الفكر الإسلامي من أزمته البنيوية إلى مقتضيات التجاوز التحديثي
فئة : قراءات في كتب
الفكر الإسلامي من أزمته البنيوية إلى مقتضيات التجاوز التحديثي
قراءة في كتاب عبد المجيد الشرفي :
تحديث الفكر الإسلامي
مدخل:
يعد عبد المجيد الشرفي رجل مدرسة، رغم أن شهرته لم تساوق مشاهير الفكر الإسلامي الأفذاذ إلا أنه فاقهم بحضور متين في تأسيس مدرسة فكرية مهمة، تستمد أطروحاتها المتنوعة من دعاوى الحداثة وتطبيقاتها الصارمة في العلاقة بين الدين والتاريخ، ويكفي أن نذكّر بمشروع الإسلام واحدًا ومتعددًا، لنتعرف على مبلغ تأثيره في تلامذته، الذين أضحوا بدورهم إمكانًا فكريًا مستميتًا في المنافحة عن أطروحات الأستاذ. نتذكر كتابه التأسيسي الإسلام بين الرسالة والتاريخ وما جلبه من سجال عميم، في الفارق الجوهري بين المتعالي في صورة الدين المنزل، والتاريخي المحايث في شكل التجارب الإسلامية المتنوعة، التي تبدأ من المحاولات النبوية في إرساء دعائم مجتمع مشدود إلى أحكام آنية استدعتها الظروف السوسيوبسيكو ثقافية لزمانه، وما انبثق عن تلك العمليات المختلفة من حقول معرفية جديدة تشكلت على ضفاف النص، وتحولت به إلى شرعنة حديدية، أفقدته ألقه القيمي الذي يصلح للاستمرار.
وفي حوار معه في المؤتمر الافتتاحي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود في شهر ماي 2013، أكد لي الضرورة القصوى لعملية التجاوز لتفاصيل الأحكام، بحسبان استنفادها لغرضها التاريخي، والعمل باستمرار على استمداد الإسلام في غائرته القيمية التي تسمح بالتجاوب الإيجابي مع العالم والتاريخ. فسألته: ما هي الحمولات والأطر التاريخية التي تتولى ذلك؟ فابتدرني بأنها القيم ذاتها، فعرفت أن الرجل واعٍ برؤيته، مدرك تمامًا لتفاصيلها، وهو مختلف إلى حد ما عن أولئك الذين يتعاطون مع الدين من عل، بداعي التجاوز الوضعاني السمج، وهو مطّلع على النصوص الكبرى التي أسست للثقافة الإسلامية، لذا يضطر قارئه إلى احترامه وتقديره، أولاً لهدوئه وأناته في القول والصدور، وثانيًا لعمقه وإحاطته بما يفضي فيه ويتحدث.
ولكي نشرك القارئ العربي، في بعض تفاصيل رؤيته، ومنهجه، نقارب كتابه: تحديث الفكر الإسلامي، رغم كونه محاضرات، ونعرف طبيعة المحاضرة وخصوصية الشفاهي إزاء المكتوب، إلا أن الفائدة النظرية حاضرة، خاصة أنه كتاب لخص فيه جماع منظوره لأزمة الفكر الإسلامي، وما أسس لها، وتمظهراتها في الميادين الثقافية المتعددة، وما آلت إليه، ثم كيف استحالت تلك الثقافة من ألقٍ علمي وهاج منتج ومثمر؟ فإذا بها تنحبس وتنغرز في تربة التقليد المقيتة، وتكرار أخطاء السابقين، بله تفوقاتهم؟
يتمحور الكتاب حول الفكر الإسلامي من منطلق مشروعية التفكير فيه، وتحويله إلى موضوع للدراسة، والجدل الحاصل في ثنايا التأريخ لتطوره، من جهة الحاجة إلى الانتقال به إلى مستوى الدخول في المعترك الثقافي العالمي، وإفادته من النجاحات والفتوح الهائلة للثقافة الظافرة، ومن ناحية التخلص من معوقات نموه واستمراريته في الإنتاج والخلق، وقد خص مجالين معرفيين بالدرس؛ أحدهما، بمثابة المنطلق المؤسس لقواعد النظر الإسلامي في مصدريته المعرفية، وأعني به أصول الفقه، أو المنهجية المؤطرة للممارسة التنظيرية في الفضاء العلمي والمعرفي للإسلام، كتجربة في التاريخ.
