العلوم الإسلامية خلال القرن 11هـ/ 17م: علي النوري نموذجاً
فئة : مقالات
عندما يزور الباحث دار الكتب الوطنية بتونس يلاحظ وجود معلقة تحمل تسمية "مكتبة الشيخ علي النوري"، فيتساءل من هو هذا الشخص؟ حين يبحث عن ترجمته يجد أنه كان يلقب بالصفاقسي نسبة إلى مدينته صفاقس (1053 - 1118 هـ = 1643 - 1706 م). وإن رغب في معرفة مذهبه ألفاه مالكي الهوى، وإن أراد الاطلاع على مسار تتلمذه وقف على أنه رحل إلى تونس ودرس فيها حوالي خمس سنوات، إلى سنة 1072هـ/ 1661م، وكانت تونس في ذلك الوقت مركزاً علمياً مشعاً يتوفر فيه مناخ علمي طيب في فترة حكم حمودة باشا المرادي، بعد أن مهد له ذلك أسلافه الدايات الأتراك، ثم انتقل إلى المشرق، فأخذ عن علماء كثيرين دوّن أسماءهم في "فهرسة" ثرية بالمعطيات، وعاد إلى صفاقس، فصنف كتباً، منها "غيث النفع في القراءات السبع ـ ط"، و"تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين ـ ط"، و"عقيدة في التوحيد". وتخبر هذه العناوين عن ثراء غير عادي لشخصية النوري وعن إسهامه في كثير من العلوم، وهو ما جعله عبر العصور مرجعاً مهماً للباحثين في القراءات والفقه وعلم الكلام والتصوف وغيرها من العلوم، لذلك ارتأينا أن نلقي بعض الأضواء على جهوده في عدد من العلوم الإسلامية.
الشيخ علي النوري والفقه
لئن بدأ الشيخ علي النوري يكتسب مبادئ الفقه في بلده صفاقس على أيدي جملة من علماء هذه الجهة على غرار أبي الحسن الكراي فإنّ ابتداء تعمقه في دراسة هذا العلم تمّ إثر رحيله إلى تونس، حيث درس على علمائها بجامع الزيتونة، ومنهم عاشور القسنطيني الذي اشتهر بتدريس الفقه بشكل خاص، وأبو الحسن علي النعّاس الذي كان يدرّس الفقه أيضاً.
واتسعت ثقافة النوري الفقهية بصفة خاصة عندما سافر إلى مصر وأخذ عن علماء الأزهر على غرار محمد الخرشي الذي اشتهر بشرح مختصر خليل وبالكتابة في الفقه، والظاهر من خلال الإجازة التي أسندها هذا الفقيه إلى النوري أنه درس عليه الفقه.
وقد أخذ الفقه كذلك عن إبراهيم الشبرخيتي المالكي مؤلف شرح لمختصر خليل، ويبدو من خلال الإجازة التي منحها هذا الفقيه إلى النوري أنه قرأ عليه مدونة سحنون ومختصرها للبرادعي ورسالة ابن أبي زيد القيرواني. وتلقى الفقه أيضاً عن إبراهيم اللقاني المصري، وهو قاضي قضاة المالكية بمصر، وقد كانت له عدة مؤلفات منها كتاب "نصيحة الإخوان في عدم شرب الدخان"، وأخذ الفقه أيضاً عن يحيى الشاوي (ت1695م) وعن علي اليوسي (ت1690م).
والواضح من خلال ترجمة النوري أنه اقتصر على دراسة كتب المذهب المالكي في الفقه دون أن نقصي إمكانية دراسته كتباً أخرى من غير مذهبه، لأنه درس على علماء شافعية.
ولم تبقَ ثقافة النوري الفقهية حبيسة صدره، ذلك أنه سعى إلى إفادة الناس منها، إن من خلال التدريس أو التأليف، ونلفي في هذا الصدد عدة مؤلفات فقهية منسوبة إليه منها:
1- مقدمة في الفقه والتوحيد والتصوف
صدر هذا الكتاب بتحقيق نزار حمادي وتقديم الشيخ الحبيب بن طاهر تحت عنوان "المقدمة النورية (في أحكام الصلاة على مذهب السادة المالكية وجملة من الأخلاق الإسلامية)".[1]
وهذه المقدمة مختصرة وتدور على الطهارة والصلاة، وتنقسم إلى بابين: أحدهما يهتم بالطهارة ويشتمل على عشرة فصول، والآخر يعتني بالصلاة ويتكون من تسعة فصول.
