الفلسفة الفرنسيَّة في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين


فئة :  مقالات

الفلسفة الفرنسيَّة في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين

الفلسفة الفرنسيَّة في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين

مشهد بانوراميٌّ للفلسفة الفرنسيَّة المعاصرة: الفلسفة المتمرِّدة على ميراثها القوميِّ

في مقال مثير بعنوان «بانوراما عن الفلسفة الفرنسيَّة المعاصرة»، يفترض آلان باديو وجودَ جذرٍ قوميٍّ للفكر الفرنسيِّ المعاصر، ذاك الَّذي امتدَّ، بحسب باديو، على مساحة النِّصف الثَّاني من القرن العشرين، بل، وبتحديدٍ أكبر، من الوجود والعدم (1943) لسارتر وصولاً إلى ما هي الفلسفة؟ (1991) لدولوز. يصوغ باديو فرضيَّته تلك انطلاقاً من الأسئلة التَّالية:

ماذا حدث في فرنسا على المستوى الفلسفيِّ بين عام 1940 ونهاية القرن؟ [...] ما هي تلك التَّيَّارات الَّتي تُدعَى وجوديَّة وبنيويَّة وتفكيكيَّة؟ هل ثمَّة وحدة تاريخيَّة وفكريَّة لهذه اللَّحظة؟ وما هي؟ [...] وانطلاقاً من سؤال الأصل: من أين تأتي هذه اللَّحظة؟ ما هو ماضيها؟ ما هي ولادتها؟[1]

في إجابته عن هذه الأسئلة الَّتي يطرحها؛ يُحيلنا باديو إلى كتابين، يزعم بأنَّهما يمثِّلان الأصل القوميَّ للفكر الفرنسيِّ في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين: الأوَّل هو الفكر والمتحرِّك (1934) لبرغسون، والثَّاني هو مراحل الفلسفة الرِّياضيَّة (1912) لليون برونشفيك. يجد باديو في كتاب برغسون «فلسفة الحياة والصَّيرورة» الَّتي قد تركت، وفقاً له، أثراً لا يمكن إنكاره على الفكر الفرنسيِّ، استمرَّ تأثيره حتَّى نهاية القرن العشرين. في حين يقترح باديو أنَّ «فلسفة المفهوم» في كتاب برونشفيك ستطبع الفكر الفرنسيَّ في فترة ما بعد الحرب. يتلخَّص طرح باديو هذا كالتَّالي: «ستُنظِّم العلاقةُ بين الجسد والفكرة، وبين الحياة والمفهوم مستقبلَ الفلسفة الفرنسيَّة وهذا الصِّراع موجود منذ بداية القرن مع برغسون من جهة وبرونشفيك من جهة أُخرى»[2]، بل إنَّ باديو يحفر أعمق بحثاً عن جذر أبعد، فها هو يربط الفكر الفرنسيَّ المعاصر بالدِّيكارتيَّة مؤكِّداً أنَّ الفلسفة الفرنسيَّة في النِّصف الثَّاني من القرن ما هي إلَّا مناقشة ضخمة حول ديكارت[3].

لكن على الرَّغم من حجج باديو القويَّة والمثيرة للاهتمام حول الأصل القوميِّ للفلسفة الفرنسيَّة في النصف الثَّاني من القرن الماضي؛ فإنَّني لا أتَّفق معه فيما يذهب إليه. بل إنِّي أعتقد العكس تماماً مِمَّا يقول. لا أعتقد شخصيَّاً أنَّ هذه الفلسفة الفرنسيَّة المعاصرة كانت تريد تعزيز الرَّوابط مع ماضيها القوميِّ. تقوم قراءتي الخاصَّة للفلسفة الفرنسيَّة في فترة ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية على واقع أنَّ هذه الفلسفة كانت متمرِّدة على ماضيها القوميِّ القريب والبعيد، بل أزعم إنَّ الفكر المعاصر في فرنسا (خارج الجامعة) قد أقام قطيعة شبه تامَّة مع إرثه الفلسفيِّ القوميِّ، وقد تمَّ التَّعبير عن هذه الرُّوح المتمرِّدة في الفكر في ستِّينيات القرن الماضي وبشكل أكثر دقَّة مع حركة أيَّار/مايو 1968، بل إنَّ فكر 68 كان ثورة ضدَّ التَّكلُّس الفكريِّ الَّذي اكتنف وشلَّ تدريس الفلسفة في المؤسَّسات الأكاديميَّة الرَّسميَّة في فرنسا الَّتي استنفدت نفسها وطرقها بإعادة اجترار أفكار ديكارت وبرغسون وبرونشفيك دون القدرة على الإبداع أو تقديم شيء جديد لهذا الإرث الفلسفيِّ القوميِّ. ولتجنُّب الوقوع في التَّعميم ولتبرير فكرة القطيعة الَّتي أزعمها هنا بين الفكر الفرنسيِّ المعاصر وإرثه الفلسفيِّ القوميِّ؛ فإنَّني سأقتفي، في الصَّفحات القادمة، أثر روح التَّمرُّد في الفكر الفرنسيِّ المعاصر وسعيه للقطع مع ماضيه الفلسفيِّ المحلِّيِّ لحاجته لتجاوزه بالانفتاح على فكر جديد، ينتظر الإذن بالمرور على الحدود الألمانيَّة الفرنسيَّة.

كانت فرنسا قد خرجت بدورها من الحرب العالميَّة الثَّانية متخمة بجراح الحرب وبعينين مفتوحتين على اتِّساعهما على مدى توحُّش الإنسان الحديث ابن الحداثة وحفيد التَّنوير. ولعلَّ الإحساس بعبثيَّة ما حصل يجد صداه الأقوى في مفردات الوجوديَّة الفرنسيَّة من: القلق والعدم والعبث والغثيان والاغتراب الَّتي انتشرت في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مع سارتر وألبير كامو وسيمون دي بوفوار الَّذين جذبوا، بفضل أسلوبهم الأدبيِّ وبخاصَّة في الأدب والمسرح، انتباه جمهور واسع يتجاوز بالكثير جمهور الوجوديَّة الهايدغريَّة الَّتي ظلَّت، على أصالتها، تحتاج إلى مِراسٍ فلسفيٍّ وجهد دؤوب للوصول إليها. لكن على الرَّغم من النُّدوب والصَّدمات الَّتي أحدثتها الحرب في الوعي الفلسفيِّ الفرنسيِّ؛ إلَّا أنَّ فرنسا كانت مستعدَّة لطيِّ صفحة الحرب بسرعة وفتح صفحة جديدة في كتاب الفلسفة. هكذا ستنهض باريس بسرعة، وسيتقدَّم مفكِّروها واجهة المسرح الفلسفيِّ المعاصر مع خُبوٍّ واضح في الفكر الألمانيِّ. إنَّنا نجد آثار هذا التَّحوُّل أو تلك النَّقلة في تغيُّر مفردات الوجوديَّة الفرنسيَّة نفسها من اليأس والعبث والسَّوداويَّة إلى لغة متمرِّدة على واقعها وفلسفة مقاومة تعمل على تجاوز الواقع القائم وتغيير عالمها. لهذا لم يعد يكتفي الفكر الوجوديُّ الفرنسيُّ بنعي المصير السَّوداويِّ للإنسان الحديث، بل راح يبحث -على الرَّغم من الباب الموصَد وسقوط صخرة سيزيف المتكرِّر- عن إمكانية التَّحرُّر ومقاومة الشُّروط المفروضة على الإنسان الحديث. ينعكس هذا الحسُّ الثَّوريُّ في بعض نصوص ألبير كامو: أسطورة سيزيف (1942) والإنسان المتمرِّد (1951) وكذلك في بعض الأعمال المسرحيَّة لسارتر مثل الذِّباب (1943) والباب الموصد (1944). فاليأس هو مَن يمنح الأمل لليائسين، إذا استعرنا تعبير فالتر بنيامين. كانت فرنسا إذن متمرِّدة على كلِّ شيء منذ بداية النِّصف الثَّاني من القرن العشرين، وقد تُرجمت هذه الرُّوح المتمرِّدة في سنوات السِّتِّينات المتفجِّرة من خلال العديد من الثَّورات الجنسيَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة.

