الفلسفة وسياسة الرّياسة عند الفارابي: من يكون رئيس المدينة الفاضلة؟ -يتبع-
فئة : أبحاث محكمة
الفلسفة وسياسة الرّياسة عند الفارابي:
من يكون رئيس المدينة الفاضلة؟
-يتبع-
مقدّمة:
ولقد تبوّأت مسألة الرّياسة موقعا مركزيا في تاريخ الفلسفة برمته: قديما وحديثا ومعاصرا. ولأمر كهذا، ارتأينا تصريف أبصارنا تلقاء المتن الفلسفي الفارابي للإبانة عن سياسات الرّياسة من جهة مقوّماتها وشروط إمكانها، فضلا عن بحث رهاناتها ومقارنتها حينذاك بنماذج الرّياسات الجاهليّة. لا جرم أنّ مسألة الرّياسة عند المعلم الثّاني، إنّما ترتبط ارتباطا مباشرا بمشروع الفارابي المتمثل في التأسيس الفلسفي لنموذج المدينة الفاضلة تحرّرا من كلّ أشكال المدن الجاهلة والمضادة للمدينة الفاضلة بما تتقوّم به من رئاسات فاسدة وجائرة. ولأنّ النّظر في هذه القضيّة يستمد معناه وقيمته الإجرائيّة من خلال صلته الوثيقة بالتّفكير في الإنسان ومنزلته في المدينة. فإنّ ذلك ما يُسوّغ قول الفارابي إنّ "الإنسان من الأنواع التي لا يمكن أن يتم لها الضروري من أمورها ولا تنال الأفضل من أحوالها إلّا باجتماع جماعات منها كثيرة في مسكن واحد (....) فالمدينة هي أوّل مراتب الكمالات"، ويتبيّن حينئذ: "أنّ فطرة كلّ إنسان أن يكون مرتبطا فيما ينبغي أن يسعى له بإنسان أو ناس غيره، وكلّ إنسان من النّاس بهذه الحال. وأنّه كذلك يحتاج كلّ إنسان فيما له أن يبلغ من هذا الكمال إلى مجاورة ناس آخرين واجتماعه معهم. وكذلك في الفطرة الطّبيعيّة لهذا الكائن أن يأوي ويسكن مجاورا لمن هو في نوعه، فلذلك يسمّى الحيوان الإنسي والحيوان المدني".([1])
وعلى نفس الصّعيد الإشكالي، قمين بالتّأكيد في كذا إشارات وتنبيهات ذات بال، أنّ المدار الإشكالي لفكر الفارابي لهو موضوع التدبير المدني بامتياز وما يرتبط به من سياسات الرّياسة الخاصّة بالاجتماع المدني الفاضل تحصيلا للسّعادة بما هي نهاية الكمال الإنساني. وحسبنا دليلا عمّا نزعم ها هنا، ما تجليه آثاره حيث ألفيناه يعلن ما يلي: "قصدُنا، في هذا القول، ذكر قوانين سياسيّة، يعمُّ نفعها جميع، من استعملها، من طبقات النّاس، في متصرّفاته، مع كلّ طائفة، من أهل طبقته، ومن فوقه، ومن دونه، على سبيل الإيجاز والاختصار. على أنّه لا يخلو قولنا هذا من ذكر ما تحتص باستعماله طائفة دون طائفة. وواحد دون واحد منهم في وقت دون وقت، ومع قوم دون قوم؛ إذ الواحد، من النّاس، لا يمكنه أن يستعمل، في كلّ وقت، مع كلّ أحد، كلّ ضرب، من ضروب السياسات، ونقدّم لذلك مقدّمات، منها أن نقول"([2]) ولقد أفلح الفارابي في معرض حديثه عن تلكم المسألة قائلا: "إنّ كلّ واحد من النّاس، متى رجع، إلى نفسه، وتأمّل أحوالها وأحوال غيره، من أبناء النّاس، وجد نفسه، في رتبة، يشركه فيها طائفة منهم، ووجد فوق رتبته طائفة منهم أعلى منزلة منه بجهة أو جهات، ووجد دونها طائفة هم أوضع منه بجهة أو جهات؛ لأنّ الملك الأعظم، وإن وجد نفسه في محلّ، لا يرى لأحد، من النّاس، في زمانه، منزلة أعلى منزلته. فإنّه متى تأمّل حالهم وجد فيهم، من يفضل عليه، بنوع من الفضيلة؛ إذ ليس في أجزاء العالم ما هو كامل في جميع الجهات. وكذلك الوضيع الخامل الذّكر، يجد من هو دونه، بنوع من الضّعة، فقد صحّ ما وصفناه. وينتفع المرء باستعمال السياسات، مع هؤلاء الطبقات الثلاث. أمّا مع الأرفعين، فلينال مرتبتهم. وأمّا مع الأكفاء، فليفضل عليهم. وأمّا مع الأوضعين، فلئلا ينحطّ إلى رتبتهم"([3]) لعلّنا، لا نجانب الصّواب عندما نساير الفارابي في اعتباره "أنّ أنفع الأمور، التي يسلكها المرء، في استجلاب علم السياسة وغيره من العلوم أن يتأمّل أحوال النّاس وأعمالهم ومتصرّفاتهم ما شهدها وما غاب عنها ممّا سمعه. وتناهى إليه منها، وأن يمعن النّظر فيها، وأن يميّز بين محاسنها ومساوئها، وبين النّافع والضارّ لهم منها، ثمّ ليجتهد في التمسّك بمحاسنها لينال من منافعها مثل ما نالوا، وفي التحرّز والاجتناب، في مساوئها ليأمن من مضارّها ويسلم من غوائها مثل ما سلموا"([4]).
للاطلاع على تفاصيل البحث كــامــلا
[1] الفارابي، (أبو نصر)، كتاب تحصيل السّعادة، قدّم له وعلّق عليه وشرحه د. علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1995، ص. 44
[2] الفارابي، (أبو نصر)، رسالة في السياسة، تقديم وضبط وتعليق: علي محمّد إسبر، التكوين للتّأليف والتّرجمة والنّشر، دمشق، سوريا، 2006، ص. 51.
[3] رسالة في السياسة، ص ص. 51 – 52
[4] رسالة في السياسة، ص ص. 52 – 53