وقد ذكر الشيخ الحبيب بن طاهر في تحقيقه لكتاب "مبلّغ الطالب إلى معرفة المطالب" للشيخ المؤخر تلميذ النوري، أنّ من كُتُب الشيخ المخطوطة هذه المقدّمة في التوحيد وفقه الصلاة والتصوّف، ذكر أنّ لها شرحاً للمؤلف (لم يتمّه) اسمه "الهدى والتبيين في ما فعله فرض عين على المكلفين"، كما ذكر شرحاً آخر للشيخ أحمد بن غنيم النفراوي المصري (ت1125هـ/1713م) ورد في مقدمته: "قد وردت علينا مقدمة لطيفة طريفة من أفاضل المغرب مشتملة على مسائل فقهية وبعض عقائد دينية وطرائف نفائس صوفية فالتمس منا بعض الإخوان ممن نعتقد صلاحه شرحها لزعمه أنّا من أهل الميدان فأجبنا بالشروع في الجواب...".[2]
ويعتبرهذا الكتاب وثيقة علمية تاريخية تكشف عن بعض جوانب منهج الشيخ "النوري" في حركته العلمية التربوية الإصلاحية التي خاضها في عصره، والتي تقوم على عدة أسس، منها وضع تآليف للطلبة المقبلين على مدرسته بصفاقس، وتمكين أبناء عصره من الحدّ الأدنى من المعرفة الشرعية التي لا يجوز الجهل بها في أبواب الفروض العينية المتعلقة بالاعتقاد والعبادات والأخلاق وتلاوة القرآن.
2- كتاب الهدي والتبيين فيما فعله فرض عين على المكلفين
اعتبر بعض الدارسين أنّ هذا الكتاب من أجلّ ما كتب الشيخ النوري في الفقه، خاصة أنه ألّفه في المرحلة الأخيرة من حياته. وهو توسعة للمقدمة الفقهية شرحاً وتفصيلاً، وينهض هذا الكتاب على أقسام أربعة، اختص أولها بأصول الدين، والثاني بالحكم الشرعي، والثالث بالعبادات الأساسية كالصلاة والصوم والزكاة والحج، أمّا الباب الرابع فمداره على الإيمان وقواعده، والظاهر من خلال هذا الكتاب النهج الأشعري لصاحبه واكتفاؤه بالتقليد والخضوع لسلطة الفقهاء القدامى.
3- مناسك الحج
هذه الرسالة مطبوعة مع شرحها المسمّى "هبة المالك على تأليف الشيخ علي النوري في المناسك" لمحمّد بن يوسف الشهير بالكافي (ت1380هـ/1960م)، وقد طبع هذا الكتاب منذ بداية القرن العشرين بمطبعة الأمّة بمصر سنة 1330هـ/ 1912م.
وطبع بمفرده تحت عنوان "مناسك الحج والعمرة والزيارة"، نشرها عبّاس بن محمد النوري سنة1988م. وهي بمثابة دليل للحاج يساعده على تأدية مناسك الحج، لذلك اختار فيه النوري التبسيط سبيلاً للوصول إلى مختلف فئات المجتمع .
4- مسائل فقهية
وردت هذه المسائل في شكل سؤال وجواب لها طابع الأحجيات، وهي تدور كلها تقريباً حول الطهارة والصلاة، وقد قام يونس يعيش بتحقيق نص هذه المسائل.[3]
والظاهر أنّ علي النوري أثر في تلاميذه فدفعهم إلى حذق الفقه والتأليف فيه على غرار محمد الشهيد السوسي الصفاقسي، وقد ترجم له محمد محفوظ فذكر أنه السوسي لقباً، الصفاقسي إقامة وبلداً، وعدّه من تلاميذ النوري، مع أنّ الشيخ مقديش لم يترجم له ضمن هؤلاء التلاميذ. وينسب إليه كتاب "الفواتح النبوية في شرح المقدمة العشماوية"، وهو كتاب في الفقه المالكي. وتحتفظ جامعة الملك عبد العزيز بجدة بنسخة مخطوطة للفواتح النبوية في شرح مقدمة العشماوية، [4] سجل عليها أنّ ناسخها هو أحمد بن محمد بن محمد السوسي.
