"الفرد والمجتمع: المشكلات الأساسية في علم الاجتماع" لجورج زيمل

فئة :  قراءات في كتب

"الفرد والمجتمع: المشكلات الأساسية في علم الاجتماع" لجورج زيمل

"الفرد والمجتمع: المشكلات الأساسية في علم الاجتماع"

لجورج زيمل

 ملخص:

تتناول هذه المراجعة كتاب "الفرد والمجتمع، المشكلات الأساسية للسوسيولوجيا"، وفي المقالات التي يتناولها، وجه جورج زيمل تفكيره إلى الجانب الذي لم تتناوله سوسيولوجيا القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، والمتمثل في الاهتمام بالأجزاء الصغرى، باعتبارها هي التي تحتوي على الكل وتدل عليه، فاقترح تأسيس سوسيولوجيا شكلية تجرد الحياة الاجتماعية من مضامينها وتفهم العلاقات الاجتماعية انطلاقا من أشكالها، ومن هنا تعتبر إسهامات جورج زيمل إعلانا عن محطة جديدة لتطور النظرية السوسيولوجية بعد أن تحررت من سلطة النظريتين الوضعانية والفردانية.

مقدمة:

جسد جورج زيمل Georg Simmel (1918/1885) محطة متميزة في تاريخ السوسيولوجيا؛ وذلك لاعتبارين: أولهما أن المناخ الذي استطاع أن يطور فيه نظريته حول أشكال التفاعل كان يهيمن عليها الاتجاهان الوضعي والفرداني، ويتجسم الاعتبار الثاني في كون إرث زيمل السوسيولوجي قد كتب له أن يستمر ويتطور، رغم التهميش الذي تعرضت له أعماله في حياته، والذي كان مرده إلى عدم وجود خيط هاد في كتابات هذا السوسيولوجي المتعدد المشارب؛ فالسوسيولوجيا المعاصرة قد التفت اهتمامها أساسا نحو المواضيع التي تشكل يومي الأفراد لدراستها، هذا اليومي الذي حاول زيمل أن يقترب منه من خلال دراسة أشكاله، أي تحققه بوصفه "مجتمعا".

ومن هنا، فنظرية "زيمل" من خلال تركيزيها على "أشكال التفاعل الاجتماعي" ستتجاوز كلا من التفسيرين العضوي والفرداني؛ لأن الاثنين ينظران إلى المجتمع برؤية أحادية، والحال أنه "في العالم كل شيء يتفاعل مع كل شيء".[1]

 

أولا: مشكلة السوسيولوجيا

يرى زيمل أنه من الضروري أن تتأسّس السوسسيولوجيا على مجموعة من الاعتبارات والمبادئ الأساسية كي تصير علما اجتماعيا مستقلا عن العلوم الأخرى. يتمثل أول هذه الاعتبارات في تجاوز المشكلة الأساسية للمنظورات البنائية في علم الاجتماع كونها تنتهي إلى دراسة شيء ليس له أي وجود موضوعي، ثم تدعي تحصيلها لمعرفة موضوعية إزاءه. ولذلك، فإن ما نسميه بجرأة كبيرة "المجتمع" ليس له وجود موضوعي يمكن تناوله، ما سينزع عن السوسيولوجيا كل ضمانة لتعرف نفسها على أنها "علم لظواهر المجتمع"، فما يقع في حدود إمكان الدراسة بالنسبة إليها هو "أشكال التفاعل الاجتماعي" أو "أشكال الاجتماع" socialisation وليس المجتمع؛ أي دراسة المجتمع وهو يتشكل في أبسط تجسداته؛ لأن "المجتمع لا يوجد إلا حيث وجد فعل متبادل بين الأفراد"[2]، وعوض البحث عن قوانين اجتماعية ثابتة لما هو غير ثابت على الباحث دراسة أنماط التفاعلات المختلفة بين الأفراد؛[3] لأن الواقع الاجتماعي لا يمكن تناوله سوسيولوجيا إلا عبر صياغاته أو أشكاله، فالوقائع الاجتماعية في الحقيقة لا توجد، ما يوجد هو كيفيات سوسيولوجية لفهم هذه الوقائع.

يرى زيمل، أن تعريف السوسيولوجيا عليه ألا يتم استنادا لموضوعها، فهي لا تتوفر على موضوع جديد لا تدين به لأي علم من العلوم، وإنما هي تمتلك الطريقة الجديدة التي ستقترحها لمعالجة هذه الموضوعات المعروفة مسبقا لدى حقول معرفية أخرى، وترتكز رأسا على فهم الظواهر التاريخية انطلاقا من التفاعل والتعاون بين الأفراد، بعد أن تبين فشل التفسيرين الفرداني والميتافيزيقي معا في تفسير الظاهرة والحدث التاريخيين.

شكلت هذه الفكرة أساس ما نقد به زيمل السوسيولوجيا البنائية، حين اعتبر أن الظاهرة التاريخية ليست سابقة على الأفراد، بما أن الاجتماعي هو ظاهرة معقدة تنشأ عن التفاعل القائم بين أفراد يحركهم سعي بمضامين الحياة الاجتماعية (القوة، المصلحة، الدافعية...)، ولتحقيقها يتجهون نحو تبادل التأثيرات فيما بينهم لتشكيل وحدةunité.[4]

قام زيمل بوضع تمييز اعتبره تمييزا منهجيا فقط بين مضامين الاجتماع وأشكال الاجتماع؛ فالضرورة المنهجية تحثنا على وضع حدود بين الاثنين؛ لأن الشكل الذي يخلقه الأفراد عبر عملية التفاعل، والذي ينصهرون داخله يتميز بقدرته على أن يشمل كل المضامين المتعددة التي حركت الأفراد نحو التفاعل؛ لأن المضمون يقَدم عبر الأشكال.

