمبررات الحديث في هذه المشكلة، كانت وما زالت ذات وجاهة عالية، ليس لأن الصدام بين السياسي والديني قد بلغ ذروته في الآونة الأخيرة داخل هذه المجتمعات وحسب، وإنما - أيضاً - لأن مشكلة العلمانية لم تأخذ حقها من الدراسة الفاحصة لدى النخب المعاصرة في العقود الماضية، على الرغم من كل المداد الذي أريق في سبيلها. وذلك لأسباب عديدة أبرزها - عندي - وقوع الطرفين المختصمين (العلماني والإسلامي) في أخطاء منهجية عند مقاربة الظاهرة الإسلامية، تجلت تلك الأخطاء - بصورة أساسية - في المستويات الثلاثة الآتية:
1 - مستوى التمييز بين ما هو دين وما هو فكر ديني: لم يميز طرفا النزاع - تمييزاً دقيقاً - بين مفهومين مختلفين في الظاهرة الدينية، هما مفهوم الدين ومفهوم الفكر الديني؛ على اعتبار أن الدين هو - فقط - ذلك المنزل السماوي (خطاب الوحي)، وأن الفكر الديني هو ثمرة دوران العقل حول الخطاب الديني المنزل؛ وقد أحدث الخلط بين هاتين الدائرتين تزييفاً في الوعي الإسلامي أدى إلى فساد كبير.
2 - مستوى التمييز بين ظاهرتي الدين والدنيا: لا يعرف العقل الإسلامي - حتى الآن - حدوداً واضحة للظاهرة الدينية (أين تبدأ، وأين تنتهي)، وعقيدة الحلول والاتحاد بين الظاهرتين التي يقدمها الخطاب الإسلامي المعاصر لا تتمتع بالتأصيل العلمي الكافي، بل إنها تستند إلى مقدمات زائفة، كتلك التي تعتقد أن الإسلام أطروحة شمولية على مستوى الأحكام والقوانين، بسبب فهم قاصر لعبارات قرآنية لم يحتكم في فهمها إلى قواعد اللسان العربي الذي احتكم إليه القرآن نفسه.
3 - مستوى علاقة الإسلام بالدولة: لم يبلور التيار العلماني - على وجه الخصوص - مقولة نظرية متماسكة ذات قدرة حجاجية عالية في شأن موقف الإسلام (الدين) من فكرة الدولة، على الرغم من الجهود التراكمية النوعية التي يمكن أن يبنى عليها في هذا الشأن؛ فمنذ الدراسة الرائدة التي قدمها الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم"، تتابعت دراسات - محدودة لكنها نوعية - تسد بعض الفُرج التي تركها كتاب عبد الرازق، وتضيف إلى حججه حججاً أخرى، يمكن أن تشكل معاً موقفاً علمياً صلباً في مواجهة الإشكالات التي يثيرها الطرف الإسلامي في الناحية الأخرى.
ويمكن القول على وجه الإجمال، إن الخطأ النوعي الذي اقترفه المثقف العربي العلماني في سياق تنظيره للعلمانية هو أنه أصل لهذا المفهوم من خارج العقل الإسلامي، وتحديداً من خارج المنظومة الأصولية للعقل الإسلامي. وفي المقابل، اقترف المثقف الإسلامي خطأ آخر حين لم يتمكن من التمييز بين الأشباه والنظائر في المفاهيم الإسلامية، وحين لم يسع إلى تخليص الإسلام من الزوائد الوضعية التي نبتت على جسده، وصارت تعد جزءاً لا يتجزأ منه! ولعله لم يكن مؤهلاً للقيام بهذه العملية الجراحية الدقيقة!
