الفضاء العمومي الافتراضي وسؤال المواطنة
فئة : مقالات
الفضاء العمومي الافتراضي وسؤال المواطنة
الملخص:
يحتل مفهوم المواطنة مكانة مهمة في العلوم السياسية لاقترانه الوثيق بقضايا حيوية عديدة من قبيل الدولة، الفضاء العمومي، والديمقراطية والقانون والهوية الفردية وحقوق الأقليات. الأمر الذي جعله غير مستقرا وفي تغير دائم، فبمجرد ما يتم الاتفاق والتوافق على تعريف للمواطنة، حتى تظهر في الحياة السياسية والاقتصادية تغيرات تمتد آثارها إلى المفاهيم القريبة منه وتنعكس عليه، الأمر الذي يتطلب معالجة ومراجعته وفق ما يتناسب مع التغيرات الجديدة في الساحة السياسية، ولعل أبرز ما طال الإنسان المعاصر من انقلاب في نظام كينونته وشرط وجوده في العالم، هو التقدم العلمي والثورة التقنية، فأصبحنا نتحدث عن فضاء فوق موضعي عوض فضاء عمومي موضعي، ومواطنة عالمية وعابرة للحدود القومية. وتعبيرا عن جوهر هذه النقلة برزت مشروعات للساحة الفكرية والثقافية التي تقوم بتسليط الضوء على مسارات هذا الانقلاب، ومن أهمها مشروع تشارلز تايلور. وهذا ما سيعمل هذا المقال على مقاربته؛ وذلك من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: كيف أدى التقدم التقني إلى بناء فضاء عمومي افتراضي عابر للهويات والمواطنين المحليين؟ وهل يكفي نقد التقدم التقني لاسترجاع المعنى الحقيقي للمواطنة؟ أم إن الأمر يستدعي البحث عن سبيل جديد لفهم الوضع الذي يفرضه التقدم التقني؟
مقدمة:
تكمن قوة الفكر السياسي الراهن في سلطة أحقية تدبيره للاستشكالات والمقولات المركزية للتداول المعاصر، كما هو الأمر في تدبير أسئلة المواطنة بما تتيحه من ممكنات الترابط والجوار مع جوهر القول السياسي في الدولة، الفضاء العمومي، الديمقراطية، القانون، الهوية، المعنى، ومعها باقي المطالب الملحة المعنية بتحدي مجاراة أسئلة الاعتراف والتعددية وحق الاختلاف، حين يجري الحديث مثلا عن مواطنة من درجة أولى وأخرى من درجة ثانية، ومعه أيضا إلحاحية تدبير هذا التعالق المفاهيمي وتشويشاته النظرية حين يجري التعامل مع "المواطنة" في سياقات أشمل تتلون دوما بأسئلة ومآزق ومستجدات الإنسان المعاصر وما يمسه جراء انقلابات نظام كينونته وشروط وجوده، المحكوم بواقعية التقدم العلمي والثورة التقنية، حتى أضحت المواطنة مجبرة على تطويع بنيتها التقليدية استجابة لشرط تشكل ما يجري تسميته بالمواطنة الفسيحة والسائلة، والمُنسكبة بوضوح ضمن "الفضاء العام فوق موضعي" باعتبارها مواطنة كونية ميزتها تجاوز الانعزالات الوطنية والقومية.
وتعبيرا عن جوهر هذه النقلة برزت مشروعات للساحة الفكرية والثقافية برهان تسليط الضوء على مسارات هذا الانقلاب، كما هو شأن مشروع تايلور ضمن مؤلفه "المتخيلات الاجتماعية الحديثة" المعاد تضمينه في مؤلف "عصر علماني" أو غيره من المشروعات الشبيهة، بما يثيره هذا المطلب من أهمية إعادة طرح إشكالات نراها وِجهَةً لهذه المشاركة من قبيل: كيفية تحديد ترابطات الفضاء العام في شكليه الموضعي وفوق الموضعي مع مفهوم المواطنة في الفكر المعاصر المعني بتدبير قلق الوجود والمعنى والانتماء، بما يقتضيه الأمر من استجابة للإشكالات التالية: كيف أدى التقدم التقني إلى بناء فضاء عمومي افتراضي عابر للهويات المجالية والمحلية والوطنية والقومية؟ وهل تكفي أطروحات نقد التقدم التقني لاسترجاع المعنى المتداول للمواطنة أم نحن ملزمون بإعادة ترتيب القول بما يقتضيه الأمر من تسليم بمشروعية هذا الفضاء الجديد المشكل باسم سلطة أمر الواقع؟ وهل يكون هذا الإقرار مدخلا للدعوة إلى نوع جديد من القول في الفكر السياسي المعاصر بما يستلزمه الأمر من إجبارية إعادة النظر في كل سندات الفكر السياسي المعاصر ومعه أسئلة الإنسان وتعالقاته الوجودية والفكرية؟
أولا- الفضاء العمومي وثنائية الواقعي والافتراضي: دلالات والتباسات
1. في معنى الفضاء العمومي
تنطلق فكرة الفضاء العمومي من الافتراض الخلدوني[1] الذي يرى أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه؛ بمعنى أنه غير قادر على العيش بذاته، فهو مفطور على العيش والتواصل والتبادل مع الآخر، بغض النظر عن الهدف من وراء هذا الفعل، وتتم عمليات التواصل داخل فضاءات عمومية يتم فيها معالجة كل ما يخص الشأن المشترك، تمييزا له عن "الفضاء الخاص" الذي تحده سياجات الحق في التصرف والحرية في إبداء الرأي، رغم الاستشكالات الناتجة عن صعوبة تقدير التمايزات والهوامش بين الفضاءين[2].
ثم إن الفضاء العام يشكل الدعامة المركزية للديمقراطية؛ ذلك أن هذا النظام المنظور له بوصفه الأقل ضررا في الزمن المعاصر، هو في أصله مبني على الحق في الحوار والنقاش العمومي والمشاركة السياسية، وعلى قدرة المواطنين في تدبير الشأن العام، من خلال الانطلاق من مسلمة الحق الفردي في تأسيس القرار الجماعي، واعتبار التواصل شرطا محوريا للحديث عن هذا الفضاء، كما وضح ذلك هابرماس حين جعل الأول شرطا للثاني، أو بمعانيه العامة والشاملة التي أشارت لها نانسي فرايزر في حديثها عن "المواطنة العابرة للحدود"[3] تجسيدا لواقعية الانفتاح الكوني.
وشأنه شأن كل الأفعال الإنسانية، تتغير وتتطور طرائق ووسائل التواصل والتبادل بين المواطنين بتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا ما توضحه التجارب الإنسانية الحالية، حيث يجري الحديث عن فضاء عمومي في لبوس مغاير لذلك الفضاء التقليدي المحدد بالمكان في غالب الأحيان، حيث يتبادر للذهن دوما الحديث عن المسارح ودور السينما والملاعب والمتاحف والمدارس والحدائق...، للإشارة إلى أمكنة محتضنة لمعاني وجودية يتم التعبير عنها بشكل فردي لكن بروح جمعية مشتركة.
لكن الذي حدث في الواقع هو انتقال هذا الفضاء إلى مستوى أعم وأشمل، مدعوما بالتطور التقني والثورة الرقمية التي يعيشها العالم الحالي، والتي خلقت فرصا جديدة لتوسيع مجالات المعرفة وتبادل المعلومات. فبعد أن كانت الأجندات تصنع المحتويات الإعلامية كما هو الشأن في الاعلام التقليدي بوصفه رأيا عاما، أصبحت الأصالة الفردية هي أساس صناعة هذا الرأي الجمعي، بنوع من المساواة المطلقة والمُخلة أحيانا، لبلوغ حد القدرة على إبداء الآراء بحرية أكبر وضمن مجال أوسع دون الحاجة إلى ما كان يجري تسميته بـ"الفضاء" في دلالته المباشرة الدالة على المكان.