والآخر نتاج له، كتفصيلات واقعية وعملية جسدت المحاولة الإسلامية في إسقاط الأحكام على الوقائع والتجاوب مع تفاصيلها النازلة والمستحدثة والطارئة، ويكون بذلك هو الفقه، الربيب الملازم للأصول في طوله، كصلة العلة بالمعلول. واختياره لهذين الحقلين، إضافة إلى مجالات أخرى في كتاب الإسلام والحداثة، دال جدًا، لرميه إلى الجمع في دعوى التحديث بين المؤسس/المرجعية، في النطاق العلمي، وبين المضمون/الموضوع، سعيًا للإحاطة بعدة الفقهاء ومستندهم في بناء موقفهم إزاء العالم، حتى يسهل عليه في النهاية زحزحة وظيفتهم المتسلطة، تمهيدًا للتمكن من خلق مرجعيات جديدة مفتوحة، تتعدى الأطر التقليدية، وتعطي العقل العربي الإسلامي المكنة المتماسكة في تحقيق التجاوب الخلاق مع عالم الحداثة الرحيب في تقديره.
يستهل الكتاب بإقرار حقيقة مهمة، وهي أن الفكر الإسلامي لم يستطع التجاوب الكفء مع الحداثة في وجوهها جميعًا، ولم يخضع لمقتضياتها النوعية، بل الجماعة المتمترسة بتراث السابقين، تشذب وجهًا قد شاخ، عجزت الألوان المتنوعة عن تغطية العجز فيه، لذا من اللازم تثويره من الداخل، والقيام بعمليات استئصال تقتلع أزماته من عمقها، وتأخذ بنواحي النظر فيه جميعًا، ليقدر على التجاوز الفعلي، والانخراط في مسار الحداثة الطويل، بما هي المكسب المكلل للإنسانية جمعاء. ولأن المسلمين يحيون حالات الفوات المفارقاتي، بين وضع مؤسساتي استحكم عليهم من كل ناحية، بتشريعات وقوانين وضعية ابتدعها الإنسان لينظم شؤونه التدبيرية بكفاءة ظاهرة. وبين حياة خاصة لا تزال تخضع بكيفية ما لمشروطيات الفقه التقليدي، وما ينسبه لاشتغاله من دينية مدّعاة "فالدين كان دومًا مرجع المشروعية، لأنه يضمن للحكام إبراز حكمهم على أنه متعال لا مجال لمعارضته، مثلما احتاجت العلاقات الجنسية إلى مبررات متعالية تقيها من الفوضى وتكرس سلطة الرجل على المرأة في آن واحد"[1] والسبب في وصلة، بين ظاهرتين بينهما تباعد لافت، بين التعالي في المشروعية والسيادة العليا، وبين المباشرة في العلاقة الحميمية، السلطة المحمومة والمخبوءة خلف الرغبة الظاهرة في تسمير الصلات في عمودية أبدية، بين الفوق/الأعلى/الفقيه/الرجل/الخليفة، وبين التحت/المقلد/المرأة/الرعية، وفي ذلك ما يديم القهر الشنيع الممارس في أغلب التراث الإسلامي، لذا نجد في تقديره ما يبرر توجه الفقهاء العارم إلى استعادة مؤسسة الخلافة، لا من زاوية ما تمثله من حلم إسلامي ماضٍ ولى ولن يعود، بل هو عمل حثيث لإرجاع الهيمنة المفقودة. ومع أن القرآن لا يتضمن أحكامًا تفيد بوجوبها وبوجوب بعض الأحكام الأخرى؛ في الميراث، والربا...إلخ، وما إلى ذلك مما يعمد إليه الفقهاء بالتوصيف التنزيهي التقديسي، بوصفه إلهيًا، "هكذا يمكن تشخيص أزمة الفقه في عصرنا، باعتبارها أزمة بنيوية لا ظرفية، وباعتبارها ناشئة عن الانقلاب الذي حصل في هيكلة المؤسسات الاجتماعية وغير المعطيات التي كانت تقوم عليها تغييرًا جذريًا لا سبيل إلى إنكاره، وهو ما يفرض على الفئة الواعية من المسلمين مواجهة هذا الواقع الجديد بكل جرأة، إذ لا يترتب على تجاهله وتوخي سلوك النعامة إزاءه إلا تعميق الفجوة بين الدين والحياة..."[2] وللحفاظ على استمرارية رفده للثقافة العالمية والمحلية، من اللازم اتخاذ تدابير تنظيرية مستعجلة في جدواها، ومتأنية في أساليبها وطرائقها، مما يمنح النخبة الإسلامية المقدرة على إضفاء المعقولية على جدوى الإيمان بالدين، وضرورة حضوره التاريخي، لذا ليس من سبيل سوى استهداف المرجعية المنهجية المؤطرة للوعي التقليدي وميدانها، بالخلخلة والتفكيك، لاستعادة المثقف النوعي والمفتوح لزمام المبادرة الحضارية.