هكذا ستُفسح الوجوديَّة -الَّتي هيمنت على المشهد الفلسفيِّ في فرنسا خلال الأربعينيات والخمسينات- المجال في السِّتِّينيات للبنيويَّة والَّتي لن تلبث بدورها أن ينطفئ نجمُها وتُخلي السَّاحة لما سيُعرف بــــــــ«مابعد-البنيويَّة» والَّتي تجد في دريدا عرَّابها الأهمَّ. إذن هناك، برأيي، لحظتان فلسفيَّتان لا غنى عنهما لفَهْم تفكيكيَّة جاك دريدا. تتمثَّل الأولى بمواءمة الفكر الفرنسيِّ للفكر الألمانيِّ المستورد وبخاصَّة النِّيتشَويَّ، والفينومينولجيَّ، والهايدغريَّ، وتتمثَّل الثَّانية، في ظهور البنيويَّة في فرنسا.

مواءمة الفكر الفرنسيِّ المعاصر للفلسفة الألمانيَّة

على الرغم مما يبدو للوهلة الأولى من رفض ومقاومة وصدٍّ وحساسيَّة قوميَّة بين طرفي الرَّاين؛ إلَّا أنَّ الفلسفتين الفرنسيَّة والألمانيَّة متداخلتان في العمق أكثر مِمَّا يظهر. فمع وجود حواجز وسدود أحياناً فرضتها الحرب بين البلدين؛ فإنَّ التَّبادل الفكريَّ بين الثَّقافتين لم يتوقَّف، وكان يجد دائماً مدخلاً يتسلل منه، فكثيراً ما كان يتسلل عبر الحدود ويتراكم على الهامش. وكما استجلبت الفلسفة الألمانيَّة الحديثة الفلسفة الفرنسيَّة من ديكارت إلى روسو واستثمرتها مُعيدةً إنتاج وتطوير بعض أفكارها، فإنَّ الفلسفة الفرنسيَّة المعاصرة ستقوم بالأمر نفسه مع بعض تيَّارات الفلسفة الألمانيَّة الحديثة والمعاصرة.

يمكن لنا القول بالعموم، إنَّه وحتَّى بداية الثَّلاثينيات من القرن العشرين، كانت الفلسفة الفرنسيَّة المعاصرة مُتركِّزة في الأكاديميَّات الَّتي كانت متوقِّفة عند تيَّارين رئيسَين: الأوَّل هو التَّوجُّه الرياضيُّ العقلانيُّ، المثاليُّ إلى حدٍّ ما، الَّذي أشاده برونشفيك، والَّذي يهدف إلى تأريخ «تقدُّم الوعي الغربيِّ». أمَّا المحور الثَّاني، فكان توجُّهاً حيويَّاً روحيَّاً بالأحرى أسَّسَه وقاد دفَّته هنري برغسون الَّذي اجتهد في محاولة مواءمة الميتافيزيقا مع تطوُّرات العلم. لكن إذا كان هذا حال المركز المهيمن؛ فإنَّ الهامش ومع بداية الثَّلاثينيات سيبدأ بالتململ من هذا الإرث الفلسفيِّ الَّذي وجد أنَّه تقادَم واستنفد أغراضه وأنَّ هناك حاجة مُلحَّة إلى التَّجديد وبعث روح جديدة في الفكر الفرنسيِّ. وسوف يجد الهامش ما يبحث عنه لتجديد الدِّماء فيه في بعض تيَّارات الفلسفة الألمانيَّة الحديثة والمعاصرة. هكذا، ستشهد فرنسا حركة مكثَّفة لترجمة أبرز أعمال الفلاسفة الألمان بفضلها ستصبح أسماء مثل هيغل ونيتشه ودلتاي وهوسرل وشيلر وهايدغر أسماء حاضرة بقوَّة على هوامش المشهد الثَّقافيِّ الفرنسيِّ. قبل حركة التَّرجمة تلك أي حتَّى منتصف الثَّلاثينيات من القرن العشرين، لم تكن كتابات هؤلاء الفلاسفة قد تُرجِمت إلَّا بعض المقتطفات، ونزر من النُّصوص يكاد لا يُذكر. («وحده نيتشه كان قد تُرجِم وتمَّ التَّعليق عليه على نحو واسع منذ بدايات القرن [العشرين]، بيد أنَّ صورته ستتغيَّر في سياق التَّصوُّر الجديد»[4].

هكذا ستتعرَّف فرنسا آنذاك على الأفكار الفلسفيَّة الألمانيَّة المعاصرة عبر مترجمين متمكِّنين من الألمانيَّة، إمَّا لأصولهم الجِرمانيَّة أو لدراستهم في ألمانيا نذكر من بينهم: ألكسندر كويري، وألكساندر كوجيف، وجورج غورفيتش، وإريك فايل، وإيمانويل ليفيناس. لم يكن هؤلاء المترجمين عموماً يشغلون مناصب في الأوساط الأكاديميَّة الفرنسيَّة آنذاك، لكنَّهم أسَّسوا عفويَّاً لحركة ثقافيَّة نمت على هامش الحياة الجامعيَّة الرَّسميَّة. حول هذه النُّقطة يؤكِّد بينتو أنَّ هؤلاء المترجمين والشُّرَّاح والعارضين للفكر الألمانيِّ في فرنسا كانوا: «من أصول أجنبيَّة ومحرومين من الصِّفات الرَّسميَّة، فقد قاموا بعمليَّة مراكمة لرأس مال فلسفيٍّ خارج السُّوربون وخارج مدرسة المعلِّمين العُليا»[5]. إنَّ ما يهمُّني هنا من هذا العرض هو شرح كيفيَّة انتصار الهامش على المركز، فهؤلاء المترجمين والشُّرَّاح والمفكِّرين كانوا مُثقَّفي هامش، أجانب ومتمرِّدين إذن على ثقافة المركز الأكاديميَّة المهيمنة والمحافِظة والسُّلطويَّة والمتمركِزة على الإرث الفلسفيِّ الفرنسيِّ القوميِّ. هكذا لم يكن ما يدعوه بينتو بـــــــــ«رأس المال الفلسفيِّ» هو في الواقع سوى فلسفة هامشيَّة أو هوامش الفلسفة الَّتي ستهيمن على المشهد الفلسفيِّ الفرنسيِّ بعد بضعة عقود. ويتَّضح هذا التَّهميش لتيَّار التَّرجمة ذاك حين نتذكَّر أنَّ ترجمات المفكِّرين الألمان إلى الفرنسيَّة لم تمرَّ حينها عبر المطابع الجامعيَّة ولا عبر مدرَّجاتها وحلقاتها الدِّراسيَّة كما:

لم تُنشر أعمال المؤلِّفين الألمان من قِبَل النَّاشر الجامعيِّ شبه الحصريِّ ألكان alcan، وإنَّما وبالأخصِّ من قِبَل ناشرين غير مختصِّين مُهتمِّين بنشر المذاهب الجديدة. هكذا قامت دار نشر غاليمار بنشر أوَّل ترجمة لكتاب هايدغر، ما هي الميتافيزيقيا؟ مع مقتطفات من الوجود والزَّمان (1938)، وثمَّ نشرت بعد ذلك أفكار موجهة للفينومينولوجيا لهوسرل (1950) ثمَّ كتاب نيتشه لكارل ياسبرس (1950)، ثمَّ الصُّوريَّة في الأخلاق المادِّيَّة للقيم لماكس شيلر (1955)[6].