علي النوري وعلم القراءات:
أخذ علي النوري علم القراءات عن شيوخ عدّة، منهم الشيخ علي الشيراملسي المدرّس بالأزهر. وقد ذكر في "غيث النفع" ما يفيد تتلمذه عليه في هذا الفن. وأخذ هذا العلم أيضاً عن شيخه المغربي محمد بن محمد الأفراني. وقد نسب المؤرخ محمود مقديش للشيخ علي النوري كتابين في القراءات والتجويد؛ الأول في القراءات هو "غيث النفع" ووصفه بأنّه كتاب حافل[5]، والثاني كتاب في علم التجويد سمّاه "تنبيه الغافلين"، وقد اكتفى المرحوم محمد محفوظ بهذين العنوانين أيضاً مضيفاً معلومات تفيد بطبع الكتابين. فـ"غيث النفع" طبع لأوّل مرّة بمصر بهامش سراج القارئ المبتدئ لابن القاصع، أمّا "تنبيه الغافلين" فقد نشر بتحقيق الأستاذ محمد الشاذلي النيفر (تونس 1974)[6].
وقد عدّ حسن حسني عبد الوهاب "غيث النفع في القراءات السبع" أشهر مصنّفات الشيخ النوري وعمدة أهل الفن ومرجعهم في عهده ومن أتى بعده. وكانت أوّل طبعة له بمطبعة بولاق سنة 1293هـ ثم تتالت طبعاته.
وقد حاول النوري من خلال هذا الكتاب تصحيح منهج القراءات الذي درج على اعتماده علماء عصره. يقول الشيخ الشاذلي النيفر في هذا السياق: "وقد حرّر في هذا الكتاب القراءات السبع التي ذكرها أبو القاسم الشاطبي، وبيّن في كتابه هذا ما يتعلّق بها وقد مشى على طريقة المختصين كالشيخ الجزري فحرّر الطرق معرضاً عمّا شذّ وعمّا لا يوجد، كما يفعله كثير من المتساهلين القارئين بما يقتضيه الضرب الحسابي..."[7].
ويتّضح ممّا صرّح به النوري في كتابه أنّ مرجعه الرئيس في كتابه هذا هو ابن الجزري، ذلك أنّه تتبّعه في كثير من المواضع فوجده في غاية من الصدق والضبط والإتقان فاعتمده. ويبرز هذا الموقف أنّ الشيخ علي النوري اعتمد في قبول رواية ابن الجزري على المعيارين المستقرّين في علم الجرح والتعديل، وهما معيار العدالة أوّلاً ومعيار الضبط ثانياً.
وقد رتّب النوري كتابه وفق السور والآيات، لذلك خصّص أبواباً لسور القرآن بدءاً من الفاتحة.
وكان "غيث النفع" موضع تنويه لدى عدد من تلاميذ النوري، ومن ذلك قصيدة علي الطويل نورد منها البيتين الأولين:
روى القلب غيث النفـع أعذب مورد فأكثر في استسقائه يا أخـا الوفـا
لتحظى بشرب مـن عذوبــــــة لفظــه ومعناه، فهو الشهد يلقى به الشفا[8]
ويخبرنا مقديش أنّ كتاب النوري في علم التجويد المسمّى "تنبيه الغافلين" حاذى به ابن المفضل (ت. 611هـ) المقدسي ثم الإسكندراني المالكي[9]. والظاهر أنّ الهدف من هذا الكتاب إصلاح تلاوة القرآن وتصحيحها، لذلك اعتبر محقق الكتاب أنّه يرمي إلى "إتقان التلاوة للقرآن كما أنزل ليتجنب التالي اللحن في كتاب الله. وهذا اللحن ليس تداركه يتكفل به النحو بل هو ما وراء ذلك، فلذلك لمّا تكلّم على مخارج الحروف وصفاتها تكلّم عليها مجملة ثم أتبع ذلك بالكلام على الحروف مفصلة فأشبع الكلام على كل حرف، ثم أتبعها بما يقع فيه الخطأ كالهمزة المتحركة فإنّه بيّن أنّ الخطأ يقع فيها من أوجه"[10]. ويمكن اعتبار هذا الكتاب وثيقة في علم الأصوات، وهو ما يتجلّى من خلال مباحث هذا العلم المنتشرة في هذا التأليف. فالباب الأوّل منه خصّص لمخارج الحروف وألقابها وصفاتها، وهو يشتمل على فصول، منها فصل في صفات الحروف وفصل في الحروف المشربة وغير ذلك من الفصول.
