الفن والجسد المشوه
فئة : مقالات
الفن والجسد المشوه
ملخص:
تبحث هذه المقالة في مفهوم الفن وعلاقته بالجسد المشوه من خلال رسوم "فرانسيس بيكون"؛ أي الفن المشحون بالألم والقلق الوجودي، وقد اعتمدت على الفيلسوف الفرنسي "جيل دولوز من خلال كتابه « la logique de la sensation »؛ فالجسد المشوه ليس مجرد وسيلة لتقديم صورة مفزعة، بل هو وسيلة لفهم الواقع البشري من خلال تحطيم التصورات المثالية للجسد والموت. هذه الأعمال لا تمثل جمالية الجسد أو الحياة فحسب، بل هي انعكاس لرحلة إنسانية معقدة عبر آلامها الوجودية والنفسية، فمن خلال فلسفة "منطق الإحساس" التي تبرز في أعمال بيكون، يتضح لنا أن الجسد في فنه ليس مجرد تجسيد مادي، بل هو تجسيد للأحاسيس والوجود البشري في حالاته الأكثر قسوة. التشويه لا يعني فقط تدمير الجمال، بل هو محاولة لتمثيل الحقيقة الأكثر تعقيدًا والتي تتجاوز المظاهر. بيكون، باستخدام الجسد المشوه، يقدم لنا رؤية فلسفية عن الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، وهي رؤية مشبعة بالصراع الداخلي والتوترات الوجودية.
************
لا يستقيم الظن بأن السؤال عن الفن ولد من رحم الفلسفة؛ فالفن هو نشاط أو الفكرة التي يمتلكها المرء وتكون موجهة عمدا للحواس والعواطف والحدس وخاصة العقل؛ فالفن هو ملك للبشر وليس له عملية محددة، فإن أردنا فعلا تقدير هذا السؤال علينا أن نبرر علاقة الفن والفلسفة التي بدأت مع الفيلسوف الفرنسي "جيل دولوز" الذي يقول: "إن الفلسفة تولد أو تنتج من الخارج من طرف الفنان التشكيلي والموسيقي والكاتب، كلما ترتبت عن الخط النغمي، أو عن الخط المحض المرسوم، أو عن الخط المكتوب، الصوت الواضح" وظيفة الفن إذن هي أن يقدم تصورات عقلية للإنسان ذلك الواقع الحقيقي في التجربة التي تفتقر إليه بوصفها تصورات مجردة. فإن الفن بكل أشكاله يمس حياة الناس بطريقة أو بأخرى، ويقوم بتحفيز قدرات البحث والفكر والحوار والأداء والإحساس، وهو الذي يدفع الإنسان للتجديد في أساليب الحياة المختلفة يقول دولوز: "إن الفن هو الشيء الوحيد الذي يقاوم الموت".
ما هو الفن؟ ما حاجة الإنسان إليه؟ ما الذي يجعل من الفن مشكلا فلسفيا؟ كيف فكر الفلاسفة في الفن؟ الإجابة هي أن الفن يحرر الحياة حيثما يتم اعتقالها، فعل التحرير هو فعل تكيف إلى حد الإمساك بالقوى الحيوية في صورتها وفي عنفوانها هذا يعني أن فن الرسم لا يكتفي بأن ينقل الوقائع على صدر اللوحة، فالفن والرسم لا يحاكي لا يمثل لا يجسد ولا يسرد، الدافع الذي جعلنا نلجئ للفن اعتبارا أن الفنان يرسم احساسه، فهو ليس مجرد اللعب الحر للمخيلة كما يرى ذلك كانط، وإنما الفن وسيلة لرسم أوجاعنا وآلامنا والدليل على ذلك هو ما يعيشه الإنسان اليوم بواسطة الإستراتيجية الواسعة لرفضها، يقول بيكاسو: "إن اللوحة مجموعة من التدميرات". من هنا يمكننا التحدث عن المفهوم السلبي للفن؛ فمن جهة يمكن أن يكون ضربا من الامتاع والمؤانسة، ومن جهة أخرى يدفع الفن الناس للأحزان وتجدد منسوب الحياة في الأجساد المنهوكة والأحاسيس التي يعيشها الإنسان في حياته.