ضمن هذا السياق، صاغ تمثيلا رشيقا بين السوسيولوجيا والهندسة في ما يتعلق بمسألة المنهج، فإذا كانت الهندسة تستعين بالأشكال لتعرض مادتها (حين ترسم دائرة أو مربعا مثلا، فتلك الخطوط هي شكلية فقط، ولكنها تدل على ما يوجد في المكان أو الفضاء)، فإن نفس الأمر ينطبق على السوسيولوجيا؛ إذ لا يمكنها إقامة تصور عن المجتمع خارج الشكل الذي يعرض به هذا المجتمع نفسه؛ أي إنها تحتاج للأشكال التي تجرد المجتمع من مضامين، باعتبار أنه من دون البناء الاجتماعي للواقع تصبح الظواهر الاجتماعية غير قابلة للفهم، [5] فالشكل تصبح بموجبه المادة تجريبية وقابلة للدراسة والمعاينة، واستنادا لهذا المعنى لن تكون السوسيولوجيا سوى دراسة لأشكال تحقق هذه المضامين المتعددة.

لقد انتبه زيمل إلى أن وظيفة السوسيولوجي هي تنظيم الواقع الاجتماعي داخل أطر ونماذج ومنظومات تحليلية؛ أي تحويل هذه الأشكال إلى أطر تحليلية تفسيرية، حيث يمكن دراسة شكل التفاعل دون الاهتمام بمحتوى ومضمون هذا التفاعل. وبهذا المعنى، تتجاوز السوسيولوجيا الشكلية متغيرات الزمان والمكان المرتبطة بالظاهرة إلى دراسة الأشكال الثابتة؛ بمعنى أنها تقوم بتجريدها من مضامينها. ولكن هذا لا يعني طبعا أن زيمل يحاول أن يسبح في سماء المجردات والمثل ليبني حقيقة مفارقة للواقع المتعين، فالشكل لا وجود له خارج المحتوى الاجتماعي، ولكنه أداة تحليلية بالنسبة إلى سوسيولوجي ليكشف عن أنماط التفاعلات الموجودة في الواقع ويتم استخدامها لغاية فهم هذه العلاقات، ولهذا لا ينفك يؤكد أن هذا التمييز يظل تمييزا منهجيا فقط.

إن المجتمع إذ ذاك ليس مستقلا عن هذه التفاعلات فليس ما يحدده هو البنيات المادية، بل هي التفاعلات شبه الخفية كما يسميها زيمل، التي تتجه نحو تماسك الوحدة الاجتماعية، وهكذا سيقترح زيمل كبديل للمنظور الماكروسوسيولوجي الذي يهتم بالبنيات الاجتماعية الكبرى منظورا تفاعليا رمزيا، والذي يعتبر أن الأجزاء الصغرى هي التي تحمل المجتمع، باعتبار أن هذا المنهج سيمثل بالنسبة إلى علم الاجتماع ما مثله المجهر الميكروسكوبي بالنسبة إلى البيولوجيا زمن اكتشافه، فبعد ظهور المجهر في البيولوجيا تبين كيف أن الحياة تبدو مرتبطة بأصغر حواملها، وهي الخلايا لا بالأعضاء الكبيرة، [6] نفس الأمر بالنسبة إلى السوسيولوجيا، فلم يعد ما يبني المجتمع هو البنيات والمؤسسات الكبرى، وإنما الافراد وتبادلهم للتأثيرات وصراعاتهم وكيف يجتمعون ويفترقون، كل هذه العمليات الفردية هي التي تسمح بإنتاج المجتمع دون أن يقصد الأفراد من ورائها ذلك؛ أي إن الأفراد قد يعون ما يفعلون دون أن يكونوا على وعي بما يمكن أن ينتج عن تلك الأفعال، وبالتالي فعملية الإنتاج هذه معقدة جدا يتدخل فيها الفردي والجماعي، حيث يقلبان أدوارهما إلى ما لا نهاية، وبهذا المعنى بالضبط يمكن أن نفهم "التفاعل" الذي يتحدث عنه زيمل بوصفه تفاعلا بين أفراد تحركهم مصالح ودوافع وعن هذا التفاعل يحصل "الإنتاج الاجتماعي للمجتمع".

في نفس الآن، لا يجب أن نفهم التفاعل الذي يشير إليه زيمل على أنه عملية آلية، وكأن الأفراد يتفاعلون بصفة إلزامية تسقط عنهم صفة الاختيار الفردي، فما يميز الفرد أو الشخصية الفردية هو كونه منتوجا ومضمونا للمجتمع، لكنه أيضا وعلى النقيض من ذلك، كائن ينظر من مركزه ويتصرف وفقا لحسابه ومصالحه.

إن هذا الوضع المزدوج للفرد يجعله أكبر من أن يكون مجرد ممثل لدور يطلبه المجتمع، فهذا الأخير ليس بمكنته ابتلاع الشخصية الفردية؛ لأن عملية بناء "المجتمع" حسب زيمل تتم بصيغة تبادل الأدوار. إنها أشبه ما تكون بالعلاقة الديالكتيكية التي يتحدث عنها "هيغل"، حيث لا معنى للقول بأسبقية عنصر على آخر، بل بأهمية وضرورة كل عنصر داخل التركيبة كي تعمل وتشتغل. هذا الازدواج نفسه الذي يجعل الفرد داخل المجتمع وخارجه في آن معا هو وحده ما يسمح بإمكانية وجود "مجتمع"، باعتباره شكلا قبليا لأشكال الاجتماع، فتمثل الفرد لنفسه على أنه ذات وعضو في نفس الوقت هو شرط إمكان المجتمع، كما أنه المسؤول الذي يقع وراء قبوله للانخراط في تفاعلات مع الآخرين.

