الفلسفة وسؤال العيش
فئة : مقالات
"إنّ كيفية العيش على نحو فلسفي، هي بكل بساطة، سلوك يتحلى به الفيلسوف في الحياة اليومية."
بيير هادو
لو تأملنا السؤال المطروح للمناقشة، على أي نحو ينبغي أن نعيش؟ تأملاً فاحصًا، فإنّنا نكتشف أنّه سؤال ماكر، يحتمل قراءتين، القراءة الأولى ستقودنا إلى موقف معياري وفق المنظور الأخلاقوي، أما القراءة الثانية فهي تقودنا إلى موقف وجودي، وفق منظور مغاير يتجاوز المعيارية الأخلاقية، نحو إثيقا الوجود.
في القراءة الأولى يتمحور الإشكال حول "ما ينبغي" فهذه الصيغة لها دلالة السؤال الأخلاقي الكانطي نفسها، ما الذي يجب علي فعله؟ وهو السؤال الثاني الذي يؤسس للواجب الأخلاقي، فالكائن الأخلاقي هو الذي يمتثل للواجب، ويخضع سلوكه لقواعد أخلاقية كلية غير مشروطة بشروط الحساسية. وبالتالي فإنّ النحو أو بالأحرى الكيفية التي ينبغي العيش وفقها ليست سوى كيفية معيارية يخضع فيها الخاص أو الخصوصي، لما هو كلي وكوني. ومن ثمة فليست الأخلاقية سوى ذلك الأفق الذي يحدد معايير السلوك الإنساني التي تصيره مطابقًا للقواعد الأخلاقية، وهو ما يعني أنّ أي تصرف إمّا أن يكون تصرفًا أخلاقيًّا، وإمّا أن يكون لا أخلاقيًّا بانزياحه عن الواجب وعن القاعدة الأخلاقية المجردة.
فالجواب الذي تتضمنه القراءة الأولى هو كالتالي: "ينبغي أن نعيش على نحو يمتثل فيه سلوكنا المعيش للقواعد الأخلاقية" يفضي بنا هذا الجواب إلى معيارية صارمة، لكنه لا يحل إشكال "الوجود الإنساني" باعتباره "وجودًا معيشًا"، ذلك لأنّ الحل الذي يفترضه يستهدف الإنسان لا بوصفه جسدًا، وإنّما بوصفه عقلاً منزهًا، أو إرادة محضة من غير مضمون حسي أو وجداني، فالامتثال للواجب يفقد قيمته الأخلاقية بالنسبة إلى كانط حينما يكون دافعه الميل أو الرغبة أو حين يكون مشروطًا بمنفعة ذاتية. إنّ هذا المأزق الذي يفصل الكائن العاقل عن جسده، هو أساس كون الأخلاق في عمومها لا تجيبنا عن سؤال الكيف، لأنّها ظلت منذ تأسيسها وحتى اللحظة الكانطية باستثناء اللحظتين الأبيقورية والرواقية، تنظر للإنسان لا جسدًا وبنية مركبة أساسها الرغبة، وإنّما بوصفه روحًا تتحدد أخلاقيتها بنفيها للميول الذاتية، والرغبات الحسية، وقمعها لمتع الجسد وملذاته. وهي لذلك تؤسس نوعًا للطهرانية التي تقود إلى اختزال الجسد وإرجاعه مغتربًا عن عالمه المعيش. وبالتالي لم تستطع الأخلاق عمومًا أن تجيب عن سؤال الكيف، وإنّما ظلت جوابًا عن سؤال ما الذي يجب أن يفعله الإنسان ليكون أخلاقيًّا، ويكتسب فعله قيمة فاضلة. بينما تتميز الإيتيقا بوصفها علمًا وفنًّا يعيد تأسيس الأخلاق لا وفق ما ينبغي فعله ولكن وفق كيفية يغدو من خلالها الفعل الأخلاقي تعبيرًا عن رغبة الإنسان بما هو ذات جسدية خاصة، تلتقي برغبات ذوات أخرى راغبة، وبالتالي تغدو تعبيرًا عن كيفية من الكيفيات الذاتية الإنسانية المشتركة عمومًا.
