اللاهوت العربي : معالم وحدة دينية في تجلّيات متعدّدة
فئة : قراءات في كتب
اللاهوت العربي : معالم وحدة دينية في تجلّيات متعدّدة
حاشية على متن الكتاب:
يُعدّ كتاب "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني" للمفكّر "يوسف زيدان"، والصادر عن دار الشروق المصرية سنة 2009 من المؤلّفات التي صنعت الحدث في الساحة العربية، أولاً لبلوغه الطبعة الثامنة قبل أن يتمّ عامه الرابع، وثانياً لكونه السبب وراء اقتياد مؤلّفه إلى ردهات المحاكم ودهاليز القضاء بتهمة ازدراء الأديان.
عمل يوسف زيدان في هذا الكتاب على تسليط الضوء على ثلاثيّة الدين والعنف والسياسية، من خلال محاولة إدراك ارتباط الدين بالسياسة وبالعنف الذي لم يخلُ منه التاريخ، وذلك بالاستناد إلى الأواصر المضمرة بين التاريخ اليهودي والتاريخ المسيحي والتاريخ الإسلامي. فالباحث عمد ـ على حد قوله ـ إلى "رصد الوصلات العميقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، والبنيات العامة الحاكمة، والارتباطات العميقة ذات الجذور التاريخية المطمورة بين الدين والسياسة وبين الدين والعنف". وذلك بالنظر في هذه التواريخ، باعتبارها تاريخاً واحداً ارتبط بالجغرافيا، وتحكّمت فيه آليّات واحدة، لا بدّ لنا من إدراك طبيعة عملها في الماضي والحاضر.
حرص الباحث على اجتراح مسار جديد في البحث بعيداً عن المحاولات التوفيقية أو التلفيقية من هذا الطرف أو ذاك في مقاربته لأصول العنف الديني في الديانات الإبراهيمية الثلاث، انطلاقاً من نصوصها المقدّسة وشواهد تاريخها، واقتراح حلول لهذا المسار، والتأسيس لأفكار من جملتها أنّ علم الكلام الإسلامي امتداد للفكر السائد في المنطقة العربية التي أفرزت اللاهوت العربي المسيحي. وذلك بقراءة التاريخ من منظور جغرافي حتّم عليه اعتماد حفريات في تطوّر مفهوم اللاهوت، وعليه فهذا الأخير يظهر في مؤلفه بنسب جغرافي إلى المكان فسمّي عربياً، لا يهودياً ولا مسيحياً ولا إسلامياً.
العنف الديني: علاقة تبادليّة ثلاثيّة الأبعاد
يُعدّ التماسّ بين دائرتي الدين والسياسة، وما يتمخّض عن ذلك من مواجهات تفضي بالدين إلى العنف، قضية محورية نظراً لأنّ كثيراً من قضايا المجتمع الإنساني القديم والمعاصر تدور حولها في دوائر شبه متماثلة في أغلب الديانات والعقائد.
وحتى عندما اختلف مدار الدين عن مدار السياسة - إذ الدين يجسّد شكل العلاقة بين الله والإنسان، وله منزع فرداني يقوم على العلاقة المباشرة بينهما، في حين تنصبّ السياسة على السلطة والحكم فرديّاً كان أو جماعيّاً، ما يجعلها ذات نزوع جمعي، فهي لا تتمّ إلا في جماعة إنسانية - يظلّ التداخل قائماًفي المدار العام بين المجالين؛ فالسياسة لا يمكنها ضبط الجماعة إلا بضبط الفرد، والفرد لا يؤسّس يقينه الديني الخاص إلا من قدسيّة الدين داخل الجماعة.
يدعم الباحث رؤيته هذه باستقراء تاريخ الأديان الإبراهيمية الثلاثة؛ لا من باب الدراسة المقارنة الجوفاء التي ينظر إليها بعين الشكّ والريبة، لأنّ الديانات الثلاث في نظره، إنّما هي تجلّيات مختلفة لديانة واحدة هي الملّة الإبراهيمية، ولأنّ دوائر هذه الديانات متداخلة إلى الحدّ الذي ينمّ عن أثر كلّ ديانة من هذه الديانات في تصوّر الديانة اللاحقة عليها لمفهوم الألوهيّة، بل إلى الحدّ الذي قد يجعل ديانة سابقة تتأثر بديانة لاحقة عليها في تشكيل تصوراتها العقدية، وإنما للتأكيد على أنها شهدت المسار التأسيسي نفسه .
