العلمنة والإسلام سؤال العقل في مواجهة السردية الكبرى
فئة : مقالات
(1)
ثمة حقل تداولي لمفهوم العَلمنة في العالَم الإسلامي، يجعل منها نِدَّاً أيديولوجياً للأطروحة التي أتى بها الإسلام منذ ما يقارب الـ 1400 سنة، ومَوْضَعَ بموجبها مفاهيميةً جديدة لـ: 1- الإله و2- الإنسان و3- العالَم. لذا ترقى مفردة (العَلمانية) إلى درجة السُبّة الأخلاقية في غالبية أذهان المسلمين، على اعتبار أنها سُتّهدد - في حال انتصرت وتسيّدت مشهد العمران الاجتماعي والسياسي والثقافي - قيمة المُسلم الأنطولوجية، وتتركه نهباً لشعورٍ بالضياع في الحياتين: الدنيوية والأخروية. فهي تستهدف تغيير تلك المفاهيمية المُتداولة حول ثلاثية الإله والإنسان والعالَم، وتسعى إلى استبدالها بمفاهيمية جديدة، لكن من صياغة الإنسان هذه المرة؛ أي استبدال ما هو إلهي طاهر، بما هو بشري دَنِس.
بداية، أرى أن المقاربة المعرفية بين العَلمانية والإسلام، لناحية اكتمال أطروحتيهما حول الإله والإنسان والعالَم، هي مقاربة غير عقلانية بالمرة، لأنَّنا نتحدث عن 1- إسلام ناجز وجاهز في الذهن الجمعي، فعلى مدار ألف ونيف من السنين أنجز الإسلام أطروحته حول الثلاثية التي أشرت إليها أعلاه، بما يجعل منه سردية كبرى لديها إجابات على أسئلة تشغل بال الإنسان في وجوده الزماني والميتافيزيقي. وعن 2- عَلمانية ليس لديها أطروحة حول الحياة بقدر ما هي مشروع عقلي يُنجز بالتقادم، وكلّما تقدّم الإنسان خطوة ناحية الأمام (أضاف/ حذف/ عدّل/ شذّب/ قنّن/ استبدل...إلخ) على هذا المشروع، بما يجعل منه في حِراك دائم، على عكس الإسلام الثابت منذ زمن بعيد.
وبناء على هذا التوصيف، أمكن إبطال مفعول العلاقة التصادمية بين العلمانية والإسلام، على المستوى المعرفي، لكن هذا لا يلغي فكرة الصدامية بينهما، نظراً للحمولة السلبية لمفردة علمانية في أذهان المسلمين، فكما أن أطروحة الإسلام جاهزة وناجزة في أذهان المسلمين، كذا الأمر بالنسبة إلى العلمانية فتاريخ المفردة جاهز وناجز في أذهان المسلمين هو الآخر، لناحية سلبيتها، والنيّة السيئة التي تُضمرها للإطاحة بالإسلام وأتباعه؛ لذا لا بُدّ من هذه الصدامية، على الأقل على المستوى السيكولوجي.
الثابت والمُتحرّك، أو يقين الإسلام وقلق العَلمانية
حتى أكون واضحاً هَهُنا أشير إلى أن (الإسلام نظام معرفي ثابت) و(العَلمانية نسق عقلي مُتحرّك)؛ ولربما كان هذا هو مكمن الخطر الذي يستشعره المسلم تجاه العَلمانية ومن يتبنّون خيارها، فالطمأنينة التي يعيشها عبر أنساق ثابتة، كانت قد تعمّقت وترسّخت عبر نظام معرفي قرّت ثوابته منذ زمن طويل، وأصبح تجاوزها مسألة محفوفة بالمخاطر، إلى درجة قد تصل إلى حدّ القتل وإراقة الدماء. هذه الطمأنينة القارّة ستتعرّض لمدّ عقلي مُتحرّك يسعى إلى مساءلة أنساق هذه الطمأنينة، وإخضاع بِناها لسؤال العقل، وما وصل إليه من معارف آنية، على أساس أن تلك الطمأنينة قد أقرّها شرط عقلي آني لكن قديم، ومن ثمّ عُمّمت لتصبح - طوعاً وكرهاً - صالحة لكلّ زمن ومكان، يأتي بعد تلك الآنية المُباركة!.