أما القراءة الثانية فلا تقودنا إلى سؤال الواجب أو ما ينبغي فعله لنعيش على نحو ما تقتضيه أخلاق الواجب؛ وإنّما إلى سؤال "النحو" أو "الكيفية" التي "ينبغي" أن نعيش من خلالها، وينبغي هنا لن تحيل على الواجب، بقدر ما ستحيل على تلازم النوع والوجود، أي تلازم الكيف والوجود المعيش، وهو تلازم منتج لقيم فن العيش الذي يحتفي بالجسد الإنساني، ويسمح بأن ينفتح على نمطه الخاص، أي بأن يصوغ وجوده وفق إمكانيات تسمح بأن يوجد على نحو أحسن، وهذا ما يجعلنا نقترح إعادة السؤال إلى الصيغة التالية: "على أي نحو يمكننا أن نعيش؟" فصيغة الإمكان تنقذنا عموما من الأخلاق ومن سلطة الأمر الأخلاقي، وتجعلنا داخل تجربة محايثة، نختبر من خلالها إمكانيات إبداع أنحاء وكيفيات للعيش وابتكارها، أي تسمح بانبثاق "تجربة فن العيش" وهو ما يتيح لنا بلورة السؤال مرة أخرى في صيغتين مختزلتين:
1- كيف يمكننا أن نعيش؟
2- كيف يمكنني أن أعيش؟
محور السؤال الأول هو الذاتية المشتركة أو الإنسانية بما هي كونية تتشكل من ذوات تتقاسم العيش وفق كيفية تتلاءم والمنظور الكوني.
أما محور السؤال الثاني فهو الذات/ الأنا الخصوصي المعني بصياغة وجوده على نحو خاص، بوصفه رغبة خاصة معنية وحدها بإرضاء ذاتها، حتى وإن كانت هذه الرغبة متوقفة على رغبة أخرى.
يطرح علينا السؤال كيف يمكننا أن نعيش؟ التفكير في منظور يؤسس للعالم البيجسداني الذي يضمن العيش المشترك من خلال "تفاهم متبادل" تدخل فيه تجارب الذات ومكتسباتها في علاقة مع تجارب الآخرين، وهو الأمر الذي يؤدي حسب "هوسرل" إلى "الانسجام بين الذوات في صلاحياتهم"، وبالتالي تحقيق الوحدة بين الذوات، وعلى الرغم من تعددية الصلاحيات وما هو فيها موضع صلاحية، فإنّه يتم الحصول على اتفاق يتجاوز التنافرات. وبفضل ذلك أي بفضل الوعي الجماعي بين الذوات "يكتسب العالم الواحد ذاته كعالم معطى جزئيا سلفا في التجربة، وجزئيا كأفق مفتوح لتجارب ممكنة للجميع، صلاحية دائمة يحافظ عليها باستمرار"، أي بوصفه عالمًا هو بمثابة الأفق الشامل للأشياء الموجودة، والمشترك بين جميع الناس، فالذوات التي تشارك في هذه التجربة تعرف إنّها تعيش في أفق البشر المتعايشين معًا والذين بإمكان كل واحد منهم أن يدخل معهم في علاقة فعلية أحيانًا، وفي علاقة ممكنة أحيانًا أخرى، وهم منتمون إلى نسق كلي للعالم يستوعب التعدديات التي يعيها كل فرد لذاته في التجربة الفعلية للشيء نفسه[1].