ليست فقط المطابع الجامعيَّة الَّتي قاومت استيراد الفكر الألمانيِّ، بل والمجلَّات العلميَّة المعترف بها أكاديميَّاً في ذلك الوقت أيضاً: «يُسجِّل لوي. بينتو هذه الملاحظة بالقول: 'لم تساهم المجلَّات الأكاديميَّة بنشر هذه التَّيَّارات الجديدة، وإنَّما اضطلعت بذلك المجلَّات الصَّغيرة المتموضِعة على 'هوامش' الحقل الجامعيِّ»[7]. هكذا تسلَّل الفكر الألمانيُّ الحديث والمعاصر إلى فرنسا فنمى على هامش المركز (أي المؤسَّسات الأكاديميَّة الرَّسميَّة) الَّتي قاومت هذا الوافد الجديد وأنكرَته، إلى أن نجح هذا الهامش بمراكمة فكر جديد تعاظم مريدوه؛ ما مكَّنَه من التَّمرُّد على المركز وانتزع الاعتراف منه، بل إنَّه قَلَبَ الطَّاولة عليه كلِّيَّاً. لا يمكن برأيي فهم روح فكر 68 (الَّذي هو حركة الهوامش الفلسفيَّة بامتياز) في فرنسا دون الأخذ بعين الاعتبار جدِّيَّاً ذلك الأثر الهائل الَّذي مارسه الفكر الألمانيُّ الوافد الَّذي أسَّس لهذا الهامش وجعله ممكناً وقويَّاً. فقد وفَّر هذا التَّراكم للتَّرجمات وتقديم التَّيَّارات الفلسفيَّة القادمة من ضفَّة نهر الرَّاين المقابلة لفلسفة الهامش الفرنسيَّة (غير الجامعيَّة) القوَّة النَّقديَّة وروح الثَّورة والجدَّة الَّتي كانت تطمح إليها. فكوجيف على سبيل المثال قدَّم وعرض وشرح وترجم فلسفة هيغل الَّتي استقطبت جمهوراً غفيراً ونوعيَّاً من المثقَّفين الفرنسيِّين الجدد. حول هذه النُّقطة يقول بينتو:

تُبيِّن نوعيَّة جمهور كوجيف في المدرسة التَّطبيقيَّة للدِّراسات العليا ephe خلال منتصف الثَّلاثينات إلى أيَّة درجة كان هيغل يجذب أفراداً يشغلون مواقع فكريَّة ومؤسَّسيَّة جدُّ متنوِّعة، مثل ريمون آرون وجورج باتاي وأندريه بريتون وجان توسان ديسانتي والأب فيسار وجان هيبوليت وجاك لاكان وإيمانويل ليفيناس، وروبرت مارجولين وجاك وموريس ميرلوبونتي وريمون كينو وإريك فايل وأوليفييه وورمز[8].

وبالإضافة إلى هيغل أصبح باستطاعة القارئ الفرنسيِّ التَّعرُّف على هوسرل وهايدغر؛ وذلك إمَّا من خلال كتبهم الَّتي صار بعضها أو معظمها متاحاً بالفرنسيَّة، وإمَّا من خلال تعليقات وشروحات المثقَّفين الفرنسيِّين عليها. هكذا سيصبح هوسرل مثلاً معروفاً للقارئ الفرنسيِّ بفضل ترجمة ليفيناس وج. بايفر لكتاب تأمُّلات ديكارتيَّة (1931)، وكذلك بفضل تعليقات مرلوبونتي في كتاب فينومنولوجيا الإدراك (1950). وإن كان اطِّلاع الفرنسيِّين على أفكار هايدغر قد بدأ أساساً على نحوٍ وسيط وبسوء فهم إلى حدٍّ ما مع كتاب سارتر الوجود والعدم (1943)، فإنَّ معرفة أدقَّ بأنطولوجيا هايدغر ستتكوَّن لاحقاً وتباعاً بفضل ترجمات وشروحات متعدِّدة لأعماله راحت تتوالى بالفرنسيَّة. سيكون لهؤلاء الفلاسفة الثَّلاثة: هيغل، هوسرل، هايدغر تأثير عظيم على الفكر الفرنسيِّ الوليد، لكنَّهم لم يكونوا الوحيدين الَّذين أثَّروا به. في كتابه عن تاريخ الفلسفة في فرنسا في القرن العشرين يكتب فريدريك وورمز، تعليقاً على رأي لمؤرِّخ الفلسفة الفرنسيَّة الآخَر فنسنت ديكومب في كتابه المُطابق والآخَر، ما يلي:

لقد بدت له [أي لديكومب] الفلسفة الفرنسيَّة بين 1933 و1978، بل وعلى امتداد القرن العشرين، بأنَّها تبدأ في الواقع مع قراءة والتأثُّر بهذه «الهاءات الثَّلاثة» (هيغل وهوسرل وهايدغر) الَّذين تركوا بصماتهم حقيقة على مجمل الفلسفة في فرنسا منذ عام 1930[9].

وعلى الرغم من اتِّفاقنا على قوَّة الأثر الَّذي لا يمكن إنكاره لهذه «الهاءات الثَّلاثة» على الفكر الفرنسيِّ، إلَّا أنَّ ذلك لا يجب أن يحجب عنَّا أهمِّيَّة فلاسفة ألمان آخرين (لا تبتدئ أسماؤهم بحرف الهاء) أثَّروا بقوَّة على الفكر الفرنسيِّ المعاصر يقف على رأسهم ماركس ونيتشه وفرويد.

لا شكَّ إذن أنَّ لاستقبال الفكر الألمانيِّ أثراً لا يقلُّ عمَّا وصفه كانط من تأثير فلسفة هيوم عليه بإيقاظه من «سباته الدُّوغمائيِّ»، لكن لننتبه هنا أنَّ الاستقبال الفرنسيَّ للفلسفة الألمانيَّة، لم يكن استيراداً بسيطاً للاستهلاك أو مجرَّد اجترار ونَسخ باهت لأفكار الفلاسفة الألمان العظيمة، بل إنَّ الأفكار المستلهمة من هؤلاء المفكِّرين الألمان لن تبقى ألمانيَّة بحتة في فرنسا، بل ستصبح أفكاراً فرنسيَّة بامتياز[10]. ويجب التَّأكيد في هذا المقام أنَّ هذا التَّجديد والمواءمة قد نجحت؛ لأنَّ فلسفة الهامش الفرنسيَّة لم تجد حرجاً في الانفتاح على فكر الآخَر، حتَّى لو كان هذا الآخَر عدوَّاً أثناء الحرب. وإن دلَّ هذا على شيء، فإنَّما يدلُّ على رغبة هذا الفكر الفرنسيِّ الجديد بالخروج من قوالب الفكر المحلِّيِّ وعدم حمله لعقد الهويَّة القوميَّة على خلاف فلسفة الهامش الَّتي تكلَّسَت في السُّوربون.