غاب "الفضاء" إذا لكن بقي "المشترك" و"الرأي العام" حاضرين بمعاني جديدة ومختلفة تدين كليا للروح الرقمية المسيطرة ولمنطق التواصل الاجتماعي المهيمن، خاصة وأن التواصل الافتراضي منح فرصا متساوية لكل المواطنين للمشاركة في النقاش العمومي وإنتاج المعنى، ورغم ما يبدو من أن التطورات التقنية وضعت للأفراد فضاءً افتراضيا عاما، يعبرون فيه عن آرائهم، ويمارسون ضمنه مواطنتهم بكل حرية، فإن التحدي يكمن في الانتباه إلى الاشكالات التي يطرحها هذا التحول: فما الذي نقصده حين نتحدث عن "الفضاء العام"؟ وهل يستطيع الافتراضي منح إنسان الزمن الحديث والمعاصر بالفعل معاني الفضاء المشترك الدال على التثاقف والتقابس والاعتراف بالحق في الاختلاف؟ أم إنه لا يعدو أن يكون تكريسا لنوع من الهروب والاختباء من المشاركة الفعلية والنقاش الجدي والجاد المحتضن للعلاقات البشرية في حميميتها الاتصالية وراء الشاشات؟ وما مدى قدرة هذا الفضاء على إرساء دعائم ثقافة المواطنة والوعي بالحقوق والواجبات؟
2. الفضاء العمومي والتباسات الواقعي والافتراضي.
انتبهت أغلب الفلسفات المعاصرة إلى أهمية تكريس مبادئ تأسيس فضاء عمومي يستجيب لشروط التعايش والانفتاح وتقبل الاختلاف، ومنها مثلا ما أشارت إليه حنة آرندت في الجزء المتعلق بأهمية الحوار في تأسيسها لفلسفة الفعل، حيث اعتبرت أن الفعل كنشاط إنساني في حاجة إلى الحوار التواصل. وغياب التواصل من شأنه أن يفقد الفعل ماهيته وخاصيته الظاهرية، لنصير أمام آلات تنفذ الأفعال من دون كلام[4].
وربما تكون تأكيدات آرندت مدخلا للخوض في إحدى أهم الأطروحات المعاصرة المقرونة بفعل التواصل، ممثلة بمُنجز الفيلسوف الألماني "يورغن هابرماس" الذي راهن على هذه المقولة بوصفها مدخلا لتصحيح وتحرير الفكر والفعل السياسي من الخطاب المتمركز حول فلسفة الذات، واقترح نظرية الفاعلية التواصلية لمقاومة الاستعمار الداخلي للعالم المعيش الحديث[5] . لهذا عمل على انتقاد مجمل النظريات التي تربط الفعل السياسي بوعي الإنسان المتشرنق في عزلته، وربط الفعل بالمجال العمومي والوعي المشترك؛ فالفعل التواصلي هو الذي يحدد العلاقات الاجتماعية داخل فضاءات عمومية قائمة على المناقشة، عكس الفعل الأداتي الذي يتجه بالضرورة إلى التأثير على الطرف المقابل، وهذا ما يكشف عن جانب الإكراه أو الإغراء الذي يمارسه هذا الفعل على الطرف الآخر. في حين يقوم الفعل التواصلي على الاتفاق والتفاهم المؤسس بشكل عقلاني داخل فضاء عمومي.
وعليه، يعدّ مفهوم الفضاء العمومي بالمعنى الهابرماسي مجالا للحوار والمناقشة، ومجالا وإطارا لمختلف المستويات الفكرية في البرهنة والاقناع، إذ يعبر عن إرادة المواطنين المستقلة في تشكيل الرأي العام[6]. لهذا يقرن هابرماس بين النقاش العمومي والممارسة الديمقراطية، فهو يقوم بدور الوسيط بين الإرادة الخاصة والإرادة العامة للشعب. ويثير هابرماس لبسا مفهوميا ولغويا للتواصل في الفضاء العمومي، حيث يميز بين الاتصال والتواصل؛ إذ اعتبر أن هذا الأخير أشمل وأوسع من الاتصال، فالأمر لا يتعلق بأدوات التواصل بقدر ما هو يعبر عن مشاركة الذوات، فهو يرفض الخلط بين الفرد بصفته كائنا اتصاليا، وبين كونه كائنا تواصليا[7].
ويعرف هابرماس الفضاء العمومي بأنه فضاء مكون من مجموعة من الأفراد تجمعهم سمات مشتركة يجتمعون مع بعضهم، ويقومون بتحديد حاجيات المجتمع، حيث يتم توضيح وجهات النظر من خلال الحوار والتبادل بهدف خدمة الشأن العام[8]، وهو بها المعنى يعني كل مجال يلعب دول الوسيط بين المصلحة الخاصة والمصلحة الجماعية، وقد تشكل في بداية القرن السابع عشر وبداية القرن 18، وقوته تكمن أساسا في السماح للأفكار الخاصة بأن تصبح عامة، وهو بهذا المعنى يحمل الدلالة المتداولة والاعتيادية حين يشمل الفضاء العمومي كالمقاهي والصالونات والنوادي والمسارح وغيرها، حيث أمكنة اللقاء الجسدي والتلاقي الفكري والثقافي والإبداعي، والقدرة على تجريب الخيارات الفردية والميولات الشخصية أمام فضاء جماعي، بما يحمله هذا الجمع من معاني.
والحق أن ما يميز أطروحة هابرماس وآرندت حول مسألة التواصل في الفضاء العمومي -وإن كان بناء الأطروحتين يبقى مختلفا في الكثير من أوجهه طبعا- هو دخول هذه الطروحات ضمن إطار نظري عام عرفته الفلسفة الغربية المعاصرة منذ منعطف هيدغر ونيتشه، وهو منعطف إعادة النظر في الحداثة الغربية ومسلماتها، والمُشار له اختصارا بمفهوم "ما بعد الحداثة". وثانيا: في كون تصورهما للفضاء العمومي والتواصل كان سليل الأزمة السياسية التي واجهتها الفلسفة الحديثة، متجلية في الحروب العالمية وفي الجرائم الكبرى التي عرفها البشرية في القرن العشرين موسوما بكونه قرن الفواجع والهزات والمآسي والصراعات كما هو معبر عنه في "فلسفات الموت"[9]، وفي تشريحهما لبعض الظواهر السياسية كالعنف، والثورة، والعصيان المدني وغيرها، مع تأكيد الطرحين أن حاجتنا للفلسفة بوصفها الإطار الذي يمدنا بشروط الحوار والتواصل السليم والمنسجم مع طبيعتنا الإنسانية أخلاقيا ومعرفيا وسياسيا يبقى أمرا ملحا.
ثانيا-الفضاء العمومي الافتراضي ... أو نحو مواطنة مغايرة
إذا كان مفهوم الفضاء العمومي بمعانيه الدالة على روح التواصل كجواز سفر إجباري لإنجاح التجربة الديمقراطية وباقي مقولات الفكر السياسي المعاصر، هو نتاج حتمي لأزمات القرن العشرين التي أوضحت الحاجة الملحة لمقومات بناء التوافق بعد تجريب لغة التنكيل والصراع والقتل ومنطق القوة والغلبة، فإن دوافع التفكير في هذا الفضاء في الفترة الراهنة يبقى مشدودًا نحو أفق مغاير قوامه التفكير في الفضاء بوصفه محكوما بمنطق هيمنة النزعات التقنية والروح العلموية وسطوة العقل الأداتي[10].
وهذا يعني إلزامية النظر نحو التحول الذي طال الفضاء العمومي من معانيه المحددة والعامة، إلى منطقه الافتراضي الجديد الذي يحكمه على أساس أنه يحتمل الوجهين معا كما في إشارات هابرماس الذي كان من السباقين إلى طرح فكرة إلزامية التعامل مع الفضاء العمومي باعتباره حمالا لوجهين وجامع لمعنيين، فهو يضم الفضاءات والأمكنة المعلومة بتلاقي الأفراد والأفكار والرؤى والتصورات والاهتمامات، ولكنه يرتبط أيضا بالفضاءات العنكبوتية الافتراضية التي لا يكون فيها النقاش وطرح الأفكار متخذا شكل "الأغورا" التقليدية.