إذن فما يسميه هوسرل بالذاتية المشتركة يعتبر شرطًا أساسيًّا لتشكل كل ذات وفق ما هي عليه، ومحفزًا لها على البناء، فالذاتية المشتركة هي هيئة اجتماعية إنسانية ومكانية لكل الذوات الأنوية. ينبني أسلوب عيش الذاتية المشتركة على الوعي اليقظ، أي على حياة الوعي الذي يندرج ضمن نسق يعلي من شأن إمكانية التفاعل بين الإرادات الحرة التي لا يرضي رغباتها سوى العيش داخل أفق ديمقراطي، ذلك لأنّ الإرادة المشتركة هي المعنية بمصيرها. ومن خلال الاختيارات الإستراتيجية التي تبني من خلالها أفقها التاريخي، الذي يجعلها منتمية للفضاء الكوني للإنسانية أي لهذا الروح الكوني الذي يجعل العيش المشترك ممكنًا، ذلك لأنّه عيش وفق مقتضى روح المدينة/الدولة، ومن ثمة لن تغدو كيفية العيش تصريفًا لإرادة الاستحواذ والتملك التي تجهز على اختيارات الذاتية المشتركة، لصالح ذات مطلقة أو طائفة مهيمنة، لتعيد التحكم في مصير مجتمع ما، واستغلال قدراته وعطاءاته، وبالتالي إنتاج ثقافة نمطية لا مدنية ذات توجه شوفيني أو ديني أو كلياني، بل على العكس من ذلك سيغدو أسلوب العيش فنًّا لتدبير الحياة اليقظة، يتمثل هذا العيش في المواطنة والسلوك المدني أي العيش وفق مقتضى الحق والواجب، أي وفق مقتضى العقل، بما يفرضه على الذاتية المشتركة من احترام لقواعد المدينة، إنّه الاحترام الذي لا يعني فقط الاعتراف ما بين الذوات التي تتقاسم العيش، وإنّما يعني ترسيخ المسؤولية بما يمنح المعنى أو القيمة لفن الحياة داخل المدينة، فبغياب المسؤولية تبدو المدينة بلا معنى أو قيمة، فهي تعيش على نحو غفل، والعيش على نحو غفل ليس عيشًا وفق فوضى خلاقة (تحدث بعد سقوط الأنظمة الشمولية غالبًا، لكن سرعان ما تعيد بناء نظام جديد يستجيب لأفق مغاير)، وإنّما هو عيش وفق قطيع لا يرى أبعد مما هو عليه، ولا يعنيه بتاتًا ذلك الآخر الذي يشاركه العيش، ليس في عيش القطيع وعي بالذات أو اعتراف بالآخر. وهنا نتساءل وهو تساؤل مشروع: كيف تعيش مدننا اليوم؟ أتعيش حقًّا وفق عيش يقظ تؤسسه المسؤولية، أم إنّها تعيش فوضى وانفلاتاً منقطع النظير؟
لا نعيش في مدننا اليوم بكيفية تعكس تشبعنا بقيم فن العيش، أي بانتهاج سلوك مدني موسوم بمبادئ المواطنة، بقدر ما نعيش بكيفية عشوائية، فالفضاء العام للمدينة محكوم بذهنية الأعرابي (صانع العالم العربي: الجابري)، ونحن باعتبارنا ذواتًا بشرية لا نتصرف بحس مواطني، بقدر ما نتصرف بحس بدوي، لا يعير بالاً لقوانين المدينة، كقوانين السير ونظام المرور سواء من قبل السائقين أو الراجلين. أغلب فضاءات المدينة باتت خاضعة للترييف، فلم تعد سلطة المدينة قادرة بتاتًا على فرض احترام القانون، وخصوصًا بعد اندلاع انتفاضات الربيع العربي، والتي للأسف الشديد لم تتأسس على فكر تحرري ثوري يحمل تصورات عميقة لمشروع مجتمعي حداثي هدفه الانخراط في الفضاء الحر للإنسانية، بقدر ما تأسست على أحداث تلقائية من غير مشروع فكري، غير أنّ الشباب المتحرر هو من أعطاها دفقها الحيوي من خلال احتجاجات منظمة تمت بواسطة أدوات التواصل الاجتماعي (الفايسبوك والتويتر). ولعل المستفيد الأكبر للنتائج المترتبة على هذه الانتفاضات ليس سوى هذه النزعة الترييفية التي حولت مدننا إلى فضاء لا مدني، وهي نزعة تحمل معها ثقافة معادية للحداثة وحرية الإبداع بتحالفها مع مد إسلاموي شرع منذ الآن في فرض إملاءاته على مجال الحرية العام.
