الفكر الإسلامي من الانحطاط إلى النهوض: أسباب النهضة وتحدياتها


فئة :  مقالات

الفكر الإسلامي من الانحطاط إلى النهوض: أسباب النهضة وتحدياتها

الفكر الإسلامي من الانحطاط إلى النهوض: أسباب النهضة وتحدياتها

يحمل التنوير في ذاته حمولة فكرية كبيرة، يحمل عصرا وحضارة بأكملها، أو يمكن القول حضارات، وفي ذكر التنوير يتبادر إلى ذهننا مباشرة النور، وهو اسم على مسمى؛ فالتنوير يعني النور أو الأنوار او الاستنارة، تتعدد التعبيرات وغاية المفهوم واحدة. كما يشهد التاريخ الإنساني، أن مفهوم التنوير يرتبط أساسا بالحركة الفكرية التي ظهرت في أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر ميلادي، والتي كان مغزاها وغايتها هي إخراج أوروبا من الدجى إلى فجر عصر الأنوار.

وهذا ما حصل بالفعل، أخرج فلاسفة التنوير أوروبا والفلسفة من القبضة الكنسية، وانبسطت أوروبا كلها تحت سيطرة العقل النقدي، ومن أبرز التعريفات لهذا المفهوم، نجد تعريف التنويري "ايمانويل كانط"، الذي عرفه بخروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنها[1].

إن التنوير كمفهوم، يرتبط بالغرب الأوروبي لكن كفعل فهو يرتبط بحضارات سابقة عليها، كالحضارة العربية الإسلامية التي عاشت تنويرا وعصرأنوار ما بين القرن الثامن والرابع عشر ميلادي، حيث كانت أوروبا في هذه الفترة غارقة تحت سيطرت الكنيسة. لكن الحضارة الإسلامية، عاشت التنوير لفترة زمنية وانقلبت الموازين، حيث تناسخت الحضارة إلى الغرب الأوروبي، وعاشت أوروبا عصرها النهضوي ثم عصر الأنوار، وانفصلت بهذا عن القرون الوسطى.

وكذلك بعد عصر التنوير الأوروبي، سوف يشتد الحنين في قلوب المفكرين العرب، من أجل إصلاح التراث والعودة بالمشرق والمغرب إلى بر الأمان، وهذا ما سوف ينتج عنه اندلاع الفكر أو الحركة التنويرية في الواقع العربي، مع روادها الذين كان هدفهم نشر التنوير والأخذ بالواقع العربي إلى الأفق، وهنا أحيل إلى القرن التاسع عشر ميلادي وما بعده.

وبالتأكيد أن مفهوم التنوير، لم يقتصر على حضارة بذاتها، ولكن انتقل بين الحضارات، لم يقتصر على أوروبا فقط، بل انتقل إلى الحضارة اليونانية والإسلامية وغيرهما..

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميلادي، بينما كان العرب غارقين وسط تأويلات متعددة، وصل الغرب للتنوير الذي خول لهم الاصطدام بالعالم العربي، هو صدام حضارات، حضارة كانت في أوج عطائها، فتراكم الزمان عليها لتعيش الانحطاط الفكري، وحضارة أصبحت في أوج ازدهارها الحضاري، الثقافي، الفكري، وما عدا ذلك، ليكون الصدام ذا تأثير كبير على المجتمع العربي الإسلامي، كما سوف ينتج عن ذلك فكرة النهوض بالحضارة بما يسمى النهضة العربية، والتي بدأت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميلادي، مع مفكرين وفلاسفة خاصة في المشرق العربي.

ثمة شبه إجماع في الخطاب العربي المعاصر، على وصف لحظة احتكاك العالم العربي بالغرب بالصدمة[2]؛ وذلك نتاج لعدة عوامل، ولعل أبرزها أهمية هي حملة نابليون بونابرت على مصر واحتكاك الفكر التنويري مع العرب، وقد تعدد في الخطاب العربي المعاصر أوصاف هذه الصدمة: فهي تارة الصدمة الاستعمارية، أو الكولونيا لية أو الإمبريالية، وتارة ثانية الصدمة الأوروبية أو الغربية، وتارة ثالثة الصدمة الحضارية أو صدمة الحداثة.[3] وقد نتج عن هذه الحملة التي كانت علمية وفكرية أكثر من سياسية، تأثر عدة مفكرين عرب بالفكر الذي صاحب الفرنسيين، رافع الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني وشبلي شميل وفرح أنطون وعددهم كثير ممن تأثروا بالفكر الغربي، ولا يسعني ذكر الجميع. وسوف نتطرق في مقالنا هذا، إلى الفكر النهضوي والأسباب التي ساهمت في ظهور الحركة، كما سوف أذكر أهم التحديات التي واجهها المفكرون العرب في نشر فكرهم في مصر وفي العالم العربي.

إن أول وأقوى ما ارتطم به رواد النهضة، أو النهضويون العرب، هو الفكر الإسلامي ذاته ولكن من الناحية المنغلقة والمتشددة، وهذا شيء طبيعي، حدث مع المسيحيين أيضا في تنويرهم. إنه لمن المؤكد أن دخول فكر جديد على فكر تقليدي كلاسيكي قديم، لن يُسمح له بالمرور سالماً، فكأنك تريد إسقاط نظام سياسي أو ديني، وهذا شديد الخطورة. ولكن الغرب نجحوا في السيطرة على رجال الدين القدماء الذين يفسرون كل ما جاء على أهوائهم من أجل التحكم والسيطرة والوصول إلى السلطة الحاكمة. وعندنا أيضا، "فالإصلاحات التي حاول البعض إدخالها إلى الإمبراطورية العثمانية تحت اسم "التنظيمات" لقيت مقاومة عنيفة من قبل التقليديين."[4] وقبل البداية علينا أن نحدد تاريخ بداية النهضة العربية والسؤال حولها، ويمكن تحقيب الفكر العربي النهضوي إلى أربع حقب كما بينها الحوراني في كتابه الفكر العربي في عصر النهضة:

الحقبة الأولى: 1798-1870: وهذه فترة الحملة الفرنسية على مصر، وأبرز رواد هذه المرحلة رفاعة الطهطاوي وغيره.

الحقبة الثانية: 1870-1900: فترة جمال الدين الافغاني وتلميذه محمد عبده وغيرهم الكثير.

في مقالنا سوف نهتم بهاتين الحقبتين فقط وبالنموذجين، رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، وهذا لا يعني أنه لا يوجد غيرهم أو أن هؤلاء يفوقونهم قيمة، بالعكس هناك الكثير، عيادة الطنطاوي، خير الدين التونسي، علي مبارك ... وغيرهم الكثير، لا يمكن ذكر كل الأعلام، غير أننا اخترنا أحد قادة النهضة العلمية وأحد أعلام التجديد. وقبل الغوص في الفكر النهضوي علينا تحديد الأسباب التي سمحت للنهضويين ببداية النهضة والجواب عن السؤال لماذا أخفقت النهضة أو التنوير العربي الثاني؟

أسباب النهوض العربي فكريا تعود إلى عدة أسباب، ويمكن تلخيص أبرزها في الحملة الفرنسية على مصر، والتي فتحت أبواب العالم العربي على الحضارة الغربية الحديثة، بما اشتملت عليه من مبادئ سياسية وأنظمة إدارية وعلوم وآداب وفنون وطباعة وصحافة وغيرها.[5] ويمكن القول إن هذه الحملة أزالت القناع عن العرب، وفتحت لهم نفقا طويلا يطلون به على العالم. ويعد دخول نابليون بونابارت إلى مصر بمثابة نهضة، وعلى الرغم من أن أهدافه كانت استعمارية، إلا أن مبادئ الثورة الفرنسية ومبادئ التنوير دخلت إلى الحضارة العربية وتغلغلت داخلها. وإضافة إلى الحملة، نجد البعثات الطلابية إلى أوروبا، وكانت هذه البعثات العلمية من العوامل المهمة في الانفتاح على حضارة الغرب، وترجمة العديد من المؤلفات العلمية والأدبية والفنية الغربية إلى اللغة العربية، وتدريس العلوم الحديثة في المعاهد والمدارس التي أنشأها محمد علي وخلفاؤه على النمط الأوروبي.[6] وفي ذكر محمد علي فهو أبرز عامل ساعد على انتشار الفكر التحريري، ومن أهم رواد هذه البعثات، نجد على رأسهم الطهطاوي. ناهيك عن مساهمات المطبعة والصحافة والترجمة في انتشار الفكر في العالم العربي، وهذا أساس كل نهضة فكرية.

ويعد رفاعة الطهطاوي (1801-1873) من أوائل المفكرين المصريين ومفكري العصر الحديث العربي. على الرغم من إعجابه بمونتسكيو، لدرجة أنه وصفه بابن خلدون الإفرنج. إلا أنه تنكر لأفكاره، ودحض ما جاء في كتابه روح الشرائع بأن الاستبداد صفة ملازمة للدين الإسلامي.[7] وأن الحكم الفردي والحكومة المستبدة أكثر ملاءمة للإسلام، وأن الإسلام امتد وانتشر بفعل القوة والبطش والغنيمة.[8] إن رحلته لفرنسا تركت فيه أثرا كبيرا، وعلى غرار الكتب التي ترجمها نذكر أهمها: كتابه الذي كان عبارة عن وصف لرحلته في باريس، وعن وصف باريس في تلك الفترة، المسمى تلخيص الإبريز في تلخيص باريز. ومن خلال الكتاب يتبين مدى تأثير الصدمة على المفكرين في تلك المرحلة، فليس عاديا أن تنصدم حضارة في أوج ازدهارها الفكري مع حضارة منغلقة فكريا.

ومن جهة ثانية، نجد جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، كان ذا رؤية تجديدية للدين الإسلامي، كما دعا إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي. دعا جمال الدين الأفغاني إلى وحدة الشعوب الإسلامية، وإزالة الفوارق بين الفرق الإسلامية. وقد أجمل عوامل النهوض بالأمم: في تحرير العقل من الخرافات والأوهام، وتوجيه النفوس وجهة الشرف والطموح، ودعم العقائد الدينية بالأدلة والبراهين، وتهذيب الأفراد وتأديبهم. وقال إن جميع هذه العوامل متوفرة في الإسلام.[9]

وهنا نشهد رؤية حركة الإصلاح السياسي والديني الإسلامي، وكيف أخذ الرواد النهضة على محمل الجد في بداية الصدمة، وفي الحقبة الثانية وكذلك ما تبقى من الحقب التي سوف تشهد إصلاحات في عدة جوانب، كما ستشهد بناء المكتبات، والجامعات، وخروج المجلات الورقية والصحف إلى الوجود، وسار العرب المسلمين نحو نهضة فكرية. لكن الأمور لن تسير كما خطط لها؛ وذلك راجع لعدة أسباب. وهنا نطرح السؤال الواجب طرحه، لما أخفقت النهضة ولم تصل إلى مبتغاها ألا وهو تنوير العالم العربي؟

السبب الرئيس في إخفاق النهضة هو الفكر الإسلامي نفسه، ونخص بالذكر هنا المنغلق منه، حيث سيقف الإخوان المسلمون ضد التيار النهضوي التحريري، ويكون لهم الرأي في البقاء مع التعصب وداخل قيود التأويلات الخاطئة للدين الإسلامي. لم تصل النهضة العربية لأهدافها المرجوة لأسباب عديدة؛ أبرزها كما ذكرنا عدم تكيف الفكر الديني خاصة والسياسي مع الفكر التحريري، إضافة إلى هشاشة الفكر النهضوي ذاته، فلقد حاولوا إسقاط المفاهيم الأوروبية على الفكر العربي وهذا بحد ذاته يعد خطأ، كما أنهم حاولوا المقارنة بين المتقدمين ونحن، والمقارنة غير جائزة في مثل هذه الحالة، إضافة إلى عدة عوامل أخرى وأسباب ساهمت في عدم نجاح التنوير، نجد السبب الرئيس يأتينا من طرف المسلمين المنغلقين على ذاتهم؛ ففي نظرهم الدين الإسلامي دين تعصب وتشدد، ولكن هذا الدين لا يحمل في طياته سوى السلم.

ويمكن على سبيل الذكر، الاستشهاد بالآية التالية التي تنبذ التعصب: "يا أيها الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذكر وأنثى وجعلناكم شُعُوبًا وقبائل لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أتقاكم إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات 13) وهنا يمكننا قول إن الدين الإسلامي، دين سلم وتسامح وليس عنف وتعصب.

ومن خلال كل هذا، يتضح أن النهضة التي استمرت قرنين من الزمن قد أخفقت في الوصول إلى الأهداف المنشودة؛ وذلك بسبب الصراع بين العرب المسلمين ذاتهم، وليس بين العرب والغرب. ومع كل هذا يمكن القول إننا، نحن الداء ونحن الدواء؛ أي إن علاجنا يكمن في تراثنا وليس خارجه.

وختاما، يعد الفكر العربي في عصر النهضة بداية لفكر جديد يواكب العصر، بالرغم من أن التنوير العربي فشل، إلا أنه فتح المجال لمشاريع فكرية جديدة وتجديدية، كما نرى الآن في هذه الحقبة بروز مفكرين وفلاسفة عرب يدعون للتجديد وإعادة قراءة التراث، وما عدا ذلك وأبرز هؤلاء محمد أركون، هاشم صالح، جورج طرابيشي، محمد عابد الجابري وغيرهم الكثير في المغرب والمشرق العربي.

وعلى الرغم من كل جهود النهضويين، إلا أن الواقع فرض سيطرته، لم يتوافق الفكر التجديدي مع التقليدي، فالمشكل كان تحديد هوية التراث بين الأصوليين والحداثيين، بين من يريد التقدم ومن يأبى ذلك. ورغم إخفاق نهضة القرن التاسع عشر، إلا أنها تمكنت من فتح المجال لفكر تنويري جديد فيما بعد.

[1] ايمانويل كانط، ماهي الانوار؟، ضمن كتاب ثلاثة نصوص، تعريب وتعليق محمود بن جماعة، (ط1)، دار محمد علي للنشر، سلسلة أضواء، تونس، 2005، ص85

[2] جورج طرابيشي، المرض بالغرب، دار بترا، عمان، 2005، ص15

[3] نفسه، ص15

[4] هاشم صالح، معضلة الأصولية الإسلامية، دار الطليعة، بيروت، 2006، ص28

[5] على المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914، العلمية للنشر والتوزيع، بيروت، 1987، ص 23.

[6] نفسه ص24.

[7] فاروق أبو زيد، عصر التنوير العربي، المؤسسة العربية، بيروت، 1978، ص45

[8] منذر معاليقي، معالم الفكر العربي في عصر النهضة العربية، دار اقرأ، بيروت، ص77

[9] على المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914، العلمية للنشر والتوزيع، بيروت، 1987، ص73.