لقد أصبحت العلمانية - بصيغة معينة - ضرورة اجتماعية وسياسية وحضارية للمجتمعات الإسلامية المعاصرة (لا مجال هنا لتقديم البراهين على هذه الدعوى). ومن ثم، فإن على أية محاولة جادة للتبشير بالعلمانية في المجتمعات الإسلامية أن تقوم بتأصيل هذا المفهوم من داخل العقل الإسلامي نفسه كما أسلفت؛ وفقاً للمنهجية المعتبرة لدى الأصوليين في المذاهب الإسلامية. ليس فقط، لأن هذا الإجراء سيحظى بمقبولية اجتماعية أفضل، وإنما - أيضاً - لأنه سيحرم الصوت المتطرف من استعمال الذرائع التي يوجه بها الجماهير المخدوعة في الصراع مع العلمانية ودعاتها. وذلك لأن هذا الإجراء سيخرج القضية من دائرة الصراع المصور بين الحق والباطل إلى دائرة الخلاف المذهبي الذي يحتكم فيه المختلفون إلى قاعدة فقهية تقول إنه: لا إنكار في محل الخلاف؛ أي إنه غير جائز - من الناحية الدينية - اتهام أحد الطرفين بمخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة، باعتبار أن الطرفين مجتهدان من أهل الملة، ولكل مجتهد أجره!
ووفقاً لما تقدم، فقد اهتدى الكاتب إلى صيغة أصولية للعلمانية يظنها مذبوحة على الطريقة الإسلامية!، أطلق عليها وصف "العلمانية الثالثة"؛ يدعو فيها إلى فصل الدولة عن المذاهب لا عن الدين. وقد وصفها بـ "الثالثة" لاعتقاده بوجود صيغتين شهيرتين سابقتين في المتتالية النماذجية للعلمانية - كما يسميها الدكتور عبد الوهاب المسيري[1] - إحداهما الصيغة التي تدعو إلى فصل الدين عن الحياة، (أطلق عليها المسيري وصف العلمانية الشمولية)، والأخرى الصيغة التي تدعو إلى فصل الدولة عن الدين (وصفها المسيري بالعلمانية الجزئية).
ولا مجال هنا لتفصيل القول في عبثية التفكير بالصيغة الأولى للعلمانية في المجتمعات الإسلامية، بل في المجتمعات الإنسانية عموماً، أو للحديث عن صعوبة تطبيق الصيغة الثانية – على غموضها الشديد - في معظم البلدان الإسلامية. وتحديداً تلك البلدان التي تخلو من أقليات دينية كبيرة. لذا، سأكتفي بوضع المعالم الأساسية لنظرية العلمانية الثالثة التي نبشر بها هنا للمجتمعات ذات الأغلبية الإسلامية المطلقة.. فما الذي نعنيه بفصل الدولة عن المذهب؟
قلنا سلفاً، إن المذهب - فردياً كان أم جماعياً - هو ثمرة إعمال العقل في تدبر النص الديني (خطاب الوحي). وبالطبع، فإن ما ينتجه العقل البشري - دائماً وأبداً - لا يمكن أن يتصف بالقداسة. وما يقابل المقدس في عرف العلماء هو الوضعي. ومن ثم، فإن كل ما ينتجه العقل الإسلامي في عمليات الاجتهاد والتدبر لنص الوحي ليس سوى منتجات وضعية لا تحمل أي معنى من معاني القداسة. وذلك شرط في صحة العقيدة قبل أن يكون شرطاً في صحة العلم. وهذه الأطروحة تسمي المنتجات الوضعية باسم "المنتجات العلمانية"، على اعتبار أن العلمانية في عرفها هي كل ما ينتمي إلى العالم (الدنيا)، ولا ينتمي إلى الدين أو الآخرة.
لكن التعريف السابق للمذهب لا يكفي - من الناحية الإجرائية - للتمييز بين ما هو دين وما هو فكر ديني، لذا فقد احتجنا إلى تعريف آخر أكثر حسماً، فقلنا إن المذهب هو: كل ما اختلف فيه أهل الملة، وفقاً للمنهجية التأويلية الأصولية المعتبرة بين المذاهب الإسلامية. ومن ثم، فإن الدين هو ما يتبقى في اتفاق أهل الملة. وهذا التعريف، سيعفينا من الجدل المحتمل حول مفهوم الدين الحق ومفهوم الحقيقة الموضوعية، اللذان قد ينشآ في هذا السياق، وهو جدل قد يعيدنا إلى نقطة الصفر في هذه القضية.