يشير زيمل إلى أن علم الاجتماع ينفتح على حقلين فلسفيين، ويستفيد منهما: هما حقلا الإبستمولوجيا والميتافيزيقا. فإذا كانت الإبستمولوجيا تحدد له شروط البحث والمفاهيم الأساسية، فإن الميتافيزيقا تسمح له من جهة أولى بتنظيم الملاحظات التجزيئية للعلم من خلال التأمل، وتوفر له من جهة ثانية سؤال الغاية (هل المجتمع غاية بوصفه كوسموس أم إنه وسيلة في يد الأفراد؟)، وبعد ذلك يتساءل زيمل حول الشروط والمبادئ التي تجعل الأفراد قادرين ومتجهين نحو التفاعل، في إشارة منه إلا أن هناك أساسا وشرطا عقليا ينظم إدراك الفرد للمجتمع، وهو السؤال الذي سيضعه مباشرة في حضرة كانط..

ثانيا: كيف يكون المجتمع ممكنا؟

طرح جورج زيمل في أحد فصول كتابه "السوسيولوجيا، دراسات في أشكال الاجتماع" السؤال الإبستمولوجي الآتي: كيف يكون المجتمع ممكنا، ولا شك في أن هذا النوع من التساؤل يعيدنا أساسا إلى السؤال الكانطي حين تساءل: كيف تكون المعرفة ممكنة؟، فقد تساءل زيمل حول شروط إمكان المجتمع، وبلغة كانط حول الشروط القبلية لهذا المجتمع. أما الإجابة التي أعطاها كانط لمشكلة معرفة الطبيعة، فتكمن في اعتبار أن معرفتنا للطبيعة تمر عبر مبادئ متعالية للعقل، [7] الذي يحاول معرفة الطبيعة من خارجها، هذه المبادئ أو الشروط هي التي تنظم كل إدراكاتنا الحسية وتوحدها وندرك بها الطبيعة ليس كما هي في ذاتها chose en soi، بل كما تقدمها لنا هذه الشروط العقلية القبلية، إذا كان هذا هو الجواب عن حل مشكلة معرفة الطبيعة؛ فما هو الحل الذي اقترحه زيمل لمشكلة معرفة المجتمع؟

يتصور زيمل أن المجتمع لا يوجد إلا كتمثل في وعي الأفراد، وبالتالي فإن المجتمع موجود داخل الأفراد لا خارجهم. إن هذا التمثل أساسي لمعرفة المجتمع، ويرتبط خصيصا بمجموعة من الشروط القبلية التي حددها كأسس قبلية لكل اجتماع، وأول هذه الشروط هي "الدور"؛ ويقصد به زيمل أن الوجود الاجتماعي هو كيان تتحكم فيه الأدوار، ما يعني أن كل فرد يشغل دورا محددا ما، ولكن وعي الأفراد بهذه الخاصية المشتركة فيما بينهم تمثل وسيطا للتفاعل والتعاون بينهم، وتمنح هذا التفاعل المشروعية المناسبة التي تسنده وتبرره، ثاني هذه الشروط هي "الشخصية الفردية"، التي تحيل على الوجود الفردي المركب، فهو من جهة منتوج للمجتمع، ولكنه من جهة ثانية يتصرف وفق مصالحه الذاتية، إلا أن هذا التركيب هو ما يسمح له بالانخراط في أشكال التفاعل المختلفة التي لا يغيب شخصيته الفردية فيها. أما الشرط الثالث، فحدده زيمل في "البنية"، ومضمونه أن إمكان الاجتماع لا يتحقق إلا عبر تحقيق توافق بين حاجات المجتمع، التي تتمثل في ملء مجموعة من المواقع لكي يشتغل، وبين حاجات الفرد ورغباته التي يريد تحقيقها في معزل عما يريده ويطلبه المجتمع، مما يوضح أن زيمل لا يرى أي تعارض بين حاجات الاثنين؛ فالمجتمع والفرد كليهما وحدة لا تقبل الانفصال، وبالتالي فهما متكاملان.

إن العنصر الإبستمولوجي الذي يتضمنه الاجتماع هنا هو وعي الفرد بأنه خاضع للاجتماع، أنه منشئ اجتماعيا، هذا الوعي هو الذي يتحول إلى عمليات للاجتماع وهو الذي يشكلها، كما تشكل الإدراكات الحسية معرفتنا حول الطبيعة، وهكذا يكون زيمل قد أسس لنظريته الإبستمولوجية للمجتمع، والقائمة على اعتبار أن الشروط والمقولات النوعية اللازمة لانبثاق الوعي بعملية الاجتماع، وبعد ذلك للانخراط في هذا الاجتماع، هي في صلب الأفراد أنفسهم، ولا تأتيهم من الخارج.

ينتقل زيمل فيما بعد لتحديد الأشكال القبلية الثلاثة للاجتماع؛ أول هذه الأشكال القبلية هي شرط التشابه؛ أي إن عملية الاجتماع تستلزم حدا أدنى من التشابه بين الافراد، وهذا الاحساس يأتي أساسا من كون الفرد ينظر إلى المجتمع كدائرة، كل فرد له دور داخل إطارها، وفي ذات الآن ينظر إلى الأفراد الآخرين بوصفهم أعضاء في تلك الدائرة مثله، وهكذا يحصل انصهار الوجود الفردي مع الشرط القبلي في وحدة. إن اعتبار الفرد للآخر زميلا داخل المجتمع؛ لأنه يمارس دورا معينا مثله يمثل شرطا حتميا في تمثلنا لهذا الفرد وفي نجاح عملية الاجتماع.

