الفكر النسوي خارج المجال الغربي
فئة : مقالات
ازدهر الفكر النسوي خلال القرن العشرين في الحواضر الغربية، وتغلغلت النزعة "النسوية" مجالات القانون، والآداب، والفنون، والعلوم، والبيئة، فضلا عن قضايا الهويات، والحقوق المدنية، والمجتمع المدني، وبالإجمال، امتدت إلى وجوه الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية كافة، والحال، فلم ينحبس الفكر النسوي في أوروبا وأمريكا، بل كاد يشمل العالم بأجمعه، إذ انخرطت فيه نخبة من النساء من العالم الثالث، ومن ذلك، فقد ذهبت الناقدة الهندية "تشاندرا موهانتي" إلى أن أية مناقشة للبناء الفكري والسياسي لما يطلق عليه "الفكر النسوي في العالم الثالث"، لابد وأن يتناول مشروعين اثنين متلازمين؛ وهما: نقد هيمنة التوجهات النسوية "الغربية"، ثم تشكيل قضايا واستراتيجيات نسوية مستقلة على أسس جغرافية، وتاريخية، وثقافية. ويقوم المشروع الأول على التفكيك، بينما يعتمد الثاني على البناء. وعلى الرغم مما يبدو من تعارض بين هذين المشروعين من حيث قيام أحدهما بفعل سلبي بينما يقوم الآخر بفعل إيجابي، فإنه لابد من تلازم العمليتين وإلا تعرضت التوجهات النسوية في العالم الثالث إلى خطر التهميش والعزل عن الخطاب السائد، من ناحية، والخطاب النسوي الغربي، من ناحية أخرى.
يتم افتراض وجود مفهوم متجانس للقهر الواقع على النساء كمجموعة واحدة، مما يؤدي بدوره إلى إنتاج صورة لـ "امرأة العالم الثالث"
الفرضية التحليلية الأولى التي ارتكزت "موهانتي" عليها متعلقة بالموقع الاستراتيجي لمفهوم "النساء"؛ فالافتراض بأن النساء يمثلن مجموعة متماسكة قائمة بالفعل، وذات مصالح، ورغبات متطابقة، بصرف النظر عن تناقضاتهن، أو مواقعهن الطبقية، والعرقية، يتضمن مفهوما للجنوسة؛ أي الاختلافات الثقافية والاجتماعية في تشكيل الجنس، أو الاختلاف الجنسي، أو حتى تصورا للأبوية، بوصفها جملة من المفاهيم يمكن تطبيقها وتعميمها عبر الثقافات. أما الفرضية الثانية، فتتضح على المستوى المنهجي في الأسلوب غير النقدي عند تقديم "دليل" التجربة العامة وصلاحيتها عبر الثقافات المختلفة. والفرضية الثالثة هي فرضية ذات خصوصية سياسية تكمن في الأسس التي تقوم عليها المنهجيات، والاستراتيجيات التحليلية؛ أي نموذج القوة والصراع الذي تتضمنه، وتؤكد عليه. وطبقا لهذا، يتم افتراض وجود مفهوم متجانس للقهر الواقع على النساء كمجموعة واحدة، مما يؤدي بدوره إلى إنتاج صورة لـ "امرأة العالم الثالث" إن ذلك النموذج يمثل امرأة العالم الثالث التي تحيا حياة مبتورة لكونها تنتمي إلى الجنس المؤنث؛ أي مقيدة جنسيا، وكذلك كونها من "العالم الثالث" أي جاهلة، وفقيرة، وغير متعلمة، ومكبلة بتراثها، ومستضعفة، ومحدّدة في إطار السيرة، والحياة المنزلية، وهو نموذج يتم تقديمه على النقيض من تصوير الذات النسائية الغربية، إذ يقع تقديم النساء الغربيات في صورة المتعلمات، والمتحكمات في أجسادهن، وحياتهن الجنسية، ويتمتعن بحرية اتخاذ قراراتهن بأنفسهن.