وللشيخ النوري في مجال علم القراءات أيضاً تأليف بعنوان "أسئلة في القراءات"، وهو يتمثل في أسئلة توجه بها عدد من الطلبة إلى شيخهم النوري. ويبدو أنّه ردّ عليها شفوياً أو ضمن كتابيه "غيث النفع" و"تنبيه الغافلين"[11] ويبدأ هذا التأليف بقول النوري: "الحمد لله هذه أسئلة وردت علينا من بعض الطلبة الراغبين: الأول قوله تعالى "ها أنتم أولاء تحبّونهم" (آل عمران 2/119) هل يؤخذ فيه لقالون في وجهي ضمّ الميم بمدّ الصلة في وجه قصرها إذا قدّرت مبدلة من همزة كما جاز ذلك في السابقة واللاحقتين فيكون مجموع ما في هذه الآية لقالون خمسة أوجه أولا يؤخذ له بأربعة؟ وإذا قلتم هذا الثاني فما وجه إسقاطه من دون الآخر؟ وتتوالى الأسئلة إلى حدّ السؤال الثامن عشر وهو "قول الداني في "التيسير" وابن الجزري في "التحبير" وغيرهما في باب إسناد القراءات. وأمّا قرأت فلاناً فحدّثني بها حدّاً، ثم يقول: وقرأت بها القرآن كلّه على كذا، والغالب حينئذ اختلاف السندين فما الفرق بينهما؟ وهل المعوّل عليه في الإجازات الإسناد الأوّل أو الثاني كما هو الظاهر أو الجمع بينهما؟"[12]
وللشيخ النوري في القراءات "رسالة في وجوب كتابة المصحف بالرسم العثماني"، والظاهر أنّ سبب تأليف هذه الرسالة الردّ على موقف تلميذه عبد السلام بن عثمان التاجوري شيخ الطريقة السلامية بطرابلس، فقد ألّف كتاباً حول كتابة المصحف بالرسم العثماني أشار فيه إلى أنّ كتابة المصحف المعتمدة على نسخ عثمان ابن عفان التي نقلها عن مصحف أبي بكر ووزّعها على أقطار الإسلام مندوبة لا واجبة مدعماً بهذا الرأي الشيخ العربي الفاسي (ت 1052هـ/1642م) الذي ذهب هذا المذهب.[13]
وقد أشار الشيخ الشاذلي النيفر إلى رسالة للشيخ النوري ألفها في الردّ على من يقول بجواز إبدال الهمزة هاء صرفة لجواز ذلك في كلام العرب، لأنّ هذا الإبدال متوقّف على السماع فلا يجوز القياس عليه. وردّ ذلك بأدلّة كثيرة، وكان سبب تأليفها سؤال ورد عليه فأجاب بهذه الرسالة، ذكرها المؤلّف في تنبيه الغافلين حين الكلام على الألف المتحركة[14]. وقد أشار الباحث يونس يعيش إلى أنّه لم يتمكّن من الوقوف على هذه الرسالة ضمن مخطوطات المكتبة الوطنية ولا عند الخواص[15]، والخلاصة أنّ مؤلفات النوري في القراءات والتجويد تدلّ على تبحّر في هذا العلم ورسوخ قدم فيه مثلما ذهب إلى ذلك بعض الدارسين[16].