يشعر الفرد بأنه عضو داخل تنظيم اجتماعي، إلا أنه يشعر أيضا أنه كائن لذاته، وهذه هي المقولة القبلية أو الشرط القبلي الثاني هي المقولة التركيبية. أما الشرط القبلي الثالث، فيتعلق بوجود ترابط دائم بين الوجود الفردي ودائرة المجتمع، حيث يسعى الفرد إلى إدماج خصوصيته داخلها، والمجتمع إذ ذاك يتشكل من عناصر غير متساوية، فمن غير الممكن أن تتحقق داخل مجتمع ما مساواة كاملة؛ لأن الحياة الاجتماعية تنبني من زاوية مضامينها الاجتماعية على أساس تحديد مكانة كل عنصر ضمن المجموع سلفا، باعتبار أن الحياة الاجتماعية تتوقف على الانسجام بين الفرد والمجتمع الكلي؛ أي إن الوظيفة أو الدور الذي سيؤديه الفرد داخل المجتمع سيكون عبارة عما يسميه زيمل "بالنداء الداخلي" فلكل فرد موقع أو دور ينتظره وهو مدعو للقيام به، وهذا الشرط القبلي تجسد أساسا في مفهوم "المهنة" في العصر الحديث، حيث تجد فردية كل شخص مكانة داخل البناء الكلي ما يحقق انسجاما بين الاثنين.

ثالثا: ميدان السوسيولوجيا

يتصور الباحث أن الميدان أو المجال الذي على السوسيولوجيا الاهتمام به، وإثبات شرعيتها من خلاله، هو الوحدات التي يبنيها الأفراد أثناء تفاعلهم وليس الأفراد عينهم.

إن من شأن هذا التحديد لموضوع السوسيولوجيا أن يتجاوز الصراع الذي وقعت فيه كل من الفردانية المنهجية التي تؤمن بالفرد، والشمولية التي تعطي الأولوية للمجتمع؛ أي للمضامين الاجتماعية باعتبارها شروطا متعالية على وجود الأفراد، من خلال اعتبار أن المجتمع ليس مادة معطاة نلفيها جاهزة، وإنما هي حدثEvent أو عملية يقوم الباحث ببنائها عبر الاشتغال على أجزاء الواقع المعطى(التفاعلات القائمة بين الوحدات التي تتجسد في الأفراد)، وإن أشكال الاجتماع الدائمة هي الدليل على أن المجتمع ليس إلا بناء وعملية وسيرورة.

إن المجتمع أو الواقع -حسب جورج زيمل- لا نجده كاملا ومعطى وينتظرنا نحن لكي نقوم بدراسته؛ لأن المجتمع لا يفتأ يتشكل "فعملية الاجتماع تتم ثم تتلاشى باستمرار، ثم تستأنف من جديد"[8]، وهذا ما جعله ينتقد النزعة الفردانية التي تبحث عن تفسير للواقع عند الأفراد، حيث لا يمكن الإمساك بهذا الواقع، كما لو أن الظواهر موجودة في نقط بؤرية منعزلة علينا دراستها. إن مثل هذا التفسير يظل ذاتيا جدًّا وسينتهي بالسوسيولوجيا إلى دراسة الأفراد في انعزالهم عن بعضهم البعض كما تفعل السيكولوجيا، وعلى العكس من ذلك، يجب الاهتمام بالتفاعلات الاجتماعية التي تتجسد موضوعيا في شكل بناءات كبرى كالدولة مثلا دون أن تكون هذه البناءات موضوعا لها.

يعني هذا أن المجتمع يبنى داخل عملية التفاعل القائمة بين الأفراد لكي يؤثر هذا المجتمع نفسه في مجرى هذه التفاعلات فيما بعد، وبالتالي فلا يمكن الإمساك بالواقع إلا في صورته الحركية التي لا تخضع للثبات، وما على السوسيولوجيا إلا أن تطوع نظرتها كي تلائم هذا الواقع المتغير الذي لا يمثل الأفراد فقط منعزلين عن بعضهم البعض، مثلما لا يمثل المجتمع في تعاليه أيضا.

هذا ما جعل زيمل يعترض على من يحاول اعتبار أن موضوع السوسيولوجيا هو المجتمع؛ لأن هذا الأخير يعتبر موضوعا بالنسبة إلى كثير من العلوم كالاقتصاد والديمغرافيا مثلا، بدل ذلك يؤكد على الطابع المجرد للسوسيولوجيا من خلال اهتمامها بأشكال الاجتماع، والذي يمكن أن يكون أساس تمايزها عن العلوم الأخرى، كما يمكن أن يكون طريقا لإثبات مشروعيتها كعلم مستقل عن العلوم الأخرى.

هكذا يمكن القول، إن زيمل يتحدث عن "الإنتاج الاجتماعي للمجتمع" عوض الحديث عن قوة الفرد المنعزل أو قوة المجتمع المتعالي، وهذا الإنتاج يتم عبر طريقين: أولهما هو أن فهم التفاعل الحاصل بين الأفراد يتم بالعودة إلى هذا التفاعل نفسه، وليس إلى الأفراد كوحدات منفصلة، وثانيهما هو أن الإرث الذي يورثه الجيل السابق للجيل اللاحق يساهم أيضا في هذا الإنتاج الاجتماعي للمجتمع.

إن جدة السوسيولوجيا -والحال هذه- لا تتمثل في موضوعها حسب زيمل، وإنما تكمن في منهجها الذي يعتبر ثورة بالنسبة إلى كل العلوم بفضل الطابع الكوني الذي يتميز به، فهو قادر على حل مجموعة من المشاكل التي تواجهها علوم أخرى بفضل هذا الطابع الكوني الذي يجعله مشابها لمنهج الاستقراء في بدايات ظهوره.

