اللقاء الحواري الرابع حول كتاب "تجلّي الإله جدل الإلهي والإنساني في الثقافة الإسلامية" للدكتور أحمد محمد سالم بعنوان: هزيمة الفقيه في أرض الحداثة
فئة : حوارات
اللقاء الحواري الرابع
حول كتاب "تجلّي الإله جدل الإلهي والإنساني في الثقافة الإسلامية" للدكتور أحمد محمد سالم
بعنوان: هزيمة الفقيه في أرض الحداثة
تقديم: دة. ميادة كيالي
كلمة دة. ميادة كيالي:
دعوني أرحّب بكم جميعًا في لقائنا الرابع من سلسلة اللقاءات التي أطلقتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود منذ يونيو 2024، وهي مهمة لن نملّ من تكرارها لأهمية ما نقوم به في هذه مؤسسة من نشاطات، نحرص من خلالها على نشر المعرفة بكافة الطرائق الممكنة والمتاحة. فـ "لا أخفيكم أننا ومن خلال سلسلة الحوارات هذه، لمسنا تعطشَ جمهور مؤمنون بلا حدود، لنشاطاتها وحضورها المعرفي، وأهمية ذلك في خدمة الفكر الحر والنوعي".
أرحب بضيف حوارنا اليوم الدكتور أحمد سالم، وهو أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي الحديث في جامعة طنطا – كلية الآداب (قسم الفلسفة). صدر له ما يزيد عن خمسة عشرَ كتاباً من ضمنها كتاب "تجلّي الإله جدل الإلهي والإنساني في الثقافة الإسلامية"، وهو موضوع لقائنا اليوم. كتب العشرات من الأبحاث والمقالات لمواقع وجهات بحثية وأكاديمية مختلفة من بينها بالطبع، موقع مؤمنون بلا حدود. هذا بالإضافة إلى مساهمته في تحرير موسوعة أعلام المصريين في العصر الحديث بمكتبة الإسكندرية وإشرافه على العديد من الرسائل العلمية لدرجات الماجستير والدكتوراه بكلية الآداب جامعة طنطا وجامعات أخرى (جامعة عين شمس، والفيوم، وسوهاج، والمنوفية، والزقازيق).
وبالتأكيد أرحب بالدكتور حسام الدين درويش الذي سيدير الحوار مع ضيفنا الكريم حول كتاب تجلّي الإله الذي صدر عن مؤمنون بلا حدود لسنة 2024، في مئتين وأربعٍ وأربعين صفحة، بقياس 17x 24.
يتناول الكتاب بالدرس فكرة أنّ الإله المطلق لا يتجلى للإنسان بشكل مطلق، بل يتجلى وفقًا لقدراته المعرفية المحدودة، مما يؤدي إلى انقسامات في الآراء حول طبيعة الإله وتجلّياته. ومن ثمة، باشر المؤلف في عرض موضوعات فلسفية ودينية حول مفهوم الإله وتجلّيه في الفكر الإسلامي؛ مبيناً أنّ كل فريق يعتقد أنه وحده الذي يدرك حقيقة الإله، وبدلاً من أن يكون الطريق إلى الله قائماً على المحبّة والتسامح، صار الطريق إلى الله سبيلاً للصراع بين البشر.
ولذا قامت الحروب وسالت الدماء بين الأديان والمذاهب، وكلها معارك تقوم باسم الإله على الأرض؛ لأنّ كهنة كل دين يبثون في أتباعهم أنَّهم أصحاب الحق المطلق في تصور الإله وفي ملكية حقيقة الدين. لذلك، تكلّف البعض منهم بمهمة الإنابة عن الله في الأرض، وجعلوا من أنفسهم وكلاء عنه. ينهض الكتاب على مقدمة وثلاثة فصول رئيسة؛ أوضح الدكتور أحمد في المقدمة العلاقة بين البُعد الإلهي والإنساني في الفكر الإسلامي وأهمية فهمها، كما ناقش السياقات التاريخية والثقافية التي شكلت هذه العلاقة.
خصص الكاتب الفصل الأول: تجلّي الإله في مدونات علم الكلام، بالنقاش لتجلي الإله وفق مفاهيم أساسية في التفكير الديني، ومنها الإله بين الإلحاد والإيمان، الإله بين الثنوية والتوحيد، الإله في الجدل اللاهوتي بين الأديان الإبراهيمية، ثم الإله من العقائدي إلى السياسي، ما يعكس صراعات إيمانية مختلفة، تبين كيفية تصوّر الإنسان لله وتجلياته.
ووقف في الفصل الثاني: تجلي الإله في مدونات الفقه وأصوله، عند أصول الفقه وتقييد فاعلية العقل، والفقه والسيطرة على المجال العام باسم الله، ثم الفقه وعلاقتنا بالآخر المغاير في الدين، وموقف الفقه من المرتد إلى الآخر المغاير في المذهب، وأخيرًا الفقه في رياح الحداثة.
أما الفصل الثالث: تجلي الإله في مدونات التصوف، فتناول فيه بالدرس عدة عناصر جمعت بين علم الكلام والفقه إلى التصوف، مبرزًا أن تجلّي الإله يبدأ من النفس الإنسانية، التي تتفاعل مع الخوف والمحبة، ما يعكس تجربة روحية شخصية.
وخلص في خاتمة الكتاب إلى توصيات أكد فيها على كيفية تعميق الفهم والتفاعل مع العلاقة بين الإلهي والإنساني في المستقبل.
لقد ركز الكتاب على تحليل عميق للتجليات الإلهية وكيفية تأثيرها على الفكر والثقافة الإسلامية، مع تسليط الضوء على الاختلافات والتجاذبات بين مختلف المدارس الفكرية في الإسلام.
أتمنى للقائنا الرابع اليوم كلّ النجاح، وأن يحقق المقصود منه، ونكون في المؤسسة دائماً على قدر محبتكم وثقتكم.
أرحب بكم مجدّداً وأنقل دفة الحوار للدكتور. حسام الدين درويش.
د. حسام الدين درويش:
شكراً للدكتورة ميادة على التقديم المكثف والمهم لكتاب الدكتور أحمد، ومساء الخير للجميع، ومساء الخير للدكتور أحمد. سعيد جدّاً بحضورنا مع بعض، وسعيد بهذا اللقاء الذي سمح لي ﺑ (إعادة) قراءة الكتاب، والتفكير في بعض النقاط؛ لأن الكتاب تناول بالفعل الكثير من المسائل المهمة، التي تبدو، من ناحيةٍ أولى، تبدو عابرةً للتاريخ، وهي مسألة يمكن مناقشتها لاحقا؛ وتبدو، من ناحيةٍ ثانيةٍ، راهنةً جدّاً، وتمس واقعنا المعاصر الذي نعيشه. دعني د. أحمد أبدأ بسؤال كلاسيكي، وهو سؤال مناسب لافتتاح هذا اللقاء، وأقصد هنا، فكرة الكتاب، متى بدأت؟ وما قصتها؟ وكيف تطورت إلى أن تبلورت مع صدور هذا الكتاب؟
د. أحمد محمد سالم:
شكرًا لك د. حسام، وشكرًا للدكتورة ميادة على جمعنا اليوم، وهي التي ساعدتني على نشر الكتاب، أحبّ بدء حديثي بكيف تخلّق الكتاب. كنت أذهب إلى محاضراتي في الجامعة، وأحاضر المحاضرات، فإذا ببعض الطلاب يرفضون فكرة الإيمان، وعدم الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ويطرحون نقاشات داخل المدرج، تنم على عدم قناعتهم بمسألة الدين ووجود الإله. كنت أرى زملاءهم يعنفونهم في المدرج، ولا يسألون أنفسهم لماذا هذا الطالب أو ذاك، يجاهرون بنفي الإله وعدم الاعتقاد، وكنت أفتح المكتب لسماع طلابي هؤلاء. وجدت نفسي أمام قضية الاعتقاد الديني، فعبر التاريخ الإلحاد محايث للإيمان، ولا يوجد إيمان إلا وتحته إلحاد. كانت أسئلة الطلاب تطرح علي، وكنت أعود إلى المنزل، وأفكر لماذا يتخلق المد الإلحادي في مصر والمنطقة في هذه الحقبة. أعود إلى المنزل، وكانت مسألة الاعتقاد، هي كيف تقدم صورة الإله لهؤلاء؟ ولماذا ينفر الطلاب والشباب من الطريقة التي يقدم بها الإله في منطق الاعتقاد؟ وهذا أمر كان يشغلني معظم الوقت، والأمر الآخر هو أنني حين أسمع ما يحدث في الاجتماع المصري، أجد أن السلطة الزمنية في مصر تطلب الإصلاح في الفقه، وأن الاجتماع ينادي بقرارات جديدة؛ لأن اللحمة الاجتماعية في مصر فيها أمراض كثيرة، نريد أن يكون الزواج كتابيا، وأن يكون الطلاق كتابيا. هنا طلب المؤسسة الزمنية والسلطة السياسية في مصر، قد لا يلقى بالا لدى السلطة الدينية، وهناك تحسب عن عدم الاجتهاد لكي تسير حركة الواقع والاجتماع. فهذا الأمر وأمور أخرى، كانت تلفت نظري في التحول الذي يحدث في المملكة العربية السعودية في مسألة أن المتن الوهابي يتغير بشكل أو بآخر مع الأمير الجديد، ويتم تغيير واقع الاجتماع في المملكة، وهذا أمر إيجابي. هذه التحولات في واقع المجتمع كانت تفرض عليّ التفكير في مسألة مشاكل كثيرة مثل الزواج المختلط والأنساب وأطفال الشوارع ومشاكل اجتماعية كثيرة، لم يتطور الفقه الإسلامي بما يوافق تطور حركة الاجتماع الجديد؛ لأن الفقه الإسلامي فقه مواضعة، تم وضع الفقه الإسلامي لتطور حركة الاجتماع في تاريخه. إذا تجدد الاجتماع وعجز العلماء عن الاجتهاد بما يوافق تطور الاجتماع، فسيخلق الاجتماع قانونه المنفلت بعيدا عن الشريعة. كان هذا الأمر يلفت نظري حول لماذا لا يتطور الفقه عبر التاريخ كما كان يتطور في سابق الزمان؟ ومن المهم جدّيًا أن أفكر بجدية حول كيف يكون الله سبيلا للمحبة والتعايش، وليس سبيلا للعنف والتنافر؟ إذا كان المشترك الواحد بين الأديان الإبراهيمية في الاعتقاد والأخلاق واحدًا، فقد تعددت التفسيرات داخل الدين الواحد، فتفرق مذاهب وطوائف. كما كانت الأديان الإبراهيمية في علاقتها، تقوم على التنافر في معظم الوقت. فكان طرح الإشكالية الكبيرة في ذهني: كيف يتجلى المطلق في حدود الاجتماع؟ وكيف يرى النسبي، وهو الإنسان على الأرض، المطلق؟ هل يمكن فرض صورة واحدة لحضور المطلق في الاجتماع، أم إن المطلق نصًّا وتصورًا، متى انزاح في أرض الاجتماع المتغير، تعددت الصور؟
من هذا المنطلق، بدأت في جمع الداتا العلمية، وحضور نقاشات منها نقاش في صالون الدكتورة هبه دربالة بالمنصورة، كنت أجمع الداتا وأطرح أفكاري، وأناقش الآخرين، لعلّي أستجمع ما يمكن تقديمه من رؤية شاملة. فالباحث عن الكتاب بدءًا من الجامعة ومن المجتمع، ومن التغيرات الحديثة المتسارعة على الأرض. استغرق جمع الداتا والنقاش ما يقرب من عامين، وتمت كتابة الكتاب النهائية في ستة أشهر. حقيقة، أنا أعتبر أن هذا الكتاب هو أحد أهم أعمالي. في نشرته السابقة، دفنت الكتاب بيدي، حين لم أمنحه لمن يستحق ليعرضه بما يستحق، فكنت حزينا؛ لأن الكتاب لم يلق في الأوساط العلمية الجهد المبذول. كان اتجاهي إلى الدكتورة ميادة راغبا في نشر الكتاب بمؤسسة مؤمنون بلاحدود لما تتمتع به من سمعة وخط واضح ومختلف في عملية النشر. والحقيقة أن الدكتورة ميادة، بعد فترة، رحبت بالكتاب، وكنت أرهق من المصحح في تصويب الكتاب، وفي التغيير، وكانت الدكتورة تقول لي: يا دكتور أحمد لدينا سيستم يجب أن تخضع له. وكانت سعادتي بالغة حين رأيت الكتاب في صورته النهائية، ولما أدركت أن الدكتورة ميادة تنفخ في المؤسسة من روحها الإنسانية أملا في إعادة تنشيط المؤسسة. فأنا ممتن للدكتورة ميادة بإعادة طبع الكتاب في مكان معروف بسمعته في العالم العربي، وأنا شاكر لها جدًّا. وهذه كانت المحفزات الخاصة بعملية النشر.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلا دكتور أحمد، وشكرًا للدكتورة ميادة ولمؤسسة مؤمنون بلا حدود التي أسهمت في إحياء هذا الكتاب بعد أن كانت عظامه رميمة. بالنسبة إلى العنوان، جاء على قسمين؛ فالعنوان الأساسي، "تجلي الإله"، واضح، بمعنى كيفية ظهور أو تصور فكرة الإله عند مختلف الناس؛ فمنهم من ينكر أو ينفي وجود الله، وهم الملحدون أو الماديون أو الدهريون، وهذه فكرة واضحة. لكن ما يحتاج إلى التوضيح أكثر، فكرة الجدل بين الإلهي والإنساني. وهذا الجدل يمكن أن يأخذ أكثر من شكل؛ أولاً، هو تأكيدٌ أنه لا يوجد إلهيٌّ بالنسبة إلى الإنسان إلا من خلاله؛ أي إنه لا يوجد ما هو إلهيٌّ نقيٌّ خالصٌ، فالإلهي يمر، دائمًا عبر الإنساني. وفي هذا تشديدٌ على البعد الإنساني المحايث لكل إلهيٍّ عند البشر. ومن ناحيةٍ أخرى، هذا الحضور الإنساني أو المرور الإلهي عبر الإنسان يمكن أن يؤدي إلى نتائج مختلفة؛ بعضها سيءٌ وبعضها جيدٌ. فهل يمكن لهذا الجدل، من الناحية الوصفية و/ أو المعيارية، أن يكون إيجابيّاً أو سلبيًّا؟ كيف تناولت هذا الجدل في كتابك؟ وهل كان غرضك الأساسي هو تأكيد الجدل عموماً، أم شرح أفضلية جدلٍ على جدلٍ آخر؟
د. أحمد محمد سالم:
حقيقي، لا يمكن أن نقول في الدراسات الإسلامية أو العلوم الإنسانية بصفة عامة، أن هناك ما يسمى بموضوعية مطلقة، وأن التوجه دائمًا يخضع لميل الباحث في قراءة الموضوع، والإيديولوجيا ليست عيبًا ولكنها رؤية للعالم. كانت الإشكالية التي شغلتني دائمًا هي أن التوجهات السلفية تضع النص خارج حركة التاريخ، النصوص المؤسسة خارج حركة التاريخ، وإذا بها مع الوقت تضع الاجتهادات البشرية أيضا خارج حركة التاريخ، وتطلق للنص الإلهي وتوابعه وتفسيراته المقدرة على أن تحرك حركة الاجتماع. هذا الأمر كان إشكاليًا لدي، وكان السؤال المهم، هو: هل المطلق خارج حركة التاريخ أم إن المطلق خارج حركة التاريخ والاجتماع؟
الواقع أن المطلق في كلياته العامة، قد يكون خارج حركة التاريخ، لكن المطلق في تفسيراته يخضع لشروط البيئة والزمان والمكان. والقضية التي كانت مطروحة في صلب المتن هو علاقة المطلق بالزمن، وعلاقة الروحي بالزمني، وعلاقة الوحي بالتاريخ. هذه الإشكالية إشكالية حاكمة في الثقافة الإسلامية بين التوجهات السلفية والتوجهات العقلية. فكان التفكير في عمل رؤية خاصة، هل الرؤية الخاصة تشمل عموم نماذج الثقافة الإسلامية؛ يعني أبدأ من علوم التفسير للقضية المطروحة، ثم أنتقل من علوم التفسير إلى علم العقائد، ومنها إلى أصول الفقه، فالفقه، فالتصوف، فالفلسفة. وبحكم معرفتي، ارتضيت الخوض في ثلاثة نماذج فقط؛ العقائد، والفقه وأصوله، والتصوف. بوعي شديد أن طبيعة العمر وطبيعة القراءة وطبيعة الإمكانات المعرفية، ينبغي اختزال بعض الشيء لكي تنجز؛ فأنا لست في مؤسسة بحثية أجلس فيها طوال اليوم لكي أجمع وأقرأ وأدون، ولا تحملني المؤسسة عبء أسرة ومشاكل حياتية، وبالتالي كان خياري هو الخوض في ثلاث دوائر؛ هي العقائد، وعلم الكلام، ودائرة الفقه ودائرة الأصول، مع وعي بأن هناك دائرة لعلوم التفسير، ودائرة للفلسفة. فأنا أعتبر أن هذا الكتاب في مجمله العام هو لمحة جزئية لقضية وفقا لقدرتي المعرفية وقدرتي الحياتية.