إذن، نحنُ أمام:
1- سردية كبرى اصطلحَ عليها بـ الإسلام، مَوْضَعَت ثلاثية الله والإنسان والعالَم والإنسان في أذهان المسلمين، إلى درجة أن هذه الموضعة النصّية ستتحوّل بالتقادم إلى أنساق ثابتة لن يكون لديها القدرة على تشكيل معالم العقلية الإسلامية فقط، بل ستمنحها قيمتها الوجودية في هذا العالَم، وإذا كان لسؤال: أيّة قيمة للمسلم خارج ما اصطلح عليه إسلامياً لمفاهيمية الله والإنسان والعالَم؟ فإنه لا يبرز كسؤال مفصلي على المستوى المعرفي، بل كسياقٍ سيكولوجي لديه القدرة على تطمين المسلم على حياته الزمكانية ومستقبله الميتافيزيقي. فكلّ ما حدث للإنسان وما يمكن أن يحدث له على المستوى الجسدي/ العقلي/ الروحي، منصوص عليه في المتون الدينية الإسلامية، إلى درجة أن المسلم ليس بحاجةٍ من ثمّ لتحريك سواكنه الإيمانية، لغاية إرضاء نوازعه العقلية، وما يمكن أن تُسبّبه هذه النوازع من قلقٍ عارم، يمكن أن يفقد المسلم مأثرة الطمأنينة التي يعيشها ويركن إلى رحمها الدافئ والمنيع.
2- أسئلة عقلية برسم التشكّل الدائم، لغاية تفكيك معمار السرديات الكبرى، والكشف عن الدور الذي يمكن أن تلعبه هكذا سرديات (سلباً/ إيجاباً) في عملية البناء الحضاري؛ وهذا ما اصطلحُ عليه شخصياً بـ (العَلمانية). فهي بالتالي ليست سردية، ولا يمكن لها أن تكون؛ لأنها غير قارّة وثابتة في نصوص بعينها من جهة، ولا إجابات قطعية ونهائية لديها من جهة ثانية. وأي تموقع لها في يقين ما، سينقلها من طور الحِراك العقلي الدائب والدائم، إلى طور الأيديولوجيا الناجزة.
3- اعتماداً على (النقطة 1) + (النقطة 2)، ليس ثمة تكافؤ إبستمولوجي بين الإسلام كسرديةٍ كُبرى، وبين العَلمانية كأطروحةٍ عقلية تسعى إلى تجلية القلق العقلي بإزاء الإجابات القاطعة التي تنطوي عليها السرديات الكبرى. لذا يصير من الخطل إحداث مقارنة معرفية بين الإسلام والعَلمانية.
لكن السؤال المحوري هَهُنا، لماذا يخاف المسلم من العَلمانية كلّ هذا الخوف، ولماذا يشعر باستهدافها لمنظومته الإيمانية، لذا يسعى إلى محاربتها، والسعي الدؤوب للنيل منها؟.
أنا أقول بانتفاء الخوف، إذا ما سلّم المسلم بأنَّ السردية الكبرى التي يؤمن بها، وتسنده على المستوى المعرفي في إجابات على منظومة الحياة برمّتها، هي سردية قادرة على تحدّي منظومة العقل البشري ومعارفه الجديدة؛ أي أن يكون إيمانه إيماناً عقلياً بالدرجة الأولى، لا إيماناً سيكولوجياً، ينبني على اندفاعات وجدانية ليس إلا. أما إذا كان هذا الإيمان إيماناً تسليمياً بما كان، ومنحه صفة الطهارة على نحو مُطْلَق، فساعتها سيخاف المسلم وترتعد فرائصه من أيّ نقد يمكن أن يطال سرديته التي أمّنت له إجابات نهائية حول كل شيء، مرة واحدة وإلى الأبد.