أولاً- مبررات التحديث وموجباته:
يظهر أن اللازمة الأولى التي يستوجبها القيام بهذه العملية التحديثية التي بدأت ولا يجب أن تتوقف، هي الأفق الإدراكي الواحد، بين صانع القول/ملقيه، وبين المتصدي له/متلقيه، وإلا حدثت الفجوة التي لن يردمها سوى الجهل المطبق وإساءة الفهم، وفي أحيان الظن، لذا يقتضي التجاوب الخلاق بين الطرفين استحكام الأدوات المنهجية المشتركة، حتى يفضى إلى تكوين المجال الموحد للتفاهم الجماعي، بداية بين الدارسين في تخصصاتهم، ثم بينهم وبين المجتمع العام، وبذلك يقدر الجميع على تحقيق التواصل الناشئ من الفهم. وتزيد الأزمة في تعقيدها لما نكشف عن الفقر غير المبرر داخل كليات تعليم الفكر الإسلامي، إنْ المتخصصة، أو تلك التي تدرسه فرعيًا، في الافتقاد إلى ما أتاحته الحداثة من علوم وميادين دراسية جديدة، وما أفصحت عنه من مقدرة منهجية تفكيكية ونقدية هائلة، لكن الإغراق في أساليب الماضين يجعل الدارسين، للأسف، في غفلة من أمرهم، وفوات من الصعب تداركه، مالم تشرع تلك الأطر الاجتماعية للمعرفة، وفورًا، في توظيف المناهج الحديثة في مقاربة الظاهرة الدينية. "إن هذا الإطار هو الذي تندرج فيه محاولاتي، وذلك بالنظر في هذا الفكر الإسلامي من وجهة نظر حديثة..."[3] من غير التفات إلى المحاولات اليائسة لأولئك الذين يسمون كل عمل جديد بالكفر أو بالخروج على الدين، وهذا ما يجعل الباحثين الجدد في مفترق اختيار، إما الإبقاء على الموجود، بدعوى مسايرة الصحيح المألوف، أو الخروج عليه برؤية واضحة، وروية متثبتة، تفضي إلى زعزعة الأسس التقليدية والذهاب بها إلى أفق التحديث التأسيسي.
والاختيار عند عبد المجيد الشرفي حاسم، لأن أصل الإشكالية غير ذي بال، فإما التجدد، وإلا فهو التبدد إلى الأبد، لذا يكون الأصل المعرفي المولد يقف على أرضية التمييز الأكيد والجذري؛ بين الإلهي والبشري في الإسلام؛ أي بين الرسالة والتاريخ؛ أي بين الدين والإسلام، والفكر الإسلامي واجتهادات البشر، وهنا تمثل الخلطة السحرية للتجارب اللاهوتية الاجترارية، التي توهم المتلقي بأن جهدها دين، في حين الفرز المنهجي التأسيسي السابق، يحل المعضلة من جذورها ويتيح للوعي الانطلاق الانفكاكي من كل ما من شأنه أن يعيقه.
وتتم الخلطة السالفة، بإضافة ملحوظة مركزية، وهي أن الفكر الإسلامي كغيره من المشاريع الفكرية المتحدرة عن معين ديني، فهو كالمسيحي، واليهودي، والبوذي...وهكذا، إذن لا خصيصة له ما عدا بعض المظاهر الطقوسية، وإلا فهو ينتمي إلى المجال الدلالي عينه، ويقع تحت عنوان التوحيدية، المانحة للمؤمن المشتغل على أفكارها، الخبرة المعنوية التي تكاد تتطابق، وإذن استتباع هذا الفكر لذاك لا مشاحة جوهرية فيه، فما دامت تلك الأديان عاشت تجربة الرجة الحداثية، كذا على الإسلام أن يخوضها، لكن تلك استوعبت الدرس وتهيأت للتجدد وتلقي المناهج الحديثة بالقبول، وظن الشرفي؛ كذلك على الإسلام أن يفعل وإلا فهو الانحباس التاريخي، والتقاعس المعرفي. "ولذا فإن تحديات هذا الفكر هي التي تحمله حملاً على التكيف مع الأوضاع الجديدة".[4]
وبالتحليل العميق لبنية الفكر الإسلامي، نجده متمحورًا حول عنصرين مركزيين؛ أحدهما النص، والآخر الإجماع، وبذلك تجمعت له الترسانة الأمتن، في تعميم المنزع النصوصي. ومع ذلك، فإن النص لا يستقر على أرض دلالية موحدة، وهو حمال أوجه، ومعانيه متفاوتة، ثم هم أولاء يسشتهدون بمزق آيات، لا بآيات مجتمعة، مما يتيح التلاعب في المفهوم، ويكفي أن نشير إلى آيات العنف، وكيف استحالت إلى توجه جذري في الموقف من المخالفين، وكأن النص خال من مقابله الظاهر في آيات العفو والصفح وما إليها، وهنا نكشف عن موقف مهم عند الشرفي، وهو وسمه للفكر الإسلامي بالتجزيئية. والاقتطاع المتعسف لتركيبته من سياقاته الكثيرة، خاصة المعرفي والتاريخي ما يذهل الوعي عن البنية المعقدة للدلالة وحركتها، وينسي الاتصال الوثيق مع الواقع الذي خلق الحكم، أو دفع إليه.