ربما قد نكون أخطأنا الطريق إلى الحرية التي تعد شرط إمكان فن العيش، ما يبدو في الأفق القريب للتجربة المعيشية - التي تخوضها الشعوب العربية ومنها المغرب العربي - الإسلامي الأمازيغي المتنوع الروافد هو هذا الشكل الزاحف من الممارسات المقوضة للعيش المشترك داخل مؤسسة المدينة/الدولة، ليس لهذا التشخيص علاقة برؤية تشاؤمية مغالية، بقدر ما هو توصيف لواقع حياتنا وسلوكنا اليومي الموسوم عمومًا باللامسؤولية*. ومع ذلك ليست مهمة المفكر هي أن يتموقع خلف تأملاته عاجزًا عن التفاعل مع الواقع، وإنّما يكمن دوره الأساس في الانتصار لقيم المدينة. فقد نعيش على نحو بئيس ناتج عن العجز عن الفعل (سبينوزا) وعن انعدام القدرة على ابتكار صيغ مبدعة للوجود المعيش داخل المدينة، لكننا نكرر الخطأ مرتين حين نغدو، بوصفنا نخبة مثقفة، منخرطين في ثقافة التبرير التي نكرس من خلالها نمطًا ثقافيًّا يعادي الحرية والفن والإبداع. فن العيش لا يتأسس إلا بالحرية وفق قواعد الديمقراطية، لكن ليس باختزال الديمقراطية في صناديق الاقتراع، وبالتالي العودة بالمجتمع إلى شكل من أشكال استبداد أغلبية (؟) تحتكر الدين لصالحها، وتستغله بفرض أسلوب لا مدني يتنافى مع الديمقراطية نفسها، ومع السلوك المدني.
ما يحدث في مصر وتونس الآن وربما المغرب يعطي الانطباع بأنّ الربيع الديمقراطي الذي أطاح بأنظمة فاسدة، استبدادية، قد تحول إلى نمط مغاير للوصاية الاستبدادية، التي شرعت في تبنيها جماعات سلفية متشددة، بدأت منذ الآن في رسم ملامح مجتمع بمقاييس سلفية وهابية معادية للحياة والآخر والفن والإبداع. طريقنا نحو الحرية مازال محفوفًا بالمخاطر، ومن ثمة ليس من منقذ لنا سوى الوعي اليقظ الذي من خلاله تنكشف الكيفية المضادة لكل تنميط أو تشميل أو اختزال للحياة المشتركة داخل صيغة وحيدة مريضة بوهم المطابقة للأصل. كل وعي يقظ هو وعي بالذات، وبالتالي فالذاتية المشتركة هي فضاء للحياة اليقظة التي تمنح كل ذات واعية إمكانية تختبر من خلالها قدرتها على ابتكار كيفيتها الخاصة، ومن ثمة يغدو السؤال الفلسفي الأساسي بالنسبة إلى كل ذات يقظة هو: كيف يمكنني أن أعيش؟
إنّه السؤال الغائب عن أيّ إستراتيجية ثقافية عربية، بما أنّه لم يدخل قط في المنظور الثقافي أو السياسي العربي. لأنّ النسق الثقافي السائد نسق معاد للفرد، فثمة نهج تبخيسي جعل مفهوم الفرد باعتباره غيرًا، ومجالاً للخصوصية لم ينبثق بعد في ثقافتنا السائدة الجمعوية النزعة، هذا ما يعني أن حرية الفرد بما هو أنا شخصي وبما هو ذات واعية ظلت منحجبة عن المشروع المجتمعي.