وعلى ما يبدو أن السياق الفاعل في العالَم الإسلامي هو سياق الخوف من العَلمانية والعلمانيين، لكنه أيضاً - كما أرى - ليس خوفاً معرفياً، بقدر ما هو خوف سيكولوجي، لأن المتن العَلماني لا يتأتّ للمسلم لنقده وتفكيكه، نظراً لعدم وجوده أساساً، لكنه يخاف من الأسئلة العقلية التي يمكن أن تُعمل مبضعها في لحم السردية الإسلامية، وتكتشف مواطن ضعفها وقوتها، بما يعني - كما أشرتُ أعلاه - (تشذيباً/ تعديلاً/ حذفاً/ تقنيناً/ استبدالاً/...إلخ) لمتون السردية الكبرى، اقتضاء لواقع التطوّر المعرفي الذي وصل إليه الإنسان الزمكاني، وما يخدم مصالح العمران البشري آناً، وليس لحظة تثبيت متون تلك السردية.
ولربما طال هذا الخوف أكثر ما طال أولئك الذين يبحثون عن توافقات معرفية بين النصّ الديني في صيغته الإسلامية - بما أننا بصدد الحديث عن العَلمنة والإسلام - والسياق العَلماني، لناحية اعتبار بعض اليقينيات الدينية الإسلامية، مثل فكرة الوحي أو المصدرية الإلهية للنص القرآني...إلخ، بمثابة ثوابت لا ينبغي تجاوزها مُطْلَقاً، تحت شعار عدم المساس بمشاعر المسلمين، أو الـ (عَظَمَة) المُفترضة في تلك الثوابت، والسعي المفروض على العلمانية وأتباعها لاكتشاف هذه العظمة، طوعاً و/أو كرهاً!. إذ كيف يُدعّى بـ (عَظَمَة) تلك الثوابت، ويُراد تجاوز اختبار عَظَمتها عقلياً؟ أليس في ذلك البحث التوافقي المزعوم، نوع من الخوف من أن تُطال مقتنيات أولئك الباحثين عن مثل تلك التوافقات، من مخابئها، ويتم تعريضها للشمس؟.
(2)
كُلّما زاد إيمان السرديات الكبرى بمتونها إيماناً تسليمياً، كلّما زاد خوفها من أسئلة العقل. وكلّما زاد إيمان السرديات الكبرى بمتونها إيماناً عقلياً، بما يُبقي على سؤال العقل سياقاً فاعلاً، والقدرة على تنميته معرفياً مرةً تلو الأخرى، قلّ خوفها من أسئلة العقل، وجعل من متونها متوناً فاعلة في العمران البشري الآني، لا متوناً مُحنطّة وبدون فاعلية حضارية. وهذا ينطبق بتمامه وكماله على السردية الإسلامية، فهي إذ تزيد من إيمانها بمتونها إيماناً غير قابل للطعن أو النقض، تحت حجّة الصوابية المُطْلَقة لهذه النصوص، فإنها تضع نفسها - لا سيما عبر أتباعها - في خانة السردية الخائفة، على اعتبار حجبها لأي سياق فاعل بين المتون القارّة من جهة، وأسئلة العقل المُتحرّك من جهة أخرى. لكن إلى أيّ حدّ يمكن صمود ما هو ثابت في وجه ما هو مُتحرّك؟ وإلى أيّ حدّ يمكن دعم فكرة بقاء السردية الإسلامية على ما هي عليه، لا سيما ذلك الشقّ المتعلق بمفاهيميتها حول الله والإنسان والعالَم، في حين أن المعارف الإنسانية - وهي بلا شكّ جزء أصيل من الحِراك العقلي الدائب والدائم - تنفجر تباعاً، وتعمل على تغيير تلك المفاهيم المرة تلو الأخرى، لا سيما مع وجود سيل عَرم من المعارف المتوالدة لحظة بلحظة.
وكنوعٍ من ردّ الفعل ضدّ سؤال العقل وقدرته على تفكيك منظومة السرديات الكبرى، قد يلجأ المسلم - على الأقل في الوقت المنظور - إلى التشرنق داخل صدفة سرديته الدينية، والبقاء هناك، مع الجهاد في سبيل سحب الناس - إن استطاع إلى ذلك سبيلا - إلى هذه الشرنقة، بصفتها الصيغة الأولى والأخيرة، للحياة المُثلى في الدارين: الدنيا والآخرة.