- الفن والجسد المشوه من خلال رسوم فرانسيس بيكون
ما علاقة الفن بالجسد المشوه؟ كيف لعب الجسد دورا كبيرا في لوحات بيكون المشوهة؟ هل الإنسانية مشوهة؟ أجزاء من اللحم النيئ، أرواح معذبة، أجساد مشوهة، وجوه معزولة ومسجونة داخل معضلاتهم الوجودية، هكذا راها الفنان "فرانسيس بيكون" الإنسانية كانت مشوهة في فن ما بعد الحرب، إذا احترف بيكون في فن .البورتريه، ولكنها كانت بورتريهات من نوع خاص، فوجوه ملهمة على الدوام مشوهة بعنف، يصرخون، حتى وجهه هو شخصيا لم يسلم من التشويه في بورتريهات ذاتية، فلقبت لوحاته باللوحات الصارخة ولقب هو بفنان الرعب. الاقتراب من لوحة فرانسيس بيكون ليست بالمهمة السهلة، بيكون يعد رسام "قمامة" يتغذى على الفوضى والعنف ومخاض الحياة لبشرية والمعاناة، فما الذي نتحدث عنه؟ هذه أجساد متضررة هزيلة، مشرحة، مدمرة، مصلوبة، وجوه محطمة، منتفخة، إنها بقع دماء...إذن يمكننا القول إن بيكون قضى حياته كلها في مناخ من العنف، فما الذي يجب أن نفكر به في رسومات بيكون؟ رسومات عنيفة، أجساد مشوهة، مفجعة، عديمة الشكل، باختصار رسومات بيكون لا تتركك غير مبال.
يقول "ماري فلور" في أحد حواراته: "لطالما انبهرت برسم فرانسيس بيكون" تعبر عن الألم الكبير الذي عبر عنه بجسده المتدحرج ووجوهه المعذبة. إنه حقا الموت الذي يتحدث عنه في هذه االيوميات بيكون "يصرخ في عالم غير مبال وبارد في محاربة" رعب القوة المخيفة والمجنونة، نسمع معه صرخة، وصرخات (إدفارت مونك، وعذاب فان خوخ، وكوابيس هنري فوسيلي) ومعاناته فيما يبدو أنه جنونه. لكن فرانسيس بيكون ليس مجنونا إنه ببساطة يسعى للعودة إلى داخل نفسه، لاختراق أعماق اللاوعي، وحده في النضال ضد نفسه. بيكون سمى نفسه ملحدا، بما أنه سجين في هذا العالم المادي الذي لا يستطيع الهروب منه بدون هذه العملية من العلاج الجسدي والصراع الروحي، حيث يرسم بجسده ويأكل ويهضم لوحاته وأي شخص يريد أن يفهم عمله يجب أن يأكل من طاولته. يبدو أن العنف قد تربى مع بيكون منذ الطفولة؛ إذ يشير في أكثر من موضع، إلا أن حياته المضطربة كانت وراء العنف الزائد في لوحاته، حيث كانت لوحات بيكون في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي عبارة عن مقالات في العدمية والإلحاد؛ إذ يبدو أن ويلات الحرب افقدته إيمانه في كل شيء "فالله ميت" بحسب بيكون وفي عام 1949 كان بيكون قد استطاع أن يرسم مجموعة من اللوحات أطلق عليها "رؤوس" وفي لوحة الرأس السادس قام بتصوير "بابا الفاتيكان" يصرخ غفي قفص زجاجي، لم يكن موقف الفاتيكان حادا تجاه النازيين، إلا أنه قد كان من المبالغة تصوير البابا ذاته بوصفه مجرم حرب، وكأنه يضع الدين