لقد كان هذا التَّلاقح الفكريُّ خصباً جدَّاً ليس فقط للفكر الفرنسيِّ، وإنَّما أيضاً للفكر الألمانيِّ المستورَد، فبحسب باديو: «أصبحت هذه الفلسفة الألمانيَّة، في ترجمتها الفرنسيَّة - وعلى ساحة معركة الفلسفة الفرنسيَّة، شيئاً جديداً تماماً»[11]. وقد كان هناك، وفقاً لباديو دائماً: «رابط جديد يجمع بين التَّصوُّر والوجود يحمل أسماء عديدة مثل: التَّفكيكيَّة، الوجوديَّة، الهرمينوطيقا»[12]. وبقدر ما استولت الماركسيَّة على أفكار ألتوسير، بقدر ما غيَّر فيها وجدَّد بقراءتها قراءة جديدة، بل وفرنستها، إن صحَّت التَّسمية، من خلال البنيويَّة. ولم يكن جورج باتاي وميشال فوكو وجيل دولوز مجرَّد نُسَخ لنيتشه أو مجرَّد تلامذة أو مريدين له؛ ولم تكن تفكيكيَّة دريدا يوماً مُجرَّد مُنتَج مُركَّب من فينومينولوجيا هوسرل وأنطولوجيا هايدغر والتَّحليل النَّفسيِّ الفرويديِّ رغم أنَّه لا يمكن فهمها -على الأقلِّ في مرحلتها الأولى- دون هذه المؤثِّرات. بل حتَّى هايدغر في ألمانيا ليس هو نفسه في فرنسا، فمفكِّرو هذه الأخيرة قاموا بفَرْنَسة هايدغر. حول هذه الظَّاهرة يؤكِّد دريدا:

لا يوجد هناك تخصيب [لهايدغر] حتَّى في ألمانيا. [...] لأنَّ ما حدث في فرنسا، على الرَّغم من الاستيراد أو الاستدانة، هو أمر لغويٌّ. وهو ما ينبغي أيضاً أخذه بعين الاعتبار انطلاقاً من علاقات أخرى: خلف ذلك يكمن كلُّ الإنتاج الفرنسيِّ. هنا يوجد تطعيم لا مثيل له، وتهجين - كيف ندعوه اليوم؟ نعم، عضو مُعدَّل وراثيَّاً. كان هناك شيء من هذا القبيل: هايدغر في فرنسا هو مُنتَج معدَّل وراثيَّاً ولا نظير له[13].

البنيويَّة

لم يعد للوجوديَّة في نهاية السِّتِّينيات من القرن المنصرم صدى يذكر تقريباً في الحياة الفكريَّة الفرنسيَّة، ولم يعد هناك تيَّار فلسفيٌّ يهيمن على السَّاحة الفكريَّة في فرنسا اللَّهُمَّ سوى الماركسيَّة. لكن في تلك الفترة تحديداً سنشهد بروز حركة ألسُنيَّة، فكريَّة، أدبيَّة أنثروبولوجيَّة، ثقافيَّة جديدة سُتعرف باسم «البنيويَّة»، والَّتي بدأت تأخذ مكانها وتغزو المشهد الثَّقافيَّ الفرنسيَّ بعد الحرب.

نحن نعرف جيِّداً ما تدين به هذه البنيويَّة للألسنيِّ السُّويسريِّ فرديناند دي سوسير (1857-1913) ولمؤلَّفه الشَّهير دروس في الألسنيَّة العامَّة (1916). من هذا الكتاب الصَّادر بعد وفاته (والَّذي لا يستخدم فيه مصطلح «البنية» للمفارقة)، سترى «الألسنيَّة البنيويَّة» النُّور. في هذا الكتاب يؤكِّد سوسير على أنَّ اللُّغة هي نظام من العلامات تتضمَّن كلٌّ منها عنصرَينِ مترابطَينِ عضويَّاً هما:

1- الدَّالُّ، الَّذي يظهر في الجانب المادِّيِّ لِلُّغة كالصَّوت في حالة الكلام.

2- المدلول، الَّذي يمثِّل جانب اللُّغة العقليَّ أو المفاهيميَّ.

للدَّالِّ والمدلول، في الواقع، طبيعة نفسانيَّة لأنَّ الدَّالَّ ليس مجرَّد صوت مثلاً، بل بالأحرى صوت مُتصوَّر. وبالمثل، فإنَّ المدلول ليس مجرَّد إحالة إلى العالم الخارجيِّ، فهو قد يكون فكرة خياليَّة في الذِّهن من قبيل «الحصان الطَّائر». وحتَّى حينما نتحدَّث عن حصان حقيقيٍّ فإنَّنا لا نستحضر حصاناً من لحم ودم، بل نستذكر صورته العقليَّة بالأحرى. ويشير سوسير إلى الطَّابع التَّوافقيِّ (الاجتماعيِّ) للعلاقة بين الدَّالِّ والمدلول، مؤكِّداً أنَّه لا دالَّ بلا مدلول والعكس بالعكس. وإذا كانت اللُّغة (الَّتي تظلُّ توافقيَّة وصوريَّة عند سوسير) نظاماً مغلقاً من العلامات، فإنَّ كلَّ علامة ستتمايز باختلافها عن العلامات الأُخرى للنِّظام. وهكذا، فإنَّ البنيويَّة اللُّغويَّة هي «نظام من الاختلافات»، بل إنَّ دي سوسير يذهب إلى حدِّ القول إنَّه: «لا توجد في اللُّغة سوى اختلافات»[14]. لكن اختلافات العلامات اللُّغويَّة عن بعضها البعض يجعلُها معتمدة بعضها على بعضها الآخَر، فلا توجد علامة مستقلَّة بحدِّ ذاتها عن العلامات الأُخرى[15]. هذا ويُميِّز دي سوسير بين اللُّغة والكلام مانحاً الأفضليَّة للأولى على الثَّاني كما ويُميِّز، بنفس الطَّريقة، بين دراسة اللُّغة من خلال تطوُّرها التَّاريخيِّ، ودراسة لغة في لحظة معيَّنة كنَسق.

ستكون هذه الفتوحات السوسيريَّة منبَعاً سينهل منه في الخمسينات والسِّتِّينيات مجموعة من المثقَّفين الفرنسيِّين الَّذين اعتمدوا هذه الطَّريقة البنيويَّة والألسُنيَّة لتطبيقها على مجالات المعرفة الأُخرى على غرار الفلسفة والإثنولوجيا والأنثربولوجيا والدِّراسات النَّفسيَّة والنَّقد الأدبيِّ... إلخ.

ولو قَبِلنا بفكرة فرضيَّة أنَّ الفلسفة المعاصرة هي فلسفة اللُّغة بامتياز؛ فإنَّنا سنُلاحظ في الفلسفة الأوروبيَّة المعاصرة هيمنة تيَّارين فلسفيَّين لغويَّين: الأوَّل هو الفلسفة التَّحليليَّة الَّتي تُهيمن في البلدان الأنجلوساكسونيَّة (تُدين نظريَّة التَّواصل الهابرماسيَّة بالكثير لهذا الاتِّجاه الفلسفيِّ الألسُنيِّ)، والثَّاني هو البنيويَّة السوسيريَّة، الَّتي تنظر إلى اللُّغة بوصفها بُنية أو نسق مكوَّن من العلامات ومن علاقات الاختلاف (يدين تفكيك دريدا كثيراً لهذا الاتِّجاه).