د. حسام الدين درويش:
سنعود إلى هذه المسألة، وربما سنختلف عليها؛ فهناك قدرات لم تستثمر. وأنت أصلًا تجمع بين الفلسفة والفكر الإسلامي، والفقه الإسلامي، فكان هذا الفصل الغائب مثل الإمام الغائب؛ يعني مازال منتظرًا حتى لو لم يكن في هذا الكتاب. ولا تنقصك القدرات مطلقًا، وتجدر الإشارة إلى أنك أهديت الكتاب لطلابك في قسم الفلسفة. سؤال أخير يتعلق بالعنوان؛ فهذه الثنائية بين الإلهي والإنساني، يبدو أنها متقاطعة أو متماهية أو متماثلة مع ثنائيات كثيرة، يبدو أنها تعالج نفس المسألة؛ ففي فترة ما في الفكر العربي المعاصر، كانت ثنائية الدين والفكر الديني أو الدين والخطاب الديني أو الدين والتدين أو المقدس والتاريخي أو الديني والدنيوي. سؤالي هل هناك خصوصية لثنائية "الإلهي والإنساني"؟ وإلى أي حدٍّ، وبأيّ معنى تتقاطع وتتكامل هذه الثنائية مع الثنائيات السابقة، أو تختلف معها وتتمايز عنها؟
د. أحمد محمد سالم:
لو أنت قلت: الوحي والعقل، الروحي والزمني، الديني والاجتماعي، التراث والحداثة، أو الدين والحداثة، الدين والليبرالية، ستجد عندك مشتركاً في كل العناوين؛ ثابت وهو الدين، ومتغير مقابل يتطور وفقًا لحركة التاريخ. القضية في الأساس هي قضية من يحرك من؟ هل يقرأ الوحي وفقا لشروط الشرط التاريخي أم إن الوحي يوجه التاريخ من علم؛ فالطبيعة والإنسان معلقان في السماء، أم إن تفسيرنا لله يدفع بالتاريخ والإنسان إلى الأمام أو إلى الخلف سيان. وبالتالي، فالإشكالية حتى اليوم، لم تحسم، وحولها اجتهادات كثيرة. فأنا في اللحظة الحالية، هل أترك هذه الإشكالات للمؤسسات الدينية التقليدية الرسمية وفقا للعلوم التقليدية وفقط، أم إن ظروف الحداثة تتطلب دخول العلوم الإنسانية التي تطورت كثيرًا في قراءة الظاهرة الدينية عبر أنثربولوجيا الدين، وسوسيولوجيا الدين، وفلسفة الدين، وكل منتجات العلوم الإنسانية لإعادة قراءة الظاهرة وفقا لتطور العلم الإنساني بالتحديد أو حتى مساعدة العلم الطبيعي. لا يمكن للدين أن يحضر في الاجتماع بصورة واحدة، ويفرض على الاجتماع بصورة واحدة؛ فالاجتماع متجدد ومتغير، ونصوص الدين ثابتة، والواسطة بين الدين والاجتماع هم العلماء، هم يفسرون ويوجهون، ويعيدون إنتاج المعتقد ويطورون إنتاج الفقه. وهنا اللازمة تطرح الإشكالية الكلية حول الله والرسول والوحي، كما جاء في نصه الثابت، والسنة، ثم الاجتماع البشري، فالذي ينزّل النصوص من السماء إلى الأرض هم العلماء عبر التفسيرات. النص في ذاته لا ينطق إلا بما يريده العالم. وهنا كانت الإشكالية الحقيقية، كيف أعيد النظر في التطور عبر إعادة قراءة العلوم الإسلامية القديمة، محدّدًا إلى متى كان الاجتماع مؤثرًا في قراءة الاعتقاد أو قراءة الفقه وأصوله أو قراءة التصوف؟ وما حاجة الواقع الراهن لصورة اعتقاد جديدة أو اجتهاد فقهي جديد أو قراءة رحبة للمطلق وتجلياته في التاريخ.
د. حسام الدين درويش:
إذا انتقلنا إلى مقدمة الكتاب، فهي تبدو أشبه بمانفيستو نقدي تجاه رجال الدين أو الفقهاء. ففيها نقد شديد وتحميل كبير لمسؤولية كبيرة تجاه ما حصل ويحصل في الثقافة الإسلامية وفي الواقع الإسلامي عموما. دعني أقول لك إن موقفك، (فيها)، من التراث ومن الدين، عمومًا، يبدو أحادياً؛ بمعنى أنك لا تتحدث إلا عن التأثير السلبي للتراث، على الأقل في المقدمة. أنت تعلم أن الموقف من التراث قسّم المفكرين العرب إلى ثلاثة أقسام على الأقل؛ فبعضهم يريد التخلي الكامل عن التراث، وبعضٌ آخر يريد فقط إحياء التراث والعودة إليه. وبين هذين الطرفين المتطرفين هناك من ينزع إلى التوفيق أو التلفيق بين التراث والحداثة. الطريف في الأمر هنا أنك تبدو في هذه المقدمة – وهي نص كثيف جدًّا ويتضمن أهم أفكار الكتاب – من أنصار الناقمين على التراث والرافضين له، جملةً وتفصيلًا. لكن موقفك عمومًا، في نصوصك الأخرى، ومنها نصوص هذا الكتاب ذاته، من التراث أكثر توازنًا وتعقيدًا، مما بدا في المقدمة؛ فهل يمكن توضيح رأيك وموقفك في هذا الخصوص؟
د. أحمد محمد سالم:
قد يكون هناك انفعال شعوري في دفقة المقدمة، وهذا الانفعال الشعوري بدا واضحًا من الكلمات بمسؤولية السلطة الدينية في اتحادها مع السلطة السياسية عبر التاريخ؛ فالسلطة السياسية تطلب من السلطة الدينية ضبط الاجتماعي عبر الفقه؛ فأهل الفتية هم من أولي الأمر الذين هم أقوى من أولي الأمر بالمعنى السياسي. وفي نفس الوقت، فإن للسلطة الدينية من السلطة السياسية مطالب في ترسيم مذاهب وإقصاء مذاهب، في حضور توجهات وإقصاء توجهات. نتج عن هذا التوحد أن الدين لم يكن مجرد عقيدة؛ الدين في الإسلام عقيدة وسياسة، ومؤسسة الدولة في الإسلام هي بديل عن مؤسسة الكنيسة في المسحية؛ لأن الإيمان يعرس الدين، ويسوس الدنيا، وهو حين يسوس الدنيا، فإنه يسوسها عبر الدين والفقه. هذا التوحد في الإسلام، كان هناك توظيف إيديولوجي من قبل الطرفين عبر تاريخ الحضارة الإسلامية، تجلى في الممارسة الفعلية في تجليات الدولة الإسلامية في التاريخ، بوصف أن الخلافة كمؤسسة سياسية تبغي حراسة الدين من الزندقة، ومن المخالفين للدين إلى آخره، وحين أسأل أيّ دين تبغيه السلطة السياسية، وأيّ مذهب وأيّ فتية تبغيها المذاهب السياسية؟ وبالتالي علاقة الديني بالسياسي في التاريخ الإسلامي، مازال إلى الآن تأثير المسألة على واقع الاجتماع المسلم قديماً وحديثًا، تأثيرًا فاعلًا على الفكرة في الذهن.
د. حسام الدين درويش:
تماما سنعود إلى مسألة الديني والسياسي؛ لأنها أساسية في الكتاب، لكن إذا انتقلنا للفصل الأول، وهو من أجمل الفصول، فيمكن القول إنه يتضمن مع الفصل الثاني ما يمكن تسميته بالوصف أو التوصيف النقدي للجدل بين الإلهي والإنساني؟ فهو وصف لما حصل ويحصل، في هذا الصدد، في علم الكلام والفقه، مع توجيه نقد له. أما الفصل الثالث من الكتاب، فهو أقرب إلى الوصف البنائي، يصف حال الجدل عند الصوفية مع البناء عليه، وأنه يمكن الأخذ منه والتأسيس عليه. إذا عدنا إلى الفصل الأول المعنون ﺑ "تجلي الإله في مدونات علم الكلام الإلهي من العقائد إلى السياسي"؛ فأنت تناقش في الفقرة الأولى الجدالات التي حصلت في علم الكلام وخارجه، في مسألة الإلحاد بين الملحدين والمؤمنين وعلى تنوعهم حتى الدهريين الذين يقولون بالدهر وما إلى ذلك. اسمح لي أقول لك إن هناك مرجعية فكرية أو فلسفية لا يصرح الكتاب بها، رغم أنها حاضرة بوضوحٍ وقوةٍ. وأقصد هنا فلسفة كانط. فأنت تشدد في الكتاب على أن العقل آلة مكافئة بين الإيمان والإلحاد("؛ أي إن العقل لا يحسم مسألة الإيمان من عدم الإيمان. وهذا ما يقوله كانط تمامًا في هذا الخصوص. وأنت تصرح بوضوحٍ جريءٍ أن العقل يمكن أن يقول بوجود الله، وهو ما يفعله المؤمنون أو عقلهم، ويمكن أن يقول بعدم وجود الله، وهو ما يفعله الملحدون أو عقلهم، وأنه ليس هناك قرار عقلي واحد وحاسم في هذا الخصوص. كما تبيِّن أن حجج الكلاميين، في هذا الصدد، كانت حججا جدلية، وليست برهانية يقينية. هذا هو التشابه الأول مع المرجعية الكانطية. أما التشابه الثاني، فيتعلق بمسألة أولوية أو مركزية الأخلاق في الدين. فكيف رأيت مسألة تجلي الإله لدى الملحدين أو غير المؤمنين والمؤمنين؟
د. أحمد محمد سالم:
إن الفصل الأول هو الفصل المؤسس والأصعب؛ لأنه يتكلم عن حدود الإله؛ بمعنى أنا مؤمن وأريد فرض عقيدتي، فأنا أمام النفي أولا لوجود الإله بالأساس، وهنا نتحدث عن الإلحاد كظاهرة محايثة للإيمان، ثم إن انتشار الوحي في التاريخ كان لأصحاب التوجه الثنوي الذي وجد في الثقافة الفارسية رفضًا لفكرة الواحدية، كانت هناك ردود بين دعاة التوحيد ودعاة الثنوية، ثم كان هناك جدل لاهوتي حول الإله والاعتقاد بين الأديان الإبراهيمية. في النقطة الرابعة، وهي الإلهي من الدين إلى السياسة، حين أنظر إلى النقط نقطة نقطة، ليس هناك على الأرض إيمان بالمطلق بدين مطلق، ولكن كل إيمان تحته إلحاد، وكل إثبات تحته نفي، وقدرة العقل على النفي أكبر من قدرة العقل على الإيمان؛ لأن العقل ملتبس في المادة بالإضراب. ما فعله الملحدون في تاريخ الحضارات هو أنهم أنزلوا صفات الله على الطبيعة، ومنحوا الطبيعة مقدرة الإله، حيث يكون الإله محايثا للطبيعة عبر الصفات، فالطبيعة لها صفة الخلق والمنح والوجود. لقد رفض الملحدون أن يكون هناك إله مغاير ومفارق للمادي، يوجهه ويحركه. كانت المعركة بين المؤمنين والملحدين، حول إما وجود الطبيعة المحايثة للمادة، تُسيّر الوجود ككل، أو الإيمان بإله مفارق لعدم الاقتناع بأن الطبيعة تملك تلك الصفات التي يملكها الخالق. إذا فتحت كتب علم العقائد، فإن بند الرد على الملاحدة هو البند الأول في علم أصول الدين؛ وذلك موجود في كتب الشيعة وكتب السنة والمعتزلة بصفة عامة؛ أول بند هو الرد على الملاحدة. كان الملاحدة يقدمون حججهم، والمؤمنون يقدمون حججهم، وقدرة العقل من وجهة نظري على النفي؛ لأن العقل ملتحم بالمادة أكبر من قدرة العقل على الإثبات. لذلك سنقول إن الأدلة تتكافأ لدى العقل البشري بين النفي والإثبات، ليصبح تخلّق العلاقة بين المؤمن والملحد، والتشابك بين المؤمن والملحد كما صوره علم العقائد. لو سألت نفسي عن تقييم الحجج، سأجد أن الحجج متكافئة، فلا هذه مشبعة، ولا الأخرى مشبعة، ولا هذه حاسمة ولا تلك حاسمة، وأن العقل مع الحواس؛ فالمؤمن يستخدمهم لإثبات اعتقاده، والملحد يستخدمهم لإثبات اعتقاده. والكل يقدم حججه. وهنا تطرح مسألة العقل، هل العقل أساس لترسيخ العقيدة أم إن هناك جهة أخرى ترسخ العقيدة. التعريف الديني للإيمان في الإسلام أنه إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالأركان، والتعريف بالإيمان في الإسلام يقر بمركزية القلب. أما بالنسبة إلى النقطة الثانية، وهي الإله من الثنوية إلى التوحيد، وأنت تعرف أن هناك الزرادشتية والمنوية واعتقادات بلاد الفرس بأن النور والظلمة ثنائية الإله، كان دعاة الثنوية قديما حينما انتشر الوحي الإسلامي في التاريخ، قابل وصادف حضارات سابقة، في هذه الحضارات ورث الإسلام الإرث القديم مع الفتح، وكان أصحاب الاعتقاد الأصلي على الأرض، يطرحون اعتقاداتهم الجديدة على المسلمين، فكان هناك شعراء وكتاب الثنوية، وهناك أعلام كبار في تاريخ الحضارة الإسلامية، حين تحولوا إلى الإسلام مازالوا يطرحون اعتقاداتهم القديمة. وهنا دوّن علم الاعتقاد الصراع بين الثنوية والتوحيد في طرح دلائل الثنوية حول مسألة العقيدة بأن الله يحكمه إلهان هما النور والظلمة؛ إله الخير وإله الشر، والإلهان في صراع. أما الموحدون، فتجدهم يردّون باستحالة أن يكون للكون إلهان بإله واحد، وهذا يقدم بالعقل، وذاك يقدم بالعقل. وتضع استفهاما هل وصل العقل في الرد بين الثنوية والملاحدة إلى اطمئنان اليقين القلبي؟
النقطة الثالثة هي الإله في الجدل اللاهوتي بين الأديان الإبراهيمية، والواقع أن اليهودية هي الدين الإبراهيمي الأول الذي تأثر بالثقافة السابقة عليه، وفي نفس الوقت أسس بنية لاهوتية على مدار ألف ومائتي سنة. وقد كان لهذه البنية المؤسسة تأثيرها في المسيحية والإسلام، باعتبار أن الأصل واحد والجذر واحد. كان هناك جدل لاهوتي في أروقة الحضارة الإسلامية بين يوحنا الدمشقي في الهرطقة، وبين أتباع المسيحية في الأروقة مثل غيلان وغيرهم، وبين المسلمين، كما كان هناك نقاش بين اللاهوت اليهودي واللاهوت الإسلامي، وقد عرض ذلك ولفنسون في كتابه "مذاهب المتكلمين" وفي كتب عديدة. الإله في الجدل اللاهوتي بين الأديان الإبراهيمية، لو بحثت عنه ستجد ما هو مشترك بين التوحيد الإسلامي والتوحيد اليهودي أكثر ما هو مشترك لمفهوم التوحيد الإسلامي والتوحيد المسيحي، والذي نراه أنه تثليث. الصراع في الجدل اللاهوتي القائم بين الإسلام كحضارة ممتدة، من ضمن ما ورثها وجود المسيحيين واليهود على أرض الإسلام.
د. حسام الدين درويش:
أنت في كتابك عمومًا، وفي الفصلين الأول والثاني خصوصًا، تؤكد أن الأمر لا يتعلق بطبيعة الاختلافات أو بدينيتها، بل بسياسيتها. فالأمر لا يتعلق بالعقيدة بقدر تعلقه بالسياسة. فحتى الخلافات بين المسلمين الفرق او المذاهب الإسلامية أو ضمن المتبنين للدين الإسلامي كانت، أحيانًا، تأخذ شكلاً أقسى وأقوى وأكثر تطرفًا وإقصاءً من الخلافات مع غير المسلمين. وبدا ذلك واضحًا وخصوصا في مسألة الإمامة، وأنت تشير، مع الشهرستاني، إلى أنه "ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان"..
د. أحمد محمد سالم:
هذا ما عالجته في النقطة الرابعة، لو أنك نظرت إلى النقطة الثالثة، فالاعتقاد واحد بين الأديان الإبراهيمية، وأن منظومة الأخلاق واحدة بين الأديان الإبراهيمية، وأن هناك مشتركاً في التشريع بين هذه الأديان. لقد قلت إن وجوه الاتفاق في الجذور أكبر من وجوه الاختلاف، لكن التفسيرات الدينية عبر رجال اللاهوت والمشرعين في الأديان هي ما حاولت أن تصنع لكل دين تفرده الخاص على حساب بقية الأديان. إذا جئت إلى النقطة الأخيرة، وهي الإله من الديني إلى السياسي، علم العقائد علم يبحث في قصية الإيمان بوجود الله، والإيمان بوجود الله لم يكن مختلفا عليه، إلا حين اختلف المسلمون بين بعضهم البعض على السياسي؛ فالخلاف السياسي هو الأصل، والخلاف حول اللاهوت في الإسلام هو عرض للخلاف السياسي؛ فانقسام المسلمين فرقا ومذاهب، بدأ على الأرض من الإمامة، وانعكس بعد ذلك في العقائد وفي تفسير العقائد بين الفرق والمذاهب. فالخلاف حول سلطان الأرض هو السبب الرئيس للخلاف حول سلطة إله السماء، وبالتالي أرى أن السياسي هو الذي فرق المسلمين فرقا ومذاهب، وأن قضية الحكم في الإسلام هي القضية المؤسسة التي اختلف عليها المسلمون، ثم تنازعوا بعد ذلك على حقيقة من يملك تفسير الدين؛ لأنهم يسألون، يختلفون حول الإمامة، وكل واحد منهم يقول إن الله معه، وأن الشريعة تعضد موقفه، وأن الحقيقة معه؛ فالاختلاف كان أرضياً بشريًا، ثم انتقلوا إلى الاختلاف حول اللاهوتية والإلهي. وإذا كانت قضية التوحيد في الإسلام هي القضية الأساسية، وقضية الإمامة هي القضية الفرعية، فإن ما تم في قضية الإمامة على الأرض هو ما جعل المسلمين فرقاً ومذاهب يتنازعون حول تفسير التوحيد. وهذا كان في خاتمة الفصل الأول.
د. حسام الدين درويش:
يبدو واضحًا أن المتحدثين باسم الإله ولخدمة الإله أو الزاعمين، أنهم يتحدثون نيابةً عنه ولخدمته، إنما يوظفون الإله والحديث باسمه لخدمة أغراض دنيوية أو مصالح سياسية. وبدا ذلك واضحًا، وضوحاً خاصًّا وكبيرًا، في الصراع النظري والعملي حول مسألة الإمامة. وبالانتقال إلى الفصل الثاني، الذي يمكن القول إنه قلب الكتاب وأهم واقوى فصوله، لا سيما من الناحية النقدية، فهو يستعرض تاريخياً وبنيوياً ونصّيًا وعملياً مسائل كثيرة في الفقه، ويركز على إبراز "الدور السلبي للفقهاء في تقييد عقل المسلم وسيطرتهم على المجال العام باسم الله، وترسيخ صورة سلبية عن الآخر والوقف ضد حركة التطور والحداثة. كل ذلك لصالح السلطة السياسية التي تتحكم بكل شيء". فهذا الفصل هو قراءة نقدية للدور التاريخي السلبي الذي مارسه الفقهاء والفقه. وفي الفقرة الأولى من هذا الفصل، أنت تشدد على أن فهم الدور السلبي المذكور يقتضي فهم الدور السلبي لأصول الفقه في تقييد فاعلية العقل.