عند هذه النقطة، لا بد أن ينشأ سؤال منطقي يقول: لكن ما الذي اختلف فيه أهل الملة الإسلامية يا ترى؟ وبطبيعة الحال، فإنه لا يمكننا الحديث عن أفراد القضايا الخلافية بين المذاهب الإسلامية لأنها تند عن الحصر، وإنما سنشير - على عجل - إلى أنواعها الثلاثة الكبرى، أو لنقل إلى المصادر الرئيسة للخلاف الفكري والفقهي في الملة الإسلامية.. فقد اختلف أهل الملّة الإسلامية في:
1 – حدود النص القانوني للدين (مشكلة الحجية): ونقصد بالنص القانوني ذلك النص الموحى به إلى النبي محمد (ص)، بقصد إبلاغه للناس بوصفه دين الله لهم، واصطلح الناس على تسميته بالرسالة المحمدية. ونظيره في المسيحية "النصوص القانونية" التي يقابلها النصوص المشكوك فيها (الأبوكريفا). فقد حدث بين آونة وأخرى في التاريخ الإسلامي أن اعترض بعض المسلمين على إدراج الأحاديث المنسوبة إلى النبي محمد (ص) في دائرة البلاغ الرسالي، واعتبروها - إن ثبتت من الناحية التاريخية - جزءاً من السيرة المحمدية، لا جزءاً من الرسالة النبوية.
هذه القلة المعارضة، وإن كانت محصورة ومقموعة في المجتمعات الإسلامية، إلا أنها تشكل تياراً نامياً في الآونة الأخيرة، لا يمكن لأية سلطة أن ترده على أعقابه، ولا لأية مؤسسة مذهبية أن تسقط عنه - وأفراده - صفة الإسلام. وإذا كان هذا الفريق قد تحدث عن الإنكار الكلي لمشروعية الحديث المنسوب إلى النبي (وهو المصدر الثاني للتشريع)، فقد كان بجواره فرق إسلامية أخرى، وفقهاء تراث، ينكرون مشروعية هذا القدر أو ذاك من مجالات الحديث المنسوب إلى النبي، كإنكار ابن خلدون لقانونية ما يسمى بأحاديث الطب النبوي، واعتبارها من طب العجائز في زمن النبي[2]، وكذلك فعل القرضاوي، وغيره. كما أنكر الشيخ الغزالي قانونية ما يسمى بأحاديث الفتن والملاحم واعتبارها من اجتهادات النبي في تأويل المستقبل[3].
2 – ثبوت النص المختلف على قانونيته: ونقصد به ذلك التراث من الروايات المنسوبة إلى النبي محمد (ص). فقد اختلفت الفرق الإسلامية، والفقهاء المسلمون، اختلافاً واسعاً في صحة ثبوت هذه الروايات المنسوبة إلى النبي محمد، ولا يزالون مختلفين. كما اعترف علماء الحديث أنفسهم بأن مجمل هذه الروايات قد ورد إلينا - باستثناء قلة تعد على الأصابع حولها جدل - عن طريق آحاد الرواة، ومعظمهم من الأعاجم؛ وأن شروط المحدثين في فحص وتدقيق هذه الروايات لا تضمن أبداً ثبوت أي حديث على سبيل اليقين. ثم اختلف الأصوليون في هذه المذاهب والفرق على مدى قانونية الأخذ بأحاديث الآحاد في أصول الدين وفروعه، بعد أن اختلفوا في إفادتها الظن أم اليقين العلميين.
3 – دلالات النص القانوني: فبعد اتفاق أهل الملة الإسلامية على اعتبار المدونة القرآنية نصاً قانونياً (شرعياً)؛ وجدوا أنفسهم مضطرين للاختلاف في تفسير كثير من آيات هذا الكتاب، خاصة وقد اعترف الفقهاء أنفسهم بأن معظم الخطاب القرآني يندرج في دائرة المتشابه دلالياً، وهو بطبيعته ظني الدلالة.