تأثير علي النوري في تلاميذه في مجال علم القراءات
تجلّى الأثر الأوّل لعلي النوري في تلاميذه في مجال علم القراءات من خلال تلميذه إبراهيم الجمل (ت 1796م) فقد صرف همّته إلى علم القراءات فبرع فيها، وتصدّى لتدريس القراءات بالزيتونة. وقد أخذ عن شيخه النوري علم القراءات ثم سافر إلى تونس فنشر بها علوم القراءة والتجويد[17]. وللشيخ إبراهيم الجمل الصفاقسي عدة مؤلفات في علم القراءات منها "جامعة الشتات في عدّ الفواصل والآيات"، وهي منظومة في ألف وثلاثمائة بيت، وله "الوقف في القراءة"، و"كلّا والوقف عليها"، و"نظم النشر في القراءات العشر لابن الجزري" بلغ فيه ثلاثة آلاف بيت، استوعب فيه أوجه القراءات للثلث الأول من القرآن الكريم حسب الذي جاء في كتاب "الحلل السندسية" للوزير السراج[18].
ويعتبر محمد التونسي (ت 1121 هـ/1710م) أحد تلاميذ الشيخ النوري، فقد حفظ القرآن وجوّده على السبع والعشر عن شيخه، وقد عيّنه محمد باي المرادي لتجويد القرآن في جامعه، واستمر يقرئ القرآن بهذا الجامع إلى أن توفّي سنة 1710 م.
وتتلمذ على النوري في القراءات أيضاً أبو عبد الله محمد الحركافي (ت 1741م) فقد أجازه النوري في السبع والعشر. ولمّا كان مشتهراً في القراءات عيّنه باي الوقت مكان عبد القادر الجبالي بعد وفاته.
خاتمة
تركت جهود الشيخ علي النوري ومؤلفاته في علم القراءات آثاراً واضحة خارج صفاقس وداخلها، فقد نشر تلاميذه وتلاميذ تلاميذه أسس هذا العلم وهو ما تجلّى على سبيل الذكر لا الحصر في ظهور مؤلفات في هذا العلم ككتاب "عمدة القارئين والمقرئين"[19] للشيخ أحمد بن أحمد الشقانصي القيرواني (ت 1820م)، وهو تلميذ تلاميذ الإمام النوري.
الشيخ علي النوري وعلم الكلام
قرأ الشيخ النوري التوحيد أو علم الكلام على الشيخ يحيى بن محمد الشاوي الملياني الجزائري (ت 1685م) صاحب كتاب "الدرّ النضيد في الكلام على علم التوحيد"، وقد درس عليه بالأزهر. كما أخذ التوحيد عن الشيخ عبد السلام اللقاني (1078هـ/1668م) صاحب الشرح المعروف على "جوهرة التوحيد" المتن المعتمد في علم العقيدة لوالده الإمام إبراهيم اللقاني (ت. 1632م) والظاهر أنّ الشيخ النوري تتلمذ على الشيخ عبد السلام اللقاني في أواخر حياته، ذلك أنّه توفّي في السنة التي أكمل فيها النوري دراسته بالأزهر وهي سنة (1078هـ/1667م)[20].
ودرس الشيخ النوري علم التوحيد أو الكلام على الشيخ يحيى بن محمد الشاوي الملياني الجزائري (ت 1096هـ/1685م) وكان قدم من الجزائر إلى مصر سنة (1074هـ/1663م). ومن مؤلفاته حاشية على أمّ البراهين للسنوسي وكتابه "الدر النضيد في الكلام على علم التوحيد".
ويستفاد من إجازة هذا الشيخ للشيخ علي النوري أنّه أجازه في الحديث والفقه والنحو والأصول والمنطق وعلم الكلام وغير ذلك من العلوم. وبناء على هذا يُعدّ هذا الشيخ أحد الشيوخ الذين أخذ عنهم الشيخ النوري علم الكلام في الأزهر.
ومن شيوخ علي النوري علي الشبراملسي المصري (عاش بين 997هـ/1588م – 1087هـ/1686م). ولعلّه أخذ عنه علم الكلام لأنّ له حاشية على شرح الورقات الصغير لابن القاسم في الكلام[21].
والظاهر ممّا تقدّم أنّ الشيخ النوري قد حصّل نصيباً من علم التوحيد لا يستهان به تجلّى خاصّة من خلال دراسته المركّزة لعقيدة السنوسي في مصر أثناء تتلمذه على شيخه الشاوي الذي كانت له شروح عليها وتعاليق. وكان قبل ذلك قد تتلمذ على الشيخ أبي الحسن الكراي الذي كان له ولع بعقيدة السنوسي فغرس في النوري ولعه هذا، ثم تعمّق في الاطّلاع عليها بتونس عن طريق شيخه عاشور القسنطيني[22].