أنا بوصفي فردًا لست حرًّا حرية تامة ومسؤولة إلا بقدر خضوعي لجماعة ولنمط تفكيرها الذي يعيق بروزي باعتباري ذاتًا تسهم في ابتكار كيفية مغايرة تسمح بانبثاق إمكانيتي الإبداعية. أنا لا أعيش عيشًا يقظًا بقدر ما أعيش كموجود غفل. وتلك هي المعضلة، معضلة وجودي داخل هذا العالم الذي لا يمنحني فرصة الانتماء إلى الفضاء الحر البيانساني "فضاء الإنسانية المشتركة".
يقتضي الأمر لكي أغدو فردًا، وأعيش عيشًا يقظًا أن أصير ذاتًا مستقلة واعية بذاتها، تحوز إمكانية مصيرها لا بانعزالها عن الذاتية المشتركة، ولكن من خلال تفاعلها بالذوات الأنوية المشاركة لوجودي. أن أصير ذاتًا يقظة معناه أن أنكشف باعتباري مسؤولية معنية بمصيرها الخاص، ومعنية بالآخر، لا من خلال إجباره بمسؤوليتي، ولكن من خلال حفظ وجوده وضمان حريته أي من خلال إعلاء مسؤوليته الخاصة هو أيضًا. فالمسؤولية ليست إجبارًا للآخر من أجل اختزاله داخل الذات، وإنّما هي كيفية من كيفيات انبثاق كل ذات يقظة في عالم العيش، الذي لا يستقل عن الحاضر الممتد بوصفه مساوقًا ليقظة الوعي والممارسة الفعلية والممكنة، فهذا العالم هو في استحضار بالنسبة إلى الذوات التي تعيش فيه متيقظة، هو دائمًا حاضر سلفًا وموجود سلفًا، وهو الأرضية والحقل الشامل للممارسة الفعلية والممكنة. فأن نعيش حسب "هوسرل" أن نعيش في يقين من العالم، هو أن نكون واعين دائمًا وفعليًّا بالعالم وبأنفسنا بصفتنا نعيش في العالم، أن نعيش يقين وجود العالم، أن ننجزه بالفعل. ومن ثمة فهناك كيفيتان للعيش: الكيفية الأولى هي العيش المباشر في العلم إزاء موضوعات معطاة في كل مرة وذلك في استمرارية عادية غير منقطعة، في وحدة تأليفية تخترق كل الأفعال، أما الكيفية الثانية فهي كيفية عيش غير مباشرة تعتمد تغيير الوعي الموضوعاتي بالعالم بكسر الحياة المباشرة العادية، واهتمامنا يتوجه إلى التغيير الذاتي لكيفيات العطاء والظهور والصلاحية المتضمنة فيها. ذلك التغيير الذي ينجز بجريانه الدائم وبربطه التأليفي الذي لا ينقطع خلال انسياب الوعي الموحد بالوجود البسيط للعالم[2].
الكيفية الثانية تعبير عن موقف انعكاسي متواصل متجه نحو كيفية العطاء الذاتية التي يسمح إنجازها بظهور الموضوعات لنا في عالم العيش، وللتمكن من توجيه الانتباه إلى كيفية العطاء يجب التوقف عن إنجاز الاعتقاد في وجود الموضوعات والعالم، والتحول نحو الملاحظة التي يغدو من خلالها الفينومولوجي غير مهتم أو مشارك، وهذا هو حال الإيبوخى الذي يميز الموقف الفلسفي عن الطبيعي، فبفضل هذا الموقف يتم بلوغ تجول كامل في موقف الحياة بأسرها، أي بلوغ كيفية جديدة تمامًا للحياة، يتحرر فيها نظر المتفلسف من قيد العطاء المسبق للعالم، وينفتح من خلال ذلك على نوع جديد من التجربة والتفكير والتنظير يكون فيه فوق وجوده الطبيعي وفوق العالم الطبيعي دون أن يفقد شيئًا من معناه وحقائقه الموضوعية[3].
