الفضائيات الدينية: موسطة الدين والتدين
فئة : مقالات
في دراسة لنا سابقة عن الفضائيات العربية، خلصنا إلى القول بأنه على الرغم من استمرار القنوات التلفزيونية الرسمية في تقديم موادها الدينية بنفس الشاكلة، وبناء على نفس مرجعيات الخطاب؛ فإن بروز فضائيات خاصة (دينية صرفة أو جامعة) وانفجار أحداث بالمنطقة العربية خلخلت، ببداية هذا القرن، التوازنات القائمة، ونقلت الخطاب الديني من مساحته المعهودة، مساحة الوعظ والإرشاد والعبادات، إلى مساحة جديدة باتت تنهل من حينه من معين جديد، معين "الإيديولوجيا الإسلامية" أو معين "إيديولوجيا الإسلام السياسي".
ولعل الموسطة الإعلامية لأحداث مفصلية كبرى (غزو أفغانستان والعراق، إعدام الرئيس صدام حسين، ناهيك عن التنكيل اليومي بالفلسطينيين) قد أججت المخيال الجمعي العربي والإسلامي العام، الذي اعتبر أن ما جرى ويجري، إنما هو إهانة مقصودة للإسلام وللمسلمين. فركبت بعض الفضائيات، من تاريخه، ناصية هذه الأحداث لتطوير خطاب ديني "تأجيجي"، اتخذ من الغرب عنوانه ومادته ووقوده وعنوان رسالته.
الموسطة الإعلامية لأحداث مفصلية كبرى أججت المخيال الجمعي العربي والإسلامي، الذي اعتبر أن ما جرى ويجري، إنما هو إهانة مقصودة
في المقابل، وبامتداد لذلك، "وأمام تقوض نموذج الدولة في التنمية، والتراجع الصارخ للقومية العربية، بالإضافة إلى فشل مسلسلات الدمقرطة واحتضار جامعة الدول العربية، أمام كل هذا برز الخطاب الإسلامي، بغرض استنبات إيديولوجية بديلة، مشجعة من لدن مجموعات إسلامية تحارب في أفغانستان وضد الهيمنة الأمريكية في العراق".
كل مفاصل الاستراتيجية الخطابية الجديدة (المقتنية للسواتل) التي ركب ناصيتها هذا "النوع من الإسلام"، قد أمعنت في تشجيع الانتقال من دين مبني على العبادات، إلى دين يرفع لواء إيديولوجيا القتال التي تتبنى العنف، سواء كان مغلفا باصطلاح الجهاد، أو كان مجرد رد فعل طبيعي، فردي أو جماعي، على ما هو قائم.
نحن هنا إذن، بإزاء نفس الموسطة، موسطة إعلام الفضائيات للدين، بيد أننا انتقلنا في صلبها من موسطة محلية، تقوم عليها الفضائيات الحكومية وتمرر لخطاب الطقوس والعبادات، إلى موسطة عابرة للحدود، لا تخضع لرقابة الحكومات الوطنية. إنها موسطة مكنت من مخاطبة جمهور أوسع، يلتقط برامجها ويتلقاها دون سبيل للمنع أو التشويش أو الرقابة على المضمون.
لم تتغير وظيفة الموسطة هنا بالمرة؛ الذي تغير هو مجال الفعل (والتفاعل أيضا) وهاجس الرقابة وسيف المتابعة، والذي تغير هو الانتقال من مجال لمجال، من جمهور لجمهور أوسع. يقول برتراند جيني في هذا الخصوص: "إن القنوات الباثة عبر السواتل قد منحت الأرضية لأفراد خارج الحكومات، ومكنتهم من التواصل مباشرة مع المسؤولين السياسيين، ومع الجمهور بوجه عام. المعلقون بدورهم قد بات بإمكانهم ولأول مرة، التحرر أو على الأقل الابتعاد عن سيف الرقابة الذي كان يثوي خلف رقابهم".
معنى هذا أن الرقابة نفسها لم تعد محتكمة إلى معايير وطنية أو جهوية صارمة كما كان الشأن في الماضي، مع الأخبار، مع الأفلام، والمسلسلات والعروض المسرحية وغيرها، والتي تبث في القنوات الجامعة أو ذات الطبيعة العمومية والرسمية، بل أضحت في حل منها جميعا، رسالة وخطابا وسياسات تحريرية.