نفسه في قفص الاتهام، كل هذه الصلوات وكل هذا الخوف من الجحيم، الذين لم ينجحوا في أن يجعلوا البشرية أقل وحشية. امتاز بيكون بخيال نحات وبجولة صغيرة بين لوحاته ستكتشف أن الانتهاكات الجسمية للوجه الإنساني في ثناياها، لا تتكرر بين لوحة وأخرى، فهو لا يستخدم أي من التشوهات مرتين وكأن كل روح مشوهة على طريقتهما "لسنا سوى قطع من اللحم النيئ" في معرض بيكون الذي تمت عنونته ب "الرؤوس" "لقد قمت برسم العديد من الصور الذاتية لنفسي، بعد أن تساقط الاشخاص من حولي قتلى كالذباب، ولم يتركوا لي شخصا أخر لأرسمه". كانت البورتريهات الثلاثة كرأس يخرج من جحيم الطلاء الأسود بدت وكأنها بورتريها واحدا، ولكنه ثلاثي الأبعاد، كل لوحة على حدة تحاكي جزءا من الوجه قد تم تشويهه بإتقان لا معنى للفضاء الذي يسكنه الجالس داخل اللوحات، والرؤية مقيدة بأجفان تحمل في داخلها روحا عنيفة، كانت اللوحات الثلاث لبيكون قد رسمها ما بين عامي 1979 و 1980 وأراد بها الفنان أن يخلد صورته بنفسه قائلا: "وددت لصوري ان تبدو كما لو أن إنسانا قد عبر من بينهما مثل حلزون يخرج من الوحل". اعتبرت كل رسوم بيكون نفض من الرعب في الروح الذي تقول نظراتهم أنه يلتقي به والديناميات الدقيقة للأجساد المشوهة التي من خلالها تلتقط النظرة أحيانا ألام الوجه والكدمات الجسدية بالتالي لن يكون لها غرض أخر سوى تقديم شعور الرسام المتشائم بشأن الوجود، ستتمثل الإستراتيجية عندئذ في العرض الوحشي لمعاناة الجسد وقبح الحياة.
الفن والجسد المشوه من خلال كتاب "منطق الاحساس" للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، انطلاقا من هذا الكتاب يمكننا طرح مجموعة من الأسئلة ألا وهي ما حقيقة الأحاسيس التي التقطها فنان العنف وفاضت به لوحاته؟ فيم يكمن المنطق في هذه الأحاسيس التي وصل اليها دولوز في كتابه "منطق الاحساس"؟ كيف يمكن للإحساس أن يكون له منطق؟ كيف يمكن للفن أن يكون رسما للإحساس وتعنيفا له؟ وكيف يمكن أن نكتب صوت للوحة؟ تعتبر لوحات بيكون، كما شرحها منطق الإحساس، استكشافًا للكيفية التي يؤثر بها الإحساس الشخصي على رؤية الجسد. وبدلاً من تصور الجسد ككيان ثابت أو مثالي، يقدم بيكون في أعماله الجسد في حالة تغير دائم، مفكك، ومعذب. يربط بيكون بين الأجسام البشرية المتشوهة، وبين أحاسيسنا الداخلية ومشاعرنا المظلمة، محاولًا الكشف عن حقيقة الإحساس الذي يتجاوز الظاهر. في هذا السياق، تشوه الجسد في لوحات بيكون هو رمز للإحساس الذي يتهدم من الداخل. قد يعود الأسس في الجزء الأكبر للرسوم بيكون التي ترتكز أساسا على الرعب والقبح إلى الواقع المأساوي الكارثي الذي عاشه منذ صباه يقول