ربما يغدو التفلسف في تأويلنا - من خلال إنجاز الإيبوخى - هو كيفية من كيفيات استعادة الحاضر التي تسمح ببلوغ طريقة جديدة ومغايرة تمامًا لفن العيش، أي بلوغ طريقة مبتكرة منفتحة على نوع جديد من التجربة والتفكير.
الكيفية المغايرة لفن العيش هي ما يميز المتفلسف دائمًا (وليس المتفلسف هنا بالضرورة هو المنشغل بتاريخ الأفكار والمفاهيم الفلسفية)، ولكنه أيضًا من يعيش فن الحياة، من يبتكر لنفسه داخل الحياة المشتركة صيغة مغايرة تتجاوز أفق الحياة العادية التي ترهن السلوك البشري بنمطية رتيبة، يعجز من خلالها الكائن البشري على الفعل الابتكاري الذي يجدد به حياته الخاصة. فالعجز أساس الحياة البئيسة، أمّا الفعل الابتكاري فهو أساس الغبطة، الناتجة عن الاستمتاع بلحظة التحكم في الفعل وتوجيهه. فالعجز يولد الحرمان الذي يحول دون استمتاع الفرد بذاته ومن ثمة فهو رديف الشقاء ونقيض السعادة، بينما يولد الفعل انتشاء الرغبة بلحظة الإنجاز، ومن ثمة فهو رديف السعادة.
يدعونا التفلسف إلى التمرن على الفعل لا بما هو إنجاز فحسب، بل بما هو تجربة روحية أيضًا، بما هو نشدان للحكمة، يحدد بيير هادو "التمرين الروحي بوصفه ممارسة إرادية، شخصية، هدفها تغيير الفرد، وتغيير الذات"[4] كما يرى بأنّ كيفية العيش على نحو فلسفي، هي بكل بساطة تصرف يتخذه الفيلسوف في حياته اليومية[5] وتلك كانت طريقة الفلاسفة الأبيقوريين والرواقيين وغيرهم ممن كانوا يهتمون أساسًا بالكيفية التي تمنح معنى الحياة وقيمتها، تكتسب تجربة العيش في العالم قيمة روحية، مادامت هي تمرينًا على العطاء بكيفية مختلفة تعلي من شأن سعادة الفرد، ومن شأن الاستمتاع والغبطة واللذة، بما يضمن حياة قادرة على تحمل مأساة الوجود، وعلى تحقيق متعة الحياة أيضًا. إذن:
كيف يمكنني أن أعيش؟
لكي أعيش وفق كيفية خاصة فلا بد أن أغدو علة تأسيسية.
إنّ أهم تغيير أساس أجريه على ذاتي هو تغيير يمس رؤيتي للعالم المعطى بكيفية مباشرة والتي تجعل تجربتي الروحية الخاصة متحررة من أحكامه الجارية، ليس الإنسان علة تأسيسية إلا لكونه يبدع مسارات جديدة مغايرة للحياة، ولكونه يعيش على نحو مخالف للوجود (المعطى).