وترتّب على هذا تأليف النوري "العقيدة النورية في اعتقاد الأئمّة الأشعريّة"، ويظهر أنّ هذه العقيدة كتبت في العقد الأوّل بعد عودة صاحبها من مصر سنة 1078هـ. وهي ملخّص للآراء الكلامية الأشعريّة وللمنهج الأشعري القائم على العقل إلى جانب النقل في الاستدلال للعقائد الدينية. ونراه يفضل منهج عقيدته على منهج عقيدة السنوسي فيقول: "هذه العقيدة أفيد من صغرى السنوسي من حيث إنّي كلّما ذكرت عقيدة أتبعتها بدليلها وأمّا الصغرى فإنّ الشيخ السنوسي ساق عقائدها مجرّدة. وبعد استيفائها أتبعها بالأدلّة على طريق اللفّ والنشر المرتّب"،[23] وقد استنتج محمد محفوظ من هذا القول أنّ النوري اختصر عقيدته من العقيدة الصغرى للشيخ السنوسي وأنّه هذّبها[24].
وقد وقف كثيرون على أهمّية هذه العقيدة فتصدّوا لشرحها منهم الشيخ علي بن أحمد الخريشي الفاسي نزيل المدينة المنوّرة (ت 1143هـ/1730م). وهذا الشرح الموسوم بـ"المواهب الربّانية على العقيدة النورية" يعتبر الشرح الأوّل لهذه العقيدة في حياة الشيخ علي النوري.
وأثنى الحريشي في مقدّمة شرحه على النوري، وبيّن أنّه علم بهذه العقيدة من بعض الطلبة حين مروره بصفاقس في طريقه إلى الحج وطلب منه شرحها فأجاب طلبه[25]. وقد شفع هذا الشارح شرحه بخاتمة ذكر فيها ما بقي من المعتقدات من الإيمان بجميع الرسل والأنبياء وبوجود الملائكة والجنّ وبالقدر والرؤية وأحكام المعاد. ويمكن تفسير ما أضافه هذا الشارح بأنّ موضوعات العقيدة الإسلامية تتكوّن من أصول ثلاثة هي الإلهيات والنبوّات والسمعيّات، إلا أنّ الشيخ النوري اقتصر في عقيدته على أصلي الإلهيات والنبوّات دون ذكر للعقائد السمعية.
وشرح عقيدة النوري في حياته أيضاً الشيخ علي الشريف الزواوي، ولا ذكر لهذا الشرح إلا في شرح الشيخ أحمد الفيومي الغرقاوي. فهو يقول: "وقد بلغني من ذلك من مؤلّفها الشيخ النوري بالمكاتبة أنّ شخصين من علماء المغرب شرحاها أحدهما الشيخ الكامل الحريشي الفاسي والآخر الشيخ المحقق سيدي علي الشريف الزواوي"[26]. وشرحها في حياة المؤلّف بعد فترة من ظهور الشرحين السابقي الذكر الشيخ أحمد الغرقاوي المصري (ت 1101هـ/1690م) وشرحه موسوم بـ"الخلع البهية على العقيدة النورية". ويذكر الشارح في مقدّمة شرحه أنّ أحد طلبة النوري وهو الشيخ محمد التونسي كان قد أعلمه بالعقيدة النورية وسأله شرحاً عليها وما زال يلحّ في الطّلب هو وشيخه النوري حتى أجاب طلبهما.
وقد أشار الشيخ المؤخر إلى أنّ من المبررات التي دفعته إلى شرح عقيدة النوري اتصاف شرح الغرقاوي بالطول إلا أنّ النسخة المحفوظة من هذا الشرح لا تتجاوز عشر صفحات.
وشرح هذه العقيدة أيضاً في حياة صاحبها تلميذه علي المؤخر بشرح اختار له من العناوين "مبلّغ الطالب إلى معرفة المطالب"، وآخر شارح لهذه العقيدة هو الشيخ أحمد بن إبراهيم العصفوري التونسي (ت 1199 هـ/1785م) بعنوان "الفوائد العصفورية على العقائد النورية".