واحتراما لهذا التمييز والاختلاف عرف "ريد يرك مايور" الفضاء العمومي الافتراضي بوصفه بيئة إنسانية وتكنولوجية جديدة للتعبير والمعلومات والتبادل، وهو يتكون أساسا من دائرة وسطية تكونت تاريخيا بين المجتمع المدني والدولة، وهو متاح لجميع المواطنين للتعبير عن الرأي العام[11]، وهو بهذا المعنى تعريف يقوم على افتراض المساواة المطلقة في إبداء الرأي ضمن هذا الفضاء من جهة أولى، وعلى تقاسم نفس الوسيط التعبيري ممثلا في التكنولوجيات المعتمدة من جهة ثانية، ما يعني أنها تجسيد للفضاء العام الحقيقي أو على الأقل ذلك الذي ينبغي أن يكون، لغياب حواجز التعبير والمشاركة.
وهو بهذا المعنى يحتضن الفضاء العمومي بصيغتيه، فهو يروج للمجال المشترك كالمسارح والملاعب ودور السينما والمتاحف دون أن يلغي أيا منها، وفي ذات الآن يفتح أفق التفاعل الشبكي بوسائط افتراضية لا تتطلب الحضور الفيزيائي والعيني للأفراد بالضرورة، ولا حتى هوياتهم الحقيقية كشرط للتواصل والتعبير. أضف إلى هذا أن افتراضية الفضاء العمومي تعني تسريع وثيرة المشاركة في النقاش العمومي لتجاوزها مرحلة المرور عبر التمثيلية السياسية للمؤسسات، وهي بهذا المعنى تعد التجلي المثالي لمفهوم الديمقراطية، بفضل قدرتها على توفير شروط المشاركة الفعالة من خلال المدونات والشبكات الاجتماعية التي لا يمكن إقصاؤها من الفضاء العمومي؛ لأنها تضم في ديناميتها الذين همشهم الفضاء السياسي[12].
وهو تحديد مفاهيمي، يفيد من جهة أولى ضرورة إعادة طرح سؤال الفضاء العمومي بصيغ تستوعب هذا التحول، بما يقتضيه الأمر من إدراك للالتباسات الجديدة التي يتطلبها المفهوم، بغرض إدراك عمقه البنيوي الذي يستحضر الفضاء في معنييه الواقعي والافتراضي، لكنه من جهة ثانية يستدعي تغيير نمط التفكير في مفهوم "المواطنة"، بوصفها الرهان المركزي للفضاء العام، من حيث كونه سعي لتأسيس مواطنة فاعلة وحوارية ومنفتحة وتواصلية.
ومعلوم أن المواطنة مشتقة من مفهوم الوطن، والمواطن هو شخص موجود رسميا ضمن أعضاء مجتمع سياسي لدولة ما إما لأنه قد ولد في هذه الدولة أو بسبب حصوله على الجنسية فيها[13]، ويجمع بين المواطن والوطن رابط قانوني وسياسي يقوم على أساس مجموعة من الحقوق والواجبات، ما يعني أن المواطنة هي المعبر الجماعي لمسألة انتماء وتفاعل الفرد في المكان الذي يعيش فيه، ونظرا للتحولات التي يعرفها العالم حاليا في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية تماشيا مع هوس الانصياع لمنطق التقنية وروح العقل الأداتي، فإن قياس مستوى تأثير تبدل شكل الفضاء العام على تمثلنا للمواطنة يبقى أمرا محوريا؛ ذلك أن الفضاء الافتراضي يؤسس لنوع من التعددية الثقافية المطلقة، ويكرس لحالة من الحرية المطلقة في تجريب اعوجاجات هذا التعدد الثقافي، ويمتحن في ذات الآن استشكالات "الهوية" و"الاختلاف"، حين تقر بالحق في التعبير عن التعدد الثقافي لكن من خلال الحديث عن "مواطنة" أشمل، لا تقف على حدود الجغرافية والتصنيفات القانونية والحقوقية المدونة في الوثائق الرسمية لكل شخص، أو في حدود الدولة الوطنية كما فعل هابرماس، وإنما تتوجه نحو أفق أوسع يمكن معه الحديث عن مواطنة عابرة للحدود الضيقة، ولا تريد تقزيم هذه القدرة على الانفتاح بردها إلى حدود الجغرافية الوطنية الضيقة[14].
وانطلاقا من هذا العرض السريع والمختصر لخصائص الفضاء العمومي الافتراضي، وللثورة الرقمية، يمكن القول إن الفضاء العمومي الافتراضي أصبح يشكل فضاءً بالمعنى الدال على الدمقرطة الفعلية التي كان يسعى هابرماس ومن معه إلى إدراكها كأفق عام لإيتيقا التواصل، بسبب قدرة هذه المقولة الجديدة على تحويل الحديث صوب المواطنة العالمية، لوصف روح التفاعل المطلق الممكن بين الشعوب والثقافات.
وهي بهذا المعنى مطلب أخلاقي وسياسي وبرغماتي لما تسمح به من ممكنات كسب الفعل السياسي والتعاطف الثقافي، واحترام الاختلاف، ومهارة وضع توافقات بين مختلف الصراعات والاختلافات من خلال فتح نوافذ النقاش والتداول الحر والمسؤول والشفاف على مصراعيها، ولعل الفضاء العمومي الافتراضي هو المدخل المناسب والأساسي للحديث عن مفهوم المواطنة العالمية[15] بدلالاتها المطروحة ضمن المؤسسات والهيئات الدولية والأممية التي تسلط الضوء على المشاكل التي تستهدف الإنسانية جمعاء، كظاهرة الاحتباس الحراري والتلوث والإرهاب وغيرها، ومشاركة هذه الهموم من شأنه أن يزيد التلاحم بين أفراد الدول والثقافات المختلفة.
وبالمختصر، فإن الالتباسات التي يطرحها مفهوم الفضاء العمومي حين يجري التعامل معه بوجهيه الواقعي والافتراضي، تبقى مبررة لعدة اعتبارات أهمها أن هذا الطرح الجديد للفضاء العمومي الافتراضي، يقتضي الإمساك بما يمكن تسميته بـ"المواطنة السائلة"[16] التي تقتضي إعادة ترتيب مقولات الفكر السياسي المعاصر؛ لأن منح الحركية المطلقة للنقاش العمومي يعني ضمنيا خلق مواطنة لا تعترف بالحدود؛ ذلك أن المشاركة في إبداء الرأي حول قضايا تتجاوز منطق الحدود الجغرافية أصبح أمرا واردا، وصارت المرونة والقدرة على التعاطي مع القضايا الإقليمية والدولية أمرا بديهيا، ما يعني إلزامية إعادة النظر في مفهوم الوطن والوطنية والانتماء والدولة والشعب والحق والقانون، وفي النهاية إعادة النظر في مقولات الفكر السياسي المعاصر في كليته وبنيويته، مع ما يتطلبه هذا التغيير من مساءلة نقدية رصينة ورزينة كالتي أقامها بعض أعلام الفكر المعاصر أمثل تايلور وغيره.
ثالثا- تايلور مسائلا انزياحات العقل الأداتي وافتراضية الفضاء والمواطنة
يجسد تايلور في الواقع الطرح التوليفي في تعاطيه مع قلق الحضارة الغربية والحداثة بشكل عام، وهذا الذي دفعه إلى تبني قراءة تشخيصية تتبرم من القبول الجاهز لمقولات هذا المشروع، مع اعترافه بعدم جدوى هدمه، متخذا أطروحة تقول بـ"العظمة" و "البؤس"، وهو الطرح الذي قاده في النهاية إلى ترسيخ منطق أشبه ما يكون بـ"نظرية في نقد الحداثة"[17]، صاغها ضمن كتابه "أوجاع/أسقام الحداثة" حين اعتبر أزمتها بنيوية تنطلق من جدل تفكك الحدوس والخيرات[18]، مع ما يعنيه هذا التشتت من تشظي للهوية وبتر لها، قبل أن ينتهي هذا التشظي إلى رسم معالم أزمة ثلاثية تواجه الإنسان الغربي الحديث والمعاصر[19]، الأولى خاصة بهيمنة النزعة الفردانية وسطوة منطق الأصالة في حدودها الفردية التي لا تصل حد الالتزام بالانتماء للجماعة مع ما تعنيه من فقدان للمعنى وتسيد للنسبوية الأخلاقية، والثانية ترتبط بكسوف الغايات أمام سطوة العقل الأداتي، والثالثة خاصة بفقدان الحرية في ظل واقعية الاستبداد الناعم للديمقراطية والقفص الحديدي بصيغته الفيبيرية.