بيكون: "أنا رسام القرن العشرين خلال طفولتي عشت من خلال الحركة الإيرلندية، الحروب، هتلر، هيروشيما، معسكرات الموت والعنف اليومي الذي شهدته في حياتي كلها". يمكننا القول إن كلمة العنف تحمل الكثير من الانفعالات، فيقول: "لكن يجب استعمال كلمة العنف؛ لأنها بالفعل تصف ما يحدث هنا في هذا المكان المغلق"؛ فالعنف عند بيكون هو جزء أساسي وضروري في حياته وهذا ما يضيفه "الحياة عنيفة ... فعل العيش عنيف ... العنف هو جزء من الحياة"، اعتقد أن الحياة عنيفة ومعظم الناس يبتعدون عن هذا الجانب للعيش في حياة معدة بإتقان، ولكن أغلبية الناس يخدعون أنفسهم مثال فعل الموت عنيف وفعل العيش نفسه عنيف، هناك عنف ذاتي؛ فهناك الكثير الذين يعتقدون أن اللوحة هي تعبير عن مزاج الفنان لكن نادرا ما تكون كذلك ففي الكثير من الأحيان ربما يكون الفنان مصابا بيأس شديد ويرسم أسعد لوحاته، كما قلنا إن لوحات بيكون قد وصفها بالعنف "لوحاتي ليست عنيفة، الحياة عنيفة، لقد تحملت العنف الجسدي، حتى أن أسناني تكسرت" الجنس، العاطفة الإنسانية، الحياة اليومية، الإذلال الشخصي، العنف هو جزء من الطبيعة البشرية وجزء مهم من الحياة، فما أراد قوله بيكون في هذا الإطار أن الإنسان يولد بالصراخ ويأتي للحياة بالصراخ أيضا، ولعل الحب ناموسية بين الخوف من الحياة والخوف من الموت. تعد إذن كل رسوم الفنان الفرنسي بيكون لوحات عذاب وخراب ما جعل دولوز يقول: "إن لوحات بيكون تجسد الموسيقى والحركة وتجسد الروح". أما "هرقليطس" الفيلسوف اليوناني، فقد أكد على علاقة تباعية بين المرئي واللامرئي، حيث يقول إن الذي يرى بالعين المجردة يشير إلى القوة؛ فالماء الذي يموت ويعود ليكون الأرض، هذا ما يمكننا أن نؤكده في لوحات بيكون، حيث يكون الوجه أو الجسد مشوها؛ أي ملامحه غير مرئية ما يسمى بالحرب.
أنتج فرانسيس بيكون بعضا من أكثر الصور شهرة للإنسانية الجريحة والمصدومة في فن ما بعد الحرب، فقد استوحى إلهامه من السريالية، والأفلام والتصوير الفوتوغرافي كما صاغ أسلوبا مميزا جعله أحد أشهر دعاة الفن التشكيلي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كما ركز طاقته على البورتيريه، وغالبا ما كان يصور عادات الحانات والنوادي في حي "سوهر بلندن" كما كان يصور رعاياه دائما على أنهم مشوهون بشكل عنيف، تقريبا أرواح من اللحم النيئ، وهي أرواح معزولة مسجونة ومعذبة بسبب معضلات وجودية، حقق بيكون، وهو أحد الرسامين البريطانيين، نجاحا في القرن العشرين، وقد ازدادت سمعته خلال عودة "عالم الفن" إلى الرسم على نطاق واسع في الثمانينيات. لذلك تمثل لوحات بيكون مشاعر قوية؛ إذ يبدو أن اللوحات الكاملة تصرخ، وليس