بعد عملية الترشيد الواسعة التي قمنا بها سلفاً، ما الذي يمكننا - إذن - أن نعده من الدين؟، أو بالأحرى ما الذي يمكننا أن نعده مرجعاً للدولة في الدين؟
الجواب على وجه الإجمال هو: إن معظم الخطاب القرآني ينصرف إلى القصص والأخبار (العقائد)، والنسبة الباقية منه موزعة على توجيهات أخلاقية لضمير الفرد والجماعة، وأحكام قانونية للفرد وللجماعة. فأما النسبة الكبيرة من خطاب القصص والأخبار، فلا علاقة له - مباشرة -بسياسات الدولة وقانونها الدستوري. ويسري هذا الحكم - أيضاً - على الخطاب الأخلاقي للقرآن. وأما القسم الثالث من الخطاب القرآني (الأحكام القانونية)، فالأمر فيه على تفصيل: ما كان منه قطعي الدلالة يمضي بوصفه قانوناً شرعياً ملزماً بحكم الدستور الذي سلم بالمرجعية العليا للدين الإسلامي. وما كان منه قابلاً للتأويل على أكثر من دلالة، يبقى نصاً ملزماً على وجه الإجمال فقط، ويختار المشرع المدني بعد ذلك التأويل الذي يراه مناسباً، على أن يعد التأويل المختار منتجاً وضعياً لا قداسة له.
هل انتهى الأمر هنا؟.. أبداً.. ما زالت لدينا نقطتان في غاية الأهمية، الأولى هي: التأكيد على أن كثيراً مما يمكن عده نصاً متفقاً على دلالته في الأحكام الشرعية، قد يقع حوله الخلاف من زاوية أخرى جديدة، هي زاوية فلسفة الأحكام الإسلامية، التي يفتح ثغرتها سؤال: هل الأحكام في الإسلام بعللها أم بمقاصدها؟ وهو سؤال مطروح في الأوساط الفقهية من قديم. وهناك فرصة كبيرة لتطوير نظرية المقاصد الإسلامية إلى حدود يمكن معها القول بأن مقاصد الشريعة يمكن أن تتحقق بأية طريقة قانونية أخرى غير تلك المنصوص عليها في المدونة القرآنية! كل ذلك وفقاً للمنهجية الأصولية المعتبرة.
والأخرى هي: أن المرجعية الحقيقية للدولة - التي رضيت بالدين الإسلامي مرجعاً - هي المرجعية القيمية المتمثلة في منظومة القيم والمبادئ الدينية المستنبطة من الخطاب الديني المتفق على ثبوته وحجيته (القرآن). وتتمتع هذه المنظومة بكامل المشروعية الدينية، مثلها مثل النص القرآني سواء بسواء، وذلك لأنها جاءت من طريق المنهج الاستنباطي لا من طريق المنهج الاستقرائي[4]. وذلك جواباً على سؤال محتمل، يقول: كيف تعطون هذه المنظومة المشروعية الدينية مع أنها جاءت عن طريق الاجتهاد، والاجتهاد عملية وضعية لا تنتج مقدساً دينياً؟!.
أخيراً، لا شك أن تفاصيل كثيرة حول الموضوع قد غابت عن هذا التقرير، بسبب ضيق المساحة المتاحة له. ولا شك أيضاً أن قدراً كبيراً من الأسئلة والاعتراضات، سيُثار في ذهن هذا القارئ أو ذاك، حول هذه المسألة أو تلك، ونحن بدورنا نود أن نطمئن القارئ بأن هذه الأطروحة تتمتع باتساق كبير يمكنها من الإجابة على أي سؤال افتراضي يطرح عليها، على شرط واحد هو أن يصبر القارئ في استنطاقها واختبارها، وفقاً للقواعد العلمية والمنهجية المعتبرة!
* نشر هذا المقال في مجلة ذوات، العدد 10.
[1] العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة - د. عبد الوهاب المسيري - دار الشروق، القاهرة - ط الثالثة 2008
[2] يقول ابن خلدون في مقدمته: "وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصره على بعض الأشخاص، ويتداولونه متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض، إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا عن موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون: كالحرث بن كلدة وغيره. والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء وإنما هو أمر كان عادياً للعرب. ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل. فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات".
[3] فقه السيرة النبوية.
[4] انظر - عن الفرق بين المنهجين الاستنباطي والاستقرائي - كتاب: الأسس المنطقية للاستقراء - محمد باقر الصدر - دار التعارف، بيروت - ط الخامسة 1986