واستلزم هذا النقد من قبل تايلور التوجه صوب قراءة تأثيرات هذه الأزمة الثلاثية خاصة في جزئها المتعلق بهيمنة العقل الأداتي والنزعة الفردية على "الفضاء العمومي"، الذي صار مفتقدا للروح الجماعية، حين افتقد للمسة الإنسانية في ترابطها بالماضي والحاضر معا، حيث إن هناك "روابط تواصلية"، تنشأ بشكل ضروري بين الذوات، ليس ضمن "الفضاء العام الموضعي "المحدد في التواصل المباشر ضمن المجال المشترك، بل يتعداه إلى مستوى "الفضاء العام فوق الموضعي"، بما في ذلك "الإرث التاريخي" للإنسان الحديث والمعاصر، والمحفور في وعينا العميق، عبر تجارب وخبرات السابقين، والتي وصلتنا على شكل رسائل دينية أو خبرات عملية أو وصايا أبوية أو إبداعات فنية وفكرية، فهي "تشمل مثلا أنبياء، ومفكرين، وكتابا من الماضي"[20]، يشكلون جميعهم ما يمكن تسميته في متن تايلور، بمفهوم "شبكة التواصل أو المحادثة"[21].
وهو بهذا المعنى فضاء عام مغاير، لا يتضمن فقط الأماكن، بل الخبرات والمسيلات المحفورة في الذاكرة من جهة أولى، أو أشكال التلاقي الافتراضي الأخرى التي لا تتعلق فقط بالتواصل المباشر العيني، و يعالج تايلور بتفصيل شديد هذه الفروقات الموجودة بين "المجال العام الموضعي" و"المجال العام فوق الموضعي"، ضمن كتاب "المتخيلات الاجتماعية"[22]، وهو تقسيم من ضمن ما يوحي إليه هو أن "الروابط التواصلية" التي تشكل هويتنا الفردية في ارتباطاتها بالآخرين، هي غير مقتصرة على "التواصل المباشر"، كما في في الحالة التي يتعلق فيها الأمر بمشاهدة مباراة رياضية، أو الاستمتاع بعمل سينمائي أو مسرحي أو في حفل أو مناسبة دينية، حيث نكون أمام "مجال عام موضعي"؛ أي محدد من حيث المكان والزمان والوضعية، بل إنما تتعدى هذا الأفق الموضعي، لتصبح "مجالا عاما فوق موضعي" لا يقوم على اجتماع الناس مكانيا، بل يتعداه إلى مستوى أن يكون "نوعا كبيرا وشاملا من الفضاء العام غير المحلي"[23]، ونموذجه المثالي هو العالم الافتراضي الذي ألغى الحدود وأوقف حواجز الزمان والمكان بمعانيهما المحددة.
وتكمن أزمة تحول معاني الفضاء العمومي في التأثير المحتمل لهذا التغيير على المقولات المركزية للفكر السياسي المعاصر، وفي مقدمتها الديمقراطية التي يعتبرها تايلور مدخلا أساسيا لفهم بنية الحداثة بوصفها متخيلا اجتماعيا، على أساس الحضور القوي لفكرتي المجال العام، والشعب الذي يحكم نفسه بنفسه، لتشكيل فكرة الدينامية الجمعية، حيث تكون هذه الفاعلية "من بين أبرز سمات الحداثة الغربية: فنحن -تايلور متحدثا بلسان الإنسان الغربي- نفهم أنفسنا، بعد كل حساب، باعتبارنا نعيش في عصر ديمقراطي"[24]؛ أي إن الديمقراطية بما تحمله من معان مرتبطة، بفكرة الشعب الحاكم لنفسه، داخل مجال عام، منضبط بميثاق حقوقي يحفظ توازنات هذه المطالب، مع مجاله الخاص أيضا؛ هي في النهاية أفق حداثي وغربي لا محيد عنه في تمثل هذه البنية الكلية.
ولأنها؛ أي الديمقراطية، هي بهذه الأهمية، تصبح أعطابها هي أيضا، مركزية لإدراك أعطاب الحداثة الغربية حسب تايلور، خاصة في الموضوعات المرتبطة بسؤال الحرية؛ لأنها تقتحم أسوار "المجال العام"، المُشَكَّل على أساس خلق التوازن مع المطالب الفردية. وإذا كانت الديمقراطية غير مهيكلة، ولا قائمة على مطالب سامية، فإن المجال العام يفقد موضوعيته المطلوبة، في كنف ديمقراطيات معطوبة[25]؛ لأن "المجال العام سمة مركزية في المجتمع الحديث، إلى حد يستلزم تزويره عندما يُراد قمعه أو التلاعب به"[26]؛ أي إن فقدان ثقل النظام الديمقراطي، ينشأ عنه إفقاد المجال العام قيمته، ما يعني فقدان التوازن المَفروض إقامته، خاصة أن تزوير هذا المجال، يجعل "المجتمعات الاستبدادية الحديثة تشعر بأنها مجبرة على مسايرة ذلك"[27]؛ فيحدث نوع من التساوي بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية في هذه الجزئية، والسبب عائد إلى افتقاد النظامين الاستبدادي والديمقراطي معا في هذه الحالة رغم تعارضهما، إلى فضاءعام منفتح، شفاف وموضوعي.
وهكذا يكون الاستبداد مجاورا حتى للأنظمة الديمقراطية التي تقول عن نفسها إنها حرة وعادلة، ولا يفصل بينهما سوى شعرة تتحدد بنوعية الفضاء العمومي؛ ذلك أن خلق فضاء واقعي أو افتراضي موسوم بصفة التدخل والاحتكار الأيديولوجي من شأنه أن يؤسس لمواطنة مهزوزة، تماشيا مع حالة فقدان الثقة التي تنشأ عن تصدع العلاقة بين الوطن والمواطن في هذه الحالة حتى لو تعلق الأمر بالأنظمة الديمقراطية؛ أي إن التحول الذي طال الفضاء العام في الحالة التي يفقد فيها جاذبيته ونزاهته هو أمر يقتضي إعادة النظر في أسئلة المواطنة والديمقراطية والحق والقانون، وهو الذي يفسر التوجه صوب الإصرار على مطالب جديدة للملمة صدوع وتشققات هذه المقولات ضمن متن تايلور أو غيره أيضا، من خلال الرهان على الاعتراف والحق في الاختلاف لتجاوز مأزق خسارة الفضاء العمومي لجاذبيته ومصداقيته، أو بالأحرى لمواطنته المنفتحة على التجاوب والتواصل والتثاقف، حتى لا تتحول الديمقراطية نفسها إلى استبداد.