الإنسان إمّا معلول أو علة، فهو معلول حينما يكون وجوده كوجود معطى كمّا من غير كيف، فكينونته هي أيضًا متفردة بما أنّها جسم مستقل، ولكنه لا يشكل إلاّ كثرة مع الأجسام الأخرى، قد يحوز وعيًا لكن ليس هو الوعي اليقظ، وإنّما الشعور المنفعل الذي يجعله منقادًا للانفعالات والأهواء أي عاجزًا عن الامتثال للعقل، وهذا النوع من الانفعالات هو ما يسميه سبينوزا بالعبودية، والعجز عن ابتكار كيفية تتمثل الوعي اليقظ أي تختبر كفايتها في استخدام العقل والجرأة على معرفة الكينونة وعلى تصريف الكينونة بما هي فعل، هي ما يسميه كانط قصورًا، يجعل الإنسان معلولاً للضرورة التي تقتضيها الطبيعة أو تقتضيها العادات والتقاليد أو الثقافة السائدة، فينخرط الكائن انخراطًا لا واعيًا في اجترار الحياة البئيسة، وفي إعادة إنتاج قيم تبخس الكرامة الإنسانية، فيمارس الاستبداد أو يمارس عليه الاستبداد والقهر الاجتماعي، فما ينفك الإنسان المعلول يتعلق بأساليب الماضي مجددًا قيمها الاستعبادية ويضفي عليها قداسة مستمدة من الأعراف أو من الدين أو من اللغة أو من العرق الذي ينتمي إليه رافضًا بالتالي أي انفتاح على آخرية الغير التي يراها مقوضة لوجوده الغفل.
ومن ثمة فليس للإنسان المعلول كيفية تصير العيش فنًّا قادرًا على منح جسده لحظة الحاضر الصائر الذي يضفي القيمة لكينونته.
أما الإنسان العلة، فهو الذي يكون وجوده على نحو الكيف، ووجوده على نحو الكيف مشروط بوعي يقظ يحول جسمه المستقل إلى جسد. فالجسم مدار الكم، أما الجسد فهو مدار الكيف، فلا يغدو الجسد جسدًا إلا إذا صار ممتلكًا لكيفية يصوغ من خلالها جسده على نحو خاص، وذلك باختبار قدرته على استعمال العقل، فيعيش وفق مقتضى العقل، لا يعني هذا أنّه منزه عن الأفعال وعن الخضوع لسلطة اللاوعي، فذلك مما لا يقدر أي إنسان على ادعائه، وإنّما يعني ما يستطيعه وما يقدر عليه في خضم عالم محفوف بالمخاطر والإكراهات، ومن ثمة فالإنسان العلة هو الإنسان الذي يركز على الفعل ويمنحه قيمة الحدث التأسيسي. وليس الإنسان علة تأسيسية إلا لكونه يختبر الإمكانيات التي تنتج كيفيات مبتكرة للعيش. فالإنسان العلة قادر على قلب القيم، خاصة القيم الممجدة للفرد والتي تمنحه الحق في استعادة وجوده الخاص، أي الحق في الوجود الحر الذي يجعله بمنأى عن التنميط الثقافي والأخلاقي الذي يحول دون تملك الكينونة لكيفية العيش الخاصة التي تنخرط من خلالها في حل وضعيتها الإشكالية داخل المجتمع من غير إملاءات أو وسائط (خاصة تلك الإملاءات المسماة بالفتاوى، والتي يصدرها أشخاص لا يكتفون بالإرشاد فيما هو داخل المجال الخاص للعقيدة أو العبادة، وإنّما يقتحمون المجال الحميمي للذات ويذهبون بعيدًا في فرض شكل معين لسلوك ينافي الحياة والزمان والتاريخ والإنسان).
إذن فالطريق نحو عالم معيش جديد، يغدو عالمًا لفن العيش، يقتضي نحت هذا المسار نحو إنسان العلة التأسيسة. فابتكار الوجود، ينبني على قدرة كل ذات على العطاء وفق إمكانياتها الخاصة في المساهمة في تأسيس أفق جديد.
[1] ادموند هوسرل: أزمة العلوم الأروبية والفونومولوجيا الترنسدنتالية، ت إسماعيل المصدق، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008، ص 257
[2] نفسه، ص 233
[3] نفسه، ص 241
[4] pierre hadot: la philosophie comme manière de vivre. ed albinmichel. S.A. 2001. P145
[5] Ibid: P159