القـلـق
فئة : قراءات في كتب
القـلـق
دانيال فريمان وجيسون فريمان، ترجمة سارة طه علام، مراجعة هبة عبد العزيز غانم
فكرة الكتاب
موضوع القلق من بين الموضوعات التي حظيت بالدراسة والتحليل من زوايا متعددة تجمع ما بين، نظريات التحليل النفسي المرتبطة بالقلق، والنظريات السلوكية حول القلق، النظريات المعرفية حول القلق، والنظريات البيولوجية العصبية حول القلق، وهذه كل مجالات قاربت الموضوع من زوايا معرفية متنوعة، وهذا يدل على أن موضوع القلق موضوع مركب بين النفسي والجسدي والمعرفي والسلوكي والوراثي...[1]
ولا شك أن القلق ظاهرة مصاحبة للإنسان، كما هو الفرح والحزن والخوف... وكلها أمور تتحول وتتغير في طبيعتها بتحول الزمن واختلاف المكان، والتباين من جهة المحيط الاجتماعي والثقافي والحضاري للإنسان؛ فكل حضارة يحضر فيها الفرح والحزن والخوف والقلق بأوجه مختلفة، فبإمكاننا اليوم أن نتحدث عن قلق العصر وخوف العصر وفرح العصر. ويعرف القلق بكونه حالة مزاجية عامة تحدث من دون التعرف على آثار تحفيزها. على هذا النحو، يختلف القلق عن الخوف، الذي يحدث في وجود تهديد ملحوظ. وبالإضافة إلى ذلك، يتصل الخوف بسلوكيات محددة من الهرب والتجنب، في حين أن القلق هو نتيجة لتهديدات لا يمكن السيطرة عليها أو لا يمكن تجنبها، حيث يكون الشعور بالخوف والقلق وعدم الارتياح معمماً في حالة القلق تظهر على شكل مبالغة في رد الفعل تجاه موقف يراه الشخص مهدداً بشكل غير موضوعي. "القلق واحد من الانفعالات الأساسية، وهو جزءٌ أساسي مما يعنيه أن تكون إنسانًا مثل السعادة أو الحزن أو الغضب. وإذا طُلب منك أن تتذكَّر آخرَ مرة شعرت فيها بالقلق، فلا شك أنك لن تضطر إلى العودة بالذاكرة إلى الوراء كثيرًا. في أشكاله الأكثر حدة، يُعَد القلق أيضًا أحدَ أكثر أنواع الاضطرابات النفسية شيوعًا؛ إذ يعانيه ملايين الأشخاص حول العالم في أي وقت. إذن لا شكَّ في أهمية القلق. ولكن على الرغم من أننا جميعًا نختبر هذا الانفعال، ربما بشكل منتظم، فقد يبدو بالنسبة إلى الكثيرين منا تجربةً غامضة جدًّا. فالقلق بالأحرى أشبهُ بالوصف الإنجيلي للريح؛ إذ إننا ندركه عندما يحل بنا، ولكننا لا نعرف من أين أتى ولا إلى أين يتجه."[2]
يرى بول ريكور أننا "مدعوون إلى التفكير في قلق العصر الحاضر. علينا واجب فهم عصرنا، حتى وإن كان من أجل التحدّث بلغة انشغاله. لا أعتقد، مع ذلك، أنّه علينا أن ننقاد للسمات الأكثر إثارة لعصرنا، بل بالأحرى للديناميكية الداخلية لديالكتيك القلق ولما أسمّيه الإثبات الأصلي. أن نصل إلى قلق عصرنا الراهن وواجبات الفكر في عصرنا بدل الانطلاق منه، سنكون ربّما أكثر تسلّحا لمعرفته؛ أي لتنزيل قلقه وردّ انفعالات إلى موقعها، انفعالات بقدر ما هي ضخمة هي أقلّ أصالة؛ ذلك أنّه من الممكن ألا يكون القلق موسوما بالراهنية إلا في منطقة وسطى في سلّم ضروب القلق، بين حدّين لهذا السلّم، أحدهما سيكون تحت المستوى التاريخي- القلق الحيوي- والأخر فوق المستوى التاريخي – القلق الميتافيزيقي. من الممكن جدّا أن ّ عصرنا، لأنّه كثير التأثر بخاصية ما للقلق، سنتعرّف عليها في الأثناء، يخفي نفسه عن أشكال أخرى للقلق أكثر جذريّة في شفقة مفرطة وسطحية."[3]
مواضيع الكتاب
يقدِّم هذا الكتاب تعريفًا بسيطًا للقلق، مستندًا إلى أفضل الأبحاث العلمية، ويوضِّح لنا لماذا يُعَد القلق جزءًا طبيعيًّا وحيويًّا من انفعالاتنا الأساسية، ويبيِّن العواملَ الرئيسة التي تؤدِّي إليه. كما يغطي الكتاب بالتفصيل اضطراباتِ القلق الرئيسة الستة: الرُّهاب، واضطراب الهلع، والرُّهاب الاجتماعي، واضطراب القلق العام، واضطراب الوسواس القهري، واضطراب ما بعد الصدمة؛ مستندًا إلى كلٍّ من علم النفس، وعلم الأعصاب، وعلم الوراثة، والتجارب السريرية. وقد جاءت مواضيع الكتاب كالتالي:ما القلق؟. نظريات القلق. أهي الطبيعة أم التنشئة؟. مايكل بالين وجراهام تيلور: القلق اليومي وكيفية التعامل معه. الرُّهاب الاجتماعي. اضطراب الهلع. اضطراب القلق العام. اضطراب الوسواس القهري. اضطرابُ ما بعد الصدمة. العلاج.