ينتهي زيمل إلى اقتراح ثلاثة ميادين للسوسيولوجيا وهي السوسيولوجيا العامة، ثم الشكلية/الخالصة، ثم الفلسفية. بالنسبة إلى السوسيولوجيا العامة، فهي تعتبر أن كل ظاهرة هي خاضعة لقوانين المادة التي لا تتحقق إلا بواسطتها، وبالتالي فهي قابلة لأن تكون موضوعا للملاحظة المستقلة، كما أنها تعتبر أن المجتمع هو ذات مبنية ومعطاة سلفا.

أما السوسيولوجيا الشكلية، فتركز على تجريد الحياة الاجتماعية أو الظاهرة من مضامينها المتعددة من خلال التركيز على الأشكال التي تتخذها التفاعلات القائمة بين الأفراد، ووظيفة هذه الأشكال الاجتماعية هي تجريد عنصر الاجتماع، فإن المضامين التي تخلق لنا الاجتماع هي مضامين متنوعة وجزئية لا تمكننا من فهم أشمل للحياة الاجتماعية؛ لأن الأشكال التي تخلق بها المضامين يمكن أن تكون متطابقة، ومن هنا الطابع التجريدي الذي يسم المنهج السوسيولوجي، كما يمكن أن نجد أيضا مصالح متطابقة من حيث المضمون تولد لنا أشكالا مختلفة، ويظل هذا الفصل بين الشكل والمضمون منهجيا فقط، وإلا فإن أحدهما مرتبط بالثاني، ولا يوجد الواحد إلا والآخر يلازمه.

أما السوسيولوجيا الفلسفية، فترى أن العلم الاجتماعي محدد بإطارين: الإطار الإبستمولوجي والإطار الفلسفي؛ بالنسبة إلى الإبستمولوجيا فهي التي تحدد للسوسيولوجيا شروط البحث القبلية، فيما تربطها الميتافيزيقا بالأسئلة التي تتجاوز المعرفة التجريبية كسؤال الغاية مثلا (ما الغاية من وجود المجتمع؟ هل هو بمثابة هدف للوجود البشري؟). إن الأحداث التاريخية يمكن أن تتضمن أبعادا تتجاوزها وتربطها بالأسس الميتافيزيقية للكائن، وفي نفس الوقت فإن السوسيولوجيا الفلسفية تحاول أن تبني رؤية شمولية حول العناصر الجزئية.

رابعا: المستوى الفردي والمستوى الاجتماعي (السوسيولوجيا العامة)

سبق لزيمل أن اعتبر أن المجتمع ليس مادة ولا جوهرا؛ أي إنه ليس نتاجا لأفعال فردية منعزلة ولا هو نتاج لقوى وبناءات تاريخية متعالية تتجاوز الفعل الفردي، على العكس من ذلك فهو سلسلة من التفاعلات التي تنتج لنا أشكالا ثابتة في الزمان والمكان، ووحدها يمكن أن تكون موضوعا للسوسيولوجيا. في هذا السياق، يضع زيمل ثلاث فرضيات أساسية في علاقة الفرد بالمجتمع: أولا أن الفرد يوجد بداخل المجتمع بقدر ما يوجد خارجه، ثانيا أن الفرد يجد نفسه ذاتا وموضوعا في نفس الوقت داخل عملية التفاعل، ثالثا أن الجماعة تعمل على تذويب الخصائص الأكثر فردية عند الأفراد وتحاول منعهم من الخروج عن مستوى الجماعة.

وفي هذا السياق، طرح مجموعة من الخصائص التي تميز المستوى الاجتماعي عن المستوى الفردي وحددها في ثماني خصائص: أولها اتسام الفرد بالتذبذب نظرا لأنه يحاول التصرف دوما وفق استراتيجياته الشخصية مقابل اتسام الجماعة بالثبات الذي يضمن لأفراده الاشتراك في الحد الأدنى من الخصائص، تفيد الخاصية الثانية أن الخصائص التي تمثل الحد الأدنى الذي يشترك فيه كل الأفراد تكون أقدم عند الأفراد وترتبط بجانبهم الطبيعي عكس الخصائص العليا التي لا يمتلكها إلا عدد قليل من الأفراد، لذلك لا تمثل شرطا أساسيا بالنسبة إلى الجماعة. ويتوجه في الخاصية الثالثة إلى الحديث عما يميز القديم عن الجديد، وكيف أن ما هو قديم لطالما تمتع بتقدير عند كل المجتمعات، فالوثيقة القديمة مثلا تمثل بالنسبة إلينا مادة ثمينة ونادرة. إلى جانب ذلك، فإن الأفكار القديمة هي المتجذرة في أعماق عقولنا، والتي نلفيها عند كل الناس ونجد أنها تتحكم في حياتهم، ولكن في المرحلة الحديثة نجد تقديرا مماثلا لما هو جديد، كما هو الحال مع المهن الجديدة التي تتميز بالتخصص والدقة خلافا للمهن القديمة التي تتميز بالبساطة.

أما الخاصية الرابعة، فتبين كيف أن عنصري التشابه والاختلاف بين الأفراد هو ما يجسد أساسا للتفاعل بينهم، فإن التشابه يمثل أساس ما يجعلهم ينتمون إلى جماعة واحدة. أما الاختلاف، فهو الذي يحافظ على شخصيتهم الفردية وعلى دورهم داخل الجماعة، وهكذا يصبح الاختلاف الفردي صونا للانسجام والتشابه على المستوى الاجتماعي، ومنه فالمعنى السوسيولوجي للفرد يتذبذب بين هذين العنصرين، باعتبار أن المجتمع ينمو بهذا التشابه والاختلاف نفسهما.