المثير للملاحظة حقا أنه، سواء تعلق الأمر بالقنوات المحلية التي تخضع للرقابة بهذا الشكل أو ذاك، أو بالقنوات العابرة للحدود، والتي لا رقابة رسمية عليها، اللهم إلا الرقابة الذاتية، فإن تشخيص الواقع الذي ينطلق منه هذا البرنامج الديني أو ذاك، لا يترك مجالا واسعا للاختلاف: إذ الشعار الرائج بكل هذه القنوات، أن "الأمة مريضة، متراجعة، متخلفة، بحكم ابتعادها عن مبادئ الدين، وانصرافها إلى تبني الحداثة في نمط عيشها. الأمة في خطر، لذلك وجب إعادة أسلمتها". شعار يتقاسمه الكل، ولا يبدو في ظاهره، مثار خلاف كبير.
بيد أننا لو حصرنا هذا التشخيص في فئة أو جماعة ما (بالمسجد مثلا أو بالقنوات الإذاعية والتلفزيونية المحلية محدودة التغطية)، فإن وقعه قد لا يبدو ذو أثر كبير. لكنه عندما يتموسط إعلاميا، ويغدو خطابا جماهيريا شاملا، فإن لوقعه تبعات كبرى، تبدأ بالرفع من منسوب الاحتقان، وتصل حد التشدد والتطرف، لا بل وقد تحيل على القابلية لتبني العنف خطابا وسلوكا وممارسة.
بنيت الموسطة الإعلامية وصيغت لتثبيت منظومة "جديدة" في القيم، تعيد الاعتبار للدين، وبالآن ذاته توجه العرب والمسلمين في بحثهم عن إحياء جديد
وعليه، فإن الخطاب المتبني لضرورة إعادة بناء الهوية كمدخل لبناء الأمة مثلا، إنما يدفع بمسألة أنه بذلك، إنما يتجاوب مع حاجة الجمهور المتلقي لذلك، لا سيما وقد بلغ الاحتقان من بين ظهراني هذا الأخير مبلغا متقدما. إنه كمن يتبرأ من محددات الخطاب إياه، ويراهن على مجرد مجاراته وعكس ما يجول من بين ظهرانيه.
بالتالي، فهو خطاب مرتكز على استراتيجية إعلامية من شطرين: إعادة بناء مفاصل الأمة، و"إعادة أسلمة" المجتمعات العربية. لكنها استراتيجية متكئة بالآن ذاته، على تصريف عملي على الأرض، يبدأ بتوعية الجماهير، بتأطيرها داخل مشاريع خيرية مباشرة، وبتأطيرها أيضا داخل المساجد والجمعيات الأهلية، وينتهي باستقطاب بعض عناصره، ثم حقنهم إيديولوجيا، ثم تجنيدهم "حركيا" في أفق الدفع بهم للفعل بالميدان.
ولذلك، ترى أن هذه الاستراتيجية لا تشتغل احتكاما إلى أفق واحد، أو "تناضل" على جبهة واحدة، بل تعمل بالارتكاز على آفاق متعددة، يتداخل في صلبها الاقتصادي، بالاجتماعي، بالثقافي، بالقانوني، بالتربوي، بالبيداغوجي وبما سواهم...وكلها آفاق تستدعي البعد الإعلامي لترويجها أفقيا وعموديا، ونشرها على نطاق واسع...داخل الوطن الواحد بداية، ثم بكل الأصقاع بالتدريج.
ولذلك، اعتبرنا في الدراسة المشار إليها، إلى أن الموسطة الإعلامية للخطاب الديني لا تبرز في جانب دون آخر، بل تخترق كل الجوانب، على اعتبار الطبيعة التكاملية التي تبني وتؤسس لوظيفة وسائل الإعلام، ثم إن هذه الموسطة لم يتم اعتمادها لذاتها، أو ابتغاء إدراكها من باب الادعاء بمجاراة العصر ومستجدات العصر. إنها بنيت وصيغت لتثبيت منظومة "جديدة" في القيم، تعيد الاعتبار للدين، وبالآن ذاته توجه العرب والمسلمين في بحثهم عن "إحياء جديد"، إما لذاته أو لمواجهة، ثم مجابهة غرب تجاوز وأمعن في تجاوزاته...هكذا يقول الخطاب ويجب أن تتلقفه الآذان والأفئدة.
