العلمانية والشعبوية: جدلية الدين والسياسة بين الخطاب العلماني والاستغلال الشعبوي
فئة : أبحاث محكمة
العلمانية والشعبوية: جدلية الدين والسياسة بين الخطاب العلماني والاستغلال الشعبوي
الملخـص
إن المتتبع للشأن السياسي في المغرب وأغلب بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ينتبه إلى ظاهرة تلازم الخطاب العلماني بالخطاب الشعبوي الإسلامي؛ فهذا الأخير ينشط وينتعش كلما وجد نفسه في مواجهة الخطاب العلماني المدني أو السياسي، والمثال على ذلك تفاعل الإسلاميين في المغرب مع عبارة "نحن المغاربة علمانيون" التي أطلقها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق في البرلمان المغربي، وما تلاها من جدل وتراسل بينه وبين أمين عام حزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران، وقد أثارت هذه المسألة نقاشا عموميا أسال كثيرا من المداد وملأ الفضاء الإعلامي الإلكتروني.
القاعدة المتواترة في تداول مثل هذه الإشكالية، هي أنه كلما برزت في الساحة العمومية والسياسية قضايا فكرية وحقوقية وسياسية متراوحة بين الدين والسياسة، تتنازعها المرجعيات الدينية والحداثية، التراثية والتقديمية، ينتصب الفاعل الإسلامي السياسي مشمّرًا عن سواعده، مستجمعا كامل قواه التنظيمية والخطابية، لا لمناقشة هذه القضايا الخلافية وتقليبها في مختلف أوجهها، وإعمال آلية الاجتهاد، ومراعاة المقاصد وترجيحها لجلب المصالح ودرء المفاسد، بل تجده في الغالب يمتطي صَهْوَةَ الشعبوية، فيطلق العنان للخطاب العاطفي، للظهور بمظهر الفارس الحارس للمقدسات والحرمات الدينية، والذود عن بيضة الإسلام، وتحصينها من أعداء الدين، العلمانيون والليبراليون واليساريون.
يتماهى الإسلاميون مع نظرة عَامَّة المجتمع تجاه العلمانية والعلمانيين، بِعَدِّهم ملحدين وأعداء الدين والوطن والمجتمع، ودعاة الفساد والانحلال الخلُقي، والإسلاميون على دراية بتنوع التصورات العلمانية وتعدد أنماطها واختلافها اعتدالا وحِدَّة، وتعالقها المتين بالديمقراطية والعقلانية، وتواؤمها مع الدين في صيغتها المعتدلة والجزئية كما الحالتين التركية والبريطانية...، علما أن الإسلام السياسي المغربي المندمج قام بمراجعات فكرية وسياسية، نَبَذَ فيها فكرة الحاكمية والدولة الإسلامية ومقولة الإسلام هو الحل، وراجع مقولة "خذوا الإسلام كله أو اتركوه كله"، وقَبل الإسلاميون الديمقراطية، وأوجدوا لها السند التأصيلي والمقاصدي، فأبانوا عن مرونة وانفتاح على المفاهيم السياسية الغربية، وقابليتهم لممارسة النقد الذاتي والمراجعات الفكرية والسياسية تبعا للسياق والمصلحة والمقاصد. لذلك، فالعقل الاجتهادي الذي سوغ الديمقراطية فكرا وممارسة، ووجد لها تأصيلا في مبدأ الشورى الإسلامي، لا يعدم القدرة على التفكير المتقدم في ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة في إطار النظرية العلمانية.
إن تماهي خطاب الإسلام السياسي مع النظرة النمطية العدائية للعلمانية والعلمانيين، تكشف عن نزوع شعبوي براغماتي ضيق، فمادامت الفكرة العلمانية تثير حفيظة القاعدة الشعبية وتستنفرها، فإن هذا الفاعل السياسي، بهدف توسيع قاعدة التعبئة السياسية لصالحه، يختار دوما مسلك الظهور بمظهر المفوَّض للدفاع عن معتقدات "الشعب" وإرادته. لذلك لا يضيع الفرصة، في الوقوف في وجه الأصوات العلمانية، بخطاب يدغدغ العاطفة الدينية، ويَسيح مع المخيال الاجتماعي السياسي الموشوم بالطوباويات التراثية السياسية المحاطة بهالة من البداهة والتقديس. النتيجة هي تَعَرُّض الخطاب العلماني المعتدل للكثير من التضليل والتشويه والتحريض والشيطنة، بإيعاز من التنظيمات الإسلامية السياسية. لذلك، فهذه الأخيرة هي المعنية بتصحيح المغالطات والمبادئ الديمقراطية تجاه الأفكار العلمانية، والتصالح مع الواقع العلماني على صعيد المؤسسات والقوانين والتنظيم السياسي والإداري والاقتصادي والثقافي، من أجل صياغة مجال سياسي يسوده التدافع على أساس الأفعال والمنجزات والبرامج، في جو تسوده الأخلاق وقيم العقلانية والمواطنة.