د. أحمد محمد سالم:
في الفصل الثاني، دخلت من مدونة الفقه وعلم أصول الفقه لرؤية الإله في وعاء اجتماعي؛ فالله في مدونات الفقه هو إله الضبط والتشريع عبر اجتهاد الفقيه في تأسيس ما يعرف بعلم الأصول الذي يؤسس للقواعد، والفقه الذي يؤسس للتعدد والتنوع في ضبط الاجتماع. لو وقفنا عند علم أصول الفقه، لوجدنا أن القرآن صوت الله، وأن السنة هي صوت الرسول، وأن الإجماع هو تصميم اجتهاد العلماء، وتصميم سلوك الصحابة، بوصف ما يسمى بالإجماع تشريعًا في علم أصول الفقه، ثم القياس؛ أي إلحاق ما هو فرعي على ما هو أصلي في أصول الشريعة، وما الاجتهاد بعد ذلك إلا قياس أصل على فرع. نأتي بعد ذلك لفكرة المصالح المرسلة وواقع الاجتماع ومقاصد الشريعة والاستحسان. القواعد الأولى المؤسسة لعلم الأصول هي قواعد تمنح صوت الإله، ثم صوت الرسول، ثم إجماع العلماء سلطة، ثم سلوك الصحابة سلطة في التشريع. إذا لم يجد العقل المسلم عليه أن يقيس المستجد بسلوك القرآن، ثم بالسنة، ثم بسلوك الصحابة، ثم بإجماع العلماء، والإجماع لم يتحقق في التاريخ كما يصوره البعض، وبالتالي يأتي دور العقل الحق، متى لم يكن هناك شيء، نجد أن الأخذ بالمصلحة، الاعتراف بالمصلحة هو أساس يبدأ به العقل لمراعاة واقع الاجتماع، فيرى نجم الدين الطوفي أنه إذا تعارضت مصالح العباد مع النص، وجب تأويل النص بما يوافق المصلحة في رسالته في رعاية المصلحة. الحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية هو ربط التشريع بالمحافظة على النفس والعرض والمال إلى آخره، وتلك منظومة أخلاقية بالأساس، مقاصد الشريعة هي مقاصد أخلاقية، ينبغي أن يأتي التشريع موافقا للحفاظ على مقاصد الشريعة، والذي فعله معظم أصول الفقه، باستثناء أبو حنيفة، هو تقييد عقل المسلم عبر قيامه كون العقل غير حرّ في الاشتباك مع المجتمع إلا بعودة القواعد المؤسسة لعلم أصول الفقه. وإذا جئنا إلى تطبيق ذلك، على ممارسة الفقه في التاريخ؛ الفقيه كان هو المشرع في الحضارة الإسلامية، وهو الذي يستقي من واقع الاجتماع، ويؤسس للقواعد الجديدة، كما أنه يحكم في البدء بسلطة صوت الله وصوت الرسول وصوت الصحابة وصوت العلماء، ينبغي أن تكون مقدمة، ثم يأتي بعد ذلك ليكون له اجتهاده الشخصي. إذا جئت للفقه والسيطرة على المجال العام، ستجد أن سطلة الفقه في الإسلام، أن الفقهاء كانوا يقدمون أنفسهم، بوصفه قادرين على الفتوى في أي شيء وكل شيء وحتى الشيء المستحيل. كان هذا الأمر يمنح سلطة للفقهاء، وأنهم أصحاب السلطة الكلية في ضبط المجتمع وفقا لقواعد التشريع، حيث ظهر شذوذ الفتاوى في كتب الفقه، ليس من أجل شذوذ الفتاوى واستحالة تحقق بعضها، بل كان ذلك استعراض مقدرة الفقه، حتى إنه يفتي على ما كان وما هو قائم، وما يستحيل أن يكون. ومن ثم جاءت السلطة الغريبة؛ إذا ارتكب أحد فعلا مثليا، ومارس ممارسة مثلية، يفتي الفقه بوضعه أسفل جدارة، وتلقي جدارة عليه.
د. حسام الدين درويش:
هذا ما تعنيه بتضخم الفقه، وتضخمت المدونة الفقهية. وهذا التضخم بلغ درجةً جعلتك تتفق مع الجابري في أن الحضارة الإسلامية عموماً، أصبحت، من حيث الكم ومن حيث الكيف، حضارة فقهية.
د. أحمد محمد سالم:
دعني أقول لك ما قاله ابن قيم الجوزية في كتابه، لاحظ نص الكتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، يقول: إن أولي الأمر هم أهل الحكم وأهل الفتيا، وأن أهل الحكم لا يستطيعون أن يضبطوا ويحركوا دون أهل الفتيا؛ فأهل الفتيا هم أولي الأمر قبل أهل السلطة السياسية؛ لأن السلطة السياسية لا تفصل ولا تحكم إلا بالعودة لأهل الفتيا، كما رأى في كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين". هذا الأمر يجعل أن سلطة الفقه في الإسلام هي السلطة الأشمل إنتاجًا وأثرًا؛ لأن السياسي كان في حاجة إلى الفقيه لضبط حركة الاجتماع وتسيير الجماعة وفقاً لما يريده هو. ويشتم في العديد من الاجتهادات الفقهية في الحضارة الإسلامية رائحة السياسي دائما. متى عجز السياسي عن النطق، نطق عنه الفقيه، ومتى عجز السياسي عن تسيير شؤون الاجتماعي، عاد لصاحب السلطة الدينية ممثلة في الفقيه. فالفقيه مركزي في حضارة الإسلام، والعلاقة بين السلطان والفقيه في حضارة الإسلام علاقة تزاوج. وبالتالي، أجد أن الفقه متنزل على علاقتنا بالآخر المغاير في الدين، علاقتنا من المرتد إلى المغاير في المذهب حتى داخل المذهب، وبعد هذا أطرح نقطة ثانية، وهي أن علاقتنا بالآخر المغاير في الدين. دعنا نقول إن فقه أهل الذمة في الإسلام دوّن فيه العديد من الكتب التي استندت إلى العهدة العمرية، كيف يعامل الكتابي في الإسلام؟ يعامل الكتابي في الإسلام على أنه مواطن من الدرجة الثانية؛ لأنه يقطن أرض أهل الإسلام، وينبغي أن يمشي في جانب الشارع، وألا لا يعلو بنيانه، وإذا نزل المسلمون على أرضه، فينبغي أن يستضيفهم عددًا من الأيام. فقه أهل الذمة في عصره، كان يعبر عن قوة الجماعة الإسلامية، بينما في واقعنا الآن، فقه أهل الذمة هو فقه استعلائي، رسخ استعلاء الجماعة المسلمة على الكتابيين، وبالتالي كانت علاقتنا مع الآخر المغاير في الدين في فترة التسامح جيدة جدًّا. ولما انفتحت كان الكتابيون الجسر الذي عبرت عليه الحضارة الإسلامية للترجمة في عهد المأمون، ومعظم ما نقل من الفلسفة وعلوم الإسلام إلى الحضارة الإسلامية، مثلت النخبة المسيحية الجسر الذي عبرت عليه الحضارة الإسلامية إلى العلوم القديمة، وهذا ما تدونه الكتابات التي قام بترجمتها أبو بشر متى بن يونس وغيره من المترجمين السوريان الذين كانوا يجيدون أكثر من لغة، فحينما كان الإسلام متسامحًا معهم، وهو كان متسامحا معهم بالفعل، بصرف النظر عن تلك التركة، كان هؤلاء فاعلين في تاريخ الحضارة الإسلامية. حينما نعود للقلاقل السياسية، لننظر إلى تطور فقه أهل الذمة الذي اشتعل مع المد الصليبي في العالم الإسلامي، كان هناك تشدد في فقه أهل الذمة فرضه واقع تغير الاجتماع والصراع بين المسلمين والنصارى في الشام، وبالتالي تتطور أحكام أهل الذمة وتتغير وتتشدد، وهي مرتبطة برهن واقع الاجتماع. لقد رحل القدماء وتركوا لنا التركة، وما زال فينا من يفكر بنفس تركة أحكام أهل الذمة القديمة.
د. حسام الدين درويش:
أكدت أن موقف الفقهاء تأثر بقوة أو ضعف الدولة الإسلامية، حيث بدا ضعيفًا ثم متشدّدًا، أو كان معتدلاّ، فتطرَّف، وأنت تشير إلى مركزية العامل السياسي في هذا الخصوص. في الفقرة الخامسة من الفصل أشرت إلى وقوف الفقه أمام رياح الحداثة، او بينت المعارضة الشرسة التي أبداها معظم الفقهاء تجاه الحداثة. ويتضمن الكتاب مناقشة الكثير من الأمثلة: مسألة (تحريم) الطباعة، مسألة ذكورية الفقه في مسألة علاقته مع المرأة، مع المرتد، مع المثلية، ومع الآخر عموماً. وقد تكون هذه الفكرة، فكرة العلاقة مع الآخر، المسألة الأهم أي دين: سواء كان هذا الآخر الرجل مع المرأة، أو الشخص غير المتدين، او الملحد، أو المخالف أو المختلف في العقيدة، أو في غير ذلك.
د. أحمد محمد سالم:
منذ القديم، بدأ الاحتكاك بين الواقع العربي المسلم وبين الحضارة الأوروبية، وتحول الموقف من أن المسلمين بعد أن كانوا مصدّرين للثقافة، أصبحوا متلقين لثقافة وحضارة اقوى منهم. منذ مطلع الحملة الفرنسية، بدأ انتقال الحداثة إلى العالم العربي والإسلامي، وبدأ هذا يزدهر في فترة الأسرة العلوية. وأصبح الفقه عاجزا أمام مستجدات ومؤسسات العصر، وأن الفقه القديم أصبح يوجه بقوة اجتماعا جديدا، وعجز عن مسايرته، ففرض الاجتماع السياسي على الاجتماع الديني أن يتوارى، وأن يفرض الاجتماع البشري قوانينه في زمن الحداثة.