وتتمة النص القرآني هو الحديث، حيث أسند إليه الفقهاء وظيفة خطيرة، لا تتمثل في البيان فقط، الذي هو الدور الطبيعي له، بل هو الزيادة في الحكم، أو القول بأن القرآن لم ترد فيه جميع الأحكام، لذا يعوزه الحديث، وهنا منبت مشكلة أخرى، تنضاف إلى عناصر الأزمة، لما ارتفع المبرر التاريخي الجزئي المتلبس إلى قاعدة تنظيرية توجه إليها الفقهاء لسد منطقة الفراغ القرآني، بداعي تفسيره أو شرحه، أو إيجاد حكم يتوافق مع النازلة التي لم يدل عليها القرآن بحكم، وهنا مكمن المشكلة، أولاً: لأنه من المفروض أن النص الكتابي تام، ولو أراد الزيادة لفعل. ثانيًا: هناك من رد الحديث من جهة كفاية القرآن، وما مناقشات العلماء بردود لمن يستغني عن القرآن كفاية تبرز وجود المتحفظين، لأنهم أدركوا يومها خطورة إقحام الأحاديث في تكملة المعنى. ولأن الصحابة كثر، وفهمهم متفاوت، فقد ينقلون بما وعوا، لا بما قصد إليه النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم. ومشكلة التحديث عن النبي الكريم معروفة، لعوارض تقدح في النقل، أو في الناقل، رغم التشديد البائن من فئة الفقهاء على ضرورة التعديل، خاصة للصحابة، وما وضعوه من قوانين تحيط المنقول بما يضمن صحته، لم يعفهم من حرج وجود الراد على موقفهم إزاء الحديث، مما يعني أنه مرجعية مهتزة، لا من حيث هي، بل في موقعها إزاء منظومة المعرفة التوحيدية.
ويضيف الشرفي بأن دواعي التأسيس للمجتمع الوليد وبناء مؤسساته دفعت بقياداته الفكرية والسياسية إلى تجميع عناصر التشريع والتنظير وتقعيد قوانين تنظيم الحياة العامة، سعيًا إلى توحيد السلوك وصونًا للجماعة ومنافحة عن بيضتها وحوزة شريعتها، مما يعني أن ما وقع شيء، وما كان ينبغي أن يتجاوب به مع الدين شيئًا، وفي أحيان لا تكون الأخطاء مقصودة، وفي أخرى هي كذلك، خاصة بالنسبة للمنظرين الكبار. وعمل الشافعي (204 ﻫ) في الرسالة تنضيد لمصادر المعرفة الإسلامية، بما رفع السنة في أحيان حتى فوق القرآن، وهنا تبرز الإشكالية غالبًا.
ولم يكتف القوم في تنميط التوجه العام، بإيراد مفردات نصية إلى غالب البناء النصي، بما ليس له من حاث فكري، سوى المقصد السوسيولوجي، بل تعدى إلى تسوير الثقافة الإسلامية بسياجات داعمة للأولى، ويعني بها الإجماع، الذي قعدوا له اندفاعًا تلقاء كبت الحرية والاختلاف في الرأي، تماشيًا وسلوك الجماعة المؤمنة التي تمجد التطاب المتماثل، وتحنق على المتنوع الثري، وقتئذ انحبس الفكر، ورفع في وجهه سلاح المروق والتبدّع."والإجماع استعمل لإقصاء المخالفين، أكثر مما استعمل لإيجاد ملاءمة بين الدين والحياة".[5]
ومن مفارقاتالأصوليين التي تبينوها كيفية الاستلال على الإجماع بالقرآن، ثم به عليه، ومع ذلك استعانوا بحزمة نصوص شرعنت لهم إجماع الأمة، ولما صعب عليهم تحقيقه عمليًا، تنكسوا إلى فئوية ضامنة ومقصودة، تتمثل في جماعة العلماء، وإذا بها تعرف القهقرى فتضحي في المذهب والطائفة، وتحول ما كان معولاً عليه ليصير محضنًا لتداول الحقيقة، إلى سياج دغمائي منكفئ حرم الجميع من التواصل وبناء المعنى. فانبثقت حالة تربوية وثقافية، عمدت إلى صناعة فرد بمقاس المجموع، أو ما تطمح إليه الجماعة، وليس شخصًا ذا أهلية وكفاءة قادرة على التفكير وتقليب النظر في همومه ومعاناة الناس، بحرية منهجية ومعرفية مؤهلة.