أسماء كثيرة في فرنسا انتسبَت أو نُسِبَت إلى هذه الحركة الجديدة المسمَّاة «البنيويَّة» نذكر من بينها: كلود ليفي-ستروس ورولان بارت وجاك لاكان وميشال فوكو ولوي ألتوسير. وغنيٌّ عن القول إنَّ هؤلاء الباحثين لم يمثِّلوا تيَّاراً واحداً أو مدرسة متجانسة، ولكن، ورغم تباينهم فإنَّ أبحاثهم استندَت، في بداية السِّتِّينات، على تلك الفتوحات الألسنيَّة الَّتي افتتحها دي سوسير. فبمرجعيَّة بنيويَّة على سبيل المثال، درس ليفي ستروس (الَّذي كان الوحيد بينهم الَّذي انتمى صراحةً إلى البنيويَّة) الظَّواهر الأنثروبولوجيَّة لعلاقات القرابة والأساطير كما لو كانت بنيات لغويَّة مع التَّركيز على العلاقات بين الرُّموز و«العلامات». وهذه المرجعيَّة البنيويَّة واضحة في معظم أعماله وتنعكس حتَّى في عناوين بعض كُتُبِه مثل البُنى الأوَّليَّة للقرابة (1949) والأنثروبولوجيا البنيويَّة (1958). وعلى الرَّغم من رفض كلٍّ مِن رولان بارت وميشال فوكو المستمرِّ لحشرهما بين البنيويِّين؛ فإنَّ أعمالهما، ابتداءً من السِّتِّينيات على الأقلِّ، لا تُخفي قرابتها للبنيويَّة السوسيريَّة. فقد ركَّزَ بارت في مرحلة ما، على العلاقات بين العناصر والاختلافات الَّتي يتوقَّف عليها النَّصُّ الأدبيُّ الَّذي اعتبرَه بنية من العلاقات؛ فيما حاول لاكان مراجعة نظريَّة فرويد التَّحليليَّة النَّفسيَّة على أساس بنيويٍّ لغويٍّ؛ وبالمثل، أعاد ألتوسير النَّظر في الماركسيَّة من وجهة نظر بنيويَّة سمحت بقراءة جديدة لـــــــ رأس المال، ومِن جانبه؛ ألحَّ فوكو على دور البُنى في السلطة والهيمنة على المجتمعات الحديثة.

إذن وعلى الرَّغم من الاختلافات القائمة بين هؤلاء الباحثين الملقَّبين، صواباً أو خطأً، بالبنيويِّين إلَّا أنَّ بينهم عدَّة نقاط مشتركة نذكر منها:

1- لو ضربنا صفحاً عن اشتراكهم في كونهم جميعاً فرنسيِّين، فإنَّنا سنجد أنَّهم بجُلِّهم يعارضون مفهومَي «السُّلطة» و«الميتافيزيقا».

2- بما أنَّ المنطق الدَّاخليَّ للبنيويَّة يُعطي أولويَّة للبنية على حساب الفرديَّة وللنِّظام على حساب الذَّات؛ فإنَّ إمحاء «الذَّات» وتفكيك الأنا واضح في أعمالهم. وهذا قد يُفسِّر جزئيَّاً ذلك الخلاف الَّذي نشأ بحدَّة بين سارتر والبنيويِّين الَّذين يُعارضون فلسفات الفرديَّة والذَّاتيَّة لدرجة إعلان موت الَّذات، فها هو ميشال فوكو ينعي في الكلمات والأشياء (1966) موت الإنسان، بينما سيُعلن بارت عن «موت المؤلِّف» واستقلال النَّصِّ عن صاحبه (وهذا ما سيمهِّد لعبارة دريدا الشَّهيرة: «لا شيء خارج النَّصِّ»). حول اختفاء الذَّات في أعمال البُنيويِّين، يؤكِّد باديو على ما يلي:

يمكننا القول إنَّ الفلسفة الفرنسيَّة ستصبح تدريجيَّاً ساحة معركة حول مسألة الذَّات. [...] فألتوسير يُعرِّف التَّاريخ كسيرورة دون ذات ويضع الذَّات في سلَّة الإيديولوجيا؛ بينما يضعها دريدا، في تأمُّله لهايدغر، في خانة الميتافيزيقا؛ ويبتكر لاكان مفهوماً للذَّات - ونكتفي بهؤلاء حتَّى لا نقول أكثر عن الموقع المركزيِّ الَّذي تحتلُّه الذَّات عند كلٍّ مِن سارتر وميرلوبونتي[16].

3- جميعهم مفتونون بالأسلوب والإبداع اللُّغويِّ والأدب. لقد كانوا جميعاً كُتَّاباً مميَّزين بأساليبهم الــــمُعقَّدة، العميقة. وقد رفضوا، كلٌّ بطريقته الخاصَّة، شرط الوضوح الدِّيكارتيِّ (الأمر الَّذي يُبرِّر فرضيَّتي فيما يتعلَّق بفكرهم المتمرِّد على إرثهم القوميِّ المحلِّيِّ). فاللُّغة عندهم لا تصف بوضوح ويقين بقدر ما تكتنز وتُخفي وتحجب وتنطوي على ما هو سرِّيٌّ ومبثوث ومسكوت عنه (ولعلَّ هذه النُّقطة الأخيرة ستظهر بأوضح تجلِّياتها في كتابات دريدا وأفكاره عن اللُّغة الشِّعريَّة الرَّمزيَّة وتضعه على الطَّرف النَّقيض تماماً من هابرماس المنتمي لمدرسة أفعال الكلام البسيطة التَّواصليَّة الواضحة كما سنرى). وباختصار كلَّما كانت اللُّغة غير قابلة للتَّواصل أو شبه صوفيَّة؛ كلَّما كانت أكثر ثراءً، في نظر البنيويِّين وما بعدهم. وبالتَّالي ليس الكاتب الحقيقيُّ[17]، وفق هذا التَّصوُّر، هو مَن يقول لنا ببساطة شديدة ما يعنيه في نصِّه (سواء الفلسفيُّ أو الأدبيُّ)، بل، على العكس، هو الَّذي يُنتج نصَّاً يسمح بتعدُّد القراءات.

4- النُّقطة الأخيرة المشتركة، في نظري، بين «البُنيويِّين» تتمثَّل في كونهم هامشيِّين، بطريقة ما، وهم في هذا يذكِّروننا بحال المترجمين الَّذين قدَّموا الفلسفة الألمانيَّة إلى فرنسا في الثَّلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. باستثناء كلود ليفي ستروس، فقد بدأ المفكِّرون البنيويُّون صوغ أفكارهم على «هامش» المؤسَّسات الأكاديميَّة الفرنسيَّة الكبرى في ذلك الوقت، ناشرين أعمالهم في مجلَّات ودُور نشر هامشيَّة نسبيَّاً، لكنَّها لن تلبث أن تتفوَّق على المركز بعد حين. هكذا، ولدت البنيويَّة وترعرعت خارج الجامعات الفرنسيَّة الكُبرى. وهذا برأيي، أحد الأسباب الَّتي جعلت مُمثِّليها ينتقدون أساليب التَّعليم الجامعيِّ في فرنسا ويتمرَّدون عليها. أذكر في هذا الصَّدد، انتقادات رولان بارت الشَّديدة في الدَّرجة صفر للكتابة (1953) «للأسطرة» mystification الَّتي يُجسِّدها النَّقد الأدبيُّ الأكاديميُّ آنذاك. وهم لم يكونوا متمرِّدين ضدَّ المؤسَّسات الأكاديميَّة فقط، بل كانوا ثائرين كذلك ضدَّ جميع أشكال السُّلطة الحديثة وكلِّ أشكال التَّمركُز. هكذا، وعلى سبيل المثال، انتقد كلود ليفي ستروس النَّزعة المتمركزة على العِرق في الحضارة الأوروبيَّة، ودأب فوكو على فضح السُّلطة العقابيَّة القائمة في المؤسَّسات الحديثة كالسِّجن ومستشفى الأمراض النَّفسانيَّة... إلخ.

حركة 1968 وولادة مابعد-البنيويَّة

ستعيش البنيويَّة -الَّتي أغرَت أعظم المثقَّفين الفرنسيِّين في أوائل السِّتِّينات- نقطة تحوُّل عام 1968. فحتَّى ذلك العام، كانت البنيويَّة هي المرجعيَّة الأساسيَّة لأعمال ليفي ستروس ولاكان وفوكو وألتوسير وبارت. تُبيِّن الكلمات والأشياء لفوكو وكتابات للاكان (ظهرَا في نفس العام 1966) بوضوح أنَّه حتَّى ذلك التَّاريخ، لم تكن كتابات هؤلاء الكوكبة من المفكِّرين قد غادرت حقل البنيويَّة بعد. بيد أنَّه وبعد عامين من ذلك فقط، وبالضَّبط في سنة 1968، ستشهد فرنسا (بدورها) لحظة ثوريَّة على جميع المستويات: السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة، والفكريَّة حين خرج الطُّلَّاب والعُمَّال مع فئة من أساتذة الجامعات إلى شوارع باريس للمطالبة بالإصلاح الشَّامل. وقد تظاهرت رموز ثقافيَّة كبيرة (من مثقَّفي الهامش ومثقَّفي اليسار عموماً) في سبيل إصلاح الجامعة الفرنسيّة الَّتي وصفوها بالمحافِظة والتَّقليديَّة[18].

كان شهر أيَّار/مايو 1968 فرصة مواتية لسارتر لكي يستعيد (خصوصاً مع صعود نجم ميشال فوكو) مكانته المتراجعة أمام هيمنة البنيويَّة كزعيم لليسار المثقَّف. غير أنَّ البنيويِّين كانوا حاضرين بقوَّة أيضاً[19] فقد مكَّنت حركة 68 «الهامش» بأن يثور على «المركز»[20]. مع حركة 68 الطُّلَّابيَّة سيضطرُّ «المركز» المُسيطر إلى الاعتراف بــــ «الهامش»[21] الَّذي صار قوَّة لا يمكن تجاهلها، وسيحاول استرضاءَه وكبح جماحه من خلال إجراء إصلاحيَّة شكليَّة في النِّظام الجامعيِّ، وإنشاء جامعة فانسين vincenne للطُّلَّاب والمثقَّفين اليساريِّين المحتجِّين على النِّظام التَّقليديِّ للتَّعليم الأكاديميِّ في فرنسا. في فانسين، ستُدرَّس الفلسفة بطريقة جديدة وسيُنتزَع الهامش المعارض للتَّعليم الأكاديميِّ السَّائد آنذاك وللمعايير الجامعيَّة الكلاسيكيَّة نوعاً من الاعتراف الرَّسميِّ ولو على مضض، ولو إلى حين فلن يكلَّ المركز مُمثَّلاً بوزارة التَّعليم العالي الفرنسيَّة عن محاربة فكر الهامش ومُفكِّري الــ 68 الرَّاديكاليِّين.

لكنَّنا إذ نتحدَّث عن «ما بعد-البنيويَّة»، فإنَّنا نحتاج معرفة ما تعنيه البادئة «ما بعد» أوَّلاً و«ما بعد البنيويَّة» ثانياً[22]. وسيتوجب علينا كذلك فهم العلاقة بين ما بعد-البنيويَّة والبنيويَّة. وللإجابة على هذه الأسئلة، أبدأ باستعراض أطروحات مانفريد فرانك الثَّلاث حول ما بعد-البنيويَّة (أو ما يُسمِّيها هو بـــ«البنيوية الجديدة») وهي كما يلي:

تتمثَّل الأطروحة الأولى في اعتبار البنيويَّة الجديدة لنفسها -على خطى هيغل ونيتشه- فكراً ما بعد ميتافيزيقيٍّ. أمَّا الثَّانية، فهي أنَّ هذا الفكر ما بعد الميتافيزيقيِّ هو أيضاً فكر لاحق على البنيويَّة. والأطروحة الثَّالثة فهي، من منظور فلسفيٌّ، تجذير وقلب ما بعد-البنيويَّة للبنيويَّة الإثنو-ألسنيَّة ethnolinguistique الَّتي تسبقها والَّتي كانت تعتبر نفسها منهجاً للعلوم الإنسانيَّة أكثر منها حركة فلسفيَّة[23].

سأحاول، ابتداءً من أطروحة فرانك الثَّانية، الإجابة على السُّؤال المتعلِّق بدور البادئة «ما بعد»: هل هي استمراريَّة أم قطيعة؟ يُفضِّل فرانك من جهته أن يُطلِق على هذه الحركة اسم «البنيويَّة الجديدة» بدلاً من «ما بعد البنيويَّة»، مُفسِّراً خياره ذلك على النَّحو التَّالي:

يبدو لي مصطلح «ما بعد-البنيويَّة» فضفاضاً جدَّاً؛ فانخفاض الدُّولار والحركة من أجل السَّلام هي أيضاً لاحقة على البنيويَّة لكن لا علاقة لها بها. [في حين] ترتبط البنيويَّة الجديدة بالفعل ومباشرةً بالبنيويَّة الكلاسيكيَّة الَّتي يمثِّلها فرديناند دي سوسير (ويقدِّمها بالي وسيشهاي)، وإميل بنفينيست، وجوليان أ.جريماس، وكلود ليفي ستروس، وجيرار جينيت، وتزفيتان تودوروف، ورولان بارت. ولذلك فإنَّها تقيم علاقة داخليَّة مع البنيويَّة. وبعبارة أُخرى، فإنَّ البنيويَّة الجديدة ليست مجرَّد مابعد-بنيويَّة، بل إنَّها ترتبط ارتباطاً حاسماً بالبنيويَّة ولا يمكن فهمها بدون هذا الأصل[24].

أمَّا بالنِّسبة إلي، فلا أعتقد أنَّ البادئة «مابعد» تنطوي على قطيعة نهائيَّة مع ما سبق؛ إذ يمكنها أن تتضمَّن في نفس الوقت على المابعد أو اللَّاحقيَّة، لكن أيضاً التَّجاوز، الَّذي يحافظ على علاقة ونقد داخليٍّ لما تنتج عنه. وهي بذلك عندي ليست قتلاً للأب parricide، بل هي بالأحرى استمراريَّة ممتنَّة لِ ومُشكِّكة في الوقت نفسه بما أنتجها بطريقة أو بأُخرى. ولهذا، أستعيض عن مفردة «جديدة» لفرانك بالبادئة «ما بعد» والَّتي أقصد بها النَّقد الدَّاخليَّ لكن دون انقطاع حاسم ولا قطيعة نهائيَّة مع ما تزعم أنَّها تتجاوزه وأُطبِّق ذلك أيضاً على مفهوم «ما بعد الحداثة».

يبقى لي أن أقول في هذا الصَّدد إنَّه وعلى غرار البنيويِّين، لا يُشكِّل أنصار ما بعد البنيويَّة مدرسة فلسفيَّة واحدة أو نظريَّة متجانسة، فهم يصرُّون على الاختلافات القائمة بينهم، لكنَّهم مع ذلك التَّباين في الاهتمامات وطرق التَّعبير يُمثِّلون حركة فكريَّة أو موجة فلسفيَّة ذات هويَّة فرنسيَّة لن تلبث أن تتعولَم وتتمركز.

