الكتابة والهجرة: مقدمة أنثروبولوجية
فئة : مقالات
الكتابة والهجرة:
مقدمة أنثروبولوجية([1])
تعدّ موضوعتا "الكتابة" و"الهجرة" من الموضوعات الغنية، بما تثيرانه من ارتباطات ذات أبعاد سياسية، واقتصادية، وأنثروبولوجية؛ فهي تحظى باهتمام متزايد، قد يتوارى حيناً، لكنه يظهر بقوة حيناً آخر؛ وتتمتّعُ بجاذبية كبيرة لدراسات ما بعد الكولونيالية التي اعتبرت الهجرةَ إفرازاً حتمياً لسياسة الحقبة الاستعمارية التي مارستْ أسلوبَ القوة، والهيمنة الثقافية بقمع الثقافات الأصلية من التعبير عن ذاتها، وممارسة حقها في الاختلاف، وجَعْلها هامشاً يدور في فلك مركزية ثقافة الاستعمار، وتفسيراته، ومفاهيمه، وتقييماته، وسردياته، وإكراهاته النظرية في الوصف، والتحليل، واعتبار الثقافات الأصلية غير مؤهلة للتطور؛ ومعيقة له في الوقت نفسه.
تحاول الأنثروبولوجيا الثقافية أنْ تقوم بمقاربة متعددة الأبعاد حول الاختلافات الثقافية ونموّ أشكال جديدة نتيجة عمليات المصاهرة الثقافية
ولذلك، فإنَّ الحقبة الاستعمارية وما بعدها، قد أفرزتَا مجتمعاتٍ كسيحةً فاقدةً لشروط الهوية، مادامت تحيا بمقتضى ما يسميه بيل أشكروفت: "الخبرة الكولونيالية"[2] وشروطها، وما خلَّفتْهُ من تأثير كبير في تأسيس هياكل نظم التربية، والتعليم، والنظم الاقتصادية التابعة/ الخاضعة، والنظم السياسية الاستبدادية التي سوف تؤسس مجتمعات ما بعد الكولونيالية، وتديرها بأسلوب التابع [3]Subaltern الخاضع للقوى الإمبريالية عن طريق معاهدات التبعية ومواثيقها. ولذلك، فإنَّ الاستعمار والأنظمة التابعة أو بالأحرى الخاضعة له، قد خلقت ظروفاً اقتصادية، وسياسية، وثقافية في غاية السّوء، كانت الهجرةُ إحدى نتائجها.
ويشكل موضوع الهجرة، أكثر الموضوعات المثيرة للاهتمام بالنسبة إلى الأنثروبولوجيا من ناحية التأثر والتأثير في الثقافة. فقد اتخذت الأنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology الهجرةَ وعمليات الانتقال، موضوعاً أساسياً ينطوي على خِصْب كبير، فهي تتعامل مع المهاجر؛ بوصفه كائناً ثقافياً يحملُ معه إلى البلد المضيف منظومة ثقافية متكاملة لا تنضب من الذخيرة اللغوية، والرموز، والأساطير، والأمثال، والاستعارات، والكنايات، والحكايات الشعبية، وغير ذلك.
وتحاول الأنثروبولوجيا الثقافية أنْ تقوم بمقاربة متعددة الأبعاد حول الاختلافات الثقافية Cultural differences ونموّ أشكال جديدة نتيجة عمليات المصاهرة الثقافية، وتطرح أسئلةً حول الكيفية التي تكون فيها ثقافة البلد المضيف عرضة للتغيير والتلاقح بفعل الهجرة بوصفها حركةً اقترنتْ، عَبْرَ التاريخ، بتفكيك البنى التقليدية، وتحريك المياه الراكدة في الاقتصاد، والسياسة، والثقافة في العديد من المجتمعات.
إنَّ مفهوم المجتمعات المهاجرة، لم يكن مفهوماً حديث النشأة، وإنما اقترن بالنشاط الاستعماريّ القديم، وبإقامة المستعمرات القديمة، وبنمطها التقليديّ، وبتسمياتها المختلفة. وقد أطلقت اللغةُ اليونانية القديمة على هذه المجتمعات تسمية مجتمعات الشتات: διασπορά/ Diaspora، وهو مصطلح اقترنَ بدلالة سياسية، واقتصادية، وثقافية... فالمجتمعات المهاجرة التي استوطنتْ قرب شواطئ البحر المتوسط قبل الميلاد بقرون عديدة، قد أنشأتْ مُركَّباً حضارياً فريداً في بلاد اليونان القديمة. وصفَ أفلاطون تلك اللحظة بقوله: "نزلنا في شواطئ هذا البحر كما تنزل الضفادع حول بركة الماء"[4]. فهذه الضفادع، قد أنشأتْ ما يسميه المؤرخون: المعجزة الإغريقية[5] في الفلسفة والعلم نتيجةً لتفاعل ثقافات مختلفة الأعراق، والملل، والمعتقدات؛ فمدينة إيليا التي اشتهرت بأصالة أفكارها الفلسفية والعلمية، هي مدينة أنشأها المهاجرون في غرب إيطاليا[6]، وكذلك مدرسة الإسكندرية الفلسفية، التي تميزتْ بنزعة فلسفية غنية بما أنتجَهُ فيلون الإسكندريّ من فكر في تفسير التراث اليهوديّ الدينيّ، وفي مقدمة ذلك التوراة، وما أنتجَتْهُ الفيثاغورية الجديدة، والأفلاطونية الجديدة، وغير ذلك من النزعات الفكرية التي كان لها دور كبير في تأسيس اللاهوت المسيحيّ[7]. يبيّنُ لنا هذا، التأثيرَ الثقافيّ العظيم الذي نتجَ عن عملية التلاقح، ودوره في ضخّ الحيوية، والنشاط في الاقتصاد والفكر، والأدب، واللغة، والفنون.
لم يتطرّقْ الشعر العربيّ القديم، قبل الإسلام، إلى شيء أبعد من الإحساس الرومانسيّ في تصوير نزعات الشوق، والحنين كما في رحلة امرئ القيس إلى القسطنطينية عاصمة الروم:
بكى صاحبي لما رأى الدربَ دوننا وأيقنَ أنّا لاحقانِ بقيصرا[8]
ولم يكشفْ أيّة عملية تفاعلٍ بين الذات والمكان، يمكنها تخطّي الحاجز النفسيّ:
أجارتَنــا إنا غريبــان ها هنــا وكلّ غريــب للغريــب نسيـــبُ
أجارتَنــا ما فــاتَ ليس يؤوبُ وما هــو آتٍ في الزمان قريـبُ
وليس غريباً من تناءتْ ديارُهُ ولكنَّ مَن وارى الترابَ غريبُ[9]
يعبّرُ النصّ عن حالة التململ، وعدم الشعور بالانتماء إلى المكان؛ فهو يفصح عن غربة موحشة، ويتخذُ من الجارة، محفّزاً أسلوبياً لبثّ زفرات الغربة كالتحسّر على الزمن الماضي، وعَقْد علاقة بين الغربة وعدم الانتماء من جهة، والغربة الأبدية (الموت) من جهة أخرى.
لكنَّ دخول المسلمين إلى الأندلس، كان لحظة مواجهة حقيقية ومبكّرة بين الغرب والإسلام المهاجر؛ فهي مواجهة حضارية وثقافية كرّستْ نمطاً من الكتابات المنفتحة على العلم، والحب، والأدب، والتصوّف. ومع ذلك، ظلَّ مخيالُ الشرق، وسحرُ شمسه نشيطيْن في رسم صورة للشوق، والحنين في كتابات المهاجرين العرب، وشملَ ذلك حتى الأمراء، فقد عبّرتْ أبياتُ عبد الرحمن الداخل عن حالة الانشطار النفسيّ بين مكانين مختلفين:
أيهـــا الراكــبُ الميمّـمُ أرضــي أقْرِ من بعضي السلامَ لبعضي
إنّ جسمي كما علمـــتَ بأرضٍ وفـــؤادي ومالكيـــه بأرض[10]
ثم عادَ بعاطفة أشدّ لوعةً وحنيناً، وقد أثارتْه نخلةٌ ليقول:
تبدَّتْ لنا قربَ الرصافـــة نخلــــةٌ تناءتْ بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلتُ شبيهي في التغرّب والنوى وطول التنائـي عن بَنيِّ وعن أهلـي
نشأتِ بأرضٍ أنت فيها غريبــــةٌ فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلـي[11]
وفي العصر الحديث، اخترقتْ مجتمعاتُ المهاجرين بنيةَ المجتمعات الحاضنة في البلدان المضيفة، فخلخلتْ تماسكها البنيويّ المحافظ على نمط معين من العلاقات، فوضعتْ بصمتها في الطابع الثقافيّ، والاقتصاديّ، والسياسيّ للمدن المتروبوليتانية؛ مثل باريس، ولندن، وستوكهولم، ومدريد، وبرلين، ونيويورك، وغيرها من المدن التي تضمّ خليطاً من الأعراق، والأديان، والأيديولوجيات، فأصبحتْ مكاناً للاختلاف الثقافيّ بين المجتمعات الغربية الحاضنة، وثقافات يحملها مهاجرون غرباء، وهو الاختلاف الذي كانت البلدان المتقدمة المضيفة ذات النزعة المركزية القوية تأملُ انحلاله أو تذويبه بمحلول المركزية الثقافية عن طريق اللغة الحاضنة، ومنظومة القيم الاجتماعية، والقوانين المتَّبعة في تلك المجتمعات، أو من خلال ممارسة سياسة الاندماج، والتكيّف، والاستيعاب، وسوى ذلك من المصطلحات التي هدفها ترويض الثقافات الجديدة، وتذويبها في ثقافة المركز.
لكنّ المجتمعات المهاجرة، لم تستجبْ كلياً لتلك المشيئة فجعلتْ نفسَها، ولاسيما في التقاليد الدينية، طرفاً في صراع هوياتي هو الصراع بين الأضداد، أو بين بنيتَيْن متباينتَيْن أشدَّ التباين. ويبدو، هذا الصراع، أمراً حتمياً وطبيعياً، فإذا اعتقدنا بنظرية صراع الأضداد للفيلسوف اليوناني هيراقليطس الذي كان يقول في شذراته الفلسفية الباقية من كتابه المسمى في الكلّ: "يجهل النّاسُ كيف يكون الشيءُ مختلفاً، ومتفقاً مع نفسه؛ فالائتلاف يقوم على الشدّ والجذب بين الأضداد" وإنَّ "الضدّ هو الخير لنا" و"الائتلاف الخفيّ أفضل من الظاهر"[12] يمكن لنا أنْ نرى الوجه الآخر لهذا الصراع الخفيّ والظاهر على حدّ سواء بين المجتمعين: الحاضِن، والمهاجِر. فقد برهنتْ هذه المجتمعات على سلامة منطق نظرية هيراقليطس في جدل الأضداد، من خلال صنْع مركَّب جديد سيكون موضوع اهتمام متزايد من الأنثروبولوجيا الثقافية، نظراً للدور الذي تلعبه الاختلافات الثقافية في حياة الدول المتقدمة التي فتحتْ أبوابَها للمهاجرين تحت ذرائع شتى.
تتعامل الثقافةُ العربية حالياً، مع المصطلح بارتباك واضح غير قادر على الحسم، ووضْع حدّ لاضطراب المفهوم، والاستقرار على مصطلح شامل يعبّر عن الحالة. فالدياسبورا Diaspora يتضمن دلالتَيْن:
- الشتات اليوناني، ويعني حالة إنشاء مستعمرات في ذروة حاجة اليونانيين إلى استثمار أموالهم في مرحلة تاريخية مزدهرة اقتصادياً، وحضارياً، وثقافياً.
- الشتات اليهوديّ، وهو مصطلح يتضمن الإشارة إلى اليهود في السَّبي البابليّ Babylonian Exile الذي ذُكِرَ في سِفْر دانيال[13]، ودلالة نازية تتمثل في سياسة هتلر ضدّ اليهود.
ولذلك، فإنّ هذا المصطلح الذي استعمله الدكتور عبد الواحد لؤلؤة لوصف حالة الشعر في المهجر الجديد في كتابه: (مدائن الوهم، شعر الحداثة والشتات) 2002، لم يضع حدّاً فاصلاً بين الدلالة القديمة والدلالة المستحدثة. فالشتات يتضمن دلالة التشتيت والتفريق التي مورستْ ضدّ اليهود كنوع من الاضطهاد الدينيّ.[14]
فنحن إذن، بإزاء حالة واحدة، ومصطلحات متعدّدة: فثمة من يستعمل المنفى. وهو، في ظني، مصطلح يتضمن دلالة سياسية خاصة؛ اقترنت بالكولونيالية عندما قامت سلطاتها بنفي المعارضين، والوطنيين، ودلالة قمعية تقوم على الإقصاء، والإبعاد، والطرد، مارستها النظم الاستبدادية ضدّ معارضيها.
والحقيقة، إنّ حالات الهجرة الجديدة ليست كلها بسبب قمع سياسيّ، وإنما لها أسباب اجتماعية، وثقافية أخرى. أما مصطلح الاغتراب Alienation فيشير إلى مرجعية فلسفية، وسيكولوجية معينة، فقد صاغه هيغل في: فنومينولوجيا الروح؛ بمعنى أنّ الإنسان إلهٌ مغترب عن ذاته، وأنَّ العالَـمَ "ماهية روحية"[15] تكون في وضعية اغتراب مستمرة. أما عند كارل ماركس،[16] فإنَّ النظام الاقتصاديّ والتكنولوجيا الحديثة جعلا نتائج نشاط الإنسان في العمل، والعلم، والأخلاق شيئاً مستقلاً وغريباً عنه، وهما يمارسان عليه هيمنة كئيبة على نحو تركَ عليه آثاراً نفسية عميقة جعلتْه لا يمتلك ذاته وغير قادر على التكيّف مع البيئة. فالملكية الخاصة جعلتْ ثمارَ العمل ملكاً لغير من ينتجُها، فكرّستْ نمطاً من السيطرة على النشاط البشريّ.
معظم كتابات المهاجرين صوّرتْ لنا سوق العمل بوصفه مجالاً للكفاح ضد جميع أشكال الإخضاعات القهرية التي تفرضها النظم الاقتصادية الجديدة
لذلك، لا أرى هذا المصطلح ينطبق على الحالة التي نريد أنْ نتحدّث عنها، فهو لا يقدّم الوصف الشموليّ الأكثر دقة، لأنَّ الاغتراب حالة طارئة في الحياة الاجتماعية، ترتبط بوضع اقتصاديّ معيّن. أما مصطلح (المهجر الجديد) الذي أقترحُه، فهو مشتقّ من كلمة الهجرة Immigration الأكثر تداولاً في الدراسات الثقافية، والأنثروبولوجية، والكولونيالية، ودراسات علم الاجتماع والتاريخ، وهو أكثر حيادية، وابتعاداً عن أيّ محمول إيديولوجيّ. إنه يتضمن دلالة ثقافية خصبة في الفن، والأدب، والفكر، ودلالة إنسانية، باعتباره يشمل كتابات مهاجرين اختاروا المهجر بعد أنْ تعرضتْ حيواتهم إلى الخطر بسبب الحروب والكوارث الاجتماعية. وتوصيفه بـ: "المهجر الجديد" هو لتمييزه عن المهجر القديم الذي أسستْه كتابات المهجر العربيّ منذ القرن التاسع عشر.
إنَّ الشيء المهم؛ بالنسبة إلى الكتابة في "المهجر الجديد" هو أنها بدأتْ تتأثّر بالحياة الجديدة للمهاجرين، وبنظم المجتمعات الحاضنة. فقد تركَ العامل الاقتصاديّ ظلاله على الكتابات الجديدة متماهياً بالعامل السيكولوجيّ؛ فالمهجر الجديد خلقَ ظروفاً للتفكير في الكيفية التي ينخرط فيها المهاجر في نوع محدّد من سوق العمل طبقاً لإمكانياته ومؤهلاته وخبراته السابقة.
ولذلك، فإنَّ معظم كتابات المهاجرين صوّرتْ لنا سوق العمل بوصفه مجالاً للكفاح ضد جميع أشكال الإخضاعات القهرية التي تفرضها النظم الاقتصادية الجديدة كلياً على المهاجرين. وتفرضها تقاليد العمل الغريبة عنه. وعليه، فقد كان عليه أنْ يتقبّل نفسياً، وسلوكياً أخلاقيات هذا النظام من قبيل: Invisible hand حيث ستكون لهذه "اليد الخفية" إمكانية التنظيم اللاشعوريّ للاقتصاد، وتحقيق التوازن العام عَبْرَ تحقيق المنفعة أو المصلحة الخاصة أو الدافع الشخصيّ self-interest[17]. فالكفاح الاقتصاديّ للمهاجرين، كان ثيمة للعديد من الأعمال الأدبية كرواية: الرجل الخراب[18]، لعبد العزيز بركة ساكن التي رصدتْ مشكلة من مشكلات العمل، وهي القيام بعمل يتعارض مع التقاليد، حيث ما يزال المكان القديم يمارس ضغطه، وهيمنته. لكنّ درويش، بطل الرواية، كان مجبَراً للقيام بنوع من النشاط الاقتصاديّ الذي سوف يؤسس شكل حياته الجديدة، وسوف يدمّرها في الوقت نفسه، تدميراً كلياً في نهاية المطاف.
إنّ أسلوب الاقتصاد النيوليبراليّ، الذي تزامن ظهوره مع الموجات الجديدة من الهجرة، ينظر إلى الهجرة بوصفها ظاهرة اقتصادية في المقام الأول، فيسعى إلى استثمار طاقات المهاجرين المتعطشين للعمل، واستغلال معتقداتهم المشتركة كالعادات، والقيم، والمواقف، في تنمية العمل، وتحقيق الأرباح، وتحفيز النموّ الاقتصاديّ، وتحسين المؤشرات الاقتصادية. لهذا، كان توجّهُ البلدان المتقدمة التي تعاني من الركود، وبعض المشكلات الاقتصادية، منذ بداية التسعينيات، هو استقبال أعداد كبيرة من المهاجرين الجدد لغرض دعم سوق العمل، وزيادة النموّ، وتحقيق المكاسب الاقتصادية.
وهكذا، أصبحت "الكتابة الجديدة" للمهاجرين تحاول أنْ تصوّر نمط الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، وتقاليدهما، وقوانينهما في المهجر، وتصوّر مشكلة الاندماج Integration والانتماء، وعلاقتهما مع الكينونة، فدرويش الذي غيّرَ اسمه إلى (هاينرش) لغرض الاندماج، وعملَ: "مخرّياً للكلاب" لدى سيدة عجوز، بقيَ في داخله (درويش)، وعاشَ لحظات عنيفة من الصراع الداخليّ، بسبب الاختلاف بين منظومتين من القيم التي جعلت اندماجَه مستحيلاً؛ نتيجة الحواجز، والعوائق التي تخلقها الاختلافات الثقافية، وتَحُولُ دون اندماجه.
إن السلوك الاقتصاديّ للمهاجر، لا تُحدّده الرغبة أو المؤهلات الذاتية، وإنما ثمة نظام نيوليبراليّ يفرض فيه القطاعُ الخاص أو الشركات، والمؤسسات غير المملوكة للدولة شروطها القاسية، ولذلك، فإنَّ الطبقة الأكثر تضرراً من ذلك هم الكتّاب، والمثقفون وأساتذة الجامعات الذين لم يجدوا البيئة المناسبة لاقتحام سوق العمل الخاضع بشكل كبير لسياسة القطاع الخاص الذي يبحث عن الفائدة، والمنفعة، والأرباح في المقام الأول.
كلّ ذلك تركَ تأثيراً كبيراً في الرؤية التي تحملها كتابات المهجر الجديد، فكانت انعكاساً صادقاً لأحاسيس الحنين، والوحدة، والغربة، والحزن الذي ينمّي شعوراً وجودياً مسكوناً بالقلق، والتوتر الدائمين، وبالتالي، صيغ نمط من الكتابة قادر على تَمثّل حالة الكينونة القلقة. ولذلك، فإنّ هذه الكتابة، اختلقتْ ما أسميتُه في دراسة أخرى: الفضاء المستعاد الذي هو استعادة متخيّلة للفضاء الأصليّ من خلال خلْق سلسلة تخيلات، وتصورات ذات توهّج عاطفيّ مشحون؛ يُستعادُ، من خلاله الزمانُ والمكانُ القديمان، والتجاوب معهما وجدانياً عبْرَ استحضار الصور، والأشخاص، والأفكار، والوقائع، والتقاليد، والقوانين، والفنون، والآداب، واللغة المحكية، والموروث الشعبيّ.
واستنادا إلى ذلك، فإنَّ "الاستعادة" هي طوق النجاة أو طريقة لخلْق عالَــم متخيَّل والعيش فيه وجدانياً. فأصبحت لغة الكتابة تمتصّ ذلك الشعور، وتعكسه كمرآة مخدوشة عبْرَ فعل الاستعادة.
إنّ الكتابة الجديدة، تناولت الاختلافات الثقافية والحضارية بين الشرق والغرب بالطريقة الرمزية التي عالجها الطيب صالح في: موسم الهجرة إلى الشمال[19]، ثم بطريقة أكثر تركيزاً على الجوانب النفسية، والتقاليد الاجتماعية في رواية الحبيب السالمي: روائح ماري كلير. فمنذ أنْ كتب الطيّب صالح روايته المميزة أصبحت موضوعة الصراع الحضاريّ بين الشرق، والغرب تتبدى في التفاصيل العادية للعلاقات الشخصية بين أبطال الرواية العربية المعاصرة، ولاسيما تلك التي كُتِبَتْ في المهجر الجديد[20].
وعلى الرغم من إرث الشعور الثقيل والكئيب بالغربة الذي صوّره المتنبي:
ولكـنّ الفتـى العـربيّ فيـها غريب الوجه واليد واللسان[21]
إلا أنّ المهاجر الجديد، بدأ يتشاركُ المكانَ، واللغة، وامتزاج الدم مع السكان المحليين، ولذلك، كان الحيّز الثقافيّ الذي تنطلق منه الكتابة الجديدة أكثر غنى وتفاعلاً مع الثقافة، والتكنولوجيا، والاتصال بالأفكار، والنظريات. فالمكان الجديد، استحدثَ إشكاليات أخرى أصبحتْ تشكل تحدّياً لهذه الكتابة التي حاولت، في السرد، على وجه الخصوص، أنْ تكشف عن وعي آخر لإدراك العلاقة المعقّدة مع الغرب، من خلال استثمار عامل الحرية لإعادة قراءة كل الملفات، والموضوعات التي لم يكن تناولها، وكشف خباياها- سابقاً- أمراً ممكناً.
لذلك كله، فهي كتابات تعبّرُ عن التحدّي، والتمرّد، والنقد الذاتيّ، والموضوعيّ في آنٍ. وبسبب ذلك، أصبح هذا النمط من الكتابة موضع اهتمام علوم عديدة منها: النقد الثقافيّ، الأنثروبولوجيا، السياسة، السوسيولوجيا، التاريخ، والاقتصاد.
[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 52
2- يقول بيل أشكروفت: "لقد تشكلتْ حياة ما يزيد على ثلاثة أرباع شعوب العالم من خلال الخبرة الكولونيالية". ينظر: الردّ بالكتابة، ترجمة: شهرت العالم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2006، ص. 15
3- أُخِذَ مفهوم التابع subaltern من إحدى مقالات غرامشي المكتوبة في 1934 بعنوان: على هوامش التاريخ: تاريخ الجماعات الاجتماعية التابعة On The Margins of History: History of the subaltern social Group ويستعمل غرامشي: تابع، بالتبادل مع: خاضع Subordinate وأداتي Instrumental وهذا مناسب إلى حدّ كبير لوصف تنوع الجماعات الخاضعة للاستعمار، والمستغَلَّة، والمصنَّفة من قبله بأنها في مرتبة أدنى. واستعملتْ سبيفاك المصطلحَ في ترجمتها كتاب جاك دريدا: علم الكتابة، متأثرةً في ذلك بأفكار جماعة دراسات التابعين التي تستعمل المصطلح لكتابة تاريخ جديد يحاول وصف "الإسهام الذي يقدمه الناس بأنفسهم، أي مستقلين عن النخبة، وهي الجماعات المهيمنة، خارجية كانت أم داخلية التي احتكرت حتى ذلك الوقت تاريخ النزعة القومية الهندية". ينظر: أساطير بيضاء، كتابة التاريخ والغرب، روبرت يانج، المجلس الأعلى للثقافة، ص326. وقد ظهر هذا المفهوم لأول مرة في العام 1982، إذ صدرت مجلة بالاسم نفسه بتحرير: راناجيت جحا Ranajit Guha. وأراد عدد من المؤرخين والكتّاب والنقاد الهنود، أنْ يعيدوا كتابة تاريخ الهند من خلال وجهة نظر التابع، لا من خلال وجهة النظر الرسمية أو من خلال السرد الكولونيالي، مشددين في ذلك على الأرشيف الشفاهي للأمة الهندية.
4- See: Subaltern Studies, Neil Rogall, From Newsletter, London Socialist Historians Group, No Autumn 1998, P.2-3 Historiography.
5- فكرة "المعجزة الإغريقية" نشأت في عصر التجديد الذي كان رواده يرون أن العلوم والمعارف الإنسانية ولدت ونشأت في اليونان مع الفلسفة اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد، واستمرت خلال الفترة الهلنستية، وتناولت مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك الفلسفة السياسية، والأخلاق، والميتافيزيقيا، علم الوجود، والمنطق، وعلم الأحياء والبلاغة، وعلم الجمال (ويكيبيديا).
6- ينظر: قصة الحضارة، ديورانت، ترجمة محمد بدران، مج3، ج7، دار الجيل، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1953م، ص. 9
7- أطلق هذا التعبير جورج سارتون في: تاريخ العلم، مجموعة مترجمين، ج1، دار المعارف، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1991م، ص. 287
8- ذكرَ جورج سارتون أنّ تلك الهجرات كانت بعد سقوط طروادة بستين سنة، وكانت تلك الهجرات دافعاً لهجرات أخرى أهمها هجرة الدوريين، وهجرة الأيونيين. ينظر: تاريخ العلم، ج1، ص. 237
9- درسَ إميل برهييه الفكر الفلسفيّ عند فيلون الإسكندريّ بالتفصيل في كتابه البالغ الأهمية: الآراء الدينية والفلسفية لفيلون الإسكندريّ، (القاهرة 1954) كذلك تحدّث عنه وعن الأفلاطونية الجديدة في موسوعته الفلسفية في الجزء الخاص بــ: (الفلسفة الهلنستية والرومانية) ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، 2016، ص. 324
10- ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، بيروت، لبنان، ط.5، ص. 65
11- البيت الأول موجود في تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، لكنّ البيتين التاليين وردا في تحقيق: عبد الرحمن المصطاوي من دون تخريجهما، طبعة دار المعرفة، 2004، ص. 83
12- ابن الأبّار: الحلّة السيراء، تحقيق: حسين مؤنس، ج.1، دار المعارف، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1985م، ص. 36
14- الفقرات (45، 46، 47) على التوالي حسب ترقيم برنت، من كتاب هيراقليطس المسمّى: في الكل، وهي تلخّص شطراً من فلسفته في التضاد التي سيكون لها تأثير كبير في الفلسفة الحديثة ولاسيما في فلسفة هيغل وفي الفلسفة الماركسية. الفقرات منشورة ضمن كتاب: فجر الفلسفة اليونانية، أحمد فؤاد الأهواني، دار الكتب المصرية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1954، ص. 107
15- ينظر تعريف Diaspora في قاموس وبستر Merriam Webster أونلاين، الذي يشير إلى المعاني المختلفة لهذا المصطلح الذي يشمل بالإضافة إلى "السبي البابليّ" هجرة الأقوام الأفريقية بعيداً عن أوطان أجدادهم بعد استعمارها من قبل الأوروبيين. وينظر: سِفْر دانيال، 1/1. يرجى العودة للرابط الرقمي: https://www.merriam-webster.com
16- يقول الدكتور عبد الواحد لؤلؤة: "في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، تفاقمتْ ظاهرة غير صحية في المجتمع العربيّ، اتخذتْ شكل الاغتراب عن الوطن والعيش في بلاد غريبة لأسباب ودوافع شتى. وكان من بين المغتربين عدد كبير من الشعراء والأدباء تفرقوا في شتات عجيب في أقاصي المعمورة، وحملوا معهم ثقافتهم التي بدأتْ تتأثر، بدرجات متفاوتة، بثقافات، ولغات بلاد الشتات". ينظر: مدائن الوهم، شعر الحداثة والشتات، دار رياض الريس، بيروت، لبنان، ط.1، 2002، ص. 10
17- ينظر كتاب: فنومينولوجيا الروح، هيجل، ترجمة: ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2006م، ص. 513
18- تحدّثَ ماركس عن الاغتراب في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية 1844، إذ يعيش الإنسان اغترابه في "الدولة البورجوازية القائمة على أساس الملكية الفردية". ينظر كتاب: الموسوعة الفلسفية العربية، ج.1، معن زيادة، مركز الإنماء القوميّ، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، ص.83
19- هذان مصطلحان من مصطلحات آدم سميث الذي يُعدّ أحد آباء الاقتصاد الليبراليّ الكلاسيكيّ، ذكرهما في كتابه "نظرية الشعور الأخلاقيّ: The theory of moral sentiments" فهو يعتقد أنّ الحرية الاقتصادية للأفراد تمتلك، ذاتياً، القدرةَ على التنظيم، وتحقيق المصلحة، وهذا من شأنه أنْ يحقق التوازنَ بين المصلحة الخاصة، والمصلحة العامة.
20- عبد العزيز بركة ساكن: الرجل الخراب، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، مصر، 2015
21- الشمال ليس مجرد كلمة ذات دلالة جغرافية في رواية الطيب صالح وإنما هو كما يقول جورج طرابيشي: "شمال الفتوحات الكولونيالية والاستعمار والامبريالية، شمال الرأسمالية الغربية". ينظر: شرق وغرب، رجولة وأنوثة، دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية، دار الطليعة، ط4، 1997، ص. 144. ومصطفى سعيد، بطل الرواية، المولود في سنة اجتياح القوات الانكليزية للسودان والمفعم برمزية روحانية متجذرة في حضارة الشرق سوف يصطدم بمادية متجذرة في حضارة الغرب. ولذلك، يعتبر رمزاً ثقافيّاً أكثر مما هو شخصية حقيقية، فهو يصرخ في قاعة المحكمة: "هذا المصطفى سعيد لا وجود له، إنه وهم، أكذوبة. (ص. 36). وأجاب في قاعة المحكمة عن سؤال المدعي العام:
- هل قتلتَ جين مورس؟
- نعم، قتلتها عمداً. (الرواية، ص. 36)
لذلك، خاطب البروفيسور ماكسويل فستر كين المحكمةَ قائلاً: مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل، استوعبَ عقلُه حضارةَ الغرب، لكنها حطمتْ قلبَه. (الرواية، ص. 36)
22- "إنّ محفوظ الفوضويّ، بطل الرواية، الأستاذ الجامعيّ الذي يعشق شعر الصعاليك العرب، وجد نفسه يرتبط بامرأة أوروبية تتصرف بنظام صارم وعقلانية مفرطة في إدارة شؤون العلاقة بينهما. غير أنّ هذا التعارض، كان نقطة صدام أولى تطوّرت باتجاه مزيد من الاختلاف في وجهات النظر". من مقالتي: روائح ماري كلير: التعايش الحضاري المستحيل، منشورة في صحيفة العالم.
23- ديوان المتنبي، طبعة دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1983م، ص. 541