فوقع التصارع، وتشكل الخلاف الماحق، ودخلت التجربة التاريخية الإسلامية في صيرورة التنابذ، وبعدت الشقة بين المثال والواقع، فتكونت محاولات التكلس والوقوف عند عتبة اللحظة التدشينية الأولى، وذهل الجميع عن حقيقة تشبه كونها أنطولوجية، وهي أن النص في التاريخ، لذا ستطرأ عليه حتمًا تحولات وتبدلات تفقده معاني أو تنسيها، وتؤجلها، وتكبتها، وتلغيها. فبدأ التلاعب واستخدام سلاح النصوص والتراشق المتبادل، ولم تكتسب المعارف والعلوم نوعًا من الاستقرار الآني، سوى في عصر التدوين، لكن بلحاظ السياقية الظرفية في تكوينها؛ أي أنها علوم تعبر عن أفق انتظاري لمن دوّن وأسّس وقعّد، وغالبًا ليس للتجربة النبوية الأولى أو التي تلتها، وهنا يمكن استمداد خصائص المجتمعات الحية، في تطورها وتبدلها، بعيدًا عن الانغلاقات المكرسة للحفاظ على مصالح فئوية، سياسية أو فقهية، وفي الغالب بتواطئها. إنه "اليقين الثابت الذي أدت إليه المعرفة الإسلامية بحسب الظروف التاريخية التي نشأ فيها يقتضي أن ما هو كائن هو ما كان، وما كان هو ما ينبغي أن يكون. إن هذه المنظومة المنغلقة المتماسكة يصعب الخروج منها، فهي منظومة مكبلة، وبالرغم من ذلك، فإن الوعي بمقوماتها هو الذي يشرع إعادة النظر فيها، لأننا نعرف اليوم أنها منظومة تاريخية بشرية؛ أي أننا نستطيع اليوم أن نتخلص من الاستلاب الذي حجب عن القدماء دور البشر في إنتاج هذا النوع المخصوص من المعرفة، وحجب عنهم أثر الظروف التاريخية".[6] وبالتالي يمكن ممارسة الكشف عن المعطيات التي ولدت الداعي إلى النصوص، ومنه إلى تغيير فهمها، لما كشفنا أن الأحوال تتبدل، وما يتبعها هو كذلك. ولا يستطيع فعل ذلك سوى من امتلك الجرأة النفسية، والاستيعاب الفكري لشروط الانتقال والتحول. أما ما ألفه القوم من رهبة مانعة عن التمييز بين النص المنتج، وبين المعارف المولدة حوله، يجب تخطيه وفورًا، وهنا مكمن التجاوز التحديثي للأزمة البنيوية للفكر الإسلامي، وتلا هذا الفصل نقاشات رد عليها الشرفي بما يتوافق والمقدمات السالفة.
ثانيًا: أصول الفقه، من مكررات التقليديين إلى الإبداع الحداثي:
يدعو إلى الولوج إلى ميادين التحديث، باعتبارها المضمون الفعلي المتمم للمنهج، أعني الموضوع، ويكون أصول الفقه من أهمها؛ للشروع أولاً في التأليف والشرح والتلخيص فيه، وثانيًا للطباعة المتوالية للمصادر الأصولية التراثية، وجميعًا تقف على إبستيمية واحدة، يأخذ بقلبها التكرار وترديد مقولات السابقين، وكأن الزمن الفكري قد توقف، والمسار المعرفي يعيد ذاته المسابقة برتابة شديدة، تثير دوارًا لفرط المقولات المبهمة وغير الدالة إلا في سياق قديم.
