العين الخفيّة
فئة : مقالات
كان هوميروس ضريرا، ومع ذلك منح البصر للآلهة في الأولمب، والأبطال الشجعان، والنساء الحسان، فيكون اصطنع في ملحمتيه، وهو أعمى، عالما مبصرا تتنازع فيه الآلهة، ويتقاتل الفرسان، وتثلم العذارى قلوب العاشقين، ويتساقط الأبطال كأنهم سنابل جافة في ربوع اليونان القديمة، إلى درجة أصبح عالم هوميروس نموذجا أعلى لسائر المجتمعات المبصرة في التاريخ، فعنه انحدرت العوالم اللاحقة، ونهلت من أفكاره وأساطيره وبطولاته وقيمه كثيرا مما أصبح من معالم الحياة الأرضية فيما بعد. ويمكن تسويغ كل ذلك بالقول إنه كان أعمى دخيلا احتفظ بصور مرئية عن العالم خلال إبصاره، لكنه غذّاه بالمبالغة الشعرية بعد أن كفّ بصره، فشروط الإنشاد الشعري، وتقاليد الحفاظ على الموروث القديم، تدفع بالرواة العميان إلى الإفراط في التخيّل، فكان ينهل من ذخيرة اختمرت من قبلُ، فراح ينتقي منها ما يناسب وظيفة القول الملحمي الهادف إلى تمثيل أحوال المجتمع اليوناني القديم، فلا يراد منه الدقة بل تأويل الأحداث تأويلا يستجب لوظيفة الشاعر الجوّال الذي ينظر إليه باعتباره حاملا لتاريخ الأمة، وعارفا بأحوالها، فكان ينسق الأقوال، ويرتب أجزاءها المتناثرة، ويدرجها في سياق حكاية كبرى تتغذّى من حكايات صغيرة تكون نسيجها السردي، فيعرض ذلك بنبرة شعرية تلامس التخيلات المسبقة عن الماضي أو تعبر عن أطراف منها.
لا يمكن النظر إلى عمى هوميروس على أنه نقص بل اكتمال، فالعار يكمن في نقص رؤية المتلقّين لماضيهم وليس في الإبصار النافذ عند الشاعر. والخطأ ليس هو خطا أعمى بين شعب مبصر، بل في أمة لا ترى ماضيها إلا عبر بصيرة كفيف. ومع ترجيح كونه ضريرا، فبعماه فاق المبصرين في رسم التفاصيل الدقيقة للشخصيات والأحداث والخلفية الزمانية والمكانية للوقائع في ملحمتيه، ذلك أن عماه حسيٌّ وليس بلاغيا، وفي مجتمع مدع للرؤية يبدو عمى هوميروس فضيلة. وليس الخطأ مصدره العمى أو الأبصار بذاتهما، بل سوء الاعتقاد، والجهل، وما يترتب عليهما من تفسير خاطيء. غير أن للعمى بدلالته الرمزية معنى مزدوجا ومتناقضا، كما قال "إلبرتو مانغويل" فهو من جهة "إلهام بصري يفترض أن يفتح البصيرة"، وهو من جهة أخرى، "نقيض البصر سنة البصيرة المُضَلّلة"، وهذه "الطبيعة المزدوجة للعمى ظاهرة في قصائد هوميروس".
الخطأ ليس هو خطا أعمى بين شعب مبصر، بل في أمة لا ترى ماضيها إلا عبر بصيرة كفيف
تزداد العين المنطفئة إبصارا بالعالم كلّما تقادم بها الزمن، وكلّما ابتعد الزمن بهوميروس عن اللحظة التأسيسة التي اقترحها في ملحمتيه أمسى اللاحقون أكثر حاجة لاعتبار قوله من الحقائق التاريخية؛ فالعامّة لا تُغرى بصدق الوقائع إنما بها مغمورة بسيول من التخيّلات الجامحة، والحبكات المثيرة، وعلى غير ذلك، لا ترى الخاصة في الحقائق الشعرية قيمة بذاتها، بل بكيفية تمثيلها لذلك الماضي. وفي الحالين، يترقّب هؤلاء وأولئك منشدًا ضريرًا ينثر حكاياته بينهم من دون التحقيق في مدى مطابقتها للأصول التاريخية، فينقلب الأمر لاحقا ليكون هو المبصر وهم العميان.
يدرك الشاعر الكفيف أنه يعرض تمثيلا مجازيا لعالم توارى عن الأنظار منذ قرون، ولم يتبق منه سوى أصداء يعرف أطرافا منها، فيقوم بترميم الوقائع بما يتناسب مع الصيغ الجاهزة لديه، والأساليب الموقّعة التي اختبرها، وبذلك يضع قرب الأبصار، وبجوار الأسماع، ما ظن أنه العالم الذي يترقّبه متلقّون ما انفكّوا يحنّون إليه، ويشتاقون لسماع أخباره.