فقط الأشخاص الذين تم تصويرهم عليها، كانت هذه القدرة على إنشاء مثل هذه التصريحات القوية أساسا لإنجاز بيكون الفريد في الرسم، على الرغم من أن نجاح بيكون استند إلى نهجه اللافت للنظر في التصوير، إلا أن مواقفه تجاه الرسم كانت تقليدية بشكل عميق ولاسيما لوحة "ديبغوفيلاسكيز" للبابا انوسنت العاشر حوالي)، والتي استخدمها بيكون كأساس لسلسلته الشهيرة من الباباوات "الصراخ"، حيث يقول: "نحن نولد بصراخ، نأتي إلى الحياة بالصراخ ولعل الحب ناموسية بين الخوف من الحياة والخوف من الموت كان ذلك أحد هواجسي الحقيقية، كان الرجال الذين أرسمهم جميعا في وضع صعب والصراخ هو نسخ من آلامهم" في الوقت الذي فقد فيه الكثيرون الثقة في الرسم، حافظ بيكون على إيمانه بأهمية الوسائل قائلا عن عمله الخاص أن "صوره" تستحق إما المعرض الوطني، أو سلة المهملات مع عدم وجود أي شيء بينهما. يشير منطق الإحساس إلى أن الفن ليس مجرد تمثيل للجسد الخارجي، بل هو تمثيل للصراع الداخلي بين العقل والجسد. بيكون، في أعماله، لا يقدم الجسد كبنية عضوية عادية، بل يُظهره ككائن غير مستقر يتعرض للتمزق والانهيار. يتحدث الكتاب عن كيف يعكس بيكون في لوحاته الصراع الدائم بين الرغبات والآلام الإنسانية. من خلال هذا الكتاب، نرى أن "منطق الإحساس" لا يتعلق فقط بحس الجسد الخارجي، بل بتفاصيله العاطفية والنفسية العميقة. في لوحات مثل "الصرخة "(The Scream) أو "الدراسة على الجثة "(Study for a Figure) يلتقط بيكون في هذه الأشكال التشوهات التي تحدث داخل الجسد نتيجة لعوامل نفسية ووجودية مثل الوحدة، الألم، والفقدان.
*التشويه والجسد المتألم
يرى بيكون أن الجسد البشري ليس مجرد جسد مادي، بل هو أيضًا جسد محمّل بالمعاناة النفسية والعاطفية. يشير الكتاب إلى أن بيكون كان يحاول تقديم الجسد كفكرة تمثل الألم الإنساني العميق، مؤكدًا أن الجسد المتشوه في لوحاته يتحدث عن أكثر من مجرد آلام جسدية، بل عن الاضطراب الوجودي الذي يعيشه الفرد. في هذا السياق، يتعامل بيكون مع الجسد بوصفه أكثر من مجرد جسم مادي، بل هو وسيط مع تعبيرات الإحساس والحالة النفسية المعقدة. في منطق الإحساس، يعبر الفيلسوف جورج دي لا تور عن نظرة بيكون للجسد كرمز للتجربة الإنسانية الشاملة التي تتجاوز ما هو خارجي. يربط الكتاب التشوهات في جسد بيكون بالمشاعر المكبوتة، والقلق الوجودي، والرغبة في الهروب من الألم. فعندما يتم تشويه الجسد، فإن بيكون يقصد به تسليط الضوء على الاختلالات العاطفية والوجودية للإنسان في عالم مليء بالتوترات والمخاوف. هذه التشوهات، كما يشير الكتاب، هي محاولات لتمثيل الروح البشرية في صورتها الأكثر هشاشة.
