الفضائيات الدينية: كثرة في العدد...ضعف في البنية
فئة : مقالات
في التقرير السنوي للعام 2016، عن "البث الفضائي العربي"، رصد اتحاد إذاعات الدول العربية، عدد القنوات العربية خلال العشر سنوات الأخيرة: 404 سنة 2006، حوالي 1130 قناة في نهاية العام 2016...وهو رقم مهول في ظرف عقد من الزمن فقط. وتظهر إحصائيات التقرير تنامي عدد القنوات الدينية المتخصصة (حوالي 122 قناة) قياسا إلى عدد القنوات الجامعة، العامة منها كما الخاصة على حد سواء، وهو أمر ذو دلالات كبرى سنعود لها في حينه.
ما المقصود بالقنوات الدينية في هذه المقالة؟ هل هي القنوات التي تتشكل كل مفاصل شبكتها البرامجية من مواد ومضامين دينية، أو ذات نزعة دينية أو ذات نكهة دينية؟ هل هي القنوات التي لا تشكل هذه المواد والمضامين إلا بعضا من ذات الشبكة؟ أم هي القنوات التي تشتغل بالارتكاز على خلفية ومرجعية دينية، تمنحها هوية ما، وتميزها عما سواها من قنوات؟ أم تراها تلك القنوات الجامعة، التي لا تقدم مواد وبرامج دينية إلا في المناسبات الدينية أو ببعض أيام الأسبوع، وفي أيام الجمعة على وجه التحديد؟
قد يكون كل هذا أو بعضا منه، إذ التحديد غالبا ما يخضع لزاوية المقاربة المعتمدة، أو لطبيعة الغاية المحددة أو المرجوة، لكننا سنعمد هنا إلى اعتبار قناة فضائية ما دينية:
+ كل قناة يطغى على مضامينها المحتوى الديني، إرشادا ودعوة، تفسيرا وشرحا للعقيدة، حتى وإن اخترقت شبكتها بعض البرامج الترفيهية، أو بعض الفواصل الإعلانية ذات الخاصية التجارية.
تظهر إحصائيات التقرير السنوي للعام 2016، عن "البث الفضائي العربي" تنامي عدد القنوات الدينية المتخصصة قياسا إلى عدد القنوات الجامعة، العامة منها كما الخاصة
ينطبق هذا التحديد على الفضائيات الدينية الجامعة، وينطبق أيضا على القنوات المتخصصة. العبرة في الحالتين معا بما ينتج ويبث من مضامين دينية، وليس بمعيار آخر.
+ وكل قناة تخصص جزءا من شبكتها البرامجية للجانب الديني الخالص، من خلال استضافات دورية ومنتظمة لعلماء دين ودعاة متخصصين، يضمنون للقناة تنويع برامجها ونسب مشاهدة معتبرة لدى هذا الجمهور أو ذاك. والعبرة هنا أيضا، ليست بحجم ما يتم عرضه وتقديمه، بل بنوعية المادة المقدمة، حتى وإن كانت موسمية، عابرة وغير منتظمة.
كل هذه التصنيفات تدخل في مجال ما يسمى بالإعلام الديني؛ أي في حالتنا هنا، ذاك "الإعلام الخاص بالأمور الدينية الإسلامية، دون سواها من الأديان الأخرى"، والذي لا يختلف في أسلوبه أو في مواضيعه، أو في فنون التقديم والتنشيط التي يعتمدها، عن باقي أنواع الإعلام، اللهم إلا على مستوى الصبغة الخاصة التي تميزه عن سواه، والمستمدة أساسا من روح الشريعة الإسلامية، التي هي مرجعيته ومصدر إلهامه وسر إشعاعه.
من هنا، فإن المقصود بالإعلام الديني، الذي تقدمه الفضائيات عبر السواتل، إنما تلك المواد المسموعة والمرئية، التي تندرج في إطارها باقي القضايا والحقول: "فالسياسي يتحدث عن السياسة في دائرة الدين، والاقتصادي يتناول المسائل الاقتصادية من منظور ديني، والمثقف يثمن دور الثقافة مستدلا بالدين، وهو ما يبرر توجه شق كبير من الفضائيات الدينية للتخصص، الأمر الذي يساهم بدوره في تعميق الفكر الديني وإثرائه"، لا بل وإشاعة مضامينه على نطاق عام...نطاق كوني في الغالب الأعم من الحالات.