الذي حدث أن محمد علي حين جاء، أراد ألّا يمسّ الأزهر بأي إصلاح، وبنى تعليمًا حداثيًّا للجيش المصري في كافة المجالات، وأخذ الطلاب من الأزهر، وحين ذهب الطلاب مبعوثين، عادوا إلى الدولة المصرية، ولم يعودوا إلى الأزهر الشريف ثانية. في الواقع الحديث، كانت هناك معركة للحداثة مع الواقع التقليدي للمجتمع. أما بالنسبة إلى أحكام الذمة، فكانت أمامنا مشكلة في الجيش المصري، حيث إن إسماعيل أراد أن يتعامل بمفهوم المواطنة الحديثة، وأن المصري المسيحي والمصري المسلم واحد، فكان لزامًا إلغاء أحكام أهل الذمة، والذي بدأ من سعيد وتراجع في مسألة الجيش، ولما جاء إسماعيل صمم على أن المسلم والمسيحي يدخلان الجيش بوصفهما مواطنين مصريين، ومن ثم سبق خطوة وهي خطوة إلغاء أهل الذمة، ولا شيء اسمه أحكام أهل الذمة، هناك مواطنة مصرية في الدولة الحديثة؛ فالمسيحي لم يعد خاضعًا لرحمة المسلم؛ يأخذ منه الجزية لحمايته. فمحمد علي لم يلغ الجزية، لكنه كان حريصًا على الدفع بالنخب المسيحية وضخها في شريان الدولة، وكان حريصا على تحقق العدل في الحكم. ما بدأ يتغير بعد ذلك، هو إلغاء أحكام أهل الذمة. وبالنسبة إلى الرق، حصلت موقعة في الرق بين البنية التقليدية ومؤسسة الحكم، حيث تم إلغاء الرق بقرار سياسي كانت المؤسسة الدينية تواجهه بضراوة. حتى بالنسبة إلى التشريح، الجثث في القصر العيني، كانت هناك مواجهة من البنية التقليدية مع عمليات التشريح، وقد أحدث كل هذا شيئا خطيرا في الدولة المصرية.
انقسم العقل على ذاته، فإلى صار من يفكر بمنطق الدين والفقه قديما، ومن يعيش العصر، كل هذا في حالة شجار متصل بين هذا وذاك، العقل الليبرالي الحداثي العصري أم العقل التقليدي الذي يريد شرعنة كل ما هو حديث بإباحة فقهية بالحلال والحرام. هذا الانقسام في الدولة المصرية إلى الآن، موجود في التعليم الديني في المؤسسة الأزهرية، وموجود في التعليم الدنيوي. ولذلك، الشخصية محمد علي في مصر، لما أراد الدخول دون أن يشعر، إلى الحداثة بقوة السلطة السياسية، انقسمت مصر في الثقافة والشخصية إلى ثنائية، وبدأنا نتكلم على التوفيق بين الثنائية. مثلا أنا أريد وضع قانون يتعلق بزواج مدني أو بأي شيء آخر، فأنا مضطر للذهاب إلى المؤسسة التقليدية وعلوم الدين التقليدية بحثا عن جذور إمكانية التشريع لزواج مدني في المجتمع العربي. لماذا أقول هذا الكلام؟ لأن النص ثابت، والاجتهاد مواضعة وتغير، والاجتماع في تسارع وتطور. إذا توقف الاجتهاد عن مسايرة تطور واقع الاجتماع، وهو عاجز الآن، يخلق الاجتماع لنفسه قانونه بالفرض. سأحكي مسألة بسيطة جدا، لما جاء إسماعيل، وعنده رعايا دول أجنبية على الأرض المصرية، فطلب أن ينظروا في الشريعة كيف يقاضي في الاختلاف بينه وبين هؤلاء الأجانب، فعجزوا، ولما رأى أن المحاكم الشرعية بتقليدها للقانون ستعجز، أنشأ المحاكم المختلطة بقانون وضعي. لذلك، عملت الحداثة مفارقة، ووسعت الهوة بين مقدرة العلماء ومقدرة الاجتماع؛ لأن كل يوم يتطور، وهكذا بدأت الحداثة تهزم الفقه التقليدي في مواقع الاجتماع وتفرض قانون العقل والمواضعة في المجتمع. إن ما وصلنا إليه اليوم، كقولنا أريد نقل أعضاء، أو أريد تأجير الرحم، أو أريد فعل شيء فرضه علي العلم الحديث، ومن اللازم عليّ عمله؛ لأنني أريد أن أتقدم، فأنا لا أريد العودة في كل مرة إلى الفقه، في ما يتعلق بتطور الاجتماع، كي أستمد مشروعيته مثل ما حصل ما بين الفقه القديم وأهل الأعضاء، هل نقل الأعضاء مشروع أم غير مشروع. فمصلحة المجتمع أين؟ ومصلحة الإنسان أين؟ هل أقدم مصلحة الإنسان والمجتمع وتقديس الحياة أم أنتظر الفقيه حتى يمنحني المشروعية من عدمها. نحن نعجز في منطقة الفقه، ونعول على اجتهاد قدماء العلماء الذين يسيرون واقع الاجتماع، وهم أموات، وعلماء العصر الحديث عاجزون عن مسايرة تطور الاجتماع؛ فلا هم اجتهدوا بما يوافق تطور الاجتماع ومصلحته، ولا هم توقفوا عن الاستعانة بالقديم، فهزم الفقيه في أرض الحداثة. هذا كان صلب الفصل الذي كان بالنسبة إلى بنية الكتاب وصلبه.
د. حسام الدين درويش:
إذا تحدثنا عن بديل، أو إذا تجاوزنا النقد إلى البناء أو ما يمكن اقتراحه، يمكن القول إن الفصل الثالث هو أهم فصل في الكتاب؛ لأنه يقدم التجلي الأمثل أو الصورة الأمثل، ويبين أن هناك صورة للإله وصورة للدين يمكن أن تكون جميلة جداً، وأخلاقية جدّاً. وفي حديثك عن التصوف، أنت تقدم صورة مختلفة عن الصورة النمطية للتصوف القائمة على الزهد والحركات والطقوس والدروشة، وإنما تقدم لتصوف يتجسد في علاقة فردية روحية مع الإله، قائمة على أساس المحبة والانفتاح والاختلاف والاعتراف بالتعددية. فمن ناحية أولى، أنت تتفق مع كانط في أن أساس الدين هو الأخلاق؛ لكنك، على العكس من كانط، ذهبت في اتجاه التصوف ولم تذهب في اتجاه الفلسفة أو الفكر العقلاني الحداثي. حدثنا عن رؤيتك للتصوف الذي ترى فيه أن تجلي الإله الجميل أو ما تسميه الدين الحقيقي، يظهر فعليا في التصوف، وليس في الفقه ولا في علم الكلام ولا في الأمكنة الأخرى التي نقدتها.
د. أحمد محمد سالم:
أنا انتهيت من قراءة علم الكلام إلى عجز العقل في قضايا العقيدة، حتى في عقليات العقيدة كانت هناك مواجهة، وأن علم الكلام عزل الله عن قلب الإنسان، حينما جعل العقيدة فلسفة تعتقد بقناعات العقل، لكن قناعات العقل لا تغير الإنسان إلا إذا انتقلت قناعات العقل إلى إيمان القلب ليتغير الإنسان، كان هناك عيب واضح في علم العقائد، وهو أنه كان ينزّه الإله مجردًا عن الإنسان، عزله عن حضور الإنسان في القلب، وبالتالي كان في علم الكلام مشكلة كبيرة، وهو أنه فلسف العقيدة، ونزع عنها كل عاطفية وروحية لقوة الإنسان.
بالنسبة إلى الفقه، فقد وسع دائرة الدين في الاجتماع كي يسيطر على دائرة الاجتماع، وحاول سجن تطور الاجتماع، ليفرض سلطة الروحي على الزمني، ومن ثم كان الفقه يريد الإسلام الطقسي، صورة الإسلام في السيطرة على مجال المجتمع وضبط آلية المجتمع.