وفي غمرة تشرنقه، قد يلجأ المسلم إلى الدفاع المستميت عن هذه الرَحِم العتيد، لأنّ كل ما هو آتٍ من الخارج يسعى إلى تهديم أركانه هذا الرَحم، بعد نقض أركانه، والعمل على تداعيها والحفر الكيدي لها، لكي تنهار، فلا يعود ثمة ملجأ يُلجأ إليه بعد الآن.
قد يكون الأمر كذلك، ولكن السؤال المطروح: إلى أيّ حدّ يمكن الإبقاء على ما نحنُ عليه، لا سيما لتلك المواضعات التي تواضعت عليها السردية الإسلامية، لمفاهيمية الله والإنسان والعالَم؟ وهل ثمة احتمال باجتراح مفاهيمية جديدة لتلك المصطلحات العتيدة، دونما ارتهان لثوابت مبدئية، تعتبر يقينيات معرفية [المعرفة أساساً فنٌ للاحتمالات، وليست مجالاً لليقينيات] لا ينبغي المساس بها، تحت حجّة قُدسيتها أو قداسة المصدر الذي انبثقت عنه تلك اليقينيات المُفترضة؟.
هذه أسئلة برسم الإجابات المستقبلية، فقد:
1- يركن العالَم الإسلامي إلى سرديته الناجزة والجاهزة، ويبقى على ما هو عليه إلى ما لا نهاية، وساعتها سيكون سؤال العقل المُتحرّك بإزاء ثوابت المتن الديني، سؤالاً انتحارياً، لن يؤدّي إلى إلا مزيد من الكوارث النفسية، الاجتماعية، الثقافية، السياسية، لا سيما ساعة يلجأ المسلم إلى ردود الفعل الانتقامية، لكلّ من يتجرأ ويحاول العبث بسرديته التي تؤمّن له اليقين الأخير في هذا العالَم.
2- يفضي الحِراك الفكري في العالَم الإسلامي إلى مزيد من التباحث حول مسائل شائكة ومعقّدة بين ما هو ثابت في المتون الدينية، وما وصل إليه العقل من معارف. بما يعني إشراع جميع الأسئلة في وجه السردية الدينية الإسلامية، والتأكّد من قدرتها على الإجابة على هذه الأسئلة، بعيداً عن أي 1- ارتهانات ماضوية كانت قد قدمّت إجابات محدّدة لأسئلة كانت تشغلها يومذاك، أو 2- استلابات يمكنها أن تُثبّت الحِراك الفكري عند نقطة معينة لا يمكن تجاوزها معرفياً، لأنها وضعت حدوداً مسبقة، واعتبرت - من جهة - عدم تجاوزها كنوعٍ من الأرضية المشتركة التي يمكن التأسيس عليها في تفعيل دور العقل في النص الديني، ومن جهة ثانية اعتبرت تجاوزها خطراً كبيراً يمكن أن يطيح بأية بادرة لاجتماع مشترك بين الذوات الفاعلة في الزمن والمكان.
بين الركون (= النقطة 1) والإفضاء (= النقطة 2)، سيتأرجح العالَم الإسلامي - للفترة القادمة - بين يقينياته التي تؤمِّن له الحماية ليس المعرفية فقط (منظومة الإجابات الجاهزة حول كل شيء في الحياة) بل والوجودية أيضاً (المفاهيمية لثلاثية الله والإنسان والعالَم، وركون المسلم إليها ركوناً أخيراً)، وبين أسئلة العقل التي يمكن أن تُحدث فتوحات في السردية الإسلامية - ولربما بدأت بواكير ذلك بالظهور في الفترات الأخيرة، بوتيرة كبيرة - وتُعيد إنتاج مفاهيمية جديدة لثلاثية الله والإنسان والعالَم. وفي تأرجحه سيشهد العالَم الإسلامي آلاماً كبيرة، وآمالاً أكبر.