لا يُشغل الشاعر الضرير بالمطابقة بين عالم حقيقي مفترض انقضى أمره وعالم متخيّل ترتسم ملامحه بالقول الشعري؛ فمكانة الشاعر الفَطن ترسّخها قدرته في التعبير عن الخيال الجمعي بمزيج من المرويات المعبّرة عن وجدان شعبه الذي يتوق لأمجاد الأسلاف. وإلى هذا ذهب "فيكو" بقوله، إنّ هوميروس لم يتبوّأ مقامه العظيم لأنه شاعر، ولا لأنه "مبتدع حكايات وشخصيات وتعابير، بل صوت شعب في مرحلة طفولته عاجز عن التمييز بين التخييل والتاريخ أو بين التعبير النثري والمجاز الشعري"، فبراعته لا تكمن في كونه شاعرا، ولا في كونه مبتكر حكايات وطبائع وصيغ لفظية، إنما لأنه "شاهد على عصر يتلازم فيه الواقع والتخييل".
يصبح الشاعر الكفيف موضوعا لتنازع المبصرين، فيريدون منه تعويض عماهم بالماضي، ويطربون إذ ينفخ جذوة الخيال فيه، فيتعالى شرر الأحداث التي طواها النسيان، فلا يتردّد في توزيع اهتمامه بين رواية الأحداث واختلاقها، وطبقا لهذا المعيار اعتبر هوميروس "صانع أساطير"، فمع موهبته الابتكارية للتفاصيل الصغيرة قدم تمثيلا حسيًّا لمرويّات قديمة، فتولّى تنسيقها، وترتيبها، وغذّى أحداثها العامة بالتفاصيل السردية، فتدبرها، تدبّر أعمى، وجعل منها صرحًا متماسكًا يضرب به المثل، وبما أنه كان منشدًا فلم يعتمد على مدوّنة ثابتة، بل استعار المرويات الشفوية، والتقطها من ألسنة الرواة، وقد أخذ في حسبانه رغبة جمهور يترقّب الأمجاد البائدة، ويطلبها، فكساها له بالإثارة حينما أطلق العنان لخياله الذي جاء تعويضا عن عيون كفيفة، غير أنه لم ينس القيود المفروضة عليه فيما كان ينشد، فلا يجوز له خرق الإجماع العام للذائقة الثقافية، فهو يستعيد وقائع الماضي بشروط الحاضر، فيغذّي ذاكرة جماعية رفيعة متلهّفة لسماع أفعال الأبطال العِظام حتى لو كانت من نتاج الخيال. ومعلوم بأنّ المرويّات الملحمية تتحدّر عن جذور شفويّة، فقد كانت تعتمد الأقوال الصادرة عن راوٍ، يرسلها نطقًا إلى متلقٍّ، ولهذا السبب كانت الشفاهيّة موجِّهًا رئيسًا في إضفاء السمات الشفويّة على الملاحم.
لن يكون الشاعر الأعمى مُجيدًا إن لم يتمرّس بإنشاد الأشعار الموقّعة بصيغ شفوية جاهزة، طورها السابقون عليه، وعرفها جمهور الشعر، وقَبِل بها، ومن دون ذلك يتعذّر عليه المضي في وصف المشاهد والأحداث التي يتوقّعها جمهور متلهّف لسماع الأقوال المعبّرة عنها، فالمُجيد من الشعراء يستعيد، بتلك الصيغ الشفوية، ما يرغب فيه حشدٌ أدبي ينتظره، ويرجوه، فيجزله العطاء بعد ذلك، ويمنحه المكانة السامية، وقد ترسّخت تلك الصيغ بشعراء سابقين توالوا في تردادها وصقلها إلى أن أصبحت جزءا من تقاليد التلقّي الشعري، وكلّما امتثل الشاعر لها كان بارعا؛ فالذوق العام بطيء في قبول ما يجهله، ولذلك يمتثل الشعراء لتقاليد الإنشاد في التعبير عما يريدون قوله، وبما يوافق توقّعات الجمهور، ومع أنه ليس لدينا دليل بالشعراء الجوّالين في اليونان القديمة قبل هوميروس، فالراجح أنه امتثل لمن سبقه، وبما أنّ أقواله سبحتْ في بحر الشفوية اليونانية، فلا مهرب من القول بأنّ مَنْ تلاه من شعراء قومه أثروا ما كان ينشده، وأغنوه، وانتهوا إلى الصوغ الختامي الذي وردت فيه الملحمتان اللتان نسبتا إليه.