تتعلق الخاصية الخامسة بتفوق الفرد على الجماعة، حيث إن أكثر القيم التي يعظمها ويحبها الناس هي قيم لا يستطيع الجميع الوصول إليها، فهي تتسم بكونها غير مألوفة لذلك فمن يمتلكها لا بد أن يتم تقديره، ولكن لتحقيق التجانس بين أفراد الجماعة يجب الاهتمام بالعناصر التي توجد عند أدنى الأفراد، وهي مرتبطة بالغرائز الأكثر بدائية، لذلك يكتشف زيمل أن الجماهير تحرم الفرد من شخصيته الفردية ومن قدرته على التفرد، بل وتنزل به إلى مستوى الجميع، بمعنى مستوى أي شخص آخر.

تتمثل الخاصية السادسة في أن أفعال الجمهور غالبا ما تتسم بالتهور والبساطة في آن، فأفعال الجماعة لا تصدر عن تفكير ووعي بالمسؤولية، لذلك فهي لا تتميز بالتردد، وبإمكان فكرة بسيطة أن تسيطر على فعلها وأن تهيجها. والخاصية السابعة تتعلق بانفعالات الجماهير فالتأثير في الجمهور يستدعي التأثير في شعوره. إن الفرد يشعر بنفسه منجذبا نحو هذه القوة الجماهيرية التي تمارس عليه ضغطا خارجيا، إلا أن داخل الجمهور توجد تفاعلات الأفراد التي تطبع الجماعة بروح الفرد.

يحدد زيمل الخاصية الثامنة والأخيرة في كون المجتمع هو أدنى مستوى لأعضائه؛ هذا يعني أن مستوى مجتمع ما هو قريب من مستوى أضعف وأدنى مستوى لأفراده، وفي نفس الوقت يؤكد أنه إذا كان من الممكن بالنسبة إلى الفرد الذي يتوفر على خصائص ذات مستوى عالي أن ينزل عند مستوى المجتمع، فإن العكس يتعذر ويصبح صعبا بالنسبة إلى المجتمع حين يريد أن يصعد لمستوى الفرد العالي.

الفصل الخامس: (مثال السوسيولوجيا الخالصة)

يتجسد هدف السوسيولوجيا الخالصة أو الشكلية -حسب جورج زيمل -في دراسة الأشكال الاجتماعية التي انفصلت عن مضامينها ولم تعد لها أي علاقة بالمضامين التي أنتجتها أول الأمر، ويحدد "المؤانسة" باعتبارها الشكل الأكثر نقاء؛ لأنها تعبر عن الشكل الاجتماعي الذي تخلص من كل غاية أو هدف، يسميه بالشكل اللعبي للاجتماع، ويتحقق هذا الشكل موضوعيا حين لا يتجه الأفراد من وراء التفاعل الاجتماعي إلى تحقيق مصلحة/مضمون معين، وإنما حين يكون التفاعل مرادا لذاته، حيث تنتفي كل أشكال التباينات بين الأفراد ويتحقق البعد الديمقراطي في عملية التفاعل. بعبارة أخرى، فإن المحادثة التي تجري بين شخصين مثلا دون أن يذكر أحدهم خصائصه المتميزة ومستواه الاجتماعي، فهي حسب زيمل، شكل من التفاعل الذي يتجه نحو "المؤانسة" التي تعتبر جوهر الوجود الاجتماعي.

تشكل المؤانسة sociability التعبير الأبرز عن الشكل الاجتماعي حين يتحرر من هاته المضامين والمصالح، باعتبار أن فعل المؤانسة كشكل للاجتماع لا يقيم مع الواقع سوى علاقة شكلية خالصة ويتجنب الاحتكاك معه، ولأن المؤانسة تمثل الشكل الخالص الذي يرتفع عن كل المضامين فوحدها من يمثل "مجتمعا". إنها الصورة المجردة التي تنصهر فيها كل المضامين، وإذا كانت العقلانية المصطنعة تبحث عن عمق المجتمع في المضامين، فإن المعنى الكامل للحياة الاجتماعية يوجد في المؤانسة.

حدد جورج زيمل مجموعة من الخصائص التي ترتبط بفعل المؤانسة، فهي أولا تهدف إلى إنجاح اللحظة الاجتماعية أو التفاعل من خلال حس اللباقة الذي على المتفاعلين أن يمارسوه وأن يحترفوه، ثم عبر تقليص استقلالية الأفراد في المؤانسة لحصول الاجتماع؛ أي الابتعاد عن ذكر كل ما هو حميمي جدا وكل ما هو موضوعي جدا في نفس الوقت. إلى جانب ذلك، فإن فعل المؤانسة يمر من عتبات كثيرة إلى أن يصل إلى الشكل الخالص المتجرد من كل المضامين النوعية المختلفة، بالإضافة إلى ذلك يؤكد على الطبيعة الديمقراطية لفعل المؤانسة، نظرا لأن العالم الذي تخلقه المؤانسة تكون فيه متعة الفرد مرتبطة بمتعة الآخرين، وفي الخاصية الرابعة يشير زيمل إلى كون المؤانسة تتطلب عالما مصطنعا فهي في تصوره اللعبة التي يتصرف فيه الجميع "كما لو" كانوا متساوين؛ فالإنسان الحديث يجد نفسه مكبلا بالمضامين المادية التي تختزل الوجود الاجتماعي في تحقيقها، ولكن المؤانسة تشكل بالنسبة إليه مخرجا وتنفيسا عن ضيق المضامين، إنها لعب المجتمع.