كلمة أخيرة بخصوص استقبال فرنسا المتأخِّر لفكر الجيل الأوَّل من مدرسة فرانكفورت

حتَّى أواخر السَّبعينيات من القرن الماضي لم تكن أعمال مدرسة فرانكفورت معروفة على نطاق واسع في فرنسا. وعلى الرَّغم من أنَّ الفينومينولوجيا، وأعمال نيتشه وهايدغر على سبيل المثال كانت قد تُرجمت في معظمها إلى الفرنسيَّة آنذاك وصارت في متناول القارئ الفرنسيِّ، فإنَّ بعض الاتِّجاهات الألمانيَّة الأُخرى قد ظلَّت مجهولة كلِّيَّاً تقريباً في الثَّقافة الفرنسيَّة ومنها أعمال وأفكار أصحاب النَّظريَّة النَّقديَّة. حول هذه النُّقطة يقول جيرار روليه: «كانت مدرسة فرانكفورت غير معروفة عمليَّاً في فرنسا وقد اصطدمت برفض أساقفة الماركسيَّة الجامعيَّة»[25]. هكذا حالت الهيمنة السَّاحقة للماركسيَّة الألتوسيريَّة على الفلسفة الفرنسيَّة دون استقبال أفكار مدرسة فرانكفورت الَّتي نُظر إليها كتحريف للماركسيَّة. ويشير مارك جيمينز إلى أنَّ:

الفرق ظلَّ صارخاً بين موقف أولئك الَّذين سعوا مع بداية السَّبعينيات إلى تجديد الإشكاليَّة الماركسيَّة بالنَّظر إلى العلاقة بين النَّظريَّة والبراكسيس، وبين موقف الماركسيِّين وفقهاء الماركسيَّة الفرنسيِّين المشلولين أمام «السَّدِّ الألتوسيريِّ» والموضة البنيويَّة. باستثناء بعض المعلومات الجزئيَّة والَّتي غالباً ما كانت حكائيَّة لا يمكن أن تصنع استقبالاً حقيقيَّاً، فقد ظلَّت مدرسة فرانكفورت على المستوى النَّظريِّ والفلسفيِّ والسِّياسيِّ شبه غائبة عن فرنسا وقد عزَّز انعدام التَّرجمة هذه الغياب إلى حدٍّ كبير[26].

ويؤكِّد ميشال فوكو على هذا الجهل، بل والتَّجاهل لأفكار مدرسة فرانكفورت في فرنسا في حوار أجراه معه جيرار روليه بالقول:

يعلم الجميع أنَّ العديد من ممثِّلي مدرسة فرانكفورت قد قدموا إلى باريس عام 1935 باحثين فيها عن ملجأ وأنَّهم قد غادروها بسرعة كبيرة مُتقزِّزين على ما يبدو -بل إنَّ بعضهم قال ذلك- وبكلِّ الحالات حزانَى ومتأسِّفين لأنَّهم لم يجدوا صدىً فيها. [...] وأستطيع أن أؤكِّد لك أنَّني لم أسمع أبداً أُستاذاً واحداً لفظ اسم مدرسة فرانكفورت عندما كنتُ طالباً[27].

ستتجلَّى آثار هذا الجهل الفرنسيِّ بالإنتاج النَّظريِّ لأعلام مدرسة فرانكفورت في تكرار فوكو ودريدا وبشكلٍ غير مُدرك لبعض أفكار الجيل الأوَّل لهذه المدرسة. وهذه التَّقاطعات الصُّدفيَّة بين الفرانكفورتيين وما بعد البنيويين الفرنسيِّين في نقد السُّلطة وعلاقات الهيمنة، ونقد شموليَّة العقل ومراجعة مآلات التَّنوير تعود لِلُعبة الاستمراريَّة والانقطاع السَّاخرة للتَّاريخ! دعونا نقرأ في هذا الصَّدد ما يكتب مارك جيمينز:

يضع هذا الجهل، الــــمُتعلِّق بالأبحاث الأكثر تقدُّماً في ذلك الوقت في ميادين عِلم الاجتماع، وعِلم النَّفس الاجتماعيِّ والتَّحليل النَّفسيِّ، المثقَّفين الفرنسيِّين في حالة متناقضة: حيث سيكتشف العديد منهم بحماسة ساذجة أحياناً إشكاليَّات قد شاخت تعود لعدَّة عقود مضت، ولكن أُضفي عليها مظهراً من الجدَّة بطلاء من المصطلحات تمَّ تكييفها مع الذَّوق الرَّاهن[28].

إنَّها ملاحظة واضحة وأنيقة تؤكِّد ذلك الحضور غير المتوقَّع والصُّدَفيَّ لنفس الأسئلة تقريباً، لكن بفاصل زمنيٍّ قصير نسبيَّاً، عند ممثِّلي الجيل الأوَّل لمدرسة فرانكفورت وبين ما بعد بنيويٍّ فرنسا. ولعلَّه من المفيد هنا التَّذكير بتصريح فوكو (الَّذي استشهدنا به في أحد الهوامش السَّابقة) وهو يعترف قائلاً: «فهمت أنَّ مُمثِّلي المدرسة كانوا يحاولون أن يؤكِّدوا، في وقت أبكر منِّي، أشياء كنت أحاول أنا أيضاً تأكيدها منذ سنوات»[29] أو حين يستطرد قائلاً: «عندما أدرك جدارة فلاسفة مدرسة فرانكفورت، فإنِّي أفعل هذا بذلك الوعي الشَّقيِّ لمن كان عليه أن يقرأهم قبل زمنٍ طويل وكان عليه أن يفهمهم في وقت أبكر. لو كنت قد قرأت تلك الأعمال، لكان هناك الكثير من الأشياء الَّتي ما كان عليَّ قولُها ولكنت قد تجنَّبت الأخطاء»[30].

وقد أدلى دريدا أيضاً، في خطابه الَّذي ألقاه عند حصوله على جائزة أدورنو في 22 أيلول/سبتمبر 2001، بتصريحٍ مُفاجئ أكَّدَ فيه تقاربه مع الجيل الأوَّل من مدرسة فرانكفورت قائلاً:

منذ عقود وأنا أسمع أصواتاً في الحلم، كما يقال، وهي أصوات صديقة في بعض الأحيان وأحياناً لا. هي أصوات تأتي من الدَّاخل. تبدو وكأنَّها تقول لي جميعها: لماذا لا تعترف، بوضوح وبشكلٍ علنيٍّ، مرَّة واحدة وإلى الأبد، بتلك القرابة بين عملك وعمل أدورنو، وبحقيقة ذلك الدَّين الَّذي تُدين به لأدورنو؟ ألست أحد وارثي مدرسة فرانكفورت؟[31]

[1] - alain badiou, «panorama de la philosophe française contemporaine», conférence donnée à la bibliothèque nationale (buenos aires, 1er juin 2004). كما تمَّ نشرها في مجلَّة: new left review, septembre/octobre 2005

[2] - المرجع نفسه.

[3] - المرجع نفسه.

[4] - l. pinto¬ «(re) traductions. phénoménologie et «philosophie allemande» dans les années 1930», actes de la recherche en sciences sociales 2002/5, 145, p. 22. ينبغي أن نؤكِّد هنا أنَّ أعمال كانط كانت مُترجَمة ومعروفة تُدرَّس في الأوساط الأكاديميَّة كالسُّوربون القديمة.

[5] - المرجع نفسه.

[6] - المرجع نفسه ص23.

[7] - المرجع نفسه.

[8] - المرجع نفسه، ص31

[9] - frédéric worms, la philosophie en france au xxe siècle, gallimard, 2009, p. 463.

[10] - من المؤكَّد أنَّ وجهة نظري هذه تقف على النَّقيض من رؤية لوك فيري وآلان رينو اللَّذَيْنِ لم يجدا في فكر 68 سوى «مجرَّد اجترار» للفكر الألمانيِّ. انظر: luc ferry, alain renaut, la pensإe 68, gallimard, 1988, p. 60- 68. وهي تقف على الطَّرف المقابل أيضاً من شوفينيَّة هايدغر الَّذي يقول إنَّ: «الفرنسيِّين إذا ما شرعوا بالتَّفكير فإنَّهم يفكِّرون بالألمانيَّة».

[11] - »panorama de la philosophie française contemporaine», op.cit.

[12] - المرجع نفسه.

[13] - heidegger en france, op. cit., p. 109.

[14]- ferdinand de saussure, cours de linguistique générale, payot, paris, 1972, p. 166.