من ناحية أخرى، فلو تسنى لنا أن نتأمل شبكة برامج الفضائيات الدينية العربية الجامعة، للاحظنا أن بنيتها لا تختلف كثيرا عن بعضها البعض، اللهم إلا في بعض التفاصيل والجزئيات، ثم في أسلوب المعالجة المعتمدة:
° فمعظم هذه القنوات يستهل إرساله بآيات قرآنية كريمة، تتبعها أدعية وابتهالات أو أحاديث نبوية، ويختتم إرساله بنفس التراتبية، فيما يشبه العادة أو العرف في التلفزيونات الفضائية العربية، مشرقا ومغربا، قد لا تشد على ذلك إلا بعض القنوات ذات الإرسال المستمر، والتي تضطر أحيانا إلى بعض التنويع للحيلولة دون بروز الملل أو "التخمة" في المضمون الواحد.
° ومعظم هذه القنوات يؤثث شبكته البرامجية، لا سيما الأسبوعية منها (يوم الجمعة) لتقديم بعض البرامج ذات الطبيعة الوعظية أو الإرشادية. بالإضافة إلى ذلك، نجد بها برامج خاصة بالإرشاد الديني والأخلاقي، "تغذي الهدف الدعوي الترغيبي في الدين، وهي مساحات تلفزيونية، إما حوارية أو خطابية، يقع فيها التذكير بأهم سمات أخلاق المسلم الحميدة، والنهي عن المعاصي، استنادا إلى القرآن والسنة".
° ومعظم هذه القنوات يعمد، في المناسبات الدينية الكبرى تحديدا، إلى بث أو إعادة بث أفلام تاريخية، ذات صبغة دينية أو تراثية أو تسجيلية، تجسد لشخصيات دينية مهمة، أو لأحداث مفصلية كان لها وقع كبير على الإسلام وعلى المسلمين.
أما القنوات الدينية المتخصصة، فإن بنية شبكاتها البرامجية، غالبا ما تكون تشكيلة قارة من مواد وبرامج دينية، معالجة بأساليب مختلفة، ومرتكزة حول جانب واحد أو جوانب عدة في الدين، حسب درجة التخصص.
وعلى العموم، فالقائم السائد أن البنية البرامجية للقنوات الفضائية الدينية، تنقسم إلى قسمين اثنين: قسم نقلي، وهو الذي لا يتغير كثيرا، وقسم عقلي وهو ذو طبيعة ظرفية ومتغيرة.
القسم النقلي "يشتمل على القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، والأحكام الفقهية والسيرة النبوية"، وهي ثوابت لا تغيير فيها ولا تبديل. فالقرآن هو صالح لكل زمان ومكان، والعقائد كما الشعائر هي هي لا تتغير أيضا.
أما الجانب العقلي، فهو الجانب الذي تفهم فيه الأمور بأدلتها وقياسها بمقياس "ما لم يرد فيه دليل على ما ورد فيه دليل"، وكذا بإحياء السنن واستنباط الأحكام والتشريعات والمفاهيم الفقهية.
وفي هذا المستوى، يدخل باب الاجتهاد وقياس الأمور المستحدثة التي لم يرد فيها نص، على الأمور التي فيها نص، مع مراعاة ظرفية هذه الأحكام.
وقد ميزت ثريا السنوسي، في معاينة مباشرة من لدنها، للفضائيات الدينية في العشرة أيام الأخيرة من شهر مايو من العام 2012، ميزت بين خمسة أنواع من البرامج التي تتشكل منها شبكة هذه الفضائيات:
+ برامج تفسيرية/تحليلية، وهي "برامج نقلية وتلقينية، تطرح قضايا جوهرية، في علاقة وطيدة بمسألة العقيدة والتوحيد، بهدف الوصول إلى قلب المشاهد وعقله، من خلال برامج تقدم شروحات للقرآن، تستند إما إلى النقل؛ أي إلى ما هو متداول من تفسيرات قديمة عن أئمة مقتدرين، وهذا ما نجده تحديدا في القنوات المتخصصة في الأحاديث النبوية الشريفة والعلوم الشرعية، وإما إلى العلم، حتى يتبين المشاهد مدى مطابقة الاكتشافات العلمية لما ورد في القرآن الكريم، وهي بالتالي تركز على مسألة الإعجاز القرآني والاستدلال بالقرآن الكريم، لتدعيم الاكتشافات العلمية، في أسلوب حجاجي إقناعي جاد".