إن الأفراد في المؤانسة يلعبون لعبة المجتمع ولا يلعبون داخله، ويذكر زيمل الغنج والمحادثة باعتبارهما شكلين من أشكال المؤانسة اللذين تخلصا من أي مصالح مادية، فالشبق مثلا قد صنع شكل لعبه انطلاقا من الغنج أو الغزل الذي لا يقصد تحقيق غاية أو مصلحة مادية. أما المحادثة التي تعتبر أهم ناقل للمشترك بين الناس، فقد تحولت في المؤانسة إلى غاية في ذاتها لا وسيلة لتبليغ أي مضمون.

إن التفاعل في المحادثة يتحول إلى نوع من الهبة التي يصبح فيها المانح غير مرئي؛ لأنها موجهة نحو المحادثة في ذاتها، وكل هذه المزايا التي تتمتع بها المحادثة تستطيع أن تجعلها حلا للمشاكل الاجتماعية باعتبار أنها تتوقف على اللعب الرمزي، وبالتالي فهي تتجنب الإشارة إلى الواقع أو الاحتكاك به، فكل ما يوجد هو ظلال لا يصدم بعضها بعضا. بالإضافة الى ذلك، فإن الأشكال تتميز بقدرتها على الاستمرار في غياب المضامين التي حددتها في البداية (يمكن أن تنتج علاقة صداقة عن مصالح معينة، ولكن بعد ذلك تستمر هذه الصداقة بعد أن تفقد كل المضامين أهميتها وتصبح الصداقة ذات بعد اجتماعي خالص)، إلا أن هذا لا يعني أن الأشكال التي يتحدث عنها زيمل تعبر عن اجتماع متعال وجاف وخال من كل ما يربطه بالحياة، فلا يمكن للمؤانسة أن تقطع كل الخيوط التي تربطها بالحياة، وإلا أصبحت شكلا عرضيا وجافا.

الفصل السادس: الفرد والمجتمع في بعض تصورات الوجود في القرنين الثامن عشر والسابع عشر (مثال السوسيولوجيا الشكلية او الخالصة):

حدد السوسيولوجي الألماني المشكلة الأساسية التي يطرحها أي مجتمع في الصراع القائم بين الفرد والمجتمع، هذا الصراع الذي لن ينتهي؛ لأن كلًّا من الفرد والمجتمع يحاول أن يدمج الآخر، وفي هذا الإطار ميز بين تصورين للمجتمع عالجا هذه المشكلة؛ أحدهما ساد في القرن الثامن عشر ويؤسس لحرية الفرد من خلال تصور مثل أعلى للفرد المنعزل تماما عن الجماعة، والذي وقعت ترجمته في شعار الثورة الفرنسية (الحرية- المساواة-الأخوة)، وتصور القرن التاسع عشر الذي يركز على الفرد، لكن من جانب كونه فردا متفردا لا منعزلا. والتصور الثاني جسدته الفلسفة الفردانية في القرن التاسع عشر التي توزعت إلى شقين؛ الأول يؤمن بالمساواة بدون حرية، وتجسد في الفكر الاشتراكي الذي انتهى بالفشل، والثاني يؤمن بالحرية بدون مساواة، وقد تجلى في المجتمعات الرأسمالية والفردانية التي اخترعت تقسيم العمل، إذا كان تصور القرن الثامن عشر يؤمن بالشروط البنيوية للفرد(كمي) للفرد، فإن تصور القرن التاسع عشر قد اكتشف جوهر الشخصية الفردية(نوعي).

يمكن أن نجد حسب زيمل سببين للصراع القائم بين الفرد والمجتمع؛ فمن جهة ينصهر الاجتماعي في الفرد، ومن جهة أخرى يستشعر الأفراد وجود المجتمع داخلهم، وهذا ما يجعل هذا الصراع حسب زيمل صراعا يحدث داخل الفرد؛ فالمجتمع يحاول أن يحول الفرد إلى عضو فقط، ولكن الفرد يصارع لكي يطور قدراته في استقلال عن متطلبات المجتمع، ويظل هذا الصراع ملازما له كقدر.

لكي يضيء بعضا من جوانب هذه المشكلة التي تتعلق بالفرد والمجتمع، استند الباحث إلى تصور القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لهذين المفهومين. في القرن الثامن عشر وقع النظر إلى التحرر بوصفه مكسبا طبيعيا للإنسان، وربط خطاب الحرية بالمساواة، باعتبار أن الحرية المطلقة سوف تؤدي إلى استغلال فئة لأخرى. لذلك من الضروري الخضوع لمعيار عام يوحد الأفراد الذي تجسد في القوانين، بالإضافة إلى الحرية، ركز القرن الثامن عشر على الطبيعة البشرية، وحاول أن يؤسس من خلالها لكونية تتجسد في كل فرد، وقد قام ايمانويل كانط بتطوير مفهوم الشخصية الفردية من خلال نحته لمفهوم وحدة الوعي أو "الأنا" الذي نلفيه عند كل الأفراد والذي ينتج العالم الموضوعي، وبالتالي فالعالم هو واحد بالنسبة للجميع.

من بين المواضيع الأخرى التي أشار إليها زيمل، والتي ظهرت في القرن الثامن عشر هي الدور المزدوج للطبيعة؛ ومضمونه أن الإنسان يحتوي على الآخرين في داخله بفضل الطابع المشترك الذي يمكن الفرد من تجاوز العوارض الاجتماعية والخارجية، ثم يصل مفهوم الشخصية الفردية أوجه مع فكرة الواجب المطلق عند كانط التي تراهن على كونية نابعة من تصرف الأفراد وفق المبادئ الأخلاقية التي يشتركون فيها جميعا، ومنه فإن الشخص الحر هو بالضرورة أخلاقي والعكس بالعكس، فلا تعارض بين الأخلاق والحرية، وكل من يتحدث عن الحرية بمعزل عن الأخلاق بعد كانط، فكأنه يفكر قبل كانط.