[15] - تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ علامات النِّظام اللُّغويِّ السُّوسيريَّة هي الأضداد المثاليَّة لمونادات لايبنتس، والَّتي هي، على العكس من ذلك، متماثلة وتعكس بعضها البعض!

[16] - «panorama de la philosophie française contemporaine», op. cit.

[17] - انظر في هذا الصَّدد المقال المهمَّ جدَّاً لرولان بارت: barthes, roland, «ecrivains et إcrivants{, in essais critiques, seuil, 1964.

[18] - في عام 1968، تظاهر مفكِّرون فرنسيُّون كان منهم ما بعد-بنيويُّون ضدَّ المؤسَّسات الاجتماعيَّة والأكاديميَّة الَّتي اتَّهمُوها بالمحافظة. في فرنسا كان صوت جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وميشال فوكو من أبرز أصوات الرُّموز الفكريَّة المتمرِّدة، وكان هربرت ماركوز، العائد من أمريكا لمشاركة الطَّلبة الألمان تمرُّدهم من أهمِّ أصوات مدرسة فرانكفورت الحاضرة في تلك الحركة الطُّلَّابيَّة وصار آنذاك النَّاطق الأبرز باسم مثقَّفي اليسار الألمان، وأيقونتهم الحيَّة. على خلاف ما بعد البنيويِّين وماركوز، قدَّم هابرماس موقفاً مُحافظاً إبَّان حركة 68 مُدافعاً عن المؤسَّسات القائمة ومتَّهماً الحركة الطُّلَّابيَّة بأنَّها «فاشيَّة يساريَّة». ولم يتَّخذ دريدا، العازف عن الحضور السِّياسيِّ آنذاك، موقفاً أكثر ثوريَّة واكتفى بالإشارة إلى ما يحدث في أيَّار/مايو 1968 في المؤتمر الدُّوليِّ في نيويورك، بالقول: «في الوقت الَّذي كنت أرقِّن فيه هذا النَّصَّ، كانت جامعات باريس، ولأوَّل مرَّة بناء على طلب من رئيس الجامعة، تقتحهما قوَّات حفظ النِّظام، قبل أن يستعيدها الطُّلَّاب في حركة الاضطراب الَّتي تعرفونها. سيحتاج هذا الأفق التَّاريخيُّ والسِّياسيُّ إلى تحليلٍ مطوَّل». انظر: j. derrida, «les fins de l'homme» in marges de la philosophie, paris, minuit, 1972, p. 135.

[19]- احتجاجاً على الشِّعار المكتوب على لوحات السُّوربون خلال أحداث مايو 68: «لا تنزل البنيات إلى الشَّارع»، يؤكِّد لاكان على العكس: «إذا ما كان هناك من شيء أظهرته أحداث مايو، فهو بالضَّبط نزول البنى إلى الشَّارع». انظر: paul-laurent assoun, }de freud ب lacan: le sujet du politique{, citإs, n0 16, 4/2003.p. 15-24

[20] - بتأكيدي على علاقات القوَّة والتَّهمييش والمقاومة الَّتي تطبع الصِّراع بين الهامش والمركز، فإنِّي لا أسعى بذلك إلى تثبيت الحدود بينهما وهي حدود غير مرئيَّة وغير ثابتة ولا مكانيَّة أصلاً، لكنِّي، على النَّقيض من ذلك، أحاول بهذا تتبُّع الانزياحات والتَّنقُّلات الَّتي قد تبدل وتبادل مواقعها. وبعبارة أُخرى، إنِّي أحاول أن ألقي نظرة فاحصة على الكيفيَّة الَّتي يمكن أن يتحوَّل بها المركز إلى هوامش والعكس بالعكس، أي كيف تتمركز الهوامش ويتهمَّش المركز. بتطبيق هذا التَّصوُّر على ما بعد البنيويَّة، نجد أنَّ هذه الحركة الفكريَّة قد بقيت على هوامش الجامعة ومحيطها (حتَّى بعد عام 1968) إلَّا أنَّها أصبحت بلا شكٍّ أبرز تيَّار للفلسفة الفرنسيَّة في السَّبعينات والثَّمانينات من القرن الماضي. وبعبارة أُخرى، على الرَّغم من استمرار الجامعة الفرنسيَّة بتهميش مابعد البنيويين إلَّا أنَّ هؤلاء صاروا في مركز الاهتمام العالميِّ بالثَّقافة الفرنسيَّة وصار «المركز» الجامعيُّ هامشيَّاً لا سُلطة ثقافيَّة فعليَّة له خارج أسوار الجامعة.

[21] - بخصوص ما أعتبره هنا صراعاً بين «المركز» و«الهامش»، أجد من المناسب استحضار هذا المقطع الطَّويل، لكن المعبِّر لمانفريد فرانك والَّذي يرصد بفطنة ذلك التَّوتُّر القائم بين التَّعليم الرَّسميِّ والتَّعليم الهامشيِّ في فرنسا خلال فترة مابعد-البنيويَّة، بقوله: «إنَّ نظرة عامَّة بسيطة على مجمل حال الجامعة الفرنسيَّة قد تكفي لتأكيد أنَّ البنيويَّة الجديدة هي قبل كلِّ شيء حركة هامشيَّة استطاعت، على هامش وأعتاب التَّعليم المسيطر، اكتساب سمعة، وهي إن لم تكن سمعة هائلة، إلَّا أنَّه لا يمكن تجاهلها. [...] إنَّني مقتنع، بعد أن خبرتُ ذلك خلال المؤتمرات والمحاضرات في باريس، أنَّه وبسبب تجاهلها أو استبعادها أو تحييدها، عن طريق الدَّمج، فإنَّ المؤسَّسات المهيمنة لم تولِ أهمِّيَّة تذكر لكبار منظِّري البنيويَّة الجديدة، بل إنَّها وصلت حدَّ الجهل بأسمائهم. [...]. لكن هنا وكما هو الحال دائماً، تتحقَّق آية الكتاب المقدَّس: 'اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لَا تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلَا إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ'. وإذا ما فسَّرنا ال 'ريح' كاستعارة لِ 'الروح' وطبَّقنا هذه الكلمة الإنجيليَّة على الحالة الأكاديميَّة، لَفهمنا أنَّه يمكن للرُّوح - وكلّ روح يخلق ويبتكر - بالتَّأكيد أن يُمنَع وتوقفه المؤسَّسات أو ما كان يُسمِّيه فوكو ب'أجهزة السُّلطة'، لكنَّه رغم ذلك يؤكِّد حقَّه في الوجود ويُسمِع صوته علناً ويجذب الاهتمام زمناً، بحيث تضطرُّ المؤسَّسة الرَّسميَّة إمَّا لِلَّحاق به أو لخنق الصَّوت المزعج. ولعلَّ هذا الوصف ليس مُبالغاً فيه». انظر: qu'est-ce que le nإo-structuralisme ?, op. cit., p. 15-16.

[22] - مصطلح «مابعد-البنيويَّة» هو في الأصل التَّسمية الأمريكيَّة للفكر الفرنسيِّ المعمَّد عام 1968.

[23]- qu'est-ce que le néo-structuralisme?, op. cit., p. 23-24.

[24] - المرجع نفسه، ص24

[25] - la philosophie allemande depuis 1945, op. cit., p. 295.

[26] - marc jimenez, adorno et la modernité, Edition klincksieck, 1986, p. 39.

[27] - dits et écrits, vol. iv, op. cit., p. 439.

[28] - adorno et la modernité, op.cit, p. 39.

[29] - dits et écrits, vol. iv, op. cit., p. 73.

[30] - المرجع نفسه، ص74.

[31] - fichus, op. cit., p. 43.