ويتوغل هذا النوع من النقد للفكر النسوي الأبيض إلى منطقة مهمة، حينما يفضح الإشكالية الناتجة عن استخدام "النساء" للتعبير عن فئة جامدة، وعنصر تحليلي ثابت، لأنها إشكالية تعتمد على فرضية وجود علاقة لا تاريخية ahistorical توحّد بين النساء كافة على أساس مفهوم عام لتبعية النساء. فبدلا من تقديم "توضيح" تحليلي لكيفية تشكل النساء كمجموعات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، داخل سياقات محلية محددة، يلجأ هذا المنهج التحليلي إلى قصر تعريف الذات الأنثوية على هويتها الجنسية من حيث كونها ذكرا أو أنثى، مع إغفال تام لعناصر الهوية العرقية، والطبقية، وبالتالي فإن ما يميز النساء كمجموعة هو في الأساس نوعهن الاجتماعي لا البيولوجي فحسب، بما يشير إليه من وجود مفهوم جامد للاختلاف الجنسي، وفي ضوء الفرضية القائلة بأن النساء تشكيل جماعي موحد وثابت، فإن الاختلاف الجنسي يقترن بتبعية النساء، إذ يتم تعريف علاقات القوى في إطار ثنائية أصحاب السلطة (أي الرجال) وفاقدي السلطة (أي النساء). ويقوم الرجال بالاستغلال، بينما تخضع النساء للاستغلال. إن هذه الصيغ المبسّطة هي صيغ مختزلة تاريخيا، كما أنها غير فعّالة في إعداد استراتيجيات لمواجهة القهر، فكل ما تفعله هو التكريس للثنائية بين الرجال والنساء.
على أن الناقدة "أوما ناريان" حاولت تخفيف هذا التناقض لكنها لم تنكره، فإذا كان في الإمكان تقصّي أوجه الشبه بين القضايا التي تتبناها نسويات العالم الثالث، وبين قضايا النسويات الغربيات، فليس ذلك من نتاج بدعة المحاكاة، وإنما نتيجة مترتبة على الظلم، وسوء المعاملة التي تنالها النساء في عديد من السياقات الثقافية "الغربية" و"غير الغربية" مع تفاوتها من حيث التفاصيل الدقيقة الناجمة عن خصوصية السياق. وإذا كانت الغربيات لا يتعرضن لمظاهر العنف ضد النساء النابغة من مؤسسات الزواج التقليدي، إلا أنهن معرضات لأشكال أخرى من العنف والضرب السائد داخل أشكال الزواج، والعلاقات الأسرية الغربية، كما أنهن على علم بالعار الذي تعايشه المرأة عند اعترافها بكونها ضحية للعنف، ويتعرضن للمنظومة المادية والاجتماعية والثقافية التي تقف حجر عثرة أمام خروج النساء المعنفات من تلك العلاقات، أو حتى سعيهن للحصول على مساعدة.
إن الثقافات الوطنية في كثير من أنحاء العالم عرضة لرؤية نفسها، باعتبارها تمثل "استمرارية ثابتة" تمتد إلى الماضي البعيد
ويتعين على النسويات من كافة أنحاء العالم الاشتباه في ما هو سائد محليا من صور "الهوية الوطنية" و"التقاليد الوطنية" نظرا لاستخدامها لتمييز الآراء والقيم الخاصة ببعض فئات المجتمع الوطني المتجانس بوصفها صورا "قاطعة" تعبر عن الثقافة والحياة الوطنية، مع عدم إمكانية نجاح النسويات في تجنب النتائج الحتمية المترتبة على الفكر الوطني عن طريق الدعوة إلى "تآخي النساء دوليا" سواء في سياق الغرب أو العالم الثالث. فإذا كانت الأمم هي "جماعات متخيلة" تؤمن بسرد مخصوص ذي ركائز عرقية، أو دينية، أو مذهبية، والخيال هو الذي يؤجج المشاعر لديها، فتقبل صورة ما لنفسها أو لغيرها استنادا إلى المتخيل الذي تؤمن به- كما يقول بندكت آندرسن- فلابد من محاربة الحركات الوطنية المتعصبة، ويمكن أن يتم ذلك من خلال جهود النسويات من أجل "إعادة خلق" و"إعادة تخيل" المجتمع الوطني الذي يتميز بكونه أكثر رحابة وديمقراطية. ويتعين على النسويات الإصرار على أن كافة رؤى "الوطن" هي صياغات نابغة من الخيال السياسي. ومن ناحية أخرى، فإن التشابه لا يجعل كافة الرؤى حول مفهوم "الوطن"، والمتنوعة طبقا لسياقها، على درجة واحدة من التساوي في معناها الأخلاقي.