ويغلب على التآليف الحديثة تغييبها للبعد التاريخي، ما يجعل توجه المستشرقين ظاهرًا وظافرًا، لما حكموا على الدين الإسلامي بأنه ثابت ذاتي جوهراني، لا يقبل التغيير ولا يتحمله، لذا فهو دين غير تقدمي، ولا يستطيع صناعة التاريخ أو تحريكه، وإزاءه الأصولي العاجز الذي تعود نتيجة الطريقة التعليمية التي ألفها، أن يتعامل مع الحكم من منطلق نصوصي متوالٍ مستوثق الصلة إلى بعضه، فيعسر عن تبيين رأيه، لأنه ليس من متاحه أصلًا. وقد بنا التوجه الأصولي تسييجاته للواقع التاريخي، بجملة مصاردات مؤسسة، مثلت الأسس الكبرى للعملية ككل، نوجزها فيما يلي:
·المسلمة الأولى: أن الدين مهيمن على كل شأن، وليس في الحياة فضاء لا يخضع له طرفة عين، ويمكن تسميتها، بهاجس التديين، وقد لخصوا أحكام الشرع بالنسبة للحياة في خمسة، وكذلك كانت رؤيتهم لمسائلها ومستجداتها، حلال/حرام، ومندوب/مكروه، ثم المباح. ويفندها الشرفي بسلوك الجيل الأول الذي تبعه؛ فقد خاض الحياة بمسعى اجتهادي جعله يفعل في الحياة ما ليس من الدين، ويستحدث من الأحكام المعاملاتية ما لم يرد فيه.
·المسلمة الثانية: استمرارية سلوكية تماثلية، تزعم تطابقًا في التصرفات ومماهاتها مع المصدر؛ أي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين. لكنه تأليف وهمي لأشياء لم تقع، فكل صدر عن رغبة واستراتيجية في الأداء، قد تكون متشابهة في نواحي، لكن لم تكن متطابقة أبدًا، ولم يكن في حسبانهم ذلك. "فالتحول أو التطور الذي حصل في مواقف المسلمين كان نتيجة لتطور المجتمع الإسلامي"[7] إن من جهة التشكيل وعناصر التكون، أو بالنظر إلى عاديات الوقائع وما ألقي في وجه المجتمع الوليد من تحديات جعلته ينتقل من وضع لآخر، ومن تجربة سياسية مبنية على الخلافة، إلى أخرى ملكية/سلطانية...فأين التماثل؟
·المسلمة الثالثة: القفز الهائل الذي أحدثته، وتحدثه قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهنا تم الإهدار المبرمج للسياق والخروج على مبررات الأحكام إلى تأبيدات أملتها الحاجة التنظيرية للأصوليين أكثر مما فرضته الوقائع.
·المسلمة الرابعة: مفارقة التمييز في التقليد بين العقيدة والفقه، فقد أقر أصوليو الدين بوجوب الاجتهاد والنظر في الاعتقاد، لكن لما جاءت التوبة إلى الفقه، ضيقوا واسعًا، وقرروا ضرورة التقليد لغير المجتهدين، خاصة إذا عرفنا أنهم جيشوا ترسانة مرعبة من لوازم الاجتهاد، فانحرمت منه غالبية الناس، فكان التقليد، وتعميم مضامين صادرة من أحاديث، أقر أغلب السابقين، بأن دلالاتها وربما ثبوتها ظنين، فكيف تلزم أمة بأكملها بالعمل بها، من غير تجاوب ولا رد؟
·المسلمة الخامسة: تغلب الظاهري الخارجي ذي الدلالة القانونية، على الاعتبار الذاتي الأخلاقي؛ أي العناية بما يمنح للجماعة تماسكها، بالخضوع للأحكام الفقهية الظاهرية، من غير مراعاة للجانب الوجداني، حتى ولو خالف الضمير الفردي، فلم يعنهم أن يكون الفرد عبقريًا بمقدار ما استجلب حاجتهم لتحقيق التماسك الاجتماعي.
·المسلمة السادسة: توجت التأسيسات السالفة، وانتهت إلى أن ما أفرزه الاجتهاد لا يعد بحال حكم المجتهد، أو درايته بالمعنى، بل هو حكم الله ومراده، وتقعدت بلازمة: كل مجتهد مصيب، أو الحق واحد لا يتعدد.