رابعا- في حاجة المواطنة للاعتراف والحق في الاختلاف
تجاوزا للمآزق السابقة التي فرضها تغير الفضاء العمومي وامتداداته المتجلية في فكرة المواطنة والديمقراطية والحق والعدالة، وأيضا باقي المقولات المركزية للفكر السياسي المعاصر، كان من البديهي أن تنشأ أطروحات فلسفية معبرة عن هذا القلق المتعلق بإمكانية تحول انسدادات الفضاء العمومي في حال فشله في تدبير مزيجه الواقعي والافتراضي، إلى أزمة تشمل الديمقراطية وباقي مرتكزات القول السياسي المعاصر. وهي أطروحات تعتمد بالأساس على تصحيح منعرجات هذه الأزمة المحتملة من خلال التنبيه لأشكال الإقصاء والتمييز التي قد تنشأ عن تشييد فضاء عمومي لا يحترم شروط التواصل والتفاعل الإيجابي والتثاقف والتقابس وصناعة رأي عام حر ومسؤول، ولا يؤسس بالتالي لمواطنة تفاعلية ومنفتحة ومنسجمة ومتصالحة مع ذاتها ومحيطها. وهذا الذي استدعى من قبل تايلور وغيره أيضا أمثال "ميد" و"فرايزر" و"أكسيل هونيت" وغيرهم، الرهان على تجنب الاحتقار وتثمين مبادئ الاعتراف والحق في الاختلاف، من أجل بناء فضاء عمومي يسمح بتدبير اختلالات المواطنة، حتى لا تصير خاضعة لتقسيم استعماري يقول بوجود مواطنة من درجة أولى وأخرى من درجة ثانية. ولربما يكون تايلور أكثر من عبر عن هذه الروح التصحيحية التي تتوجه نحو إنقاذ الفضاء العمومي من سقطاته المحتملة حين راهن على الاعتراف وإيتيقا التعددية الثقافية ووجوب الإيمان بالحق في الاختلاف؛ ذلك أن سؤال الاعتراف لازم ظهور فكرة الهوية بوصفها قائمة بالأساس على المواطنة، ولأن هذه الأخيرة في غاية الأهمية بالنسبة إلى تبلور الذات الحديثة، فإن الاعتراف يصبح بذات الأهمية أيضا، وهو ما لم يكن موجودا في السابق، في اعتبار تايلور، ليس لأن "الناس قبل العصر الحديث لا يملكون ما ندعوه بالهويات، أو لأن هذه لا تعتمد على الاعتراف، وإنما بالأحرى إنها لم تكن تطرح مشكلة، تجعلها موضوعا للنقاش على هذا النحو"[28]، حيث كانت "التراتبيات" واضحة ومقبولة، وليست محل جدل حقيقي، يدفعها إلى أن تكون بالفعل على رأس الإشكالات المطروحة.
ويكون "الاعتراف" في الزمن الحديث والمعاصر، بالنسبة إلى تايلور، موضوعا "مستجدًّا" يحيل إلى أسئلة "الهوية"، بما هي دلالة على الرغبة في تحقيق "الاعتبارات الوجودية" التي تستحقها، ولأن الهوية بالنسبة إلى تايلور تنشأ -كما سبقت الإشارة- بـ"حضور" أو "غياب" هذا الاعتراف، فإن أشكال الإحساس بـ"النقص" و"الاحتقار" و"الظلم"، التي يجري الدعوة إلى تجاوزها، ضمن مجموعة من المطالب، كما في حالة الحركات النسوية، أو في مطالب السود في أمريكا، أو عند المجتمعات المُستعمرة، تكون ناشئة في الغالب "من غياب الاعتراف، أو لوجود اعتراف غير ملائم"[29].
لكن هذا الاهتمام بصور "الاحتقار" التي تنشأ عن غياب الاعتراف، لا يمكنها أن تؤسس لتصور تايلور العام حول الموضوع، لارتباطه بما هو أعم، متمثلا في سؤال "الهوية"، بحمولاتها كلها سواء "الأخلاقية" أو "الشخصية/الوجودية"[30]، ما يعني أنه لا يأخذ معاني مرتبطة بفكرة "الصراع" الناشئة ضمن الوضعيات البشرية، بما ينشأ عنها من مظاهر القلق الخاصة بـ"الاستغلال" و"الاحتقار" و"الظلم"، الذي يمنح المشروعية للصراع من أجل نيل الاعتراف، كما في تصور هيجل وحسب، وإنما هو محاولة أعم للدخول في صياغة "أخلاقية" و"حقوقية"، تكون على هيأة "سياسة الاعتراف".
ما يعني أن "الاعتراف" في متن تايلور له أفق مختلف عن بعض الأطروحات الأخرى الخاصة بالموضوع؛ لأن رهانه الذي يمكن معاينته بوضوح، ضمن دراسته المرتبطة بـ"سياسة الاعتراف" قائم بالأساس على تجاوز فكرة "دموية" الاعتراف. أي عوض أن يكون تحقيق الاعتراف مدعاة لخوض صراع حتى الموت -ولو بمعانيه المجازية الدالة على الهزيمة والخضوع والانصياع والعبودية- من أجل نيله، يمكن بلورته مع تايلور في إطار رؤية سياسية تتجاوز لغة الدم والصراع والهيمنة، إلى مستوى يصبح بموجبه استحقاقا سياسيا ومدنيا، يشابه باقي الحقوق التي يتم الحصول عليها بالتراضي والمواضعة السياسية، من خلال التفكير المؤسساتي في كيفية رفع غيابه الذي يولد "الاحتقار"، لكن باستحضار أبعاده "الوجودية" الدالة على "الهوية" أيضا.
وربما انكبابه على التجربة الكندية في صيغتها العملية، بموجب الصلاحيات المؤسساتية التي مُنحت له[31]، هو تأكيد على هذا البعد "السياسي"، الذي أراد من خلاله تايلور تصويب النظر حول مفهوم "الاعتراف"، ليكون حاملا لبعض الدلالات المؤسساتية رغم نقد تايلور للإجرائية. وحتى وإن كان مؤسسا على سندات نظرية خالصة، إلا أن حضور البعد "المؤسساتي" قد منح لتصوره تميزا خاصا عم سواه من الأطروحات الشبيهة؛ وهكذا صار هذا المفهوم عنده "في صورة سياسة الاعتراف، وعند نانسي فرايزر في صورة نظرية في العدالة، وعند أكسيل هونيت في صورة فلسفة اجتماعية"[32]؛ أي أن تميز تايلور يأتي في سياق هذه الرغبة القائمة على "مأسسة الاعتراف"، وإن اقترب من دلالاته عند "هونيت" أيضا.
وهذا ما يدل على أن "الاعتراف" في تصور تايلور، مفهوم له دلالات "أخلاقية" و"وجودية" و"مؤسساتية/سياسية"، ويبقى المفهوم في هذه الوضعيات كلها ملازما لفكرة "الهوية الحديثة والمعاصرة"، باعتبار أن هذه "الهوية" هي أيضا "هوية سياسية" و"قانونية" و"حقوقية"، وهو ما تلتئم حوله المطالب "الأقلوية" كلها، التي نشأت باسم قيم "التعددية"، حيث إن مطلبها النهائي، إذا ما تجاوزنا تفاصيله حسب تايلور، سيقوم على اعتبار أن "الاعتراف يؤسس الهوية، خاصة في شقه القانوني"[33]. فنيل الاعتراف بحق هذه الأقليات في غرس ثقافتها ومبادئها والحفاظ عليها، يمر من بوابة "النضال المؤسساتي"، الذي يكون فيه أمر "مراجعة الضوابط والمناهج" أمرا ضروريا، من أجل ترسيخ سياسي للاعتراف.
فمفهوم الاعتراف بوصفه مبدأً مؤسسا للهوية، لا يقف على مستوى تحديدها كهوية "سليمة" أو "محتقرة" عن طريق "حضور" أو "غياب" هذا الاعتراف، بل إنه يكتمل في الحالة التي يتم فيها تحديد أركانه "الأخلاقية" و"السياسية" معا؛ رغم ما يمكن أن يقال على هذا الربط، من عودة محتملة للأطروحة الأرسطية التي سطرها في كتابي "السياسة" و"الأخلاق إلى نيقوماخوس" مثلا، في الجزء المرتبط بربط "السياسي والأخلاقي". رغم أنه في حالة تايلور مبني على هواجس مخالفة، تريد الإجابة على أسئلة "التعددية"، وعن سؤال "طبيعة" الوجود الإنساني، و"غاياته" في الآن ذاته.
والمهم في التعريف، هو أن تجاوز مأزق المواطنة العليلة بسبب فقدان معايير تأسيس فضاء عمومي منسجم، تقوم في جزء منها على تكريس "سياسة الاعتراف"، كميثاق سياسي وأخلاقي، يعيد اللحمة للذات الإنسانية، بنقلها التدريجي من ضيق "التراتبية" و"الشرف Honneur" و"انعزال الذات" و"النرجسية" و"الدونية" و"التفاوت Disparité" و"التصنيف" و"الاحتقار"؛ إلى قيم "الاحترام" و"الكرامة" و"المساواة" و"دفئ الجماعة" و"الخير العام" و"الاعتراف" و"الحق في التعدد"؛ أي من "ثانوية الاعتراف" إلى وضعية "الحاجة الملحة للاعتراف".