ما يمكن أن نستخلصه من هذا العرض أنّ الشيخ علي النوري وشارحي عقيدته لم يخرجوا عن التقليد المستقرّ في التأليف في علم الكلام المعتمد على الشرح الذي يرمي إلى تبسيط المعرفة وتقريبها إلى طلبة العلم. وما كان لهم أن يفعلوا غير ذلك لأنّهم عاشوا في زمن جمود العلوم الإسلامية ومنها علم الكلام فاكتفوا باختصار كتب السابقين وشرحها، ذلك أنّ باب الاجتهاد في هذه المسائل قد أغلق في نظرهم ولم يترك الأوّلون للآخرين مجالاً للإضافة.
أثر الشيخ علي النوري في نشر علم الكلام والعلوم العقلية
يمكن أن نقف على أثر الشيخ النوري في إحياء علم الكلام والعلوم العقلية بصفاقس وبالبلاد التونسية من خلال تلاميذه من أبناء صفاقس أو من غيرها من الجهات ومن هؤلاء:
- أحمد العجمي المكني نسبة إلى المكنين (ت 1122هـ/1710م)، وقد قرأ بصفاقس على الشيخ علي النوري ولازمه مدّة ثمّ سافر إلى مصر وأخذ عن علمائها ثم عاد إلى بلده المكنين وأسّس بها مدرسة وتولّى التدريس بها، ومن مؤلّفاته "عقيدة التوحيد"، وهي منظومة أوّلها:
يقول راجي الله جلّت قدرته أحمد المكني تلك شهرته
وقد شرحها الشيخ عبد العزيز الصفاقسي. وهي موسومة بـ"الفتوحات الإلهية على الأرجوزة المكنية".[27]
- ابن خُليفة: هو أبو الحسين علي بن خُليفة الشريف المساكني نسبة إلى مساكن بالساحل التونسي، وصفه مقديش بالرجل الصالح التقي العفيف الفقيه المتكلّم المحدّث المفسّر الواعظ العارف بعلوم العربية بأسرها وبأصول الفقه وفروعها، [28] واكتفى مخلوف بنعته بالمربّي الفاضل والفقيه الصّوفي والعالم العامل[29]. ولئن أوجز مقديش القول في بيان صلته بعليّ النوري مكتفياً بذكر تفقّهه عليه أوّلاً قبل سفره إلى مصر، فإنّ محمد مخلوف فصّل قليلاً طبيعة هذه الصلة ذاكراً أنّ له "فهرسة وملخصاً بها أنّه أخذ عن أبي الحسن النوري، لازمه وانتفع به وأجازه بمروياته بأسانيدها إجازة عامة"[30].
عثرنا على هذه الفهرسة بتحقيق محمد محفوظ[31] فوجدنا في مقدّمتها أنّ عليّاً بن خليفة يثني على شيخه النوري ناعتاً إيّاه بأنّه شيخ فاضل مربٍّ ناصح جامع بين الشريعة والحقيقة. ويخبرنا أنّه اجتمع به سنة خمس وسبعين وألف وأنّ قلبه تعلّق به وأنّه أقام عنده خمس سنين، وأخذ عنه جملة علوم، وأجازه الإجازات الكثيرة.
ويهمّنا في هذا السياق أن نقف على ما تلقاه منه في علم الكلام، ويطلعنا أنّه قرأ عليه مباشرة من كتب التوحيد شرح القصيدة الجزائرية للعارف بالله الشيخ السنوسي، وأنّه أجازه بجميع كتب الشيخ السنوسي في التوحيد.
والظاهر أنّ تأثّره بالشيخ النوري تجلّى خاصة من خلال علم الكلام، فقد نظم منظومة نونية في التوحيد يبدو من خلال عنوانها أنّها تدور على مسألة التوحيد حسب تصوّره السنّي ويقارب عدد أبياتها الخمسمائة وقد فرغ من تأليفها في آخر جمادى الثانية من سنة 1131 هـ/ 1719م، ووقع تداولها بتونس وخارجها. وقد حقّق هذه المنظومة نزار حمادي، وهي تبدأ كالتالي:
حمداً لربّ واحـد في مُلكـه صمد مجيد ما له من ثـــــان
حمــداً له دلّت عليه فعالــه وشــواهد الحدثان والإمكـان
متقدّساً فـي ذاتـه وصفاتـــه عن وصمة التشبيه والنقصان
ومن علامات انتشار هذه المنظومة النونية قيام الشيخ أحمد الدمنهوري المصري (ت 1192هـ/1778م) بشرحها شرحاً موسوماً بـ"المنح الوفية في شرح الرياض الخليفية"،[32] وقد اختصر الشيخ محمد بن الحاج حسين منصور الورداني بلدا هذه المنظومة سنة 1360هـ/1941م.