إذ يكون البدء بالعنف الموجّه من السلطة القائمة ضدّ الدين الجديد حماية لنفسها وحفاظاً على أمنها واستقرارها. ويكون الردّ بخروج هذه الثلّة المستضعفة أو هجرتها كأسلوب لمواجهة العنف المسلّط ضدّ الدين (الصبر، الرضى، التحمّل...)، وفي هذه الأثناء يستثمر الدين هذا الهروب؛ أولاً لزيادة الأتباع وضمان الأنصار وحشدهم للمواجهة، وثانياً لطمأنة السلطة بانتهاء فزّاعة الدين وقدرتها على كسر شوكته؛ لتكون النتيجة بعد ذلك عودة الدين لانتزاع السلطة أو اقتسامها بعد فشل العنف.
اللاهوت العربي: وحدة الأصل وتعدّد التجارب
قدّم يوسف زيدان في عمله هذا نقداً شاملاً لأوليّات الفكر الديني عند الديانات الإبراهيمية الثلاث، وهو إذ يقوم بذلك ينبّه في مستهلّ كتابه إلى أنّ هذا المؤلَف لم يوضع للقارئ الكسول فيقول: "لم يوضع هذا الكتاب للقارئ الكسول، ولا لأولئك الذين أدمنوا تلقّي الإجابات الجاهزة عن الأسئلة المعتادة، وهو في نهاية الأمر كتاب، قد لا يقدّم ولا يؤخّر"، إنّما القصد منه الدعوة إلى البحث وعدم قبول الجاهز من المعرفة والركون إليها، والسعي فيما وراء تاريخها، وعدم الاكتفاء بالكتاب كإجابة جاهزة عن الأسئلة التي تتصارع في النفوس، جرّاء التضاد الظاهر للعقائد والأديان ذات الجوهر الواحد.
ويستهلّ كتابه بمقدمة ضمّنها ثمانية أقوال افتتاحية يثير فيها أهمّ النقاط التوضيحية التي تضمّنتها فصول مؤلفه، مثل نفيه صفة السماويّة عن الديانات الإبراهيمية الثلاث، مشيراً إلى أنّالأوائل لم يدرجوا على إطلاق هذه الصفة عليها، وإذ يحدّثنا عن منهج الكتاب يؤكد أنّه لا يعتبر أنّ هناك مقارنة فعليّة للأديان، وإنّما الأصوب هو التقارب أو التقريب بينها مع توفّر عنصر التجرّد من الميل الذاتي، ليصل بنا إلى الفرضية الأساس التي يقوم عليها الكتاب؛ وهي ارتباط التديّن بالعنف، وإدراك الروابط بين المراحل التاريخية للديانات الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام.
وقد اعتمد زيدان في بحثه عن تلك الروابط على مرتكزين أساسيين، على هديهما كشف مظاهر الاتّباع في هذه الديانات؛ أحدهما الكشف عن أثر المخزون التراثي للشعوب في تصوّر مفهوم الألوهيّة للديانات الجديدة، كما حدث في تأثير الثقافة المصرية والرومانية في تشكيل اللاهوت اليهودي والمسيحي، وكذلك تأثير طبيعة العقلية العربية في تطوّر هذين المفهومين من خلال رفضها للتصوّرين السابقين وتقبّلها للتصوّر الإسلامي. والآخر رصده لحالات الرفض لتلك التصوّرات نتيجة لاختلاف طبيعة العقلية عن متطلبات التصوّر اللاهوتي، وهي الجماعات التي عرفت في المسيحية بالدعوات الهرطوقية، وأشير إليها في الإسلام بالخوارج.
تضمّن الكتاب جملة من الأفكار المستفزّة للعقول عند قراءتها لأوّل وهلة دون إمعان النظر وتعميقه في حمولتها المضمونيّة، ومنها مسألة التوحيد التي يقول عنها: "يطيب للكثيرين وصف الديانات الثلاث بأنها ديانات (توحيديّة)، لأنّها دعت إلى عبادة الله الواحد، في مقابل الديانات الأخرى القائلة بتعدّد الآلهة. غير أنّ صفة التوحيد ليست هي المعبّر الجوهري عن وحدة الديانات الثلاث"، وكذلك الأمر في موضوع الوثنية التي يرى أنه "لا يشترط أن تكون كلّ الديانات التي تحتفي بالتماثيل بالضرورة (وثنية)؛ فالديانة البوذية مثلاً تحتفي بأصنام بوذا لكنها لا تقدّسها" مستشهداً على ذلك بوثنّيي قريش الذين عبدوا الأصنام تقرّباً إلى الله.
وتبقى حجّة الباحث في كلّ ما يذهب إليه من قول تأكيده ضمن صفحات الكتاب، وأيضاً في العديد من الحوارات على أنّ "هناك مناطق في التاريخ البشري الفكري لا تزال مغيّبة وغامضة، بل من الممكن القول إنها ملغومة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، واعتاد الناس أخذ ما ورد لنا من تلك المناطق على علاته بما فيه من مفاهيم ومعان يتمّ التعامل معها على أنها مسلّمات، ولذلك أردتُ مساعدة القارئ الواعي الباحث عن المعرفة، الراغب في التعرّف على حقيقة الدين، وتقديم رؤية تساعد في التعرّف على البحث اللاهوتي والدراسات الكلامية، رغم معرفتي بكراهية البعض مسبقاً لما فعلت".
بينما يبقى الكتاب سهل الاستيعاب، إذ بالرغم من صعوبة الإشكالية المطروحة فيه إلا أنّ غير المتخصّص سرعان ما سيجدُ ذاته فيه؛ لأنً صاحبه قد بذل مجهوداً كبيراً في صياغته الأسلوبية، بالرغم من صرامة الموضوع وعسر المصطلحات اللاهوتيّة والكلاميّة التي لقيت عناية شديدة من لدنه تحديداً وضبطاً. وعمل زيدان بموازاة ذلك على البساطة لا التبسيط على مدار فصول الكتاب السبعة من خلال حرصه على إبراز جوانب من الفكر العربي قبل الإسلام، بعكس ما يروّجه مصطلح عصر "الجاهلية" الذي تفهم منه الأغلبية أنها فترة انعدام للحضارة العربية. كما قدّم عرضاً مفصّلاً لتاريخ الهرطقة المسيحية، وأصحابها ولاهوتهم وفرق الكنائس المسيحية، وآخر لعلم الكلام منذ ظهوره من مرحلة الآباء الأوائل إلى حين تصفيتهم بتسلسل ودقّة مع تبيان أفكارهم.
وحرصاً منه على تبيان أطروحته عمد إلى إعطاء نصوص كثيرة مقدّسة من الديانات الثلاث بمراجعها، لها صلة باللاهوت أو بالعنف الديني، دون أن يغفل عن تسليط الضوء على بعض المقاربات غير العلمية وغير المنطقية التي وقع فيها مستشرقون وعلماء مسلمون. ويسمح كلّ ذلك بإعطاء تحليل واستنتاجات ومقاربة جديدة ستفيد الجميع في الوصول إلى النتيجة نفسها، وهي أنّ العنف ليس في الدين، ولكن في التأويل وفي التديّن، سواءكان مسلماً أو يهودياً أو مسيحياً.
يقدّم لنا يوسف زيدان على امتداد سبعة فصول زاوية للنظر هي الكفيلة بضمان فهم أمثل لما يجري الآن في مالي وإفريقيا الوسطى ومصر والعراق ولبنان وأفغانستان والهند، وغيرها من مناطق النزاع والعنف الديني في العالم مشفوعة بخاتمة تحمل دعوة إلى ضرورة إدراك أنّ ما تحقّقه السياسة بوسائلها الخاصة لا يملك إليه الدين سبيلاً، في حين أنّ السياسة لن تقوم بذاتها بديلاً عن الدين، فما يحقّقه الدين ليقين الفرد، لا يمكن للسياسة أن تقوم به.