ثم إن هذا الترابط يتم بواسطة الاعتراف، الذي يعلمنا كيفية العيش مع الآخرين، لا كيفية العيش مع ذواتنا كذرات منعزلة؛ لأن الاعتراف يعمل على تعديل، وتقوية الهوية المتأصلة من مثالية الأصالة[34]، بنقلها إلى مستوى أكثر مرونة وحركية عبر التواصل الفعال مع الآخرين ضمن الفضاء العمومي بشكليه، عوض حالتها السابقة، حيث كانت الهوية ثابتة إلى حد ما، بمقتضى معايير التراتب التقليدية، والتي يحوز على ضوئها الشخص هويته، على مقاس أدواره ومهامه ومرتبته الاجتماعية.
أما في الزمن الحديث، فإن منطق التراتب يصبح ملغيا إلى درجة ما، بمقتضى هذه الروح الجديدة التي منحتها فكرة "المساواة"[35]، حين دعت إلى التعامل بمقتضى فكرة "الكرامة"، التي يملكها الجميع بدون تمييز. لكن التحدي بقي موجودا، بل زادت حدته؛ إذ تخفي فكرتي "المساواة" و"الكرامة" الكثير من مشاهد "الاضطهاد" و"الظلم" و"الاحتقار"، وهي المشاهد التي يمكن تلمسها عن طريق مقولة "المركزية الغربية" مثلا، والتي سوقت بشكل مقصود بداية من سنة 1492، لفكرة دونية وبربرية سكان البلدان المستعمرة[36]، كما في ابتداع شخصية "كاليبان Caliban"، بما تحمله من دلالات قدحية عن السكان الأصليين[37].
وعلى الرغم من أن هذا "التشويه"، كان في أصله مطلبا سياسيا مقصودا، لتزامنه مع اللحظات التاريخية المرتبطة بأمر "استرجاع بلاد الأندلس"، في سياق استكمال ما سمي بـ"حروب الاسترداد" أو "حروب الاستعادة" في القواميس الغربية، و"سقوط الأندلس" في الدلالات العربية، مع ما ينشأ عن هذه الاستعادة، من رغبة في "الثأر" وقلب "الرواية التاريخية" لصالح الغرب، إلا أن مظاهر هذا "الاحتقار" بقيت صامدة وقائمة إلى حدود الأزمنة الكوليانية، التي رسخت أكثر هذه "العقيدة التبخيسية".
وما يقال على هذه الفكرة المرتبطة بالمركزية الغربية، التي سمحت بظهور مواطنتين: الأولى من فئة "أ" والثانية من فئة "ب"، يقال على باقي صور الاحتقار الأخرى، التي يجري التعبير عنها بشكل كبير لدى الحركات الاجتماعية، المنضوية تحت لواء المطالب النسوية والإثنية والثقافية والجنسية، ما أدى حسب "كاترين أودار" مثلا، إلى ضرورة إعادة التفكير بالتضامن في علاقته بالاعتراف[38]، عبر التأكيد على عدم كفاية الاحترام المتساوي بالمعنى الذي صاغه أكرمان أو راولز من أجل الدمج، والحاجة إلى مشاريع مهتمة بالنضال ضد الإذلال، كما في أطروحة "أفيشاي مارغاليت Avishai Margalit"، ومعه تأكيد أهمية "الاعتراف"، بـ"التي صاغها تشارلز تايلور وأكسيل هونيت"[39].
خاتمة:
وبالمختصر، فإن الفضاء العمومي صار أكثر التباسا بعد أن امتلك صفتين: الأولى متعلقة بصورته العادية كفضاء للقاء والتلاقي، والثانية له ميزة افتراضية متعلقة بعوالمنا الجديدة المملوكة للحواسيب وخوارزميات العقل الأداتي في كل أشكاله وأنماطه، فكان أن صار هذا التحول مدعاة لإعادة النظر في كل مقولات الفكر السياسي المعاصر، من قبيل سؤال العدالة والحرية والديمقراطية والمواطنة؛ لأنه فرض نظاما جديدا من التواصل قوامه نزع الحدود وتجاوز منطق الدولة الأمة، نحو المواطنة العابرة لكل الأسوار، وهو ما استدعى التفكير في سياسات جديدة قوامها الاعتراف ومطلب الاختلاف، لتجاوز مطبات السقوط في مأزق المواطنة من درجة أولى وأخرى من درجة ثانية على شاكلة ما فعلته الأنظمة الاستعمارية في السابق؛ ذلك أن الفضاء العمومي الافتراضي يشترط مساواة مطلقة، لا يناسبها أبدا النظر للآخر بدونية، وما لم يحدث هذا التغيير الجوهري الذي قوامه الاعتراف والإيمان بالحق في الاختلاف فإن الفضاء العمومي والمواطنة ومعهما الأنظمة الديمقراطية وسؤال العدالة ستكون جميعها على المحك، لأنها ستمسي متناقضة مع مبادئها وأسسها، ولعله ما يحدث فعلا الآن.
[1]- الإشارة إلى ابن خلدون في هذا السياق، لا تعني ربط نشأة مفهوم الفضاء العمومي بأعماله، وإنما القصد منها إبراز المُشترك الجوهري بين فكرته عن العمران والاجتماع مع ركائز وأسس مفهوم "الفضاء العام" منظورا إليه كمجال يتشكل ضمنه هذا الترابط بين الذوات في سياق وجودي وقانوني وحقوقي، وهو ما يعني أن مفهوم الفضاء العام من حيث المبدأ، يعود أصله إلى من راهن على فكرة "الطبيعة المدنية" للإنسان كما هو شأن أرسطو أو غيره، وربطه بالخلدونية أو بالروح الأرسطية يأتي في هذا السياق وحسب.
[2]- أحد أكثر الجدالات المرتبطة بالفكر السياسي المعاصر يعود إلى هذا الجذر، حيث يصعب في الغالب وضع معايير واضحة للتمييز بين الفضاء العام والخاص، وبين ما ينبغي أن يكون حقا فرديا وما ينبغي أن يكون محسوبا على التشارك مع الآخر، بوصفه فضاءً عاما، وهو الذي يعاد طرحه مثلا في حالة الإساءة للمقدسات، حين يجري النظر إليه بين كونه حقا في التعبير وإبداء الرأي الفردي وبين كونه إساءة وتجريح للآخر، قبل أن ينعكس سوء تدبير هذا النقاش إلى الفضاء العام الذي يحتضن سوء الفهم الناتج عن مثل هذه النقاشات العاجزة عن وضع خطوط فاصلة وواضحة بين الفضاءين، كما هو شأن ارتداء الرموز والإشارات الدينية الدالة على الانتماءات العقدية وغيرها.
[3]- تعد اجتهادات فرايزر التي صاغتها ضمن عملها العمدة "ما العدالة الاجتماعية؟" من الإسهامات المركزية والأساسية في إعادة طرح إشكالات مقولة "الفضاء العام" خاصة في الجزء المتعلق بنقد النموذج الرأسمالي لهذا الفضاء، والحديث عن "فضاء عام ما بعد بورجوازي" إن صح التعبير، أو عن الفضاء العام الذي لا تحده سلطة حدود الدولة الوطنية تصحيحا لمعانيه الهابرماسية، ينظر في هذا السياق كتابها:
- Nancy Fraser , qu’est-ce que la justice sociale, Paris, la découverte, 2001
[4]- حنة آرندت، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، مؤمنون بلا حدود، جداول للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2015، ص 198
[5]- محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة: نموذج هابرماس، إفريقيا الشرق، بيروت-لبنان، 1998، ص243
[6]- المصدر نفسه، ص 95
[7]- مالك سماح، نقد الخطاب الحداثي والمقاربة التواصلية عند هابرماس، رسالة لنيل شهادة الماستر في الفلسفة، جامعة الجزائر، 2010-2011، ص 141
[8]- جمال زروق، سهيلة بضيف، الإعلام الجديد والفضاء العمومي الافتراضي، ملتقى دولي حول شبكات التواصل الاجتماعي، تونس، 2018، ص 3
[9]- يأتي التفكير في التواصل كمدخل لبناء فضاء عام قوامه المواطنة والتشارك في الواقع كرد فعل ضد هيمنة النزعات العدمية والتشاؤمية التي كان طرحها هو الغالب على أغلب فلسفات القرن العشرين، وهو الذي يفسر نبرة "الموت" التي صاحبت أطروحات هذا القرن، حيث طغيان لغة "القتل" و"الإعدام" من "موت الطبيعة" إلى "موت الله" ومنهما نحو "موت الإنسان" وبعده "موت الفلسفة"، وقس عليها من مقولات الإعدام التي كانت سليلة تلك التجربة.
