الليالي القرائية أو الجاحظ قارئًا

فئة :  أبحاث محكمة

الليالي القرائية أو الجاحظ قارئًا

الليالي القرائية أو الجاحظ قارئًا

إضاءة:

إن الليل سرّ من أسرار القراءة، الذي يسمح للقارئ العميق بالنفاذ إلى احتمالات النص ومبثوثاته الصامتة، الليل عبورٌ إلى باطن النص المؤول، والإسهام في توالدات معان متعدّدة، الليل نقيض الوضوح، ولكن في هذا الليل يتجلى الوضوح أكثر، وقد تماثل ذلك فيما قضيته من الليالي القرائية مع صاحبي الجاحظ. وبهذا، فالليل لدى القارئ أضوأ من النّهار؛ لأنه الأنفذ إلى عمق الفكر والقلب، يقول بلقاسم: "يتحدّد الليل، في الفعل القرائي، بوصفه نقيضًا للوضوح واليقين والثبات والبداهة، في هذا الليل أيضا، تترسّخ لعبة القراءة بما هي انتسابٌ إلى التلوّن والارتياب والاحتمال والتجدّد، وبما هي انخراط كذلك في إنتاج هذه الخصائص وتأمين دوامها"[1].

الليل مسعف على انخراط الفعل القرائي في فهم المجهول في النص، وتبديد الغرابة وإعادة تركيبها، به تنفتح لعبة القراءة على التلوّن والالتباس والاحتمال والتجدّد، "فليل القراءة فعل معرفيّ متشابك مع الدمغة الذاتية للقارئ، ولا يستقيمُ هذا الفعل إلا بنهوضه على ذاكرة خَبرتْ أنّ حقيقة المعنى راسخة في الانفلات والتأجيل والتلوّن الدائم"[2].

رأى بلقاسم أنّ الليل وجهٌ حقيقيّ للقراءة، يتجلّى في كونه الموَجّه إلى المسالك التأويليّة للالتقاء بباطن النص وتَكشّفِ "حقيقته"، الليل والقراءة يتداخلان ويتلازمان لكشْف ما أضمره الجاحظ واستضمره للقرّاء والكتّاب، وهما أيضا مسعفان للانفتاح على مسارات اللانهائيّ. الليل هو الوجهُ الحقيقي للمعنى والقراءة، وجهٌ منذورٌ للانتساب إلى الغياب، لا بوَصف الغياب معطى مستترًا يمكنُ الإلمام به وحصره، بل بوصفه مسالك ليلية. إنها مسالك اللانهائي، الذي يجعل هذا الغياب رهين التأويل ورهين القراءة"[3].

الكتاب الذي يتحدّد فيه المعنى في ضوء الليل، مؤلّفٌ لا متناه كما أسماه لويس خورخي بورخيس[4]، فيه يختبئ المجهول والغريب، وفيه يسكنُ الغياب. النفاذ إلى ظلماته مُهدِّدٌ بالموت، لكنّ هذا النفاذ لا يَستقيمُ وإن خصَّهُ القارئُ بكامل عمره. لذلك، يقول كيليطو: "ليطمئن القارئ: إنه لن يموت بسبب الليالي، لكونه لن يتمكن حتى وإن رغب في ذلك، من إتمام هذا الكتاب المتشظي"[5]. بناءً على ذلك، فالكتاب الخليقُ بفعلَي القراءة والكتابة هو الكتاب الذي لا يقدر القارئ على إتمامه. ليس المقصود بإتمامه، هنا، الانهاء وتتمّة القراءة، وإنما القدرة على استنفاد المعاني الثاوية فيه، وسبر أغواره وأسراره. وهكذا حدثني صاحبي، وأخبرتني به لياليه القرائية[6]. فالليالي الجاحظية، ليالٍ نقدية وإبداعية، اقتربنا فيها من الفعل القرائي والتأويلي لدى الجاحظ، وتم التحقق من صورة المرأة في متنه كموضوعة ختمت بها الليالي السبع.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] مرايا القراءة، ص143

[2] نفسه، ص ص: 142ـ 143

[3] نفسه، ص143

[4] لويس خورخي بورخيس، كتاب الرمل: قصص، ترجمة سعيد غانمي، دار أزمنة للنشر، ط2/1999م، ص85

[5] مرايا القراءة، ص246

[6] قال الجاحظ عن تأليف كتاب الحيوان: "«الحيوان» (4/ 361): «وأنا أعوذ بالله أن أغرّ من نفسي، عند غيبة خصمي، وتصفح العلماء لكلامي، فإني أعلم أن فتنة اللسان والقلم، أشدّ من فتنة النساء، والحرص على المال. وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه، أوّل ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب، والرابعة أني لو تكلفت كتابا في طوله، وعدد ألفاظه ومعانيه، ثمّ كان من كتب العرض والجوهر، والطّفرة، والتولد، والمداخلة، والغرائز، والتماس- لكان أسهل وأقصر أياما، وأسرع فراغا؛ لأني كنت لا أفزع فيه إلى تلقّط الأشعار، وتتبّع الأمثال، واستخراج الآي من القرآن، والحجج من الرّواية، مع تفرّق هذه الأمور في الكتب، وتباعد ما بين الأشكال. فإن وجدت فيه خللا من اضطراب لفظ، ومن سوء تأليف، أو من تقطيع نظام، ومن وقوع الشيء في غير موضعه- فلا تنكر، بعد أن صوّرت عندك حالي التي ابتدأت عليها كتابي. ولولا ما أرجو من عون الله على إتمامه؛ إذ كنت لم ألتمس به إلّا إفهامك مواقع الحجج لله، وتصاريف تدبيره، والذي أودع أصناف خلقه من أصناف حكمته- لما تعرّضت لهذا المكروه. فإن نظرت في هذا الكتاب فانظر فيه نظر من يلتمس لصاحبه المخارج، ولا يذهب مذهب التعنّت، ومذهب من إذا رأى خيرا كتمه، وإذا رأى شرّا أذاعه. وليعلم من فعل ذلك أنّه قد تعرّض لباب إن أخذ بمثله، وتعرّض له في قوله وكتبه، أن ليس ذلك إلّا من سبيل العقوبة، والأخذ منه بالظلامة. فلينظر فيه على مثال ما أدّب الله به، وعرّف كيف يكون النظر والتفكير والاعتبار والتعليم؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ»