القيمة الأخلاقية للتسامح
فئة : مقالات
القيمة الأخلاقية للتسامح
إن تحديد المفهوم أو التعريف العام للتسامح، والتصورات أو الأنواع التي ترتبط به، ما هو إلا خطوةٌ أولى، لا غنىً عنها، لمناقشة البعد المعياري/ الأخلاقي للتسامح؛ فهذه الخطوة تساعدنا على تحديد الجانب الوصفي الأولي لهذا المفهوم، لكن مفهوم التسامح ليس مفهوماً وصفيّاً فقط، بل هو مفهومٌ معياريٌ/ أخلاقيٌّ أيضاً؛ فهو لا يقتصر على أحكام الوجود، بل يتضمن أحكام وجوبٍ أيضاً؛ أي إنه لا يقتصر على وصف ما هو كائنٌ، بل يتعداه إلى الحديث عما يجب أن يكون. وتَجاوُر أو تداخل البعدين الوصفي والمعياري، في مفهوم التسامح، يجعله مفهوماً معياريّاً كثيفاً «thick normative concept»، بامتيازٍ؛ بمعنى أنه ليس مفهوماً وصفيّاً فقط، ولا مفهوماً معياريّاً فقط، بل مفهومٌ وصفيٌّ ومعياريٌّ، في الوقت نفسه، أيضاً.
للوهلة الأولى، يبدو أن المفهوم العام، أو تعريف الحد الأدنى، للتسامح، لا يقدم لنا إلا جزءاً من الجانب الوصفي لهذا المفهوم؛ فهو لا يتضمن جانباً معياريّاً واضحاً يسمح بمعرفة فيما إذا كان هذا المفهوم يجسد فضيلةً أم رذيلةً. فقبول، أو حتى تقبُّل، الاختلاف ليس أمراً جيداً أو سيئاً، من الناحية المعيارية/ الأخلاقية المبدئية، لكن إذا دققنا في تفصيلات التعريف، تدقيقاً أكبر، نجد أنها تتضمن بذور سلبيةٍ معياريةٍ/ أخلاقيةٍ ما. فالتعريف ينصّ على وجوب وجود اعتراضٍ مبدئيٍّ على الاعتقاد و/ أو الممارسة اللذين نتسامح معهما. ووجود هذا الاعتراض يتضمن القول بوجود سلبيةٍ ما، من منظور المتسامِح على الأقل، في هذا الاعتقاد و/ أو تلك الممارسة، تدفع إلى الاعتراض عليهما أو رفضهما. وإضافةً إلى (الاعتقاد بوجود) السلبية المذكورة، يتضمن التعريف العام للتسامح القول إنه كان في مقدور المتسامِح ألا يتسامح، وأنه كان، وما زال بمقدوره، من حيث المبدأ على الأقل، فعل شيءٍ ضد ما يتسامح معه، لكنه مع ذلك تسامَح، ولم يفعل ذلك. هذه القدرة المبدئية على عدم التسامح مع ما يُتسامح معه، والقدرة على التدخل والتعبير الفعلي عن الرفض، وتجسيد الاعتراض أو الرفض في فعلٍ أو سلوكٍ، يعطي الانطباع بوجود تراتبيةٍ أو تفاوتٍ ما، في المكانة، بين من يتسامَح ومن يُتسامح مع اعتقاده و/ أو سلوكه.
وفي هذا الاعتقاد بوجود سلبيةٍ (معياريةٍ) ما، فيما يُتسامًح معه، وهذا التراتب أو التفاوت، المُفترض أو الفعلي، في المكانة والقوة، بين من يَتسامَح ومن يُتسامَح معه، يكمن العاملان الرئيسان اللذان جعلا التسامح ذا سمعةٍ سيئةٍ، لدى كثيرٍ من الناس والمفكرين. فعلى سبيل المثال، تحدث كانط، في نص «ما هو التنوير؟»، عن غطرسة أو تكبُّر المتسامح[1]، وغوته اعتبر التسامح إهانةً أو مهيناً[2]. ويبدو واضحاً أن التعريف أو المفهوم الأولي للتسامح يحيل، إحالةً خاصةً وقويةً، على المستوى الأول/ الأدنى من التسامح الذي تحدث عنه كلٌّ فريتشه (التسامح البراغماتي- الحسابي)، وغاليوتي (التصور القياسي السلبي)، وفورست (التسامح بوصفه سماحاً او إعطاء إذنٍ). وهذا التعريف أو المستوى الأدنى شائعٌ عموماً، لدى الناس والمفكرين، لدرجةً سوَّغت لغاليوتي أن تسميه بــ «التصور القياسي»، ولفورست بأن يسميه بــ «التصور التقليدي أو الكلاسيكي the classic conception». وتبني معظم الناس، الضمني أو الصريح، لهذا التعريف، وما يحيل عليه من تقييمٍ سلبيٍّ أوليٍّ لما يُتسامَح معه، ومن تراتبٍ وتفاوتٍ في المكانة، هو ما يجعل معظم الناس ينفرون، نفوراً جزئيّاً أو كاملاً، من فكرة أو واقع أن يكونوا في موقع «المُتسامَح مع اعتقاداته وممارساته». وانطلاقاً من السلبيات التي يتضمنها، أو يحيل عليها، كلٌّ من التعريف العام، والمستوى الأدنى من التسامح، تبرز معقولية النقد الشديد الموجَّه لفكرة التسامح وللخطابات والممارسات المؤسِّسة لها، أو المرافقة لها، أو الناتجة عنها. ونجد هذا النقد، بارزاً وقويّاً، في نصوص ويندي براون، التي سبقت الإشارة إليها، على سبيل المثال والخصوص.
إذا كان التعريف العام للتسامح يحيل على مستواه الأدنى خصوصاً، وإذا كان هذا المستوى يتضمن سلبياتٍ، ممكنةً أو فعليةً، وواضحةً أو ضمنيةً، بما يجعله أقرب إلى الرذيلة منه إلى الفضيلة، لماذا نجد الكثيرين يتحدثون عن التسامح، كما لو أنه «فضيلة الفضائل»؟ ولمَ هذا الإصرار على التمسك بضرورة حصول التسامح، وبإيجابياته العملية والنظريةــــ الأخلاقية؟
للإجابة عن هذين السؤالين، ينبغي الانتباه إلى ثلاث مسائل أساسيةٍ، في هذا الخصوص: من ناحيةٍ أولى، التعريف العام والمستوى الأدنى للتسامح ليسا سلبيين، معياريّاً، بالمطلق، فثمة إيجابياتٌ، ممكنةٌ أو فعليةٌ، في هذا التعريف، وفي ذلك المستوى؛ ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، ثمة ضروراتٌ، عمليةٌ ونظريةٌ، تجعل التسامح أمراً بالغ الإيجابية؛ وتتمثل تلك الضرورات في متطلبات الواقع وخصوصياته من جهةٍ، وفي البدائل التي يمكن أن تحل محل التسامح، في حال غيابه أو تغييبه، من جهةٍ أخرى؛ ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، لا يقتصر التسامح على أن يكون في هذا المستوى الأدنى، ويمكن للتعريف العام للتسامح ان يفسح المجال لمستوياتٍ أرقى، وهذا هو ما يعمل عليه كثيرٌ من المفكرين والفلاسفة. وسأقدم، فيما يلي، شرحاً مقتضباً لهذه النواحي الثلاث.
ففي خصوص الناحية الأولى، يمكن القول إنه على الرغم من الأبعاد السلبية الكامنة، في التعريف العام للتسامح وللمستوى الأدنى منه، فثمة ممكناتٌ إيجابيةٌ، في هذا التعريف وذلك المستوى، ينبغي عدم تجاهل وجودها، الكامن أو المتحقق، ولا التقليل من أهمية هذا الوجود. فما الذي يدفعنا إلى قبول ما ينبغي، من حيث المبدأ، ألا نقبل به، لوجود اعتراضٍ عليه أو رفضٍ مبدئيٍّ له؟ الاحتمالات هنا كثيرة ومتنوعةٌ، لكن من بينها هو وجود قيمةٍ أو قيمٍ أخلاقية ما تحضّ على هذا القبول. وسنناقش هذه النقطة بتفصيلٍ أكبر لاحقاً، لكن ينبغي الإشارة، في السياق الحالي، إلى إمكانية أن يكون قبول الاختلاف موقفاً اخلاقيّاً إيجابيّاً، في كثيرٍ من الحالات والسياقات. كما أن قبول الاعتقادات أو الممارسات المخالفة لبعض قيمنا أو المختلفة عن ممارساتنا واعتقاداتنا، يمنح أصحاب هذه الاعتقادات والممارسات إمكانية الوجود الحر. والوجود الحرّ، أو الحرية عموماً، أمرٌ إيجابيٌّ أخلاقيّاً، من حيث المبدأ، وهو أمر إيجابيٌّ أخلاقيّاً، في كثيرٍ من الحالات والسياقات الفعلية.
لقد تحدثنا آنفاً عن السلبية المعيارية التي يحيل عليها الاعتراض أو الرفض المبدئي، لكن ينبغي، في السياق الحالي، الإشارة إلى الإيجابية الأخلاقية التي يمكن لهذا الاعتراض أو الرفض أن يتضمنها أو يجسِّدها. فرفض ما ينبغي لنا، معياريّاً/ أخلاقيّاً، رفضه، هو أمرٌ إيجابيٌّ، من حيث المبدأ. فمثلاً، رفض اعتقادات الملحدين وممارساتهم، أو الاعتراض المبدئي عليها، يبدو أمراً إيجابيّاً، من وجهة نظر بعض المتدينين. وتتحدد إيجابية الرفض أو الاعتراض، أو سلبيتهما، على أساس مدى معقولية هذا الرفض وأخلاقيته، من حيث المبدأ. وعلى هذا الأساس، يمكن لهذا الرفض أن يكون إيجابيّاً، من الناحية الأخلاقية، في كثيرٍ من الحالات والسياقات. وإن قيام طرفٍ ما بقبول أو عدم قبولٍ أمرٍ ما، لأسبابٍ أخلاقيةٍ، هو أمرٌ إيجابيٌّ أخلاقيّاً، من الناحية المبدئية، بغض النظر عما إذا كان صاحب هذا القبول و/ أو الرفض، محقّاً أخلاقيّاً، في هذا القبول أو الرفض. فهو إيجابيٌّ اخلاقيّاً، لأنه يعني أن معيار اتخاذ ذلك الموقف القابل أو الرافض، هو القيم الأخلاقية الإيجابية، من منظور صاحبها، وهذا أمرٌ إيجابيٌّ، مبدئيّاً، من الناحية الأخلاقية، بالتأكيد. وإخضاع شخصٍ ما موقفه، لمحاكمةٍ أخلاقيةٍ، يتضمن إخضاعه لمحاكمةٍ فكريةٍ عامةٍ تجعله يتأنى في ردود فعله، ويفكر فيها تفكيراً متعمقاً ومتفحصاً، حيث يفضي به ذلك إلى الابتعاد عن ردود الفعل العفوية التي تجعله، «في البداية»، يميل إلى رفض أمرٍ ما، وإلى عدم تقبله، فضلاً عن عدم قبوله. وانطلاقاً مما سبق، نفهم وجود مسوِّغاتٍ معقولةٍ لرفض بعض أشكال التسامح، لكونها تتسامح مع ما ينبغي أو يجب عدم التسامح معه، من منظورٍ أخلاقيٍّ ما. فأخلاقية التسامح تعتمد على مدى معقولية قبول ما يبدو من منظورٍ ما غير مقبولٍ.
وفيما يتعلق بالناحية الثانية، ينبغي الإقرار أن الاختلاف بين الناس، في القيم ووجهات النظر والممارسات والاعتقادات، أمرٌ لا مفرَّ منه. ويتضمن هذا الاختلاف بالضرورة أن يقيِّم كثيرٌ من الأشخاص كثيراً من الاعتقادات والممارسات المختلفة عن اعتقاداتهم وممارساتهم، تقييماً أخلاقيّاً سلبيّاً. وفي كثيرٍ من السياقات والحالات، يكون التسامح هو أحد المواقف الإيجابية التي يمكن، بل ينبغي، لنا اتخاذها، حيال هذه الاختلافات، حتى عندما يتخذ التسامح صيغة «إعطاء الإذن»، أو غيرها من صيغ المستوى الأدنى. ويمكن اللجوء إلى المنطق ذاته، في خصوص التراتبية. صحيحٌ أن التسامح يمكن أن يعزز وجود التراتب والتفاوت غير العادل أو غير المقبول، في كثيرٍ من الأحيان والسياقات، لكن هذا لا ينفي أن التراتب والتفاوت في المكانة أمرٌ محايثٌ للاجتماع البشري بالضرورة، من حيث المبدأ. وهذا التراتب والتفاوت ليس أمراً سلبيّاً بالضرورة. فعلى سبيل المثال، ومن زاويةٍ ما، ثمة تفاوتٌ، معقولٌ أو مقبولٌ، حتى أخلاقيّاً، بين الأستاذ والتلاميذ أو الطلاب، أو بين الوالدين وأولادهما، أو بين رب العمل وعماله... إلخ. وسلطة الطرف الأول (الوالدين والأستاذ ورب العمل)، ومكانته، تؤهله لممارسة التسامح، وتجعل هذا التسامح أمراً محموداً أو غير منبوذٍ أخلاقيّاً، في كثيرٍ من الحالات والسياقات. وحتى حين يكون التفاوت ظالماً، أو غير مقبولٍ أخلاقيّاً، فإن حضور التسامح يبقى أفضل من عدم حضوره. فما البديل عن التسامح، في مثل هذه السياقات؟
يكتسب التسامح جزءاً من سمعته الحسنة من السمعة السيئة المرتبطة بالمفاهيم المضادة له. فاللا-تسامح والتعصب وعدم قبول أو تقبُّل الاختلاف، هي مفاهيم وممارسات ذات سمعةٍ سيئةٍ غالباً. فالتسامح جيدٌ أخلاقيّاً؛ لأنه نقيض التعصب، ونقيض الانغلاق، وعدم الانفتاح على الآخر المختلف، وعدم قبوله وتقبله. وبهذا المعنى، نحن نقيِّم التسامح إيجاباً، ونقول بضرورته وأفضليته، في كثيرٍ من الأحيان والسياقات، على الرغم من اتسامه ببعض السلبيات؛ وذلك لأننا نرى أنه يمثل أفضل المواقف الممكنة أو أقلها سوءاً. وينبغي الانتباه إلى أن غوته ومثله كثيرون (فورست مثلاً) من منتقدي التسامح، عموماً، أو منتقدي بعض صيغه أو تصوراته أو أنواعه، يقرِّون، في كثيرٍ من الأحيان، بالضرورة المؤقتة، على الأقل، للتسامح. فغوته الذي رأى في التسامح إهانةً، لم يرفض التسامح رفضاً مطلقاً، بل قبل وجوده، وجوداً مؤقتاً، على أن يكون هذا الوجود مجرد مرحلةٍ تفضي لاحقاً إلى إحلال الاعتراف محل التسامح. وعلى الرغم مما يبدو من تبني فورست لرؤية غوته، إلا أنه يشدد، في كثيرٍ من السياقات الأخرى، على أنه ليس هناك تصوراً واحداً للتسامح مناسباً لكل السياقات أو الأزمنة أو المجتمعات. ولهذا، ينبغي لنا عدم تبني أو قبول تصورٍ واحدٍ للتسامح واستبعاد أو رفض التصورات/ الأنواع الأخرى، بل ينبغي لنا اختيار الصيغة المناسبة من التسامح، وفقاً لمعطيات الواقع، وممكناته، ونسقه القيمي، ونوعية الصراع الموجود فيه... إلخ[3]. فللتسامح، حتى في أدنى مستوياته، إيجابياتٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ، في كثيرٍ من الأحيان. وهذه الإيجابيات، قد تجعله، بعد المقارنة مع المواقف والمفاهيم الأخرى، أفضل هذه المواقف والمفاهيم الأخرى الممكنة، أو أقلها سوءاً.