وللشيخ علي بن خليفة منظومتان في غير علم الكلام، إحداهما بعنوان قضاء الحاجة والأخرى بعنوان "التوسّل بسور القرآن".
ولا تقتصر إسهامات الشيخ علي النوري على هذه العلوم، بل تشمل علوماً أخرى كالفلك والتصوف يجدر بالباحثين التأمل فيها.
[1] نشرته دار مكتبة المعارف للطباعة والنشر، 2011، ببيروت- لبنان
[2] النفراوي، شرح المقدمة الفقهية لعلي النوري، مخطوط بالمكتبة الوطنية
[3]انظر يعيش، علي النوري، مكتبة علاء الدين، صفاقس، 2006، ص ص 281-285
4 أولها: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، الحمد لله الذي حمد نفسه في قديم الزمان فاستغنى به الله عن حمد خليقته فيما يزال وفيما لم يزل، فهو الغني على الإطلاق وإليه المرجع والمساق وله الملك يوم التلاق.
آخرها: سألتك بالله الذي يحدث له الخلائق فهو الواحد الباري مهما تصفحت، أستغفر لكاتبه لعل كاتبه ينجو من النار.
[5]محمود مقديش، نزهة الأنظار، 2/358
[6] محفوظ، تراجم المؤلفين، 5/58
[7] الشاذلي النيفر، مقدمة تحقيقه لكتاب "تنبيه الغافلين" لعلي النوري.
[8] يونس يعيش، المصدر المذكور، ص 256
[9] محدّث وفقيه، لم يذكر له مترجموه اشتغاله بالقراءات والتجويد وغاية ما وجد من صلته بهذا العمل أنه سمع من المقرئ السبع بن عيسى بن حزم الغافقي الجياني الأندلسي نزيل مصر، كحالة، معجم المؤلفين، 7/244
[10] الشاذلي النيفر، مقدمة تحقيقه لكتاب "تنبيه الغافلين.
[11] يعيش، المرجع المذكور، ص 260
12 علي النوري، أسئلة في القراءات، بخط يده، ضمن مجموع مخطوط بدار الكتاب الوطنية بتونس، رصيد صفاقس، رقم 20318، نقلاً عن يونس يعيش، المرجع المذكور ص 263
[13] يعيش، المرجع المذكور، ص 264
[14] الشاذلي النيفر، مقدمة تحقيقه، ص 18
[15] يعيش، المرجع المذكور، ص 266
[16] المرجع نفسه، ص 266
[17] مقديش، المصدر المذكور 2/370
[18] المطوي والبكوش، مراجعة كتاب العمر لحسن حسني عبد الوهاب.
[19] طبع هذا الكتاب سنة 1429هـ بتحقيق الدكتور عبد الرزاق بسرور، ونشرته دار ابن حزم ببيروت.
[20] راجع يونس يعيش، علي النوري الصفاقسي، عصره ـ حياته ـ آثاره، ص 117
[21] محمد محفوظ، تراجم المؤلفين التونسيين، 5/5
[22] يعيش، ص 298
[23]مقديش، نزهة الأنظار، 2/169
[24] محفوظ، المصدر المذكور، 5/60
[25] المصدر نفسه، 5/60
26 أحمد الغرقاوي المالكي، الخلع البهية على العقيدة النورية، مخطوط رقم 19959 رصيد صفاقس، نقلاً عن يونس يعيش، المرجع المذكور ص 303
27 منها نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم 9/41 مجاميع، انظر المطوي والبكوش، كتاب العمر لحسن حسني عبد الوهاب، 2/423
[28] مقديش، نزهة الأنظار، 2/374
[29] مخلوف، شجرة النور، 347
[30] المصدر نفسه، 347
[31] نشرتها دار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 1992
32 إسماعيل باشا البغدادي، إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، بيروت، دار إحياء التراث العربي، (د.ت)، 2 / 577