تقنية التفسير والتحليل والحجاج والإقناع هي المستخدمة هنا بقوة، سواء تعلق الأمر عند تناول عقيدة التوحيد، لبيان حقيقة الدين، وضرورة إفراد الخالق بالعبادة، أو في البرامج الخاصة بالاستشارات والفتاوى، حيث يكثر الاستدلال، ويطغى الأسلوب التحليلي التبسيطي، زيادة على القياس، لا سيما فيما يتعلق بالآيات والأحاديث التي تثير كثيرا من النقاش والتأويل.
+ برامج سردية، وهي برامج تبسيطية، ذات بعد تربوي، وخلفية بيداغوجية، وتروم في عمومها، سواء بالفضائيات الجامعة أو بالفضائيات المتخصصة، إلى إبراز القيم الإسلامية والعبر التي يجب استشرافها منها، وذلك بالارتكاز على أحداث ميزت حياة وسيرة الرسول (ص)، أو الخلفاء الراشدين، أو كبار الأئمة الذي طبعوا تاريخ الإسلام والمسلمين.
+ برامج تلقينية ذات وظيفة تعليمية، وهي برامج تركز بالأساس على مواد تستهدف تعليم طرق نطق وتجويد القرآن الكريم، كما تقدم برامج توجيهية لكيفيات ممارسة المسلم لعباداته، من صلاة وصوم وزكاة وما سواها، وهي برامج غالبا ما تكون موجهة للأطفال أو للجاليات المسلمة ببلدان المهجر، أو ببعض جهات العالم الأخرى، الناطقة جزئيا بالعربية.
ا نبالغ لو قلنا بأن القنوات الدينية لم تنجح في تصور وصياغة مادة دينية خاصة بالتلفزيون، تتماهى مع متطلباته وإكراهاته بل اكتفت تقريبا بنقل ما يموج على أرض الواقع
+ برامج إخبارية، وهي برامج وفقرات دينية تتعلق بتغطية الطقوس الدينية، مثل رفع الأذان ونقل الصلوات وخطب الجمعة، إضافة إلى تغطية النشاطات والفعاليات الخاصة بموسم الحج، وبث صلاة عيد الأضحى المبارك. كما أنها تعمد إلى تغطية الملتقيات والندوات والمؤتمرات الإسلامية التي تقام هنا أو هناك، بغرض تعميم المعرفة، ومواكبة الأنشطة ذات الصبغة الدينية أو الدعوية المقامة.
+ برامج ترويحية، وهي برامج تتمحور حول مواد إنشادية وابتهالات وأذكار، وأمداح وأغاني دينية وبرامج للأطفال خفيفة، ذات بعد تربوي وبيداغوجي. لكن الأساسي هنا هو الجانب الديني المقدم على شكل مادة ترفيهية وترويحية، غير موغلة في الأكاديمية أو في المواد التي قد تبدو ثقيلة على القلب.
يبدو إذن، على الأقل قياسا إلى هذا التصنيف، أن بنية البرامج في القنوات الدينية تبقى عادية للغاية في مضامينها، لا بل وسطحية في الكثير من معالجاتها ومحتوياتها...ولعلنا لا نبالغ لو قلنا بأن هذه القنوات لم تنجح في تصور وصياغة مادة دينية خاصة بالتلفزيون، تتماهى مع متطلباته وإكراهاته...بل اكتفت تقريبا بنقل ما يموج على أرض الواقع...حتى ليبدو للمرء أنه وهو بصدد متابعة برنامج إرشادي، أنه برحاب مسجد أو بين يدي خطيب بحسينية...