لدي أمران؛ الأمر الأول عجز العقل في الكلام، واتساع الفقه في الاجتماع. ومن ثم لا بد من البحث عن الأفق الذي يحقق لي تحرير العقل وتحرير الاجتماع. قارنت بين التصوف والفقه وعلم الكلام، ووقفت عند حدود الاتفاق والاختلاف بينهم. وكان من اللازم أن أتجه بالعقيدة إلى القلب بوصفه مناط التغيير، لا يمكن للفقه أن يفرض نفسه على ضبط حركة الاجتماع بإنسان فردي بذات فردية مشوهة، ممكن منها من يثبت، وممكن منها من ينفي. لذلك، أنا رجعت إلى التصوف للنظر في أن الله لا يتجلى إلا عبر قلب الإنسان ونفسه، وتجلي الله عبر قلب الإنسان ونفسه، هو أن يتخلق المسلم بأخلاق ربّانية في علاقته بالله، فيصفّي النفس من الأدران، ويلمّع آفاق الروح وآفاق الجسد لتلقي الفيوضات الربانية عبر الأخلاق؛ فالأخلاق مركزية في التصوف الإسلامي، والأخلاق هي صنيعة التجربة الروحية. والدين بالعمق ينبغي أن يؤسس لكونه تجربة فردية للإنسان. إذا قيل إن الدين حين يتحول إلى تجربة فردية لن يؤثر في المجتمع، فهذا خطأ، وإذا أردت أن تقدم عقيدة فاعلة فامنحها الروح الصوفية، وإذا اردت أن تقدم الدين عبر التشريع فاعلا، فامنحه الروح الصوفية؛ لأن الفقه يبحث عن كيفية أداء الصلاة، لكنه لا يمنح الصلاة ماهيتها، فهو يبحث عن شكلانية الإيمان، ولا يقدم حقيقة الإيمان، وهذا اختلاف واسع. وحين أبدأ من النفس الفردية؛ فلأن بناء الفرد هو أساس بناء المجتمع. وحين أتكلم عن الفقه من الخوف إلى المحبة؛ فالفقه يقدم صورة للإله ضابطة، إذا كان الاجتماع متحرّرًا قدم صورة متسامحة للإله، وإذا كان الاجتماع قاهرًا وضابطًا وضاغطًا، كان الإله قاهرًا؛ لأن الفقيه يتموضع في اجتماع، وينتج في اجتماع؛ فصورة الإله تتخلق عبر الفقيه عبر قيود الاجتماع، ليفرض صورة متطورة للإله تسامحا وحدة وعنفا وضبطا بشرط الاجتماع. لا بد أن يكون الله هو المحبة؛ فعلاقتي بربّي هي علاقتي بخالقي الذي منحني البناء والمعنى، ومنحني حبّه لأنه خالقي، وعلاقتي بربي كعلاقتي بوالداي. ومن ثم، فنحن في صورة معينة في التصوف، أولاد الله وأبناؤه على الأرض، وعلاقتنا به تقوم على المحبة والمغفرة والرجاء مهما يئسنا. وهنا يتحول الله المحبة إلى أفق مفتوح فاعل في حياة الإنسان الروحية، وبدلا من أن يكون الله إله النار الضابط، سيكون إله المغفرة الفاتح لأفق الحياة الروحية. الصوفية عليهم ما عليهم، والصوفية الطرقية عليها ما عليها، وقد يخلق التصوف نوعا من الرؤى السلبية في أن يكون الإنسان فاعلًا في حياة الاجتماع، لكن الله هو باب المحبة، وهو باب الرجاء في أرض يسود فيها الاستبداد، هذا فاعل في قوة الإنسان على البقاء على الأرض، هذا فاعل في أن هناك من يناجيه وحيدًا في لحظات الألم والقهر. فالشعوب في المنطقة تعيش القهر والاستبداد، إما من الفقر والاقتصاد، أو من ضبط السياسة، كيف يكون الدين معينا للسياسة بقهرها، وللاقتصاد بمشاكله، ويفتح باب آفاق الحياة الروحية للإنسان. في آخر نقطة، قلت من نسبية الحق إلى الانفتاح على الآخر، التصوف يقدم الحقيقة ليس بوصفها تحل في البشر بصورة مطلقة، يقول جلال الدين الرومي: إن الحقيقة كالمرآة، رماها الله من السماء على الأرض، فتكسرت مئات القطع، وكل فرد يأتي ليحمل قطعة منها، ويضع فيها وجهه ليرى الحقيقة بمقدار قطعة المرآة، ولا يرى الحقيقة بمقدار المرآة كاملة. هكذا كان التصوف يقدم نفسه بوصف التصوف طرقا مختلفة حول مركزية الحقيقة، كل يصل إليها بحدود طريقته، وأن الطرق ليست الحقيقة في ذاتها، وأن الدين نفسه لا يمثل الحقيقة كاملة في ذاتها، بل وجهة للحقيقة لدى متبعيه. هنا كان الانفتاح على الآخر هو المختلف معي في الثقافة والمختلف معي في الدين على اعتبار أن الأديان طرائق إلى الله، وأنها طرائق إلى الاعتقاد، لا نعلي من شأن واحد على آخر، ولا نعلي من شأن دين على دين. ومن ثم إيمان المتصوفة بتنزيه الحقيقة قد فتح آفاقا للتعايش والتسامح أكثر من المجالات الأخرى على الآخر المختلف معي ثقافة ودينا وحضارة. شكرا.
د. حسام الدين درويش:
متابعة للموضوع الذي تناوله د. أشرف منصور، ود. عبد السلام شرماط بطريقة مختلفة في نقاشيهما معك، أنت تميز بين الإلهي والإنساني من ناحيةٍ، وتتحدث عن وجود جدلٍ بينهما، من ناحيةٍ أخرى. في الكتاب، يبدو أنك تعتقد أن الفقه إنساني، والقرآن إلهي؛ بمعنى أن هناك أحكامًا في الشريعة هي موجودة في القرآن ليست فقهًا، وهناك أحكام فقهية تمت إضافتها، وهي إنسانية، أي من نتاج البشر وليست إلهيةً. فهنا يوجد تمييز أو تمايز واضح بين الإلهي والإنساني، لكن ألا ترى أنه في كلتا الحالتين، ثمة جدل بين الإلهي والإنساني، بين النص وقراءة الإنسان أو المؤمن أو الفقيه له، سواء كنا نتحدث عن الأحكام الموجودة في القرآن أو عن الأحكام الفقهية. فالنص لوحده لا يتضمن أحكامًا من دون فهم أو تأويل الإنسان له ولها، والإنسان حتى الفقيه يستنبط حكمًا من خلال هذا النص. فالجدل موجود دائماً، وليس هناك ما هو إلهيٌّ خالصٌ أو إنسانيٌّ خالصٌ في هذا السياق.
د. أحمد محمد سالم:
كما قلت لك، كان عندي فصل عن علوم القرآن، والذي تقوله حول الإلهي في النص، كيف تنزل على الإنساني؛ فهنا تأتي علوم القرآن: هل الوحي خارج حركة التاريخ في نصّه الأصلي أم داخل حركة التاريخ في نصّه الأصلي، وهي الإشكالية نفسها التي تطرحها علوم القرآن حول أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وتطور الوحي في التاريخ، والمكي والمدني، والمطلق والمقيد. لذلك، كان من المفروض أن يسبق علم الكلام فصل في علوم القرآن، وإن لم يكن من اختصاصي، فهو مؤسس.
د. حسام الدين درويش:
أعود لأشدد على النقطة التي تقع في قلب الفصل الثاني الذي هو في قلب الكتاب، والنقطة هي توسع الدين أو توسع الشريعة أو توسع المدونة الفقهية، وفي الكتاب، أنت استندت إلى فخر الدين الرازي الذي يقول إن آيات التشريع لا تتعدى ستمئة آيةٍ. وفي المقابل هناك مدونة فقهية تذهب إلى التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، وتضيف، ولا تميز بين ما تضيفه وبين هذه الآيات الستمئة. سؤالي لك، ما وجه الخلاف بين جدل الإلهي والديني والإنساني في هذه الآيات 600، هل هي إلهيةٌ خالصة، أم خاضعة للتأويل وللفهم البشري، وبالتالي جدل إلهيٌّ إنساني. والأمر ذاته يمكن بحثه في خصوص المدونة الفقهية، هل هي إنسانية خالصة؛ لأنك تتحدث دائما عن تاريخية هذه المدونة وإنسانيتها، أم فيها جانبٌ إلهيٌّ وهذا الجدل بين الإلهي والإنساني؟ وإذا كان الجدل موجودا في الحالتين، ما الخلاف أو الاختلاف بينهما؟
د. أحمد محمد سالم:
الدكتور مولاي صابر أحمد، قال نقطة خطيرة جدًّا، قال إن حضور الله في القرآن كان حضورًا أخلاقيًّا، تناسوا حضور الله في القرآن، وركزوا على حضور الله بوصفه مشرعًا؛ لأن الأخلاق هي كليات الإسلام العامة القابلة للقراءة والتجديد والتطور. أما التشريع، فأنا من وجهة نظري هو مواضعة تمت من قبل العلماء على مدار التاريخ، يتحدثون بوصفهم نواب الله وفقا لآيات بسيطة اتسعت من الآيات البسيطة، وبعدها جاءت السنة، بعدها جاء فعل الصحابة، وبعدها جاء إجماع العلماء. لو أن الفقه ليس مواضعة، لما كانت طبقات للحنابلة وطبقات للشافعية، وطبقات للحنفية والمالكية؛ فالفقه مواضعة؛ لأن الطبقات هو فعل العالم في التاريخ، المسألة منتهية، وأن الفقه قراءة بشرية للنصوص، وقد يكون اجتهادًا خاصًّا، ووضع بجانب النصوص؛ لأن ستمائة آية في القرآن الخاصة بالتشريع، هي وسائل للمقاصد الأخلاقية. لو وقفت عند ستمائة آية في القرآن، وقلت أنا ملك اليمين أو السبي أو قطع يد السارق لظروف الجزيرة العربية؛ فواحد يأكل أكل ناس، أو يسرق ناس، فهو يهدد حياتهم في الصحراء، لكن هذا الواقع تغير، والكلام حتى عن التشريعات في بنيتها الفقهية، في ما يتعلق بالحدود. أما على واقع الأرض في الفقه، فتجد شروط استحالة التحقق في التاريخ إلا بالاعتراف، ولذلك نحن تركنا الأهداف القائمة في الرسالة الأخلاقية، وجئنا للفروع المؤسسة للأهداف. فهناك قرآن تأسيسي وقرآن إجرائي، قطع يد السارق، عمل عمل عمل...وهذه رؤية علي مبروك للإشارة؛ فهذه إجراءات القرآن لتأسيس القيمة الكبرى في القرآن، وهي قيمة العدل. هل يحق لنا أن نعيد قراءة الإجراءات التأسيسية التي نزلت في القرآن مشروطة بالشرط التاريخي والاجتماعي مع تطور الزمن، وهذا سؤال صعب؛ لأننا حينما ننتهي، نجد في النهاية الإجراءات موجودة على مستوى الواقع إجراءات وضعية كلها، وأن قيمة العدل بالتعزير ممكن تكون بالسجن.