عاش هوميروس في لُبّ الحقبة الشفوية الإغريقية، ويعدّ ممثلها الأول في تاريخ الأدب القديم، ففضلا عن البناء الشفوي للإلياذة والأوديسة في ترتيب الوحدات السردية المحكومة بمنطق التتابع، فإن الصيغة الخطابية القائمة على الإنشاد، والروح الشعري المشبع بالصيغ الجاهزة في وصف الأبطال، والحروب، والمصائر، ربط الملحمتين بأعراف الآداب الشفوية، والغالب أن نحوا من خمسة قرون مرّت قبل أن تظهر الملامح الأولى للمرحلة الكتابية في الثقافة الإغريقية، ومثلتها تراجيديات سوفوكليس، وأسيخلوس، ويوربيديس، ومحاورات أفلاطون، ولعلّ الممارسات الكتابية تكون قد سبكت العناصر المتناثرة للملحمتين في إطار ملحمي قابل للتدوين. وعلى الرغم من ذلك، فقد عُدّت تلك الأناشيد الملحمية النموذج الأرفع لأشعار البطولة عند قدامى الإغريق. تحتاج المرويات الشفوية إلى مهارات إصغائية لدى كل من الراوي والمتلقّي، فهما يتشاركان في طقس من طقوس الإرسال والتلقّي يقوم على الكلام، والحركة، والإيماء، والتنويعات الصيغية في المخاطبة، والإنشاد، والتماهي مع العالم الخيالي، فذلك العالم الافتراضي يصاغ عبر تراسل لفظي وحركي، وغالبا ما تكون النزعة الأخلاقية هي البؤرة التي يتمركز حولها الكلام.
عاش هوميروس في لُبّ الحقبة الشفوية الإغريقية، ويعدّ ممثلها الأول في تاريخ الأدب القديم
من الصحيح أن الذاكرة الشفوية قد تفلح في تداول الشعر مدة من الزمن، تطول أو تقصر، حسب مهارات الإنشاد، وقواعد التلقّي، مع ما يرافق ذلك من تغييرات تقتضيها الرواية الشفوية غير أنه لا سبيل للحفاظ على الأشعار المنطوقة إلا بالتدوين، وبانتقال الأشعار من طور شفوي إلى طور كتابي تخضع لمعايير التدوين ومقتضياته، فيجري عليها ما يجري على تدوين كلّ قول، ومن ذلك تعذّر الحفاظ على الصيغ الأصلية للأقوال الشفوية كما هي، بل خضوعها لقواعد الكتابة من نسج، وتركيب، وتفصيح، وتقليب، وقد ينطفيء وهج هذا البيت، ويتّقد ذاك. وهو أمر مفروغ منه في كل خطاب ينتقل من صيغة إلى أخرى، وبقدر تعلّق الأمر بأشعار هوميروس، فالمؤكد أنها تعرّضت للإبدال والإحلال، فلا ثبات لأشعار تمرّغت في الشفاه قرونا قبل أن تستقر في بطون الكتب. ليس ينبغي القول بأن التدوين يتعارض مع المشافهة، وأن الكتابي نقيض الشفوي، إنما الصواب الأخذ في الحسبان أن غرس قول شفوي في سياق قول كتابي يحتّم تغييرا ما في الصيغة، والنبرة، والأسلوب، وذلك هو تقييد المنطوق.
عاش هوميروس في الوقت الذي آلت فيه حرب طروادة إلى ذكرى قديمة تتداولها الألسن، وتعيد إحياءها مرة بعد أخرى في ذاكرة تتراجع إلى الخلف من أجل استيعاب تاريخ الماضي، فلم تكن بيد الشاعر شواهد حسيّة عنها بل تخيّليّة، وطبقا لما قاله "غليانو" في كتابه "مرايا" فـ"لم يكن هناك شيء أو أحد. لم تكن هنالك ولو أشباح. لا شيء سوى أحجار بكماء، ونعجة أو بضع نعاج تبحث عن عشب بين الأنقاض. ولكن الشاعر الأعمى استطاع أن يرى، هناك، المدينة العظيمة التي كانت. رآها محاطة بأسوار، تنتصب على الهضبة المطلّة على الخليج، وسمع صرخات ودوّي الحرب التي دمرتها وأطاحت بها. وغنّاها. فكان ذلك إعادة تأسيس طروادة. ولدت طروادة من جديد، انبعثت من كلمات هوميروس، بعد أربعة قرون ونصف من اندثارها. وحرب طروادة التي كان محكومًا عليها بالنسيان، تحوّلت إلى أشهر حرب بين جميع الحروب". استعاد هوميروس الذكرى المتلفّعة بالأمجاد التي لازمت الأقوام الإغريقية القديمة، فخلع عليها وجودا صَعُب على الأشعار الأخرى القيام به، فقد منح البصر لأمم طوتها يد الزمن، فكأنه سلب الإبصار عن عينيه وأودعها لقدامى الإغريق.