[10]- ربما تكون هذه التبرة النقدية هي الغالبة على جل الفلسفات المعاصرة التي جعلت التخوف من التحولات التقنية وهيمنة العقل الأداتي مدخلا أساسيا لها، بل إن هناك مدارس أنشئت من أجل هذه الغاية تقريبا كما هو حال "مدرسة فرانكفورت" مثلا، والتي حكمتها هذه النبرة النقدية بداية من أعمال أدورنو وهوركهايمر ك"جدل التنوير" مثلا وبعدها اجتهادات ماركيوز في مؤلفه "الإنسان ذو البعد الواحد" مرورا بهابرماس وكتاب "العلم والتقنية كإيديولوجيا" أو "المعرفة والمصلحة" وصولا إلى الأجيال الحالية، وفي غيرها أيضا من الأطروحات.
[11]- بن عيسى قواسم، رهانات الفضاء العمومي الافتراضي: شبكات التواصل الاجتماعي أنموذجا، ضمن مجلة مقدمات، المجلد الثالث، العدد التاسع، ديسمبر 2020، ص 98
[12]- نفسه، ص 100
[13]- Larousse Dictionnaire de la langue Francaise, Bardas, Paris, 19981. P 34
[14]- Nancy Fraser , Qu’est-ce que la justice sociale, Paris, la découverte, 2001, p 154
[15]- طبعا تلقى هذه الأطروحة معارضات كثيرة لما تجسده من رغبة في التحول سريعا إلى نوع من المساواة المخلة، ولما تحتمله من ممكنات خلق هوية موحدة لا تستوعب الاختلافات الثقافية والعرقية والتاريخية؛ لأن المواطنة العالمية قد يُفهم منها أيضا الرغبة في خلق تجربة واحدة وموحدة دون مراعاة لهذا الغنى والتنوع الإنساني، وهي النبرة التي يجري في الغالب عرضها ضمن سياق موسوم بفكرة المؤامرة القائلة بالرغبة في الهيمنة الثقافية للغرب أو غيره.
[16]- يمكن في هذا السياق الإشارة إلى سيولة ومرونة التحول الذي يطال فكرة المواطنة أيضا، على شاكلة باقي أشكال السيلان الأخرى التي مست تيمات "الحب" و"الحرية" و"الحداثة" والموثقة ضمن مشروع "ريجمونت باومان"، خاصة وأنه هو ذاته يصف حال الفراغ الذي تواجهه مقولة "الانتماء الوطني" الذي لم يعد هو القاعدة التي تحرك الأفراد، تأكيدا على إفراغ المواطنة المجالية بمعانيها التقليدية من معانيها، وتنبيها من حالة الفراغ والفشل الذي طال فكرة تكريس المواطنة الموحدة، حين قام بتعرية قوات الناتو التي تجسد في ظنه فكرة الكتلة الدولية المعبرة عن العولمة، وكيف أنها فشلت في إدراك واقعية السيولة التي أصبحت تميز العالم، لتكون مدعاة لخلق الاقتتال عوض أن تكون بلسما لحل الصراعات بطرق سلمية تكرس الاستقرار والتوافق. يُنظر:
- زيجمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رءوف عزت وزيجمونت باومان، منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2016، ص 259 وما بعدها.
[17]- وضع تايلور في الواقع تصورا نقديا شاملا في تعاطيه مع سؤال الحداثة، في دفاعه عن فكرة أن الحداثة لا تحتاج إلى التمجيد أو الإدانة، أو إلى كشف بؤسها أو التغني بعظمتها، بقدر ما هي في حاجة ملحة لتشخيص اعوجاجاتها وأمراضها، من خلال الكشف عن مفارقاتها وتناقضاتها، قصد وضع قراءة تصحيحية يمكن على أساسها تحويل أمراضها إلى علاجات ممكنة، وذاك سبب رهانه على إيتيقا الاعتراف وأخلاقيات العناية ومقولة التعددية الثقافية وواجب منح الأولوية للخير على العدالة والديمقراطية المضيافة والعلمانية المنفتحة والحياة العادية.
[18]- يعتبر هذا التشخيص هو لب ورهان إحدى أهم مؤلفات تايلور، أي "منابع الذات"، الذي كان القصد منه هو إعادة التعريف بالخيرات التكوينية ومدى غناها وتنوعها وتعددها، مع إبراز مأزق الهوية الحديثة العليلة، التي أصابها التشظي والبتر بسبب تبرمها من بعض هذه المسيلات والمنابع، رغم كونها موجودة ومؤثرة، على شكل "لا شعور" تاريخي وثقافي وروحي ووجداني. ينظر في هذا السياق: تشارلز تايلور، منابع الذات: تكون الهوية الحديثة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، مراجعة هيثم غالب الناهي، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1/يونيو2014
[19]- جمع تايلور هذه الأطروحة الخاصة بأمراض الحداثة ضمن مؤلف خاص، نعُده من المصادر الأساسية لهذه الأطروحة، وهو مؤلف "مرض الحداثة" Le malaise de la modernité، مع الإشارة إليه بمنطق الجمع في الغالب؛ أي "أمراض" تجاوبا مع مضمونه الذي يلم ثلاث علل، وتأكيدا على هذه الصيغة التي يجري استخدامها بالجمع في أغلب أجزاء الكتاب، ومن باب الإشارة فهو نفسه الكتاب المعنون بـ"أخلاقيات الأصالة" The Ethics of Authenticity وقد أعيد نشره في الطبعات الجديدة بالعنوان الأول، لكونه أكثر تعبيرا عن فكرة الكتاب وأطروحته.
[20]- Charles Taylor, Les Sources du moi La formation de l'identité moderne, traduit de l’anglais par Charlotte Melançon, Editions du Seuil, Paris, 1998 , p71
[21]- ibid, p72
[22]- من المهم الإشارة في هذا السياق إلى جزئية مهمة تتعلق بعملية "إعادة النشر" التي يعتمدها تايلور، فمثلا أعاد نشر كتاب "المتخيلات الاجتماعية الحديثة" بشكل كامل ودون أي إضافات أو تغييرات ضمن مؤلفه الضخم "عصر علماني"، وأشار إلى أجزاء مهمة من كتاب "التعددية الثقافية" ضمن كتاب "أخلاقيات الأصالة"، وأعاد نشر بعض مواقفه المتضمنة في "منابع الذات" ضمن مؤلفه "حيوان اللغة"، وغيرها كثير.