أما د. عبد العزيز، فقد أخجلني بكلامه وإطرائه. أنا تفسيري لمفهوم الإله أولا، هو الاعتقاد بخالق غيبي يشكل قوة دافعة للإنسان في حياته، ومؤثرة في تشكيل وعيه في رؤية العالم وفي رؤية الوجود وفي علاقة الإنسان بالإنسان، وفي علاقة الإنسان بالحياة. هل الإسلام دين ودولة؟ سأكون واضحًا معك في هذه المسألة، ليس ثمة نظرية سياسية في الإسلام، والذي لم يأت بنظرية سياسية في الحكم، ولكنه وضع كليات عامة. الدولة في الإسلام هي آلية تطبيق الكليات العامة، فشكل الدولة انتخاب أو وراثة، فهذا شكل أداتي. ما حصل في التاريخ الإسلامي، والتحول الذي حصل بعد الصحابة وكان فيه ما فيه، وعليه ما عليه، هو أن الدولة الإسلامية تطورت في البدء في العرق العربي، وبقيت في العرق الفارسي جنب الدولة النمط الفارسي في الخلافة، وهو النمط الحاكم للدولة الإسلامية. والنظر في حكم العرب، ستجد أن العرب ما حكموا وأداروا دولة إلا بالأجناس الأخرى التي كانت تبني حضارة وتاريخ. ومن ثم، فالكلام عن الخلافة في الإسلام ونظام الحكم في الإسلام يحتاج إلى إعادة نظر. فالقول بالإسلام دين ودولة، لا يعني وصف إيماني أن الإسلام فعليا دين ودولة؛ فالإسلام جعل عبر تاريخه دين ودولة باجتهادات العلماء في الفقه السياسي الإسلامي، وهو على مستوى الرسالة والنصوص المؤسسة ليس هناك أصول عامة وقواعد كلية للفقه السياسي الإسلامي، سوى آيات قليلة؛ نظام الحسبة، الكتابة، الحجابة، فقه الدولة الإسلامية في الأحكام السلطانية حتى الأحكام السلطانية هي فارسية، الآداب السلطانية فارسية. أنا أقول إن الإسلام عقيدة وسياسة؛ لأن الدولة في الإسلام هي التي حلّت محل الكنيسة. موقفي من الدولة الوطنية أنها لا تتعارض مع القيم العامة الكلية في الإسلام. وإذا جئت بأخلاق الإسلام وألبستها الدولة الوطنية، فالإسلام يمنح الدولة الوطنية بقراءة خاصة منظومة إمكانيات تأسيس الدولة الوطنية، لكن الدولة الدينية متمرسة في الشرق؛ لأنها جزء من البنية الاستبدادية في الشرق ككل. فالكهنوت كان موجودا في فارس القديمة، وفي مصر القديمة. ولما جاء الإسلام ترسخت فيه دولة، وترسخت فيه حياة قامت على أكتاف النظام السياسي الهيراركي الساساني.
الدكتور مولاي قال كلامًا جميلًا، وأنا أجلّ الفقه المغاربي عن مقاصد الشريعة، وأعمال الشاطبي والطاهر ابن عاشور وعلال الفاسي، وهو فقه ينظر إلى الأخلاق على أنها مؤسسة للفقه ذاته، وأن الفقه يتغير ويتطور وفقا للحاجات والاحتياجات، ويضع في اعتباره المقاصد الكلية للشريعة. في المشرق كانت المسألة مختلفة بعض الشيء؛ لأننا حولنا اجتهادات الفقهاء بديلا عن الأخلاق، وأصبحنا ننظر إلى الوسائل والفرعيات على أن لها القداسة التي تنفي منظومة القيم المؤسسة. وقد أسعدني الدكتور صابر بطرحه، وأتمنى أن نعيد المدخل للروح الإسلامية الأخلاقية، باعتبار أن الروح الأخلاقية الإسلامية يمكن أن تقدم رؤية للعالم وللوجود وللإنسان والعلاقات، مختلفة عن البينة الفقهية، وهذا مدخل موجود في التصوف.
د. حسام الدين درويش:
التصوف هو الفصل الأخير من كتابك، وتجلي الإله فيه هو ما يبدو أنك تقترحه كبديل صورة الإله في علم الكلام والفقه. وانطلاقًا من أولوية الأخلاق والفردية والعلاقة الروحية مع الله، يبدو تجلي الإله في التصوف هو الأفضل، من منظورك. وإذا مارسنا النقد بالمعنى الكانطي، ينبغي التشديد على حدود إيجابية تجلي الإله في التصوف. وأنت مارست هذا النقد بنفسك عندما أشرت إلى أن الرؤية الصوفية فيها مشكلات، وفيها محدودية. فعلى الرغم من القول بالاختلاف والتعددية، فإن أصحاب الرؤية الصوفية يعانون ما تعاني منه الرؤية الفقهية من أنهم وحدهم من يفهم؛ أي لديهم الدوغمائية ذاتها، والأحادية ذاتها، والاعتقاد أنهم، وحدهم، من يمتلكون الفهم الصحيح للدين او الدين الصحيح، وليس الآخر. من ناحية أخرى، التصوف كما قدمته، بوصفه علاقة فردية معزولة عن المجتمع، وبهذا المعنى ليست علاقةً اجتماعيةً، بل مضادةً للعلاقة الاجتماعية. وإذا كان للدين بعدا جماعيا أو اجتماعيا أو جماعاتيا، فإن التصوف لا يحقق هذه البعد. وخطر لي أن أقارن بين ما قدمته وما قدمه طه عبد الرحمن في هذا الإطار، من حيث إن فكره انتهى إلى أو يتضمن ذلك التبني للتصوف، وبان الحل فرديٌّ، أي يتمثل في إصلاح كل شخصٍ لذاته من خلال علاقته الصوفية مع الإله. وسؤالي، هنا، هو: أليس هناك رؤى أخرى، غير صوفية، يمكن فيها أن يتجلى الإله بهذه الصورة الأخلاقية وبهذا الجمال وبهذا الكمال الإلهي الجميل، من دون طريقة صوفية، بل بطريقة فكرية، بطريقة فلسفية، بطريقة عقلانية. العقلانية واضحة في المقدمة والفصل الأول والفصل الثاني، وعندما وصلت إلى التصوف، بدا أنها تلاشت لصالح روحانية فردية تصوفية.
د. أحمد محمد سالم:
أولا أشكر د. صابر سويسي على حضوره اليوم، فإسهامه في التصوف يعادل رقة الرجل ووعيه، وهو اختصر المسألة في حديثين؛ إن ربّنا خلق صورته، عبدي أطعني تكن ربّانيًا تقول للشيء كن فيكون، وأحاديث كثيرة تتكلم على هذا.
المقاربة بين الإنسان المتدين بين الإسلام والمسيحية، وبين التصوف والرهبانية، أرى أنها تؤكد على وحدة الأديان الثلاثة، وعند قراءة التصوف بعمق، ستجد عمق التجربة الصوفية الفردية واحدة في كل الأديان، وتصل إلى نفس النتيجة تقريبًا.
د. حسام الدين درويش:
بالعودة إلى عنوان الكتاب، هناك من فهم التجلي بالمعنى الصوفي، مع أنك في الكتاب لم تستخدم ذلك المفهوم بالمعنى الصوفي حصريًّا، سوى في الفصل المخصص للتصوف. ففي الكتاب عمومًا، يشير التجلي إلى صوفي، كيفية ظهور الله وتشكل عند الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والملاحدة ... إلخ.
د. أحمد محمد سالم:
على فكرة، وبالمناسبة، وكأني قد وضعت في العنوان قلبي، فأنا أومن بما كتبته في الفصل الثالث شعوريا وفينومينولوجيا، وأنا أختار العنوان لا إراديا، وضعت كلمة تجلي، ولو حذفت كلمة تجلي وكتبت صورة الإله؛ جدل الإلهي والإنساني في الثقافة الإسلامية، لا أحد يستطيع القول إنها صوفية. لكن كلمة تجلي بالذات لا شعوريا تعطي صبغة صوفية، وهي إقرار مني بالحل المفترض، الذي لم أفصح عنه في العنوان، لكن الكلمة فضحتني على كل حال.
د. حسام الدين درويش:
شكرًاً لك، صديقي العزيز، الدكتور أحمد سالم، على تفاعلك الإيجابي والجميل مع كل الأسئلة، وعلى تجلّيك وتجلّي فكرك بهذه الصورة الجميلة المعهودة منك. سؤالي الأخير: ماذا بعد تجلّي الإله والتصوف؟ ما الذي تعمل عليه وتنشغل به وفيه فكريّاً وشخصيّاً؟