الموسطة هنا ذات بعدين اثنين: بعد موضوعي صرف، غايته بعيدة المدى إعادة الاعتبار للدين الإسلامي وللقيم العربية/الإسلامية في وجه الغرب، وبعد ذاتي موازي هدفه تطوير استراتيجية إعلامية تجابهه، أو في الحد الأدنى تواجهه وتحد من مغالاته في تقديم الإسلام والمسلمين.
لا نروم القصد بتعبير "الموسطة الإعلامية" المستعمل هنا، التدليل على تماه ما بين الأداة والرسالة، بل نبتغي التدليل على مسألتين جوهريتين اثنتين:
+ المسألة الأولى، وهي أن الأداة الإعلامية (الفضائيات الدينية في هذه الحالة) إنما تقوم بعكس تموجات الدين على أرض الواقع؛ أي تقوم بالتعبير عن مجريات "الفعل الديني" كما يتمظهر في حياة الأفراد والجماعات، في زمن ما وفي مكان ما.
+ أما المسألة الثانية، فتتجاوز الوظيفة الأولى، في كونها تتطلع إلى بناء أو إعادة البناء الاجتماعي للدين؛ أي أنها تعمد إلى إعادة تشكيل المجتمع بالارتكاز على البعد الديني.
ويبدو، بالحالتين معا، أن الفعل الديني قد أضحى جزءا من "المعاش اليومي للإنسان"، سواء بالصيغة المتخصصة التي تقدمه بها القنوات الدينية، أو ضمن ما يقدم من مضامين دينية تدفع بها الفضائيات الجامعة، ضمن تيارات المعلومات والأخبار والترفيه والموسيقى والأفلام، التي تؤثث شبكتها آناء الليل وأطراف النهار.
بالتالي، فإن هذه العملية، عملية موسطة الدين إعلاميا من لدن القنوات العمومية تحديدا (والخاصة في بعض منها)، تظهر ولكأنها عملية تأطير حقيقية للأفراد والمجتمعات، في محاولة حثيثة إذا لم يكن لتغيير العقليات وأنماط التفكير، فعلى الأقل للتذكير بمركزية البعد الديني في العلاقات بين الأفراد والجماعات.
ولذلك، فإن الذي يقدم من بين ظهراني هذه الفضائيات (الإسلامية على وجه التحديد)، هو ليس فقط "خطابا إسلاميا" يراد ترويجه من خلال الفضائيات إياها بصورة رسمية، بل هو أيضا بناء إيديولوجي وسياسي، قد يتماهى في العديد من جوانبه مع الإسلام الرسمي الذي تتبناه الحكومات، وتقوم التلفزيونات العمومية على إعادة إخراجه إعلاميا، ثم بثه وترويجه على نطاق واسع.
ويبدو أن الموسطة الإعلامية للدين، التي كانت ولزمن طويل، حبيسة فضاء ضيق ومغلق (بالمسجد أو بالحلقيات الدينية، أو بدروس الوعظ والإرشاد المقتنية للكتاب أو للأسطوانة)، هذه الموسطة قد حملت في جوفها كل أشكال التطورات التكنولوجية التي طالت مجال الإنتاج والبث الإعلاميين، فتجاوزت بذلك على ضيق المجال وانغلاق أفق الانتشار وتقوقع "السوق الوطني" ذي الجمهور المحدود، والخاضع لإكراهات مادية من المتعذر التحايل عليها.
إنها حركية نقلت المعالجة الإعلامية للدين من خطاب في وعن الدين، إلى خطاب ديني صرف، له آلياته وأساليبه ومسالك تصريفه. لقد بات يتجاوز الأداء التقليدي في مضمونه، في طرق تقديمه، وفي التقنيات المعتمدة في إنتاجه وإخراجه وتوزيعه وتقديمه، وهي مسألة سنعود لها في مناسبات قادمة.