وتعمق "ناريان" هذه الفكرة المهمة بقولها إن الثقافات الوطنية في كثير من أنحاء العالم عرضة لرؤية نفسها، باعتبارها تمثل "استمرارية ثابتة" تمتد إلى الماضي البعيد، وهي رؤية لها إشكاليتها فيما يتعلق بالوطن، والثقافة، والتاريخ، إذ تشدّد على "فكرة التبجيل" التي تقوم على الإيحاء بأن قيمة الممارسات والمؤسسات المختلفة تنبع من مجرد قدمها وعراقتها، وهي تقدم صورة للوطن والثقافة تركز على استمرارية التقاليد، وتفوقها على الاندماج والتعديل والتغيير. وفي بعض مناطق العالم الثالث يبدو أن تاريخ الاستعمار زاد من حدة مظاهر تلك المشكلة، حيث اعتمد بناء الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار بدرجة كبيرة على تلمس رؤية شاملة لـ"حضارتنا القديمة" مع تشكيل حركة الاستقلال عن الاستعمار، باعتبارها حركة استرجاع لتلك "الحضارة القديمة" مع صياغة "الحضارة الغربية" حينما توصف بالاستعلاء، بينما هي حضارة جديدة بالنسبة لحضارة، وتاريخ العالم. ويمثل ذلك عائقا أمام لفت الأنظار إلى مقدار التغيير الذي تعرضت له الممارسات الثقافية، بل ومكانة بعض الممارسات ضمن صورة "ثقافتنا" المشتركة.
وقد استأثر هذا الأمر باهتمام "دينيز كانديوتى"، وهي تحلّل مفهوم الهوية ونواقصه إلى أن البلاد التي يتّخذ التوجّه الوطني الثقافي فيها مسحة إسلامية واضحة يبدو أن الخطاب النسوي فيها يتحرك في أحد اتجاهين لا ثالث لهما: إما إنكار أن الممارسات الإسلامية هي بالضرورة ممارسات قهرية، أو التأكيد على أن الممارسات القهرية ليست بالضرورة إسلامية. ويتضمن الاتجاه الأول وضع كرامة المرأة المسلمة المصونة في مواجهة المرأة الغربية الخاضعة للتسليع والاستغلال الجنسي، وهكذا يعتمد هذا الاتجاه على تقديم صورة شيطانية للآخر. أما الاتجاه الثاني، فيقوم على أسطورة "العصر الذهبي" للإسلام الأصيل، وهي أسطورة يتم توظيفها لشجب ما يقع من ممارسات للتمييز بين الجنسين، واتهامها بأنها لا تمت إلى الإسلام بصلة. وعلى الرغم مما يوحي به الاتجاه الأول من كونه محافظا والثاني أكثر راديكالية، إلا أنهما يحتلان خطابا مشتركا، وهي مساحة يحددها خطاب وطني من إنتاج الرجال والنساء على حد سواء. في حين يحمل التغيير في هذا الخطاب تبعات خطيرة تتمثل في الإحساس بالاغتراب عن المعاني المشتركة التي تشكل صيغة الهوية والانتماء والولاء.