قلق العصر
بالنظر إلى مختلف التغيرات المفاجأة والسريعة التي يتصف بها العصر على مختلف المستويات، وهي تحولات تصادفها أزمات وتغيرات اجتماعية واقتصادية وتقنية وفكرية متنوعة، وأحيانا تكون تلك الأزمات حادة وصعبة للغاية على رأسها الحروب التي تسبب في الهجرات الجماعية غير المرغوب فيهاـ كما أن غلاء المعيشة ومتطلبات الحياة وضغط العمل طول النهار والذي يضيق معه الوقت الذي يمكن الإنسان من فرصة كافية للراحة، بالإضافة إلى مختلف المسؤوليات الأسرية والاجتماعية...كلها عوامل جعلت العصر الحديث عصر للقلق؛ إذ تظهر مختلف الإحصاءات ارتفاع مختلف الاضطرابات النفسية والجسدية نتيجة القلق الزائد على اللزوم. ورغم تقدم العلم في مختلف المجالات فقضية القلق لم يتم التحكم فيها بشكل كاف، إذا لا يمكن تصور حياة دون قلق، لكن المشكلة عندما يتحول القلق إلى حالة حاضرة عند الفرد على طول أيام حياته.
والحقيقة أنه لا يوجد حتى الآن تعريف واحد للقلق، وسنعرض محاولتين مفيدتين لتعريفه. يأتي التعريف الأول من "الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية" (DSM)، وهو مصدر قياسي لاختصاصيي الصحة النفسية أصدرته "الجمعية الأمريكية للطب النفسي". ووفقًا "للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية"، فالقلق هو: التوقُّع المخيف لخطر أو مصيبة في المستقبل مصحوبًا بإحساس بالانزعاج أو بمشاعر توتر جسدية. قد يكون الخطر المتوقَّع داخليَّ المركز أو خارجيَّ المركز. التعريف الثاني قال به الأمريكي ديفيد بارلو، فهو يرى أن: القلق هو حالة مزاجية موجَّهة نحو المستقبل يكون فيها الشخص مستعدًّا أو جاهزًا لمحاولة التعامل مع الأحداث السلبية القادمة. فإذا كان علينا التعبير عن القلق كلاميًّا، يمكننا التعبير عنه كما يلي: "يمكن لهذا الحدث الرهيب أن يتكرر ثانية، وقد لا أكون قادرًا على التعامل معه، ولكنني لا بد أن أكون مستعدًّا للمحاولة". يشير كلا التعريفين إلى أن القلق انفعال (على الرغم من أن "الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية" يستخدم مصطلح "إحساس"، ويشير بارلو إليه على أنه "حالة مزاجية"). وكما نعلم جميعًا، القلق ليس شيئًا ممتعًا؛ وهذا ما يعنيه "الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية" باستخدام كلمة "انزعاج" (فهذا هو المصطلح المستخدَم في علم النفس للشعور غير السار). قد يتصرف جسمنا بطرائق غير معتادة (تقلُّب المَعِدة، اتساع العينين، تسارُع دقات القلب). ومن هنا جاءت إشارة "الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية" إلى المشاعر "الجسدية". وينبع مصدر كل ذلك من تصوُّر أننا ربما نواجه مشكلة خطِرة.[4]