والمتأمل، حسب الشرفي، في تعاطي الأصوليين مع مصادر التشريع عندهم، يلحظ استمرارهم في العمل بالمصادرات السالفة، وعملهم بمنطق أن نتائجهم مرادة لله، وأنها القرآن وقد نطق، وهي أحكام صحيحة وقطعية، لذا جل الأحكام في المصادر الأساسية: القرآن والسنة والإجماع والقياس، قطعية وشاملة، وقابلة للتطبيق في كل مكان وزمان. ويشير الكاتب إلى بعض مفارقات الفهم التقليدي أو أزماته في مضمار الميراث، كنموذج لما نعت بأنه القراءة القطعية الدلالة، فأظهر من كتب الأصوليين أنها ليست كذلك. وهنا يورد موقفًا إزاء ما وقع، حيث إنه "من البديهي أن المسلم قد تعود على أن يقرأ النص عبر تلك القراءات الثواني التي ورثها، أما إذا حفر في هذه القراءات والتأويلات، فإن هذه النصوص القرآنية لا يمكن أن يتجرأ اليوم أحد على القول إنها قطعية الدلالة. فالقضية ليست في اعتماد القرآن أصلاً من أصول الفقه، ولكن في إعادة النظر في تلك المصادرة التي تتحكم في قراءة النص وتأويله، وهو اعتبار يمليه فهمنا للنص القرآني بكل تواضع أمام ما يقتضيه كلام الله"[8] وهنا ينفي الجرأة على ادعاء أنه حكم الله، بل ما فهمه من دلالة ممكنة، من منطوق القرآن، فالمشكلة ليست أن ننصب القرآن أصلاً، بمقدار ما هي في كيفية فهمه والتجاوب معه، بأساليب فهم مستحدثة ومتطورة.
ثالثًا: الفقه أم المشكلات، من الهيمنة المتكلسة إلى الإبداع الفضفاض المؤسّس
ينتقل الكاتب إلى مجال معرفي آخر مهم في إطار الثقافة الإسلامية التقليدية، لما كان له من دور توحيدي مهم، منح الأمة المقدرة على مجابهة الواقع المتقلب، رغم ما كان يتعرض له من انتقادات من دوائر أخرى كالتصوف، إلا أن المصالحة التي جرت بينه وبين التصوف مثلاً، دفع به إلى الهيمنة على مفاصل الثقافة الإسلامية، وإلى انقلاب هائل حدث لما تضخم الجزئي، وصار هو المؤسس للتوجه والاختيارات الكلية، وتدخل في تفاصيل الحياة واستبد بالجماعة المؤمنة، والملاحظ أن ما ألف في التراث الإسلامي من مدونات متنية أو حواشية أو شرحية أو نظمية، كلها تدل على نمط من الوعي الشكلي النصوصي قد غالب كل الألوان الثقافية الأخرى واستحوذ عليها. لكن المشكلة لا تكمن هنا، بمقدار ما يسأل عبد المجيد الشرفي عن مصير الفقه في عالم الحداثة، أو في الوقت المعاصر.
يشرع الكاتب في اختبار السؤال السالف، بإحالته إلى مقايسة مكينة بين القانون والفقه، ليخلص إلى كون أحدهما فيه قابلية التغير والتحول والاستجابة لطارئ الظروف، في حين أن الآخر فقد تلك المقدرة وتحول إلى إجابات ناجزة نهائية تفني الحيوية في تغيير الأحكام والمواقف، مما يجعل القانون حاضرًا فعالاً متجاوبًا، لا يبحث في النوايا ولا يضيق على الناس أفق حياتهم، فتسلط القانون جراء نمط الدولة الحديث، وتخلف الفقه عن مجاراة تطوراتها ومؤسساتها المستحدثة، مما أفضى إلى مفارقة تورث فصامًا شديدًا، بين حياة فردية تزعم ارتباطها بالفقه وأحكامه، وأخرى عامة تخضع للقانون المدني وشروطه وعقوده، مما قاد إلى ثنائية مقيتة وفصامية غير مبررة، تولدت من ثنائية الوعي المشرع، والسلوكيات العامة والخاصة في إطار الجماعة القنونية، ومن دعوى مستميتة من فئة تريد جعل القانون خاضعًا للفقه وأحكامه، رغم عدم كفايتها وعجزها عن المجاراة، خاصة بالنسبة لمجال الأحوال الشخصية وفروعه.