في خصوص الناحية الثالثة، لا بد من الانتباه إلى وجود تصوراتٍ أو أنواعٍ مختلفةٍ للتسامح، فينبغي عدم حصر هذا المفهوم، أو تعريفه العام، بمستوىً أو تصوُّرٍ واحدٍ. فلا يقتصر التسامح على أن يكون مجرّد «إعطاء إذنٍ» أو «براغماتيّاً- حسابيّاً»، أو «سلبيّاً مفتقداً للمساواة والندية والاحترام»؛ فثمة تصوراتٌ أخرى للتسامح تتعارض مع مثل هذه التصورات، وتحاول تجنب أو تلافي معظم الانتقادات الموجهة للتسامح، والتخلُّص من معظم السلبيات التي تتضمنها التصورات المنتمية إلى المستوى الأدنى؛ كما تتضمن التصورات أو الأنواع الأخرى من التسامح علاقةً نديةً، وليست تراتبيةً، وتبادليةً، وليست أحاديةً، وفاعلةً وإيجابيةً، وليست منفعلةً وسلبيةً، وقائمةً على احترام الآخر وتقديره والاكتراث بحقوقه، والاعتراف الإيجابي به وباعتقاداته وممارساته المختلفة، وليس على نظرةٍ دونيةٍ أو محتقرِةٍ له تنكر الأحقية المبدئية لاختلافه.
التسامح، وفقاً لتعريفه أو مفهومه المبدئي العام، المذكور آنفاً، ليس فضيلةً ولا رذيلةً، لكنه يحمل ممكنات الفضيلة والرذيلة، على حدٍّ سواءٍ. ولتحديد القيمة الأخلاقية للتسامح، ينبغي أن نأخذ في الحسبان تصوراته أو أنواعه المختلفة، والقيم الأخلاقية المرتبطة بها، والكثير من الاعتبارات والتفصيلات المهمة.
ففي خصوص قبول الاختلاف الذي يتضمنه كل تسامحٍ، ينبغي معرفة أسباب القبول وغاياته ومضامينه. وكلما كان القبول أقل امتعاضاً، وأكثر تقبلاً للاختلاف، كانت العلاقة التسامحية أكثر إيجابيةً. كما تزداد إيجابية هذه العلاقة، بقدر تأسسها على نظرةٍ أخلاقيةٍ مبدئيةٍ، وليس على نظرةٍ براغماتيةٍ أداتيةٍ (فقط)، وبقدر سعيها إلى تحقيق غاياتٍ أخلاقيةٍ إيجابيةٍ، وليس غاياتٍ مصلحيةً عمليةً (فقط).
وفي خصوص الاعتراض أو الرفض المبدئي المحايث لكل تسامحٍ، ينبغي التفكير في مدى المعقولية أو المقبولية الأخلاقية لهذا الاعتراض. وهذه نقطةٌ غايةٌ في الأهمية. فمن دون وجود مشروعيةٍ ومعقوليةٍ أخلاقيةٍ لوجود هذا الاعتراض، لا يمكن القول إن التسامح يمثل فضيلةً. فتسامح الدولة مع الاختلاف الديني لم يعد فضيلةً، في سياق الدولة الديمقراطية (الليبرالية)، لأنه من حق الناس أن يختلفوا دينيّاً، ومن واجب الدولة حماية هذا الحق المبدئي، وحماية ممارسيه، والاعتراف بالمشروعية المبدئية للاختلاف الديني. فينبغي للدولة ألا يكون لديها اعتراضٌ مبدئيٌّ على الاختلاف الديني. والغياب الضروري لهذا الاعتراض يعني أنه من واجب الدولة الاعتراف بهذا الاختلاف وحمايته، وليس التسامح معه. لا يمكن للتسامح مع الاختلاف الديني أن يكون أمراً إيجابيّاً، إلا عندما تكون الظروف غير مواتيةٍ لأشكالٍ أخرى أرقى من التفاعل مع الاختلاف. انطلاقاً من ذلك، ينبغي دائماً التدقيق في مضمون الاعتراض أو الرفض المبدئي لما يتم التسامح معه، فإذا لم يكن الاعتراض مسوَّغاً تسويغاً أخلاقيّاً كافيّاً، فعندها قد تكون رذيلة الاعتراض الفعلية أكبر من الفضيلة المفترَضة للتسامح، في هذا السياق. في المقابل، ينبغي التأكُّد من وجود تسويغٍ أخلاقيٍّ كافٍ للتسامح؛ فمن دون وجود هذا التسويغ، يكون التسامح رذيلةً أو لا-أخلاقيّاً. وفي هذه الحالة، ينبغي، في كثيرٍ من الحالات والسياقات، عدم التسامح مع مثل هذا التسامح اللا-أخلاقي.
إن التمايز أو التمييز القائم بين التصورات أو الأنواع المختلفة للتسامح، واختلاف سماتها الوصفية والمعيارية، ليس ناتجاً عن مجرد تأويلٍ أو تفكيرٍ في المفهوم أو التعريف العام للتسامح وحده فحسب، بل هو مرتبطٌ، ارتباطاً أكبر، بالقيم الأخلاقية التي يتم إضافتها، أو الاستناد إليها، في صياغة هذا التصور عن التسامح أو ذاك. فالبعد المعياري الأخلاقي في التسامح الذي يمكن للتسامح، من خلاله، أن يكون فضيلةً أو رذيلةً، ليس بعداً محايثاً أو واضحاً في المفهوم العام للتسامح. ومن هنا، فإن القيمة الأخلاقية للتسامح تأتي، في الدرجة الأولى، من خلال علاقاته مع القيم الأخلاقية التي يُربَط بها. وإن افتقار التسامح إلى القيمة الأخلاقية الذاتية يجعله بحاجةٍ إلى أن يستمد قيمته الأخلاقية من خارجه. وتزداد حاجة التسامح إلى القيم الأخلاقية المسوِّغة له، بازدياد القوة الأخلاقية للاعتراض المبدئي على ما يمكن أو ينبغي التسامح معه. فمن مفارقات التسامح أنه يجعلنا نقبل ما ينبغي لنا عدم القبول به، من زاويةٍ أخلاقيةٍ ما. فلدينا، دائماً، اعتراضٌ أو رفضٌ أخلاقيٌّ ما، تجاه ما نتسامح معه. ولكي نتجاوز هذا الرفض الأخلاقي المبدئي، ينبغي لنا امتلاك تسويغٍ أخلاقيٍّ قويٍّ وكافٍ، يستطيع تجاوز الاعتراض الأخلاقي المبدئي، واستيعابه في إطار أخلاقي أعلى درجةً/ قيمةً، وأكثر أولويةً. وعلى هذا الأساس، نفهم سعي كثيرٍ من المفكرين إلى تأسيس التسامح على مجموعةٍ من القيم أو الأعمدة الأخلاقية الأساسية، ويأتي في مقدمتها: المساواة والاحترام، والحرية، والعدالة.
فالتسامح فضيلةٌ، بقدر ما يتأسس على «المساواة الأخلاقية»، ويؤسّس لها، ويعززها. وإذا كان النقد الأساسي الموجه للتسامح، في صيغته التقليدية الشائعة، هو أنه يتضمن علاقةً تراتبيةً غير مساواتيةٍ، ويعزز الحضور العملي والنظري لهذه التراتبية اللا-أخلاقية، فقد سعى منظرو التسامح إلى إبراز إمكانية أن يتأسس التسامح على نظرةٍ مساواتيةٍ، بين طرفي علاقة التسامح. و«تصور الاحترام»، عند فورست، يهدف، تحديداً، وبالدرجة الأولى، إلى ربط التسامح بقيمة المساواة. فالتسامح المنشود، بوصفه فضيلةً، هو التسامح القائم على الاحترام المتبادل والمساواة الندية، وليس ذاك القائم على النظرة الفوقية/ الدونية، والتراتب غير المسوَّغ أخلاقيّاً.
العمود أو الأساس الأخلاقي الثاني الذي يتأسس التسامح عليه، بوصفه فضيلةً أخلاقيةً، هو «الحرية». فالتسامح فضيلةً، بقدر ما يفسح للحرية بأن تكون حاضرةً. والحرية حريات عموماً. ويرتبط التسامح بالحريات عموماً، وبحرية العقيدة والرأي والتعبير خصوصاً. وهذه الحريات ليست أحد أهم أسس النظام الديمقراطي فحسب، بل هي أحد أسس أي نظامٍ قانونيٍّ/ حقوقيٍّ، وأي نظامٍ أخلاقيٍّ. فالتسامح فضيلةً، بقدر إسهامه في تعزيز حضور الحرية في المجتمع/ الدولة، ولدى أفرادهما.
القيمة الأخلاقية الأهم التي يتم ربط التسامح بها، لتسويغه، بوصفه فضيلةً اخلاقيةً، هي «العدالة». فمن الصعب العثور على مفكرٍ أو فيلسوفٍ لم يربط التسامح بالعدالة، أو قام بالفصل بينهما[4]. ويستوي في ذلك منتقدو فكرة التسامح ومتبنوها؛ فكثيرٌ من المنتقدين الرافضين للتسامح يبررون انتقادهم/ رفضهم غالباً بتنافي أو تناقض التسامح، في سياقٍ معينٍ، ومن منظورٍ معينٍ، مع قيمة العدالة. أما متبنو التسامح فيرون أنه ضروريٌّ ولا غنى عنه، من أجل تحقيق العدالة، في سياقاتٍ كثيرةٍ. وهكذا نجد، في خطاب التسامح المعاصر، تقاطعاً بين قيم المساواة والاحترام والحرية والعدالة، حيث يكون السعي إلى التسامح، في الوقت نفسه، سعياً نحو تحقيق وتعزيز تلك القيم الأخلاقية الأساسية[5].
[1] - Immanuel Kant, An Answer to the Question: ''What is Enlightenment?'', Translated by H. B. Nisbet, (Cambridge: Cambridge University Press, 1970), p. 12
[2] - Cf., Rainer Forst, '''To Tolerate Means to Insult': Toleration, Recognition, and Emancipation,'' in Bert van den Brink & David Owen (eds.), Recognition and Power. Axel Honneth and the Tradition of Critical Social Theory, (Cambridge: CambridgeUniversity Press, 2007), pp. 215-237
[3] - Forst, Toleration in Conflict. Past and Present, p. 32
[4] - إضافةً إلى المفكرين والفلاسفة الغربيين الذين سبق ذكرهم، والذين أكدوا مركزية فكرة/ قيمة العدالة في أي تناولٍ لمسألة التسامح، نشير هنا إلى أن الجابري قد فعل الأمر ذاته، خلال تناوله لهذه المسألة. وقد استند الجابري إلى ابن رشد، ليبين ضرورة أن يدخل مفهوم العدل في التسامح، حيث لا يقتضي ذلك المساواة فحسب، بل يقتضي أيضاً إعطاء الأولوية للغير داخل هذه المساواة. انظر، محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر: العولمة - صراع الحضارات - العودة إلى الأخلاق - التسامح - الديمقراطية ونظام القيم - الفلسفة والمدينة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997)، ص 17-32
[5] - من المفيد، في هذا السياق، الإشارة إلى أن كتاب «التسامح» لبريستون كينغ يتضمن خمسة فصول. وإضافةً إلى الفصلين الأولين اللذين يتناولان مفهوم التسامح من منظورٍ فلسفيٍّ (الفصل الأول)، أو تاريخيٍّ (الفصل الثاني)، فإن الفصول الثلاثة الأخرى مخصصة لمسألة «السعي إلى العدالة» (في الفصلين الثالث والرابع، ص 115-198) و«السعي إلى المساواة» (في الفصل الخامس، ص 199-226). انظر:Preston King, Toleration.