ويمكن أن يكون القلق في كثير من الأحيان "شعورًا أقل حدة من الخوف. يمكن أن يبدوَ غامضًا وليس له ملامح محدَّدة - ولهذا السبب بالذات، يصعُب التخلص منه. ففي نهاية المطاف، إذا كنا لا نعرف ما الذي يقلقنا، فمن الصعب معرفةُ كيفية التعامل مع المشكلة. وقد أشار بعض الخبراء إلى أن القلق هو الانفعال الذي نشعر به، عندما لا نستطيع أو لا نعرف كيف نتصرف للتعامل مع تهديد ما. لذلك من المرجَّح أن تدفعنا رؤيةُ كلب كبير يندفع نحونا كاشفًا عن أنيابه إلى العدْوِ خوفًا، بينما من المرجح أن تأخذ المخاوف بشأن الموت شكلَ القلق المزعج أكثرَ من الخوف المباشر"[5] الخوف إذن هو ما يدفعنا لنتخذ الاحتياط من خطر محذق بنا، بينما القلق يأتي منت أشياء أحيانا نتيجة أسبابا لا نعرفها أحيانا، ويمكن للقلق أن يكون نتيجة للخوف من خطر يهددنا لم نجد له حلا، ونتوقع حدوثه أي لحظة، كما أن الخوف من المستقبل ما ويجلب معه من مخاطر قد نتصورها ونتوقعها قد يكون سببا في القلق وهي فكرة ناتجة عن التفكير الذي ينفي كل فرح وفرج يخبئه المستقبل لمختلف العوائق والصعوبات التي تقلقنا.
قلق العصر إذن مسألة مركبة يحضر فيها طبيعة الحياة وضغوطها، واختزال الإنسان في دائرة دورة العمل والإنتاج والاقتصاد؛ فالإنسان منتج ومستهلك في الوقت ذاته، وبهذا الشكل فهو لم يعد له وقت كاف للتأمل في بعده الوجودي، في علاقته بذاته وبالطبيعة ومختلف الكائنات من حوله، بهدف جلب ما يكفي من الطاقة الإيجابية التي تمنحه نوع من المعنى لحياته، يحس ويشعر من خلاله بأن وجوده أكبر من أن يختزل في دائرة الاستهلاك... وتمنحه معنى آخر للعمل يرى نفسه فيه بأنه بالضرورة أن يعمل ويصنع ما هو يحقق وجوده... يقول بول ريكور: "ويبدو لي أن قلق العصر الراهن يتعّرّف على نفسه ويفهمها بالنسبة إلى المقتضى الراديكالي الذي صاغته المثالية، وبالأخصّ المثالية الهيجيلية: ننتظر أن يكون التاريخ المرعب حيلة للعقل في اتجاه تأليف أرفع. وها نحن ذا: ينبثق القلق في هذه النقطة المحدّدة لانتظارنا؛ ويرتبط بالتاريخ انعدام أمن مخصوص؛ لأنّنا لسنا متأكدين من إحداث هذا التاريخ تطابقا بين العقل والوجود، بين المنطق والتراجيدي. يكتشف القلق إمكانية مخيفة: لو لم يكن للتاريخ من معنى؟ لو لم يكن التأليف الهيجلي سوى اختراعا فلسفيا؟ إنّ العدم، وقد ظهر الخطر الذي يهدّده، هو عدم للمعنى، في مستوى “الفكر” ذاته، عدم للمعنى في قلب هذا المعنى المفترض الذي يجب أن يعطي هدفا ومهَمَّةً للصحّة العقلية ويشفي نرسيسا، يبدو لي أنّه بملاقاتنا هكذا لقلق عصرنا انطلاقا من المقتضى المثالي، نكون أكثر تسلّحا كي نميّز فيه بين الأصيل والهجين أو غير الأصيل."[6]
[1] دانيال فريمان وجيسون فريمان، ترجمة سارة طه علام، مراجعة هبة عبد العزيز غانم، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط.1، 2023م، الفصل الثاني من الكتاب.
[2] نفسه، ص.8
[3] بول ريكور، قلق العصر الراهن وواجبات الفكر، ترجمة، عبد الوهاب البراهمي، مقال منشور بموقع حكمة بتاريخ: 7/12/2021 https://hekmah.org/
[4] دانيال فريمان وجيسون فريمان، ترجمة سارة طه علام، مراجعة هبة عبد العزيز غانم، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط.1، 2023م، ص.17
[5] نفسه، ص.18
[6] بول ريكور، قلق العصر الراهن وواجبات الفكر، ترجمة، عبد الوهاب البراهمي، مقال منشور بموقع حكمة بتاريخ: 7/12/2021 https://hekmah.org