يمكن إذن أن نختزل فن رسم بيكون في عنصرين أساسين؛ وهما القوى والأحاسيس (la force et la sensation) بما أن القوى هي مصدر الأحاسيس، وفن رسم بيكون هو فن الأحاسيس، ما جعل جيل دولوز يلتقط أفكاره ويبحث في منطقها الداخلي، وتصبح مبحثا أساسي في فلسفته، بما أن فن الرسم تحركه ريشة الرسام. أما فن الرسم عند بيكون، فتحركه الأحاسيس، فلم يعد هذا الرسم للموضوعات التقليدية، بل أصبح الإحساس هو الذي يحرك الريشة، وهذا ما أكد عليه جيل دولوز في كتابه الشهير سنة 1981 "فرانسيس بيكون"، "منطق الإحساس" ففيما تتمثل هذه القوى والأحاسيس التي اكد عليها دولوز في كتابه؟ وكيف يمكن للأحاسيس أن يكون لها منطقا؟ وهل للمنطق قواعد تحكمه؟ يحدد دولوز فهمه للفن كتجربة جمالية، والتي تشمل الوقت والحركة، في الواقع هذا ما يجعله يفترض في منطق الإحساس تلك اللوحة الحديثة التي تنتج تأثيرات موسيقية وإيقاعية بدلا من الاعتماد على معارضة غير متغيرة للنسخة والنموذج، فماذا يقصد جيل دولوز بمفهوم منطق الإحساس؟ يقول دولوز في الفصل الخامس من كتابه محددا مفهوم الإحساس بما يلي: "الإحساس هو في الجسد حتى ولو كان جسد تفاحة، اللون في الجسد، الإحساس في الجسد وليس في الهوى. إنه مما يرسم أو ما يرسم في اللوحة، إنه لا بما هو ممثل بوصفه موضوع، بل بما هو جسد معيش"، لذلك اعتبر فن الرسم لدى دولوز ليس مطلبا بتشكيل formuler مادة ما أي منحها شكلا « la peinture ce n’est pas un art plastique »، تحرر فن الرسم من الشكل، فاللوحة تطارد الشكل ولكن لا تجسده، فالرسم والشكل لا يمثلان مفهوما، هذا ما أدى إلى خروج فن الرسم من براديغم التمثيل وعن دائرة الهوية السردية أي التمثيل والتشكيل والسرد، كل هذه البراديغمات تجاوزها دولوز، وقد ركز على المقوم الأساسي الفلسفي النموذجي داخل منطق الإحساس هو مفهوم الجسد، وبالنسبة إلى دولوز وبعد نيتشه ليس ثمة غير الجسد. هناك شيء ما الفكر الدولوزي عن الفن، بدونه استبدال التحمل بالمؤقتة، المجاز بالمجاز، أو حتى الدائرة مع النهر، تتحول إلى لحظة الولادة كدليل من الأعمال الكاملة؛ فالأطروحة التي ركز عليها دولوز في لوحات بيكون انطلاقا من كتاب "منطق الإحساس" هي العنف؛ فالعنف ليس مجرد موضوع تاريخي ثقافي، سياسي أو اجتماعي، وإنما هو أيضا موضوع فني وهو ما تعبر عنه لوحات الرسام فرانسيس بيكون المعروف برسام بورتريهات العنف « les portraits sauvages » والتي يتجلى فيها كما هائلا مرعبا من القساوة. استطاع بيكون أن يخلق لنفسه مساحة خاصة في الفن؛ إذ اعتبر الرؤوس والوجوه خاصة هما خرائط الروح وانفعالاتها. لهذا وجدها تستحق أن ترسم، وعلى الرغم مما فعله في تلك الوجوه من تشويه، إلا أن ذلك كان رسم لمعرفة الأخر؛ إذ يقول: "اللحم واللحم حياة، إذا كنت أرسم اللحوم الحمراء بينما أرسم الأجساد، فهذا فقط لأنني أجدها جميلة، لا أعتقد أن أي شخص قد فهم ذلك حقا، لحم الخنزير والألسنة والجوانب من لحم البقر في نافذة الجزار، كل هذا الموت أجده جميلا جدا وكلها للبيع- يا لها من سريالية بشكل لا يصدق". المعاناة واللحم مرتبطان فهما يشكلان تجمع أوجاع ومعاناة هنا إشارة إلى فكرة الإحساس في بعده