وتتبع الكاتب المفارقة منذ نشأتها، مرجعًا إياها إلى تلك التفاوتات الحاصلة ضمن تجربة الحضارة الإسلامية، من جهة التناقض السافر بين المدارس المختلفة، ثم الانشقاقات عن الدولة الأم؛ أي نظام الخلافة، وبعد ذلك شروع العثمانيين بدءًا من القرن السادس عشر مع سليمان القانوني، في المواءمة بين القانون والفقه، ومغالبة النظام الحضاري الجديد مع الاستعمار للنمط التقليدي، وهنا بدأ القانون يحضر بقوة ويهيمن على الفضاء الإسلامي عمومًا، وجعل الفقه ينزوي، رغم المحاولات المتكررة هنا وهناك، لاستعادة زمام المبادرة التشريعية. والوضع الحالي للفقه يدفعنا للتساؤل "هل هناك مجال لتطويره أو للتخلي عنه؟ فهذا سؤال يفرضه الواقع، إذ لا أسلط حكمًا مسبقًا بما أنني أستقرئ هذا الواقع وأرى ما هي حظوظ تجاوز هذه الثنائية؟ الثنائية التي لا يمكن أن تستمر في الواقع، فإما أن نطور الفقه، وإما أن مجاله هذا الذي تقلص شيئًا فشيئًا سيؤدي إلى اضمحلاله، لا أكثر ولا أقل".[9]
تمثُل أم المشكلات عند الشرفي، في استحالة الاجتهادات البشرية التاريخية إلى نصوصية غامرة تحرم الوعي الإسلامي من الانطلاق في عملية اجتهادية أخرى تجدد في الإجابات، كما تنوع في مصادر الإجابة، مما يفضي في النهاية إلى تنوع وثراء وأحكام مستجدة تتعدى تلك الماثلة في التراث، بوصف تلك بشرية، وهذه كذلك، ولكل بشر أفقه التاريخي. ويمثل بآية السرقة التي تحدد حد السارق، ويحيلنا إلى الخلافات الجوهرية بين الفقهاء حول مدلول السارق، وحده وشروطه، ثم معنى اليد ومستوى القطع...إلخ، وما إلى ذلك من خلافات، فما كان يظهر أنه قطعي ننتهي إلى أنه محتمل، والفقهاء هم من فرض رأيه على أنه الدين، في حين أنهم يحرمون غيرهم من ممارسة الاختلافات نفسها، مما أدخل الفقه في تكلس مرير أفقده حيويته وثراءه. وساق الكاتب وقائع كثيرة من التاريخ ومن أحكام الشريعة أظهر بها ضرورة التجاوز التاريخي للفقه التقليدي، ودعا إلى إدخاله من جديد في مضمار التحديث، فينمو كالقانون ويتطور، وإلا فهو الانحباس والانغلاق. وأمعن الكاتب في سوق مثال الصوم وأحكامه الفقهية، وكيف أن الفقهاء انتصروا لتوجه واحد في تفسير كلمة يطيقونه، بمعنى لا يتحملونه، رغم أن تراثنا فيه موقف آخر يميل إلى أن يطيق بمعنى يتحمل، لذا يكون الحكم أن من أطاق الصوم ولم يرد الصيام فحكمه، فدية طعام مسكين، وهو، حسبه، موقف له ما يبرره، خاصة أنه أورد أدلة كثيرة من القديم على هذا التوجه، إلا أن اندراسه لغلبة رأي فقهي بعينه يجعله غريبًا وغير معقول، وكذا كل الحال مع بقية التشريعات الأخرى.
ويفضي إلى جملة خلاصات، تمثل مقدمات مؤسسات:
·مراجعة الفقه ومضامينه، لا يضر بأصول القرآن، ولا بأركان الدين، بل يقع ضمن اتجاهه ويكون وفيًا لمنهجه في الدعوة للتفكر والتأمل.
·لا مناص من الرجوع للتاريخ، ففيه ثراء وغنى مواقف، لذا من اللازم على المجددين الرجوع باستمرار إليه، لتمثل الأحكام في مصادرها وظروفها، وإيجاد ممكنات أخرى.
ويختم قائلاً: "فإذا كان الفقه بناء بشريًا تاريخيًا، فإنه يمكن لنا إذن أن نتصرف في هذه الأحكام، وأن نلغي ذلك الاستقرار المزعوم الذي ليس إلا نتيجة لهذه الظروف التي عاشها المسلمون، والهدف من كل ذلك سواء في ميدان الفكر الإسلامي عمومًا، ينبغي أن يكون تربية الضمير المستقيم ...على أساس الحرية الذاتية والمسؤولية الفردية".[10]
[1]- عبد المجيد الشرفي: تحديث الفكر الإسلامي، بيروت، دار المدار الإسلامي، ط02، 2009، ص 06
[2]- المرجع نفسه، ص 07
[3]- المرجع نفسه، ص 10
[4]- المرجع نفسه، ص 13
[5]- المرجع نفسه، 23
[6]- المرجع نفسه، ص 27
[7]- المرجع نفسه، ص 51
[8]- المرجع نفسه، ص 56
[9]- المرجع نفسه، ص 83
[10]- المرجع نفسه، ص 96