[23]- تشارلز تايلور، المتخيلات الاجتماعية الحديثة، ترجمة الحارث النبهان، مراجعة ثائر ديب، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1/مارس 2015، ص ص 105-106
[24]- تشارلز تايلور، المتخيلات الاجتماعية الحديثة، مرجع سابق، ص96
[25]- هذه التيمة المعاصرة القائلة بالديمقراطية المعطوبة، هي في الواقع ليست محل الكثير من الخلاف، إذ تواترت الأطروحات التي سعت إلى تقويض فرص الرهان الكلي على الأطر النظرية لهذا النظام، ولم يعد القول بأفضليته المطلقة، محل اتفاق كما في السابق، وربما تزيد المعطيات الآنية، تأكيد صدق هذا النقد، المبني على إزاحة الثقة من على هذا النظام، خاصة حين يتعلق الأمر بالتراجع الكبير لحس الممارسة السياسية الفاعلة، وما يلازمها من فقدان الثقة في الأدوات والآليات التدبيرية لهذا النظام، حتى في معاقلها الكبرى، التي تشهد تراجعا ملحوظا في نسب المشاركة الانتخابية مثلا، أو التي فقدت الثقة في معقولية التدبير السياسي بالمعنى الذي تسعى إليه. وعلى هذا الأساس يكثر الحديث في الفلسفة السياسية المعاصرة عن هذه الأعطاب، ونقرأ في عدد من العناوين والأطروحات، ما يثير هذا القلق، مثل "الديمقراطية المعطوبة" و"كراهية الديمقراطية" أو "أزمة الديمقراطية" أو "الديمقراطية ضد نفسها"...؛ بل حتى بعض العناوين التي ربما تبدو مُعَرِّفَة أو تمهيدية، هي في الجوهر حاملة هَمّ إبراز فظاعات هذا النظام، وراغبة في تقويض ما يمكن اعتباره مسلمات وأسوار تحميها؛ بل حتى إن كان المسعى هو الدفاع عن ما تبقى من الديمقراطية، من خلال رفض التصورات العدمية الموجهة لها، تكون لغة التحفظ حاضرة بقوة. نقرأ مثلا في كتاب يحمل عنوانا، لا يوحي بهذا العتاب: "حقيقة الديمقراطية" لـ"جان لاك نانسي"، ما يحيل إلى عمق الأزمة التي تمر بها الديمقراطية، يقول: "كيف ما كان الحال فإن الفكر تخلى عن الديمقراطية، وفي أفضل الأحوال، اعتبرها أهون الشرور. هكذا، تبيِّن أن الديمقراطية تحمل بشكل حتمي، إما كذبة الاستغلال أو كذبة الرداءة، ومن الممكن أن تكون الكذبتان مجتمعتين. بذلك انغمست السياسة الديمقراطية بشكل لا يقاوم، داخل رفض مزدوج للعدالة والكرامة". ينظر: جون لوك نانسي، حقيقة الديمقراطية، ترجمة عز الدين الخطابي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1/2019، ص19
[26]- تشارلز تايلور، المتخيلات الاجتماعية الحديثة، مرجع سابق، ص103
[27]- تشارلز تايلور، المتخيلات الاجتماعية الحديثة، مرجع سابق، ص103
[28]- تشارلز تايلور، أخلاقيات الأصالة، ترجمة وتقديم أحمد عويز، المركز الأكاديمي للأبحاث العراق، تورنتو، كندا، 2021، ص76. وبالمناسبة فنفس الإشارات تقريبا نجدها متضمنة في كتاب "التعددية الثقافية" لتايلور، خاصة في الفصل الموضوع تحت عنوان "الحاجة إلى الاعتراف"، ضمن كتاب "أخلاقيات الأصالة/أمراض الحداثة"، والذي أعاد تايلور نشره بشكل ضمني في الكتاب الأول، خذ مثلا هذه الفكرة التي أحلنا إليها هنا، والخاصة باعتبار تايلور سؤال الاعتراف والهوية، سؤالا مستحدثا، ولم يكن مطروحا في السابق، وأنه نتاج خالص للزمن الحديث والمعاصر فإن الإشارة إليها بنفس الصيغة متضمن في:
- Charles Taylor, Multiculturalisme différence et démocratie, Traduit de l'américain par Denis-Armand Canal, Editions Flammarion, Paris, 2009. p 55
[29]- Amy Gutman, in: Charles Taylor, Multiculturalisme différence et démocratie, ibid, p41-42.
[30]- كاترين أودار، ما الليبرالية؟ الأخلاق السياسة المجتمع، ترجمة سناء الصاروط، مراجعة سعود المولى، سلسلة ترجمان، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط1/يونيو2020، ص470
ومن باب الإشارة يعد هذا العمل في غاية الأهمية من أجل الوقوف على أهم الأسئلة الكبرى التي تطرحها الفلسفة السياسية ضمن موضوعاتها وإشكالاتها ومفاهيمها الأساسية، من قبيل الليبرالية، التعددية، الاعتراف، الديمقراطية، الدولة، الأمة، العلمانية، التسامح، التضامن، المساواة، الأقليات، الهجرة، المواطنة، الاختلاف، الحق، الإنصاف، العدالة، النيوليبرالية، الرعاية الإلهية، السلطة، الجمهورية، الاشتراكية؛ وهو في غاية لأهمية ليس في مسألة طرقه لكل هذه الموضوعات، بل في قدرته الكبيرة على الوصول إلى المفارقات المركزية التي تطرحها الفلسفة السياسية بشكل خاص، والحداثة بشكل عام.
[31]- من المهم أخذ هذا المعطى الخاص بالأدوار المؤسساتية التي تكلف بها تايلور، ضمن الاعتبار، حيث سمحت الصلاحيات التي منحت له بالعمل في لجان ومؤسسات ومراكز صنع القرار، كلجنة "بوشار-تايلور" مثلا، والتي رفعت توصيات مباشرة إلى حكومة "جان شاريه" بعد العمل عليها في الفترة المحددة بسنة 2007-2008
[32]- الزواوي بغوره، الاعتراف من أجل مفهوم جديد للعدل: دراسة في الفلسفة الاجتماعية، تقديم فهمي جدعان، منشورات دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1/أبريل2012. ص42
وهو بالمناسبة كتاب طرح فيه صاحبه الزواوي بغوره، ما يشبه الخلاصات المركزية لأهم المشاريع الفكرية المعاصرة التي عُنيت بمفهوم الاعتراف؛ بدأه بالحديث عن مشروع بول ريكور في الجزء المخصص بمعنى الاعتراف وعلاقة العدل بالذاكرة، وألحقه بدراسة لموقف تشارلز تايلور في ما يتعلق بعلاقة الاعتراف والتعددية الثقافية، وأتبعهما بنظرية الاعتراف بما هي عدل عند نانسي فرايز، وأنهى هذا المجهود بدراسة الأسس الفلسفية العامة للاعتراف عند أكسيل هونيت، مع الإشارة إلى الخلاصات المركزية والملاحظات النقدية الخاصة بمجمل هذه المشاريع؛ ما يعني أنه كتاب يصلح كمقدمة عامة للنظر في مفهوم الاعتراف في خطوطه المركزية.
[33]- Amy Gutman, in: Charles Taylor, Multiculturalisme différence et démocratie, ibid, p89
[34]- Charles Taylor, Le Malaise de la modernité, Traduit de l'anglais par Charlotte Melançon, Éditions du Cerf, Paris, 2010.p55
[35]- يبدو واضحا الارتباط القوي بين الزمن الحديث وفكرة المساواة، لدرجة أن كل المطالب الموجودة إذا ما أردنا اختصارها، فإنها ستصير دعوة إلى المزيد من المساواة والرغبة في الاتحاد وإلغاء الاختلافات؛ وهو أمر يبدو واضحا حتى في الأجزاء الطبيعية المرتبطة بالوضع البشري، كما في حالة التمايزات والاختلافات البيولوجية، والتي يجري محاولة شطبها بشكل تدريجي كنوع من الرغبة في تجاوز الاختلافات حتى في شقها الطبيعي، ومثال ذلك النقاشات الأخلاقية والقانونية المرتبطة بمسألة "التحول الجنسي"، إذ هي في صميمها تعبر عن الرغبة في تجاوز الثنائيات والتقسيمات والاختلافات والتمايزات الموجودة بين الرجل والمرأة بمقتضى أحكام الطبيعة، وما يقال على هذا المثال يقال أيضا على باقي المطالب الأقلوية الأخرى، كتلك المعبر عنها في الحركات النسوية مثلا، والتي تعبر بشكل ضمني عن المساواة بين الجنسين دون النظر إلى أي من الاعتبارات التي تبرر لهذه الاختلافات. والخلاصة أن المساواة الكلية والمطلقة هي في النهاية الغاية التي تختبئ وراءها كل التفاصيل المتعلقة بمجموع هذه المطالب.
[36]- Amy Gutman, in: Charles Taylor, Multiculturalisme différence et démocratie, ibid, p42
[37]- ibid.
[38]- كاترين أودار، ما الليبرالية؟ الأخلاق السياسة المجتمع، مرجع سابق، ص465
[39]- المرجع نفسه، والصفحة.