السلبي، إضافة إلى أن دولوز أكد على مفهوم الصرخة التي تخرج من الفم، الشفقة واللحم مرتبطين، هذه الصرخة هي الجسد الذي يفلت من الفم، وفي تشوهاته هذه التشنجات التي تحرك صور الوجوه أو الأجساد المشوهة لبيكون والقائمة على الإحساس والقوى الحيوية. إذن الصرخة تصرف وتوجه بشكل أفضل هذا التخطي، وهذا الهروب للجسد خارج ذاته وحول الصرخة، لذلك فسر دولوز أن بيكون أراد أن يرسم الضجة، وليس الرعب؛ لأن الرعب يروي قصة ويدخلها عبر منطق تصويري تجسيدي؛ إذ يستدعي الإثارة هذا ما جعل بيكون يبحث في المقابل على إزالة الإثارة للاهتمام بالإحساس المحض؛ فالإحساس المحض الذي له ارتباط بالقوى الحيوية؛ أي الفاعلين المباشرين في تشويه الجسد، الجسد بلا أعضاء، هو جسد انفعالي عاطفي وحاد، هذه الفكرة للجسد بلا أعضاء لا يحتوي سوى على مناطق وتدرجات، فالجسم بلا أعضاء هو جسم حي ولكنه لا يحتوي أي شي عضوي، وهو بذلك يشكل تجاوزا للجهاز العضوي، دولوز في حديثه عن الجسم بلا أعضاء في ألف مسطح يكتب "الجسد ليس سوى مجموعة بوابات أقفال أوعية متواصلة، إذا هناك الفكرة للقوى غير مرئية التي تجوب الجسد بلا أعضاء"، أما بيكون، فقد رسم الجسد بلا أعضاء؛ أي رسم الأثر الحاد للجسد وصورة الوجه التي حددت الجسد بلا أعضاء، فيتحدد هذا الجسد بلا أعضاء كفكرة لكل كثافات لقوى يقطعها إحساس بطريقة غير متمايزة يوجه فقط الكل ولا يوجد هيكل، تركيب، وتوزيع الإلهام. فهل يعتبر الفن أداة لاستكشاف الإحساس؟ يُعتبر الفن على أنه أداة لاستكشاف الإحساس البشري في جميع حالاته. من خلال لوحات بيكون، يستطيع المتلقي الدخول إلى عالم مليء بالمشاعر المتناقضة مثل الألم، الخوف، العزلة، والقلق. جسد بيكون، المكسور والمشوه، يقدم للعالم صورة عن الحالة النفسية العميقة للإنسان، حيث لا يوجد فصل بين الجسد والعقل، بل تتداخل هذه الجوانب لتخلق شكلاً فنيًا معقدًا.
قائمة المصادر والمراجع باللغة العربية والأجنبية:
- فرانسيس بيكون، مقال بعنوان العنف والمعاناة والرمز الأكثر مباشرة للحالة الإنسانية، سماح جعفر، 2016
- مقتطفات من فرانسيس بيكون، أرسم لأحب أجري المقابلة فرانسيس جياكوباتي في فبراير عام 1992
- Gilles Deleuze, Francis Bacon, logique de la sensation, Paris, Editions de la Différence 1981
- Gérard Renier, l’homme déformé chez bacon, dans champ psy, p143, 174. 2011
- Deleuze, G. (2003). Francis Bacon: The Logic of Sensation. Minneapolis: Université of Minnesota Presse.
- Francis Bacon: The Logic of Sensation (2007). Art and Philosophie. Oxford Université Presse.
- Kelly, M. (1996). The Philosophie of Art: Francis Bacon and the Power of the Body. London: Routledge.
- Parker, R. (2004). The Body in Pain: The Making and Unmaking of the World. Oxford Université Presse.
- Wood, P. (2005). Francis Bacon: The Logic of Sensation. New York: International Arts.
- Schneider, R. (2019). Francis Bacon: Anatomie of an Artiste. London: Thames & Hudson.
- Bacon, F. (2007). Francis Bacon: A Rétrospective. New York: Skira.