أما تصور القرن التاسع عشر لمفهومي الفرد والمجتمع، فقد قام زيمل بطرحهما من خلال مذهبين سادا خلال هذا القرن، هما الاشتراكية (المساواة بدون حرية) والفردانية الجديدة (الحرية بدون مساواة)، بالنسبة إلى التصور الاشتراكي فقد كان مآله هو الفشل نظرا لأنه لا يمكن تصور مجتمع بدون حرية كما كان هذا التصور يعتقد، بالإضافة إلى استحالة تحقق مجتمع بدون طبقات، وولدت الاشتراكية تعارضا شقيا بين الشخصية الفردية وبين الوضعية الاجتماعية.

في حين أن التصور الفرداني دافع عن النزوع الفردي نحو التمايز، والإيمان بالخصوصية المطلقة التي يمتلكها الأفراد، والذي عبر عنها شلايرماخر حينما قال إن "ما يشكل الوحدة مطلبا أخلاقيا ليس هو المساواة بين البشر، بل الاختلافات فيما بينهم" وهذا بالضبط ما يجعل فردانية القرن التاسع عشر تتأسس على الاختلاف؛ لأن الشخصيات المتمايزة هو شرط لتقسيم العمل، ويجعلها تختلف مع المساواة التي تأسست عليها فردانية القرن الثامن عشر.

يتفاءل زيمل إزاء هذين النموذجين باعتبار أن كلّا من الشخصية الحرة المنعزلة والشخصية المتفردة ليستا آخر ما ستقدمه الفردانية؛ فالشخصية الفردية ستظل أساسا لإبداع أشكال جديدة للتفرد، وإذا شئنا استعارة لغة هابرماس، فالفردانية مثل الحداثة هي ربما مشروع لم يستنفد بعد.

مناقشة وخاتمة:

تفطن زيمل مبكرا إلى أن العالم الحديث هو عالم مليء بالصور والرموز التي تنتج وتتلاشى باستمرار، هذه الأشكال أو الرموز أصبحت معه أساسية للتفكير في المجتمع، وفهم علاقات التفاعل بين أفراده. لذلك جعلها موضوعا للسوسيولوجيا، وبنى نظريته الاجتماعية انطلاقا من تمييز واضح أقامه بين الوقائع المادية التي تتضمنها كل ظاهرة اجتماعية، وبين الصور المورفولوجية التي تقدم نفسها من خلالها، وبذلك فقد عمل على توجيه التفكير إلى الجانب المعتم الذي لم تتناوله سوسيولوجيا القرن التاسع عشر، المتمثل في الاهتمام بالأجزاء الصغرى وإمكانية إظهار الكل في الجزء، والمتحول في الثابت؛ أي فهم العلاقات الاجتماعية من خلال فهم اشكالها.

ويعد كتابه "فلسفة النقود"[9] الورشة التي حاول فيها التأكد من فرضياته بخصوص إمكانية تأسيس سوسيولوجيا شكلية حين تناول ظاهرة التبادل من خلال النقود التي جردت الحياة الاجتماعية في العصر الحديث وحولت العلاقات في التبادل من مادية إلى رمزية.

ختاما، يمكن القول إن زيمل قد اكتشف منظارا جديدا للنظرية الاجتماعية، وهو المنظار الميكروسوسيولوجي، الذي سيشكل منطلقا ومحطة جديدة لتطور النظرية السوسيولوجية بتخلصها من سطوة الكلي، والتي تعتبر مقالات هذا الكتاب بمثابة تأسيس لأركانها الأولى.

[1] جورج زيمل، الفرد والمجتمع المشكلات الأساسية للسوسيولوجيا (القاهرة، مصر، المجلس الأعلى للثقافة، 2005) ص24 

[2] جان بول ويلام، ودانيال هيرفي ليجيه سوسيولوجيا الدين(ترجمة درويش الحلوجي) (القاهرة، مصر، المجلس الأعلى للثقافة، 2005) ص152

[3] أحمد الخطابي. (2021). نظرية المجال عند جورج زيمل: المجال بوصفه شرطا قبليا لبناء وإعادة البناء الاجتماعي.عمران، 2021، (35) (تاريخ النشر)، رقم الصفحة 167

[4] جورج زيمل، الفرد والمجتمع: المشكلات الأساسية في السوسيولوجيا (القاهرة، مصر، المجلس الأعلى للثقافة، 2005) ص ص39-40

[5] Berger, Peter, & Thomas Luckmann, La Construction sociale de la réalité. (P. Taminiaux , Armand colin), p 213

[6] ميشيل فوكو. الكلمات والأشياء. ترجمة مطاع صفدي، سالم يفوت، بدر الدين عرودكي، جورج ابي صالح، وكمال اصطفان (لبنان بيروت: مركز الانماء القومي، دار الفارابي، 2013) ص ص134-135

[7] عبد الحق منصف. كانط ورهانات التفكير الفلسفي من نقد الفلسفة إلى فلسفة النقد. (المغرب: افريقيا الشرق، 2007) ص 149-175

[8] جورج زيمل، الفرد والمجتمع: المشكلات الأساسية في السوسيولوجيا (القاهرة، مصر، المجلس الأعلى للثقافة، 2005)

ص 123

[9] جورج زيمل، فلسفة النقود (ترجمة عصام سليمان) (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020