مقدمــة
تعيد رسالة أحمد التوفيق "شكوى إلى الله" إنعاش حزب العدالة والتنمية المغربي، وتُرجع "الزعيم" عبد الإله بنكيران إلى واجهة النقاش العمومي، والرجل متمكن من استمالة العامة والخاصة، بفعل تملكه لآليات الخطابة الشعبوية. وعندما يتعلق الأمر بإشكالات يتاخم فيها الدين والسياسة، يتأهب الرجل ويصدح مطلقا العنان والجماح لخطاب شعبوي، ذائدا عن الإسلام، حارسا للمرجعية الدينية للحزب والدولة، وهنا مكمن النصيحة، المبطنة بكثير من الحقائق، التي وجهها أحمد التوفيق لبنكيران في الرسالة، وفي سياقات أخرى زمن رئاسة بنكيران للحكومة "عقب أزمة وفاة عبد الله باها"، ومنطوق النصيحة هو تجنب الخلط بين الدين والسياسة بغاية الاستقطاب والغواية. ولكن هل يمكن تصور خطاب إسلامي سياسي بعيد عن استثمار المرجعية الدينية في التعبئة السياسية؟ وهل تصح مطالبة حزب بمرجعية دينية بالابتعاد عن إنتاج خطاب سياسي بلبوس ديني؟ وهل يمكن ذلك مع الاشتراكي والليبرالي والعلماني في علاقتهم بخلفياتهم الفكرية؟ وإذا كان استثمار الدين يطرح مشكلة تنازع الشرعيات السياسية بين الدولة والحزب، ويقوي الفاعل الحزبي الإسلامي باستثمار الرأسمال الروحي للمغاربة. فماذا نقول إزاء عودة الدين في التنافس السياسي في أمريكا وأوروبا، مع مراعاة الفوارق السياقية والتاريخية؟
إن الخطاب الشعبوي الذي ارتبط ببنكيران في فترة سابقة، ويتحرك الآن في مساحات تواصلية ضيقة، لا يمكن تصوره دون توظيف المقولات الدينية المُشَيْطِنة للخصم السياسي، في ثنائية ضدية تزكي الذات وتَمْسخ الآخر: الطهارة في مواجهة الفساد، الشرفاء في مقابل المدنسين، الحق ضد الباطل، الصدق في مواجهة البهتان...ولعل دعاة العلمانية هم أكثر الأهداف الاستراتيجية التي تصَوَّب تجاهها هجمات خطاب الإسلام السياسي، وقد أثبتت الكثير من الوقائع أنها آلية ناجعة للتعبئة السياسية، تتأسس على استثمار ما ترسخ في المخيال الاجتماعي من تمثيلات وأفكار نمطية وأحكام جاهزة تعدّ العلمانيين دعاة كفر وفساد، وترى في العَلمانية حركة موجهة لمحاربة الدين. ولما يتعلق الأمر بالرساميل الرمزية المترسخة في الذهنية الجماعية وفي المخيال الاجتماعي، كالطوبويات والرموز التاريخية السياسية الدينية، تكون عملية التعبئة السياسية كالغزوات التي يكون فيها النصر محسوما مسبقا. يصل الخطاب السياسي الإسلامي بين السياسة والسياسة وصلا شبيها بما حدث في تاريخ الإسلام في الكلام السياسي، عند الفرق الكلامية، فهو خطاب في السياسة، وليس في الشريعة أو العقيدة، لكن يوظف مقولاتهما، ويتماهى مع الذهنية العامة والضمير الجمعي الذي تهيمن عليه هذه المرجعية الدينية، على الأقل على مستوى التسليم والاعتقاد، وبذلك فهو خطاب يجد بذوره في النفوس أكثر من النصوص، ويسهل عليه خلق التعبئة السياسية لصالحه.
كلما طفت في الساحة الاجتماعية والسياسية والإعلامية مواضيع خلافية منشطرة بين النظرة الدينية والمعالجة العقلانية الحداثية، تجد الفاعل الإسلامي السياسي متجنّد، لا لمعالجة المسألة على أساس عقلاني مقاصدي يمكن أن يؤصل لها في الشرع، بل يختار دوما مسلك تنشيط المتخيل الاجتماعي، المسيطر على العقل السياسي الجمعي الموشوم بالتراث، بما يتضمنه من تصورات ومعايير ورموز وقيم وتمثيلات، قابعة في البنية الذهنية والنفسية العميقة للفرد والجماعة، محاطة بهالة من البداهة والتقديس. وبذلك، يكون تنشيط هذه التمثيلات التراثية العاطفية المَعْبَر السَّالك للتعبئة السياسية للجماهير. فهل تكون رسالة التوفيق طوق نجاة لإخراج الشعبوية الإسلامية السياسية من دهاليز النسيان، وتنشيط خطابها من جديد؟ أم إن الحادثة ستكون غيمة شتاء في مغرب متقلب الأحوال الجوية والسياسية. لقد صيغت رسالة التوفيق بعناية فائقة على صعيد اختيار المفردات وسبك الجمل وحبك الدلالات. وأما رسالة بنكيران، على وجازتها وإعراضها عن الدخول في صلب الموضوع، هي حمَّالة لمعان عديدة. سنلقي في هذا البحث الضوء على المسكوت عنه في الرسالتين، ومختلف الخلفيات الإيديولوجية والسياسية الكامنة خلف الخطابين.
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا