الليبرالية الجديدة (تسليع كل شيء)
فئة : أبحاث محكمة
الليبرالية الجديدة
(تسليع كل شيء)
لقد أفرز تميع الحداثة الصلبة التي شكلت نمطاً مهيمناً ظهر الفكر الليبرالي الكلاسيكي في سياقه، نوعاً آخر من الليبرالية هي الليبرالية الجديدة، وقد تعرضت الحداثة في صيغتها الصلبة إلى نقد شرعت له الأبواب أحداث عجز الجهاز المفاهيمي للحداثة الصلبة عن حل إشكالياتها واستيعاب متغيراتها.
أولاً- المناخ ما بعد الحداثوي
إن ما بعد الحداثة هي شكل من الاعتراض والافتراق عن الحداثة، ولأن الحداثة ذات معنى ملتبس، فقد بدت ما بعد الحداثة أكثر التباساً. الأمر الذي جعل هارفي يعدّ أهم سماتها هو: «التنافر والاختلاف كعاملين أساسيين في إعادة تعريف الخطاب الثقافي»[1]. وينتج عن هاتين السمتين أن «التشظي وغياب التحديد والشك العميق في كل الخطابات الشمولية و«الكلية» هي العلامة الفارقة للتفكير ما بعد الحداثي»[2].
ويمكن التأريخ لبداية استخدام المصطلح مع ما قبل الحرب العالمية الثانية، حيث استخدمه توينبي في كتابه: «دراسة التاريخ» قاصداً به مرحلة من مراحل التاريخ الغربي لم يحددها بدقة؛ فهي مرة تعني لديه- النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومرة أخرى تعني ما قبل الحرب العالمية الأولى. والمهم أنه يصفها بأنها فترة تتسم: «باللاعقلانية والقلق وفقدان الأمل». وقد أصبح للمصطلح في النصف الثاني من القرن العشرين استخدامات في مجالات العمارة والنقد الأدبي والنظرية الاجتماعية والسياسية[3].
أما الاستخدام الفلسفي للمصطلح، فقد تأخر عن استخداماته في المجالات السابقة، وظهر لدى فرانسوا ليوتار في كتابه: «الوضع ما بعد الحداثي» عام 1975 الذي دعا فيه الإنسان إلى العيش من دون ما وراء روايات أو سرديات كبرى، وإلى اطّراح عبء مفاهيم التقدم والعقل كجوهر، والثورة؛ لأنها في -نظره- مفاهيم ساهمت في صنع مآسي الحروب والأنظمة الشمولية[4].
مع ما بعد الحداثة أصبحت الحقيقة المطلقة وهماً، وهو توجه في الفكر الغربي ساهم في تشكيله واقع بات يتوجه بسرعة نحو السيولة والاستعصاء على الثبات، وهوما يلخصه إيغلتون في توصيفه لما بعد الحداثة:
«تنظر ما بعد الحداثة إلى العالم، بخلاف معايير التنوير، بوصفه طارئاً عرضياً، بلا أساس متبايناً، بعيداً عن الثبات، وبعيداً عن الحتمية والقطعية، وبوصفه مجموعة من التأويلات أو الثقافات الخلافية التي تولد قدراً من الارتياب حيال موضوعية الحقيقة، والتاريخ والمعايير، والطبائع المتعينة والهويات المتماسكة. وهذه الطريقة في النظر لها شروطها المادية الواقعية كما يزعم البعض، فهي تنبع من تحول تاريخي شهده الغرب صوب شكل جديد من الرأسمالية، صوب عالم من التكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية وصناعة الثقافة، عالم سريع التبدد والزوال، بعيد عن التمركز انتصرت فيه صناعات الخدمات والمال والمعلومات على المصنع التقليدي»[5].
ويعبر إيغلتون عن سمة أخرى من سمات ما بعد الحداثة هي نبذها للسرديات الكبرى ولما يسميه: «ما وراء الروايات»، وإدراك عجز العقل الذي نصّبته الحداثة حاكماً ومشرعاً وانتظرت منه أن يصوغ الكليات في السياسة والفلسفة والاجتماع والاقتصاد:
«تشير ما بعد الحداثية إلى موت ما وراء الروايات التي كانت تتمثل وظيفتها الإرهابية السرية في وضع أساس لوهم تاريخ بشري «شامل»، وإضفاء الشرعية عليه. نحن الآن في سياق عملية الصحوة للانتقال من كابوس الحداثة مع عقلها المزيف وتبجيلها المبالغ فيه لفكرة الكلية إلى التعددية الراسخة ما بعد الحداثية، وألعاب اللغة التي تخلت عن دافع الحنين إلى الكليات وإلى شر عنتها وعلى العلم والفلسفة أن يتخليا بالتالي عن ادعاءاتهما الميتافيزيقية الفخمة والنظر إلى نفسيهما بتواضع أكبر وباعتبارهما فئة أخرى بالضبط من الروايات»[6].
والحق أن نقد العقل ليس تجلياً ما بعد حداثوي، فقد كان سمة أنوارية أسس لها كانط الذي ظل أثره قائماً بعد رحيله، فهو الذي جعل الواقع تابعاً لمقولات العقل، لا العكس، ولكن ما جعله يتمايز في «ما بعد الحداثة» هو رفض عدّ العقل جوهراً مشتركاً للبشر خارج التاريخ.
كان التمركز حول العقل في الحداثة مترافقاً مع تمركز حول القضيب بما يعنيه من وصاية بطريركية، فكما يمكّن العقل من الوصول إلى اليقين يمكن للقضيب - بوصفه رمزاً للذكورة اللامادية- أن يقبض على الحقائق المطابقة لذاتها، والتي لا تقبل الشك. أما ما بعد الحداثة، فتنظر إلى العقل كفعالية تتشابك علائقياً مع محيط منتجةً -عبر تفاعلها مع هذا المحيط- وقائع رمزية ومادية[7]. وما يميز ما بعد الحداثة أيضاً أنها مكّنت الجسد الذي طالما أهملته الحداثة لصالح مركزية العقل من الثأر لنفسه من العقل الذي هّمشه، وأصبح مطالباً شرساً بتلبية حاجاته التي لم تستطع الحداثة بدولتها القومية وباقتصادها الرأسمالي أن تلبيها.
وأصبح الجسد بديلاً للعقل في مركز الاهتمام، وأصبح:
«أصل الفلسفة وأصل كل النشاطات الأساسية. أما الإبستمولوجيا، فقد أصبحت تشبه النشاط الجنسي»[8].
لا توجد بحسب الـ «ما بعد حداثية» موضوعية، وإنما عمليات تفكيكية مستمرة هي التي تمثل الحقيقة البديلة إذا كان ثمة حقيقة. وإن انطلاق وحش التفكيك من قمقم الرؤية الما بعد حداثية لا يقيم وزناً لأي شيء، فالمفاهيم اللاهوتية تصبح موضوعاً للتفكيك، فلا تصمد أمام التفكيك لا فكرة الخلود الشخصي ولا الله نفسه الذي يصبح مصنوعاً من مصنوعات هذا الكون غير المخلوق[9].
وقد جعلت إذابة المواد الصلبة التي اتخذت منها الحداثة في بداياتها ديدناً؛ - من أجل الاستبدال بالمذاب مواد أكثر صلابة عصيّة على التشقق- جعلت المذاب غير قابل للتحول إلى صلب، وهو ما صبغ كل مجالات الحياة بالسيولة وأدى إلى فصل تدريجي للاقتصاد عن كل البنى التقليدية للأخلاق والثقافة والسياسة، وهو ما بلور نظاماً جديداً تحدد لغة الاقتصاد هويته بالدرجة الأولى[10].
إن ما يجعل الحداثة السائلة أو ما تعورف عليه بـ: «ما بعد الحداثة» مختلفة عن الحداثة الصلبة سمتان: [11]
1- فقدان الإيمان بمفهوم التقدم والاندفاع الخطي المستقيم للزمن نحو غاية تحقق الكمال، وجلب العيش الرغيد والعدل الذي لا يكدره ظلم، والمساواة التي يشوشها تفاوت.
2- نزع الضوابط وخصخصة الواجبات وانتزاعها من قبضة العقل؛ من أجل وضعها في كف الفرد الشجاع المغامر في تكريس مبالغ فيه لتأكيد الذات على حساب المجتمع العادل المحكوم بفعل تشريعي، وهو ما يمكن ملاحظته في غلبة خطاب حقوق الإنسان على خطاب المجتمع العادل.
ولأن كثافة الواقع تجبر البندول إذا أسرف في ابتعاده عن المركز على العودة إليه؛ لأنه لا بد من مركز أو جوهر أو ضرورة في مقاربة الكثير من القضايا، فقد عاد البندول الذي دفعته الوضعية المنطقية باتجاه الحتمية وتحويل الواقع إلى امتداد مادي ورفض الميتافيزيقا إلى منطقة تقصي الوضعية المنطقية على الأقل؛ لأنها لا تقيم وزناً لقضايا الميتافيزيقا، وهو ما أفقدها مصداقيتها شأن أي فلسفة متطرفة تحاول تأكيد نفسها على حساب أي تفسير مقابل. وقد تحرك البندول بالاتجاه المعاكس إلى مركزية الإنسان وعدّ الحرية لا الحتمية هي الغاية. وسوف تكون ما بعد الحداثة مترددة في كشف ستر العالم الذي بات غير واضح المعالم ورافضة كذلك لما تسميه الحداثة معرفة الذات ويصبح موقفها موقف الرافض لكليهما[12].
وسوف تجنح إلى النسبية الأخلاقية التي تتطلب عدم تحديد أخلاقي نهائي، وهو ما يستلزم المطالبة بالتسامح غير المقنن الذي يمثل ركناً من أركان الديمقراطية الليبرالية. ولعل الجذر وراء هذه السلسلة من اللزومات كامن في محاربة أي فلسفة أسسية، تنطلق من أسس لا تقبل الدحض، وهو ما يضطر إلى تجذير فكرة العدم الذي تصدر عنه بداية السلسلة بدءاً من الغموض الأخلاقي[13].
على مستوى فلسفة الوجود، يصبح الزمن المتبدل والمؤقت هو الواقع الوحيد فتنتج فكرة موت الإله، ولا يعود ثمة جوهر ولا شيء ضروري. كل ما هنالك وجهات نظر متنوعة[14]. وبسبب مركزية الإنسان تصبح المنظومة الأخلاقية صنعاً فردياً لا فرضاً إلهياً ولا اجتماعياً، وتصبح الإرادة الفردية لوحدها معيار التمييز بين الخير والشر، وبين الصحيح والخاطئ[15].
وأصبح العالم مشغولاً بمراكز عديدة للسلطة التي انفصلت عن السياسة؛ بمعنى انفصال القدرة على الفعل عن تحديد الغاية من الفعل، وأصبح العالم بسبب احتلاله من طرف سلطات متحررة من السياسة بحراً خضمّاً مليئاً بالمفاجآت التي تتيح فرصاً لا نهائية[16].
وهو ما يعبر عنه دارس لمشكلات الهوية بالقول:
إن العيش وسط فرص لا متناهية يمنح طعم الحرية اللذيذ بأن يصير المرء أي شخص يريد، ولكن هذه اللذة مع ذلك لها مذاق مرّ بعد تذوقها؛ فالصيرورة تعني - إلى حد ما- أنه ما من شيء انتهى بعد، وأن كل شيء يحدث في المستقبل، فالوصول إلى حالة يكون فيها المرء شخصاً ما، تلك الحالة التي تهدف الصيرورة إلى ضمانها تنذر بإطلاق الحكم لصفارته معلناً نتيجة المباراة: أنت لست حرّاً عندما تتحقق النهاية، لست حرّاً عندما تصير شخصاً ما[17].
ومن الواضح إمكانية جدل خيط من الصلة بين هذه الرؤية بملامحها المذكورة وبين جذر الليبرالية؛ لأنهما يتفقان على حرية الفرد وعلى حقه في إعادة تشكيل العالم وفق توافق في الآراء يعيد تأكيد الحرية الشخصية.
ثانياً- الفكر الاقتصادي في أواخر مشروع الحداثة
إن دراسة الليبرالية الجديدة تقتضي إدراك سمتين أساسيتين يمكن استنباطهما من العرض السابق، وهما:
إضفاؤها قيمة أسمى من أي قيمة لعالم الأعمال وعدها المال مقدساً، وتضييعها الحدود بين الخير والشر وإنكارها القيم المطلقة بربطها بنسبية أخلاقية تستدعي غموضاً أخلاقياً.
سنحاول تسليط الضوء على التحولات الاقتصادية التي أفضت إلى انبثاق تيار الليبرالية الجديدة.
التراكم هو المصطلح الاقتصادي المحوري للرأسمالية، سواء إبان المشروع الحداثي أم ما بعد الحداثي، ولكنه يأخذ شكلين مختلفين في كل من المشروعين، ويعرف النظام التراكمي بأنه:
«النظام الذي يرسم استقراراً في توزيع الناتج الصافي بين الاستهلاك والتراكم لفترة طويلة، وهو يفترض نوعاً من التوازن بين تغير شروط الإنتاج وتغير شروط إعادة الإنتاج للعاملين بأجر»[18].
في عام 1914 ظهرت الفوردية كنظام اقتصادي تراكمي يعنى بالإنتاج الكثيف والاستهلاك الكثيف، ويقترح سياسات جديدة لضبط العمل في سياق البحث عن ترسيخ قيم حداثوية عقلانية ديمقراطية شعبوية[19].
سمي النظام الاجتماعي الفوردي بـ «مجتمع منطاد الهواء الساخن»
وقد قام هذا النموذج للتطور على ثلاثة أعمدة:
1- تنظيم خاص للعمل يقوم على قطبين: قطب يفكر يمثله المهندسون والتقنيون والمدراء، وقطب ينفذ يمثله العمال، وهو تضاد نتج عنه مكاسب سريعة ومستمرة.
2- منطق ماكرو اقتصادي (نظام تراكم) يعود بثمرات المكاسب على الجميع، فيعزز القوة الشرائية التي تعززه بدورها.
3- قواعد تنظيمية صارمة تتوسل لتنفيذها تشريعات اجتماعية ودولة تدخلية (دولة الرفاه من أجل استحالة منطق التراكم المذكور واقعاً.
يأخذ شكل توزيع الدخل في الفوردية شكل منطاد هواء ساخن بطين (عظيم البطن):
قلة ثرية - قلة فقيرة- وكثرة في الوسط يرتفع بشكل مستمر وككل واحد[20].
وكأن المجموعات الثلاث تصعد سلماً دواراً تبقى كل طبقة اجتماعية فيه ضمن حدود لا تتداخل مع حدود الأخرى، ولكن الجميع يصعدون معاً، فأسلوب حياة المهندسين هو مستقبل التقنيين وأسلوب حياة هؤلاء هو مستقبل العمال المهرة، والأخيرون هم ما يرنو إلى محاكاة أسلوبهم أنصاف المهرة[21].
اقترنت الفوردية بالكينزية التي نشأت نسبة إلى الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز (1883-1946) الذي يعدّ أهم داعية ليبرالي لتدخل الدولة في السوق كرد فعل - في الأصل- على ما سببته أزمة الثلاثينيات من أزمة اقتصادية خانقة. وقد لقيت أفكار كينز دعماً من الحزب الديمقراطي الأمريكي. وبتضافر الفكر والدعم السياسي نشأ مصطلح دولة الرفاه ومصطلح «دولة الرعاية»[22].
في كتابه الشهير «النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقود» الذي صدر عام 1936 وضع كينز الأفكار المحورية لنظريته التي حولت الاهتمام من طريقة تحديد الأسعار وكيفية توزيع الدخل الناتج عنها إلى كيفية تحديد الناتج والعمالة، وهي تتلخص في أن زيادة الناتج والعمالة والبطالة تؤدي إلى ما أطلق عليه كينز: «نقص الميل الحدي للاستهلاك»؛ ما يعني زيادة المدخرات، ولا شيء يؤكد أن هذه المدخرات سوف تستثمر، وإذا ما تم ادخار الإيراد ولم ينفق، فستكون النتيجة إنقاص مجموع الطلب على السلع والخدمات -الطلب الإجمالي الفعال- وبالتالي على الناتج وعلى العمالة.
سيستمر هذا الانخفاض إلى أن تقل المدخرات، ويحدث ذلك عند الضغط من أجل زيادة الميل الحدي للاستهلاك، بل حتى عند فرض هذه الزيادة عن طريق إنقاص الدخل، وعند ذلك فإن المدخرات التي نقص حجمها يستوعبها مستوى الإنفاق الاستثماري الذي يهبط بسرعة أقل.
من الواضح أن زيادة الاستثمارات ناتجة عن إنفاق المدخرات، وهي عملية لا يتوصل إليها إلا عن طريق إنقاص الدخل وظهور حالات متزايدة من الحرمان، وهذا يعني أن حالة التوازن في الاقتصاد، والتي تعني تساوي الادخارات والاستثمارات لا تتحقق مع العمالة العاملة الإلزامية، بل يمكن أن تتحقق في ظل وجود مستويات عالية من البطالة، وهو ما يعرف بـ «توازن العمالة الناقصة» وهو ما يمكن أن يكون ثابتاً ومستمراً إذا لم تتدخل الحكومة بدون انتظار حتى تؤدي البطالة إلى خفض الأجور لرفع مستوى الإنفاق الاستثماري؛ أي الاقتراض والإنفاق من أجل الأغراض العامة؛ أي العجز المتعمد وهو السبيل الوحيد لكسر توازن العمالة الناقصة عن طريق إنفاق مدخرات القطاع الخاص التي لم تنفق[23].
وقد وصلت الفوردية المقترنة بالكينزية كنظام تراكمي متميز إلى ذروتها بعد عام 1945 بعد أن حددت صيغة جديدة للدولة ووظائفها واستمرت إلى عام 1973 التي تعد فترة ازدهار تحققت فيها معدلات نمو اقتصادي عالية في الدول الرأسمالية[24].
ظهرت أزمة الفوردية في أواسط الستينيات عندما بدأت معدلات التضخم في الازدياد، وهو أمر لم تكن الكينزية تعيره اهتماماً، فقد كان تحديد الأسعار والأجور اقتصاداً جزئياً متروكاً للسوق في الرؤية الكينزية، وكان جلّ اهتمامها منصبّاً -كما ذكرنا- على الإنتاج والعمالة[25].
وقد نتج عن زيادة الأسعار والأجور اضطرار النظام الفوردي إلى التسريح النسبي المتزايد للعمال من المصانع والتباطؤ المتكرر للطلب الفعال في الولايات المتحدة في موازاة الإنفاق على الحرب في فيتنام. وأصبح واضحاً تضاؤل قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في تنظيم الجهاز المالي العالمي بعدما تشكل سوق الأورو-دولار وقضم الاعتمادات لعام 1966-1967.
وقد حدثت انزياحات مكانية في شكل نهم نحو مصانع الأوف شور تملّك الشركات المتعددة الجنسيات، وهي انزياحات تمثل أسلوباً من أساليب معالجة التراكم الذي يعد سمة بنيوية من سمات الرأسمالية بفعل ما اتبعته بعض دول العالم الثالث من سياسة إحلال الواردات. نتيجة لهذا اشتد أوار المنافسة بين الولايات المتحدة من جهة، واليابان ودول أوروبية من جهة أخرى التي دخلت حقل التصنيع ونتج عن الانتقالات المكانية للأنموذج الفوردي، وما تبعه من منافسة ضارية انهيار اتفاقية «بريتون وودز» وتعويم أسعار الصرف بعد أن كانت ثابتة[26].
ظهر ما بين 1965-1973 عجز الفوردية والكينزية عن احتواء التناقضات الداخلية للرأسمالية، وهي صعوبات تمثلت في الاستثمارات الرأسمالية الثابتة في الإنتاج الكثيف، والتي كانت طويلة الأمد وكبيرة الحجم، وكانت تعيق مرونة التخطيط وتحول دون النمو الثابت في أسواق العمل وتوزيع العمالة وفي عقود العمل، ولم يكن ثمة استجابة ممكنة إلا على الصعيد النقدي، حيث تم طباعة كميات جديدة من النقد وبالمقدار الذي يبدو ضرورياً لإبقاء الاقتصاد مستقراً مما لزم عنه موجة التضخم التي أتت على حقبة ازدهار ما بعد الحرب[27].
لم يمثل التضخم مشكلة خلال السنوات الخمس والعشرين الطيبة، ولكنه بدأ بالتسارع بعد العام 1966؛ إذ ارتفع بأكثر من ست نقاط في المائة بين العامين 1969 و1970 ووصل إلى أربع عشرة نقطة في المائة من العام 1974 إلى العام 1975، وهو ما سمي بـ «التضخم المؤلف من رقمين»، فأصبح المستشارون الاقتصاديون يتكلمون عن زيادة الضرائب وخفض الإنفاق.
أخذ التضخم شكلاً جديداً في صورة زيادات في الأسعار والأجور نتيجة للتفاعل في الاقتصاد الحديث بين منظمات ضخمة حققت قدراً كبيراً للغاية من السيطرة على أسعارها، وهي سيطرة لم يكن الاقتصاد الأرثوذكسي يسلم بوجودها في الواقع ويعزوها إلى الاحتكار الكامل أو احتكار القلة، وقد تضافر في تشكيل هذا الشكل الجديد من التضخم نقابات العمال التي حققت سيطرة كبيرة على الأجور.
انبثق عن تفاعل هذه الكيانات قوة تضخمية جديدة تمثلت في أثر في الأسعار يحدثه الضغط الصعودي لتسويات الاجور وأثر في الأجور يحدثه الجذب الصعودي للأسعار وتكاليف المعيشة، سميت دينامية التفاعل هذه «الارتفاع الحلزوني للأسعار والأجور»[28]. وقد كشف هذا الارتفاع الحلزوني للأسعار والأجور عوار السياسة الكينزية التي فصلت الاقتصاد الجزئي من مجالات اهتمام علم الاقتصاد؛ الأمر الذي أدى إلى وجود نمط للاقتصاد الجزئي لا يمكن أن يعزى إليه دور تضخمي[29]، ولكن عندما أصبح التضخم يشكل تهديداً متزايداً في السبعينيات قبلت دول أوروبية بالدور التضخمي للتفاعل بين الأجور والأسعار؛ مما جعل الحد من زيادة الأجور سياسة عادية ومقبولة.
أما في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، فقد بذلت بعض الجهود القانونية للحد من التصاعد الحلزوني للأجور والأسعار، ولكنها لم تكن إلا جهوداً - بنظر من بذلها- تمثل حلولاً مؤقتة إلى أن تتمكن سياسة الاقتصاد الكلي الكينزية من أداء مهمتها في الجمع بين العمالة الكاملة والأسعار الثابتة، لكن حصافة هذه النظرة تلقت ضربة قاصمة بالارتفاع الكبير لأسعار النفط ما بين 1972 و1981 نتيجة للاتفاق الاحتكاري بين الدول المنتجة للنفط «الأوبك». تضخم الأجور والأسعار وزيادة أسعار أوبك كلاهما أظهرا، وبوضوح شديد عجز السياسة الكينزية[30]. وقد أيقظت كل هذه الأزمات العالم الرأسمالي من سباته، فبدأت سلسلة إجراءات طويلة في حقل المؤسسات الصناعية كما في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية أدت إلى العبور إلى شكل جديد للتراكم هو التراكم المرن.
ثالثاً- التراكم المرن: صبغة الليبرالية الجديدة
كما شبه أنموذج الفوردي بمنطاد الهواء الساخن يمكن تشبيه الأنموذج الذي جاءت به الاستراتيجيات السياسية والأيديولوجية والمؤسسية التي بدء بها منذ عام 1978 فصاعداً في البلدان الأنجلو ساكسونية وفي أوروبا الجنوبية وفي فرنسا في ظل رئيس الوزراء «ريمون بار» باسم الصراع ضد التضخم لأجل التنافسية، ولأجل استعادة ربحية الشركات بـ «نموذج الساعة الرملية»[31]. والسبب في هذا التشبيه هو أن جعل الأجور أكثر مرونة مع التحرر الملحوظ من الروابط الصارمة بالشركة، والتخفيض المضطرد في ضمانات التأمين ضد البطالة قد أضعف العمال والطبقة الوسطى عالمياً.
كانت النتيجة ازدياداً في الأرباح خصوصاً الأرباح الموزعة على شكل مكاسب مالية، بالإضافة إلى الأجور العالية لأجل كبار المدراء والمشرفين، مما أدى إلى تركز الدخل في الطبقات التي تدخر (أرباب الصناعة والتجارة والشريحة العليا من كسبة الأجور)[32].
إن الرافعة الاجتماعية تأخذ بالهبوط مرة أخرى عندما ينكمش منطاد الهواء الساخن ويصبح ساعة رملية. يتميز هذا النظام بمرونة حيال إجراءات العمل وأسواق العمل ومنتجات وأنماط الاستهلاك، ويتميز أيضاً بنشوء قطاعات جديدة تماماً وطرائق جديدة في توفير الخدمات المالية وتحقيق معدلات تنمية سريعة في القطاعات المختلفة. كما تميز بإعادة هيكلة جذرية لسوق العمل تمثلت في التحول من عقود العمل الدائمة للموظفين إلى ترتيبات العمل الجزئي أو المؤقت أو التعاقد من الداخل الذي أفسح الفرصة لنشوء المؤسسات التجارية الصغرة[33].
وفقد النظام الاقتصادي معاييره الثابتة، وأصبحت سمته اللهاث خلف اهتبال الفرص سمة النظام الجديد، كما اضطرت الفوردية معترفة بعجزها عن حل التناقضات إلى الاندماج مع شبكة كاملة من أنظمة التعاقد الجزئي؛ لأن المنافسة لا تذر للمتنافسين رفاهية الوقت الطويل، وهو ما ترافق- بالضرورة- مع الاستبدال بالإنتاج الضخم البعيد المدى إنتاجاً بكميات صغيرة وفق طلب السوق الذي أصبح طلبه بفعل هيمنة نزعة الاستهلاك التي خلقتها ثقافة الصورة لا يثبت على حال، وكل هذا نتج عنه اختزال للوقت العائد على الإنتاج والوقت العائد على الاستهلاك. انطوت هذه التحولات في الإنتاج والاستهلاك على جعل الأولوية للاستثمار في قطاع الخدمات الذي ترافق مع اندماجات ضخمة وتفريع للشركات[34]، وترجمت زيادة معدلات الوفرة إلى زيادة معدلات الاستهلاك وانعكست الثنائية: طول البقاء- سرعة الزوال التي كان يحتل فيها الطرف الأول القيمة الموجبة إلى ثنائية لصالح الطرف الثاني، وقد جعلت مركزية الاستهلاك الذات عبارة عن ذات معجونة بالرغبات والأمنيات، بعد أن كانت ذاتاً تبحث عن تلبية الحاجات.
ويمكن بتعبير آخر القول إن الفرد ذا الطبيعة الفيزيائية، والذي تحول إلى شخص ذي حقوق خلقية بعد صراع طويل امتد لقرون، ثم إلى مواطن بحقوق سياسية قد نكص على عقبيه بفعل نزعة الاستهلاك وطغت عليه سمة الفردية الأولى.
إن الانتقالات المكانية -التي أشرنا إليها آنفاً- قد ساهمت في جعل الرأسمالية أكثر تنظيماً عبر حركية جغرافية متوزعة وأكثر مرونة في الاستجابة لأسواق العمل وأسواق الاستهلاك وعمليات العمل، وأمكن تحقيق ذلك عبر تطورين[35]:
- المعلومات الدقيقة والحديثة التي أصبحت سلعة ذات قيمة عالية جداً.
- إعادة التنظيم الكاملة للنظام المالي العالمي، حيث تشكلت سوق عالمية واحدة للمال والتسليفات، وتداخل رأس المال الصناعي والعقاري والتجاري في العمليات والمؤسسات المالية.
إن التجلي الأبرز لهذا الانتقال من الفوردية إلى التراكم المرن هو هيمنة النزعة الفردية التنافسية والقضاء شبه المبرم على النزعة الجماعية التي سادت قبل ذلك، وهو تجلّ لم يقتصر بروزه على عالم الاقتصاد، بل تعداه إلى كل مجالات الحياة، بما فيها الحياة الأكاديمية والأدبية والفنية[36].
«حين يتصرف إنسان بقوة عمل إنسان ما فعليه أن يدرك أنه يتصرف بالكيان المادي والنفسي والأخلاقي المرتبط باللصاقة المرفقة المكتوب عليها إنسان. إن تجريد الكائنات الإنسانية من الغطاء الواقي الذي توفره المؤسسات الثقافية يهددها بالهلاك، نتيجة الآثار المدمرة للتعرض الاجتماعي والكائنات الإنسانية تذوي وتموت ضحية الانزياحات الاجتماعية الحادة عبر آثار الجوع والجريمة والانحراف والرذيلة»[37].
هذه النبوءة التي أطلقها العالم الاقتصادي البولوني كارل بولاني في مؤلفه الكبير «التغيير العميق» عام 1944 أكدتها الأزمات الاقتصادية في الدول التي تبنت الفكرة المركزية لليبرالية آدم سميث وريكاردو ومالتس التي تقوم على أن السوق كفيلة بتأمين توزيع عادل للثروات والخدمات، وأن توفر الاستثمار والتنمية ممكن من دون تدخل الدولة، والتي وجدت صياغتها الأشهر في مقولة «دعه يعمل، دعه يمر»؛ ولأن فشلاً ذريعاً حاق بالسياسات التي تبنت هذه الفكرة، فقد اضطرت الدول بعد الحرب العالمية الثانية إلى التدخل في النشاط الاقتصادي وتقييد حركة السوق.
في ظل هذه الظروف وهذا التوجه الجديد للدول واجه النظرية الكينزية معوقات بنيوية تمثلت أساساً بافتقارها الخطير إلى التوازن التوافق السياسي، فما كان ممكناً سياسياً لمقاومة انكماش الأسعار والركود لم يكن ممكناً من الناحية السياسية لمواجهة التضخم.
رابعاً- أطوار الليبرالية الجديدة
يمكن تحقيب المراحل التي مرت بها الليبرالية الجديدة في ثلاثة أطوار:
الطور الأول: يمتد منذ عشرينيات القرن العشرين إلى عام 1950، وقد اكتسب مصطلح الليبرالية الجديدة معناه مع سعي المدرسة الاقتصادية النمساوية إلى تحديد معالم مجتمع قائم على السوق، حيث اعتقد ليبراليو هذه المدرسة أنه الطريق الأنجع لتنظيم الاقتصاد وضمان الحرية الفردية. وفي هذه الحقبة محطة مهمة هي الاجتماع الذي دعا إليه الفيلسوف الفرنسي لويس روجر لمناقشة كتاب ليبمان «المجتمع الجيد» الذي لم يدع إلى حرية العمل والحركة فحسب، وإنما حاول إعادة صياغة الليبرالية بطريقة تمكن من معالجة أزمات الثلاثينيات[38]. وقد حضر هذا الاجتماع مفكرون ذوو أهمية خاصة في تطوير الليبرالية الجديدة مثل هايك وبولاني والكساندر روستو[39].
وبقيادة الفيلسوف والسياسي النمساوي هايك دعي إلى اجتماع عقد عام 1947 في منتجع مونت بيليران في سويسرا لتشكيل جمعية حملت اسم هذا المجمع، وقد التفّ حول هايك نخبة من الاقتصاديين ورجال الفكر وجاء في البيان التأسيسي لإعلان الجمعية:
«إن القيم المركزية للحضارة في خطر، لقد غابت لتوها الشروط الجوهرية للحرية والكرامة الإنسانية على امتداد مساحات شاسعة من سطح الأرض، وتتعرض في مناطق أخرى لتهديد دائم من تطور النزاعات السائدة في السياسة الراهنة. إن وضع الفرد والجماعة الطوعية تقوضهما باطراد امتدادات السلطة الاعتباطية، حتى حرية التفكير والتعبير -وهي أثمن ما يمتلكه الإنسان الغربي- يتهددها انتشار عقائد تدعي فضيلة التسامح عندما تكون في موقع الأقلية، في حين لا تنشد في الحقيقة إلا الوصول إلى موقع السلطة الذي تستطيع فيه قمع وإلغاء كل الآراء الأخرى عدا رأيها.
تؤمن الجماعة أن هذه التطورات نشأت في ظل تنامي مفهوم للتاريخ ينكر كل المعايير الأخلاقية المطلقة، وفي ظل تزايد نظريات تشكك في جدوى وجاذبية حكم القانون، كما تؤمن أن هذه النزعات ترعرعت في ظل انحطاط الإيمان بالملكية الفردية والسوق التنافسية، فمن دون انتشار القدرة والمبادرة المرتبطتين بهاتين المؤسستين، يصعب تخيل مجتمع يمكن فيه عملياً صون الحرية والحفاظ عليها»[40].
تبنت المجموعة التي التفت حول هايك اسم جمعية مونت بليران. وفي مقالته لعام 1949، «المثقفون والاشتراكية»، استند هايك إلى النجاحات التي حققها اليسار البريطاني الفابياني ليقرر أن الحرية الفردية في إطار الأسواق الحرة لا يمكن حمايتها إلا عن طريق استراتيجية لتشكيل الرأي توجهها وتقودها النخبة[41].
وبدافع من قناعة هايك أن الأفكار لا تصبح مكوناً عضوياً في السياسات إلا بتطاول الزمن، فقد اقترح استراتيجية تسرّع فاعلية أفكار مجموعته التي تضع في بؤرة اهتمامها الانتصار لحرية الأسواق عن طريق استهداف المثقفين والصحفيين والخبراء والسياسيين وصانعي السياسات على نطاق أوسع[42]. وقد شرع بذلك من خلال شبكة عبر الأطلسي من الممولين من رجال الأعمال المتعاطفين مع أفكاره ورجال الأعمال المؤدلجين الذين أداروا مراكز الفكر.
ومن خلال تعميم الأفكار الليبرالية من طرف الصحفيين والسياسيين، لقيت هذه الجمعية دعماً كبيراً داخل الولايات المتحدة من رجال أعمال قضّت مضجعهم التوجهات نحو اقتصاد مختلط واقتصاد موجه اعتمد في الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية[43].
وبذلك يمكن التأريخ للطور الثاني: الذي يمتد من عام 1950 إلى عقد الثمانينيات من القرن الماضي التي شهدت صعود ريغان وتاتشر في ذروة ليبرالية الصفقة الجديدة والديمقراطية الاجتماعية البريطانية[44]. وبين الطورين ظلت الحركة على هامش العالم السياسي الأكاديمي إلى حين ظهور أزمة السبعينيات وتبني جامعة شيكاغو لها؛ فقد ظهر أستاذ في هذه الجامعة ضئيل الحجم، قوي العزيمة في النقاش هو ميلتون فريدمان الذي تمثل إسهامه المحوري في تمسكه بأن لتحركات النقود أثراً حاسماً على الاقتصاد، وبخاصة على الأسعار، فإذا ما تم ضبط عرض النقود، فإن الأسعار تظل ثابتة، وقد مثل مذهب فريدمان النقدي حلاً لعدم التماثل السياسي غير المريح الذي اتسمت به السياسة الكينزية، فلا حاجة لزيادة الضرائب أو تقييد النفقات العامة، ولا لتوسيع وظيفة الحكومة.
كان تصفيق المحافظين في بريطانيا والولايات المتحدة للسياسات النقدية لفريدمان؛ بسبب عملها لصالح الميسورين من الأفراد والمؤسسات عن طريق رفع أسعار الفائدة في مواجهة التضخم على عكس السياسة المالية التقييدية التي تؤثر سلباً في الأغنياء؛ بسبب زيادة ضرائب الدخل الشخصي ودخل الشركات[45].
وقد تضافر ترحيب الأثرياء بها مع الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على النظم الاشتراكية في أمريكا اللاتينية ومناطق أخرى في العالم، فمن المعروف أن من يطلق عليهم أولاد شيكاغو، وهم مجموعة من الباحثين التشيليين درسوا في شيكاغو بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية عادوا إلى موطنهم بعد انقلاب بينوشيه على سلفادور اليندي حاملين في جعبتهم فكر فريدمان، وأسسوا لسياسات اقتصادية تتمحور حول إطلاق حرية السوق ومنح كل التسهيلات للاستثمارات الأجنبية وخصخصة المشاريع العامة، وكل الإجراءات التي اصطلح البعض على تسميتها: بــ «بيع فضيات العائلة».
وهي سياسة -عدا عن أنها تطبق الرؤية الليبرالية الجديدة للقضاء على الركود التضخمي ومواجهة التوجهات الاشتراكية متلفعة بقيمتي الحرية والكرامة الفردية- تساهم في تحقيق نفوذ إمبريالي أمريكي عن طريق إزالة كل الحواجز في وجه المستثمرين الأمريكيين الباحثين عن مناطق لاستثماراتهم لا تكدرها القيود[46].
وكان رفع أسعار النفط عام 1973 من طرف منظمة أوبك عاملاً لا يغفل في ترسيخ سياسات الليبرالية الجديدة على مستوى دولي، فقد أجبرت دول الخليج على تدوير عائداتها النفطية في بنوك الاستثمارات الأمريكية التي وجدت لديها في ليلة وضحاها إيداعات مصرفية هائلة تبحث لها عن استثمارات في طول العالم وعرضه، ويلزم لفتح الطريق أمامها وجود أنظمة كنظام بينوشيه يفتح لها الأبواب على مصاريعها[47].
في هذه المرحلة يمكن التأريخ لظهور فلسفة الليبرالية الجديدة التي عرفها هارفي بأنها:
«نظرية في الممارسات السياسية والاقتصادية تقول إن الطريقة الأمثل لتحسين الوضع الإنساني تكمن في إطلاق الحريات والمهارات التجارية الإبداعية للفرد ضمن إطار مؤسساتي عام يتصف بحمايته الشديدة لحقوق الملكية الخاصة وحرية التجارة وحرية الأسواق الاقتصادية، ويقتصر دور الدولة في هذه النظرية على إيجاد وصون ذلك الإطار المؤسساتي الملائم لتلك الممارسات. يتحتم على الدولة مثلاً ضمان قيمة وسلامة الموارد المالية وعليها إقامة الهيكليات والوظائف العسكرية والدفاعية والأمنية والقضائية المطلوبة لحماية الملكية الفردية واستخدام القوة إن اقتضت الحاجة لضمان عمل الأسواق بالصورة الملائمة، وعليها أيضاً -في حال لم يكن هناك سوق اقتصادي- (في مجالات مثل الأراضي والماء والتعليم أو الرعاية الصحية أو الضمان الاجتماعي أو تلوث البيئة) إيجاد هذه الأسواق، ولو عن طريق التدخل المباشر إن لزم الأمر. خارج نطاق هذه المهام، لا يجب على الدولة أبداً أن تغامر بالتدخل. في الميدان الاقتصادي على وجه الخصوص يتحتم على الدولة إبقاء تدخلاتها في الأسواق (بعد إنشائها) على أدنى المستويات الضرورية»[48].
في هذا الطور صار يقال بلا مواربة من طرف مسؤولين في بعض الهيئات الدولية إن عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية ضروري كمحرك للتقدم الاقتصادي والاجتماعي[49].
الطور الثالث: يمتد منذ ما بعد عام 1980، وقد أصبحت سمته الطاغية وربما الوحيدة هي تبني أجندة تحرير السوق وتحقيق الانضباط المالي في سياسات التنمية والتجارة[50].
عبرت تاتشر في تصريحاتها عن عقيدتها المركزية، وهي الداروينية الاجتماعية التي ترى الصراع محور الوجود ومبرره بين الأمم والمؤسسات والأفراد، وأن المنافسة تفرق بين الذئاب والخراف، وبين الرجال والعيال، وبين الصالح والطالح، «المنافسة آليتنا لتدبير الموارد الطبيعية او البشرية أو المالية، مع أكبر قدر من الفعالية والكفاءة»[51]. وعرف عنها عبارتها الشهيرة:
«لا يوجد مجتمع، يوجد أفراد رجال ونساء لا غير» ثم أضافت لاحقاً: «وأسرهم»[52].
في تأكيد لقناعتها الفردانية التي تجلت في إعطاء أكبر قدر من التجارة والأسواق، ومحاولة القضاء على دولة الرفاه والضمان الاجتماعي وخصخصة الأصول العامة وفتح الباب أمام الاستثمارات مع تخفيض الضرائب[53].
لقيت النيو ليبرالية سندها الأقوى على إثر صعود رونالد ريغان إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عام 1980 وتبنّيه لها. وقد لقيت سياسات رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي فولكر دعماً قوياً من الرئيس الأمريكي. كانت سياسات فولكر التي سميت: «صدمة فولكر» تقوم على إلغاء السياسات النقدية المالية الكينزية والتخلي عن العمالة الكاملة كهدف، والتوجه نحو القضاء على التضخم بأي ثمن[54].
تبنت معظم دول أوروبا الشمالية باستثناء السويد والنمسا هذا الاتجاه؛ الأمر الذي وفر الشروط السياسية لتطبيق وصفاتها وكرّت السبحة مع انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث اندفعت بلدان أوروبا الشرقية ودول أمريكا اللاتينية كبوليفيا عام 1985 والمكسيك عام 1988 وفنزويلا والأرجنتين 1989 والبيرو 1990 واتخذت في آسيا تحت مسمى: «إعادة الهيكلة» شكلها الآسيوي في الاقتصاد الهندي وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا[55].
تمحورت أفكار النيو ليبراليين حول ثلاثة محاور:
حرية تجارة السلع والخدمات، حرية حركة الرساميل، حرية الاستثمار. أما الأدوات التي اعتمدوها، فقد كان أهمها الشركات المتعددة الجنسيات وصندوق النقد الدولي الذي عززوا دوره بشكل كبير، والبنك الدولي[56].
تسببت النيو ليبرالية بكوارث لم تأبه بها لتحقيق غاياتها المتمثلة في خلق اقتصاد تكون المنافسة والسوق شرطيها الطبيعيين؛ فقد وصل معدل البطالة في أمريكا عهد ريغان إلى 5.7% وإلى 10% في بريطانيا في عهد تاتشر، كما نتج عن تفكيك دولة الرعاية تدني مستوى حياة الكثيرين في البلدين[57].
وانخفضت نسبة حصة خمس السكان الأفقر في العالم من الدخل القومي بعد عام 1986 إلى 6.4% بعد أن كانت 7% في أوائل السبعينيات. وازداد عدد العائلات الفقيرة بين عامي 1979 و1986 بنسبة 35%.
وكان أكثر من نصف الأطفال في المناطق التجارية الضخمة يعيشون في عائلات يتدنى مستوى دخلها إلى ما دون خط الفقر. وعلى الرغم من ارتفاع معدلات البطالة فإن نسبة من تلقوا الدعم قد انخفضت إلى 32%.
أما الأغنياء والمثقفون، فقد عاشوا أياماً جميلة لم ينعم بها غيرهم في ظل رأسمال وهمي قائم على إنتاج الصور والأشكال الثقافية والجمالية. إنه ما يسميه هارفي: «اقتصاد الكازينو» الذي يقتطع منه سماسرة العقارات جزءاً يدفع للاختصاصيين لكي ينعوا هذا الرأسمال الوهمي[58].
اتسعت الشقة بين الأغنياء الذين يصنعون الوهم ويبيعونه، وبين الفقراء الذين عبرت إحداهن عن الحال بلهجة تبرّح النفس عن حال مثيلاتها وأمثالها:
«أنا الآن في السابعة والثلاثين من العمر، ولكني أبدو وكأني في الثانية والخمسين. يقول البعض إن حياة الشارع سهلة ومجانية... ولكنها ليست مجانية ولا سهلة، لا تستطيع إلا أن تدفع وما تدفعه هو صحتك واستقراك العائلي. البلادة اسم بلدي وأرضي ملطخة بالخجل وقافلتي التي لا منازل لها تعبر جادات العز والرفاه»[59].
في محاكمته لليبرالية الجديدة، يقول هارفي إنها فشلت في تحفيز النمو وفي تحسين الوضع الإنساني، وإذا كان ثمة إنجاز قد حققته الممارسة لا النظرية، فهو يتلخص في إعادة السلطة الطبقية للنخب الحاكمة في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وتحقيق ظروف تسمح بتشكل طبقة رأسمالية في الهند وروسيا والصين.
وما سبّبته الليبرالية الجديدة من كوارث لدول ومجتمعات أخرى وجد تبريره جاهزاً لدى وسائل الإعلام المهيمن عليها من طرف الطبقات العليا فحواه: أنها دول غير تنافسية، وما سببته من تفاوت اجتماعي بين المناطق المختلفة كان لازماً ضرورياً - بحسب هذه الطبقات العليا- لضرورة تشجيع روح المبادرة التي تحفز التنافسية.
أما ما تعانيه الطبقات الدنيا من ظروف البؤس والشقاء، فإنها تتحمل مسؤوليته لأسباب ثقافية أو شخصية؛ فهي لا تمتلك الأخلاق البروتستانتية التي تقدس العمل ولا تكرس جهوداً كافية للتعليم. إنها الداروينية الاجتماعية في أبشع صورها وفي أقسى تجلياتها، والتي لا مكان وفقها إلا للأصلح والأقدر على البقاء[60].
إن ما يمثل القلب لهذه الليبرالية الجديدة هو تكنولوجيا المعلومات التي لا تفلح في تحسين الإنتاج بالقدر الذي تقدم فيه نفعاً كبيراً لنشاطات المضاربة وعقود العمل المؤقتة؛ لأن القطاعات التي تستفيد منها هي قطاعات إنتاج الصورة من أفلام وألعاب فيديو وإعلانات[61].
إن التراكم المرن يقوم على سلب الملكية الذي سبق لماركس أن حلله في صورته الأولية القائمة على طرد الفلاحين بعد خصخصة أراضيهم، وهي تتخذ اليوم أشكالاً عديدة منها تحويل الأملاك العامة إلى خاصة وتسليع قوة العمل وانتزاع ملكية الأصول عبر التشكيل الإمبريالي بأدواته المتمثلة في سياسات المنظمات الدولية وتجارة الجنس وتعزيز التراكم عن طريق نظام الإقراض. ولم تسلم حتى حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع من فرض أجور عليها وحتى الحقوق التي بذلت في سبيلها دماء عبر عقود من الصراع الطبقي مثل حقوق التقاعد والتأمين الصحي والحق في التعليم.
يتخذ ما يسميه هارفي التراكم عبر سلب الملكية أربعة أشكال: [62]
التسليع والتخصيص: ويعني خصخصة الأملاك العامة على درجات متفاوتة في أنحاء العالم، وهي سياسة لا تذر مجالاً من المجالات ينجو من بطشها ابتداء من القطاعات الخدمية كالاتصالات والمياه وخدمات الرعاية الاجتماعية مروراً بالملكية الفكرية والمواد الجينية والمشاعات البيئية، وانتهاء بحقوق الرعاية الصحية والتعليم والتعويضات التقاعدية.
التمويل: وذلك عبر عمليات بيع وشراء الأسهم التي تعد أبرز ملمح من ملامح النظام الرأسمالي المالي وعبر المضاربة والسلب، ورفع تكاليف الديون الذي عاد بالويل والثبور على بعض الدول وحولها إلى أجير يعمل بالسخرة للدول الدائنة.
إدارة واستغلال الأزمات: ومثالها الأبرز هو أزمة المكسيك فبينما تظاهر فولكر بأنه المنقذ برفعه لمعدل الفائدة في الولايات المتحدة، فقد مهّد فعلياً لنهب الاقتصاد المكسيكي.
وأزمة الديون في دول أمريكا اللاتينية كانت أيضاً نافذة لاستباحة أصول هذه الدول؛ فقد تحكمت بها الدول الغنية تحت شعار عقلنة النظام وإعادة توزيع الأصول، ففي سيناريو مثل الذي حدث في الأرجنتين حصل فائض البطالة المتعمد وجمدت أصول ثمينة في انتظار من ينفخ فيها الروح من القوى الرأسمالية، وقبل أن تحدث ثورة شعبية تكفل بمنع حدوثها النظام الكمبرادوري تدخل صندوق النقد الدولي والخزانة الأمريكية لإصلاح الوضع المتأزم عبر مصادرة الأصول.
إعادة التوزيع بواسطة الدولة: فالدولة تصبح المسؤول الأول والأخير عن عمليات الخصخصة التي تبدو للوهلة الأولى مفيدة، ثم ما يلبث وجهها القبيح أن يظهر. ومثال خصخصة العقارات في لندن في عهد تاتشر مثال بارز على نفع عاجل تحوّل فيه أصحاب الدخل المحدود من مستأجرين إلى مالكين استحال إلى ضرر بالغ بخضوع سوق العقارات للمضاربات في سوق العقارات؛ مما ألجأ الكثيرين منهم إلى البحث عن مقام للسكن بعيداً عن المدينة، وحوّل بعضهم إلى مشرّدين ينفقون جزءاً كبيراً من دخولهم في التنقلات. والمستفيد -بالطبع- نخبة استفردت بمناطق ذوي الدخل المحدود المهجورة بتحويلها إلى مناطق حضرية راقية.
ومن وسائل إعادة التوزيع التي تستخدمها الدولة التحكم بالإجراءات الضريبية خدمة للاستثمار لا لمصلحة زيادة الدخل والأجور، ومنح الشركات الكبرى إعفاءات ضريبية تجعل الثروة تتجه من الطبقات الدنيا إلى العليا في عكس للوضع الطبيعي الذي يجب أن تتدفق فيه الثروة من الأعلى إلى الأسفل.
إن السمة الطاغية لليبرالية الجديدة هي تسليع كل شيء بما فيه ما لم ينتج لأجل البيع؛ فقد وجد الآن عامل يعامل كسلعة تستخدم لمرة واحدة بعد أن سحبت الدولة التزاماتها تجاه العمال، ودُمّرت النقابات أو أعيدت هيكليتها بما يتلاءم مع الممارسة النيو ليبرالية.
وفي شهادة لفتاتين أندونيسيتين عملتا في مشروع لدى مقاول في سنغافورة مثال على العامل المستخدم مرة واحدة:
«توجيه الإهانات إلينا بشكل منتظم أمر اعتيادي وطبيعي، فحين يغضب المدير يلقب النسوة بالكلاب والخنازير والعاهرات، وعلينا تحمل ذلك بصبر ودون إبداء أي ردات فعل. نعمل رسمياً من الثامنة صباحاً وحتى الثالثة بعد الظهر بأجر أقل من دولارين يومياً، ولكن هناك أوقات عمل إضافية إجبارية في أحيان كثيرة قد تستمر حتى التاسعة ليلاً خصوصاً إذا كان هناك طلبية مستعجلة ينبغي تسليمها. لا يسمح لنا بالعودة إلى منازلنا مهما بلغ بنا التعب... جو المعمل حار إلى حد لا يطاق فسقف البناء معدني، وليس ثمة مساحة كافية لاستيعاب كل العمال في ذاك المكان المكتظ. أكثر من 200 شخص يعملون هناك معظمهم نسوة ولا يوجد إلا مرحاض واحد لكل المعمل»[63]. هذا مثال على الاستخدام لمرة واحدة وعلى ما تسببه سياسات نزع الملكية لليبرالية الجديدة من امتهان للمرأة وسلب لحقوقها.
إن النتيجة المريعة لتحلل الدولة من التزاماتها وتسليع العمل والإنسان اللذين أتينا على ذكرهما لا تذر للمهمشين من سبيل سوى محاولة البحث عن أشكال مؤسساتية تعبر عن إرادتهم المشتركة، فيجدونها مرة في كارتيلات الجريمة، وأخرى في تنظيمات دينية أو علمانية متطرفة، وثالثة في شبكات الاتجار بالمخدرات[64].
ولعل هذه المحاكمة لممارسات الليبرالية الجديدة بما تبرزه من نتائج كارثية يهون أمرها إذا ما وضعت في كفة الميزان المقابلة ما تتسبب به الرؤية الليبرالية الجديدة لحقوق الإنسان من نتائج، فهي رؤية تقوم على تسويق قيم كونية لا تصب في النهاية إلا في مصلحة التراكم الرأسمالي الذي يتمحور حول الفرد مفصولاً عن أي حقوق سياسية واجتماعية وثقافية، وتستخدم سيفاً مصلتاً على رؤوس من يعارضونها بوصمهم بوصم: «أعداء حقوق الإنسان».
وبذريعة حماية هذه الحقوق، يحدث السطو المسلح على العراق وأفغانستان مثلاً وعلى حد تعبير أحد الباحثين:
«إن جذور النزعة الإنسانية الراهنة والقائمة على حماية حقوق الإنسان ضاربة في عمق الإجماع المتزايد على تأييد تدخل الغرب في الشؤون الداخلية للدول النامية منذ السبعينيات»[65].
التحديث التكنولوجي والنمو الاقتصادي هما المفهومان المفتاحان في الكتلة النظرية للنيو ليبرالية المتمثلة بالعالم القائم على الاستهلاك والوهم الذي باعته النيو ليبرالية عن طريق مفتاحيه الآنفي الذكر أن الإنتاج الكثيف للسلع الاستهلاكية مثل السيارات والتجهيزات الإلكترونية وتحويل العمال إلى مستهلكين، وخلق أسواق استهلاكية جماهيرية واسعة، وظهور مجتمع الطبقة الوسطى ستؤدي إلى توفير الاستقرار الضروري للمجتمع.
ونحن نسميه وهماً؛ لأن الواقع أتى بنتائج وخيمة لهذه السياسات؛ فقد أصبحت مصالح الشركات المتعددة الجنسيات تفترق عن مصالح العمال والمستهلكين، وهم الذين وعدوا بأن يصبحوا السادة بوسطة الإدارة الاقتصادية الحرة، كما تفككت اقتصادات الدول القومية؛ الأمر الذي يهدد بتدمير مجتمع الطبقة الوسطى.
كما أصبحت القيود البيئية أكثر ضعفاً، فقد باتت الزيادة السكانية والزيادة الهندسية في استهلاك الطاقة أمرين يصعب تحملهما، ومن منا لم يسمع بالتهديد الذي تتعرض له طبقة الأوزون نتيجة التجديدات التكنولوجية والموارد الجديدة مثل أنواع البلاستيك والغازات الفسفورية والكربونية[66]. وعلى عكس الصورة التي تقدم بها النيو ليبرالية نفسها على أنها فلسفة الأيام الجميلة شرط عدم تدخل الدولة، فقد عمّقت التفاوت في المجتمعات وبين الأمم والشعوب، وحولت الصيغة «التنمية الاقتصادية لخدمة المجتمع» إلى «المجتمع في خدمة التنمية الاقتصادية».
إن الإيمان الليبرالي الجديد بالأسواق الحرة جاء بالأزمة المالية في 2007-2008. وقد كانت هذه الأزمة نتيجة مباشرة لثقافة منحت السوق الحرة وضعاً إلهياً لم تستحقه[67]. تبنى مسؤولون كبار في بعض المؤسسات الدولية فكرة امتلاك الأسواق آلية تنظيم ذاتية تجعلها عصية على الانهيار، فقد تبناها «آلان جرينسبان» الرئيس السابق للاحتياطي الفدرالي. وقد استند هذا الاعتقاد إلى رؤية تقوم على أن المصلحة الذاتية للمؤسسات المالية ستحلّ بديلاً فعالاً عن التنظيم الخارجي الصارم للأسواق المالية؛ لأنها ستحول دون تعرض البنوك إلى استراتيجيات عالية المخاطر.
تكمن هذه الفكرة في قلب إخفاقات السياسة التي أدت إلى أزمة الائتمان، وهي الكارثة الأشد سوءاً منذ الكساد العظيم، فقد كشفت حدود ما أطلق عليه أحد الصحفيين «الاقتصاد اليوتوبي»، وأبرزت بشكل صارخ عواقب القبول غير النقدي بمنطق السوق الحرة[68]. وقد اقترحت أسباب ثلاثة لتفسير الانهيار: [69]
الأول: عزا الانهيار إلى السلوك غير المسؤول للمصرفيين أنفسهم، فقد نشأت الأزمة عندما أصبح من الواضح أن ميزانيات معظم المؤسسات المالية الكبرى في وول ستريت ومدينة لندن كانت مليئة بالأصول السامة التي لا قيمة لها، والتي تستند إلى التزامات الرهن العقاري الثانوي، وقد عنى هذا ببساطة أن ثمة أصولاً مبالغاً في قيمتها إلى حد كبير، وقد جرى إغواء البنوك بادعاءات الاقتصاديين الرياضيين أنهم قادرون على بناء أنموذجات قادرة على القضاء على عدم اليقين ومبشرة بإدارة كاملة للمخاطر.
أدى هذا الخيال إلى إنتاج منتجات مالية جميلة المظهر ومضللة مثل مقايضة العجز عن سداد الائتمان والتزامات الدين المضمونة وغيرها من الأوراق المالية المدعومة برهونات عقارية من المستحيل تقدير قيمتها. كانت الأنموذجات والمنتجات التي استندت إليها أعجز بكثير من القدرة على القضاء على المخاطر، فقد أخفت في الواقع القيمة الحقيقية لهذه الأصول، ولقد قادت البنوك إلى رفع ميزانياتها إلى مستويات فلكية سعيا لتحقيق أرباح غير مسبوقة. تفكك الصرح برمته عندما أدرك التجار، مدفوعين بغريزة القطيع أن البنوك وشركات التأمين الكبرى معرضة بشكل مفرط للخطر، وقد عجل إدراكهم هذا في انهيار السوق.
الثاني: الفشل السياسي لإدارتي كارتر وكلينتون. وكان تفسيراً للمحافظين قائماً على واقع أن الديمقراطيين قد شجعوا الأموال الرخيصة، ومنح الرهون العقارية لمن لا يستطيعون تحمل تكاليفها، فقد أجبر قانون إعادة استثمار المجتمع لعام 1975 البنوك على إقراض الأموال لأمثال هؤلاء، وقد تضمنت هذه السياسة تعزيز ملكية الفقراء المنازل إلى جانب الممارسة الوضيعة لبعض المقرضين عديمي الضمير التي تقوم على تشجيع الناس على تمويل قروضهم من خلال استغلال منازلهم؛ من أجل الحصول على السيولة. كانت النتيجة الكارثية لهذا النوع من الإقراض تكريس ثقافة العيش بأكثر مما تتيحه الوسائل الممكنة، وهي ثقافة تغذيها مفاهيم خيالية عن الرخاء الذي لا نهاية له.
السبب الثالث: والذي يعنينا أكثر في سياقنا للأزمة المالية هو ما نتج مباشرة عن سياسات الليبرالية الجديدة.
ففحوى هذا السبب: أن إلغاء القيود المفروضة على الأسواق المالية قد أدى إلى زوال الضمانات التي طبقت بشكل تدريجي منذ الصفقة الجديدة في الولايات المتحدة وبريطانيا.
بدأ إلغاء القيود المالية في الولايات المتحدة أثناء إدارة «كارتر» بقانون مؤسسات الإيداع والرقابة النقدية (1980) الذي خفّف القيود المالية المفروضة على البنوك ووسّع سلطات الإقراض. وفي بريطانيا، ألغت تاتشر ومستشارها «جيفري هاو» ضوابط الصرف كأحد الإجراءات الأولى التي اتخذتها الحكومة في عام 1979.
واستمر رفع القيود في الثمانينيات مع تحرير ريغان للقطاع المالي من خلال تدابير مثل قانون سمح للمصارف بتقديم قروض عقارية قابلة للتعديل، واستمرت في بريطانيا أيضاً من خلال تحرير سياسة البيغ بانغ[70] لمدينة لندن بين عامي 1983و 1986. وأخيراً، تسارعت العملية من خلال تفضيل بيل كلينتون وتوني بلير وغوردون براون[71] لتنظيم «اللمسة الخفيفة»[72] في التسعينيات. كان إلغاء القيود المالية مظهراً متطرفاً للإيمان النيوليبرالي بالأسواق. لقد كان شعاراً عالمياً يتبناه الجمهوريون والمحافظون والديمقراطيون وسياسيون من شتى الأطياف[73]. حل محل المعركة الناجحة ضد «التضخم الكبير» التي شنها بول فولكر خلال الثمانينيات من القرن الماضي سياسة تخفيف أو تشديد أسعار الفائدة لرائدها «آلان جرينسبان» وفقاً لما إذا كانت التوقعات جيدة أو سيئة. توضح هذه الإخفاقات في السياسات أن الإيمان الراسخ بالأسواق منفصل عن الواقع؛ فقد كانت الأزمة الدراماتيكية في الفترة 2007-2008 تحدياً حقيقياً للنظرة النيو ليبرالية العالمية[74].
[1] - ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، ترجمة محمد شيا، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2005، ص. 24
[2] - المرجع نفسه، ص. 67
[3] - محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، مرجع سابق، ص. 141
[4] - المرجع نفسه، ص. 142
[5] - Terry Eagleton, the illusions of postmodernism, (Massachusetts, Blackwell Publishers Inc, second published, 1997), p.p. vii, viii
[6] - ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، مرجع سابق، ص. 26
[7] - جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، مرجع سابق، ص.ص. 133-134
[8] - عبد الوهاب المسيري، فتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، دمشق، دار الفكر، 2012، ص. 37
[9] - انظر عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة، عالم المعرفة، الكويت، العدد، 1998، ص. 262
[10] - زيجمونت باونت، الحداثة السائلة، مرجع سابق، ص.. 42-44
[11] - المرجع نفسه، ص.ص. 74-75
[12] - المسيري، التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، دمشق، دار الفكر، 2012، ص. 87-94
[13] - محمد جديدي، الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، مرجع سابق، ص. 190
[14] - ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، مرجع سابق، ص. 67-70
[15] - المرجع نفسه، ص. 67-70
[16] - زيجمونت باونت، الحداثة السائلة، مرجع سابق، ص. 33
[17] - المرجع نفسه، ص. 114
[18] - ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، مرجع سابق، ص. 153
[19] - المرجع نفسه، ص. 159
[20] - روبرت ألبريتن وآخرون، أطوار التطور الرأسمالي، ترجمة عدنان حسن، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2001، ص. 31
[21] - المرجع نفسه، ص. 31
[22] - انظر جون كينيث جالبريث، تاريخ الفكر الاقتصادي، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، الكويت: عالم المعرفة، 2000، ص. 246، 259
[23] - المرجع نفسه، ص.ص. 257-258
[24] - المرجع نفسه، ص. 279-294
[25] - المرجع نفسه، ص. 295
[26] - ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، مرجع سابق، ص. 177
[27] - المرجع نفسه، ص. 178
[28] - جون كينيث جالبريث، تاريخ الفكر الاقتصادي، مرجع سابق، ص. 287
[29] - المرجع نفسه، ص295-297
[30] - المرجع نفسه، ص. ص. 298-299
[31] - روبرت ألبريتن وآخرون، أطوار التطور الرأسمالي، مرجع سابق، ص. 37
[32] - المرجع نفسه، ص. 37
[33] - ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، مرجع سابق، ص. 183، 187
[34] - المرجع نفسه، ص. 192-195
[35] - المرجع نفسه، ص. 196-198
[36] - المرجع نفسه، ص. 209
[37] - ديفيد هارفي، الليبرالية الجديدة، ترجمة مجاب الإمام، ط1، المملكة العربية السعودية: العبيكان، 2008، ص. 272
[38]- See Daniel Stedman Jones, Masters of the Universe: Hayek, Friedman, and the Birth of Neoliberal Politics, Princeton University Press, Princeton, NJ, 2012, p. 6
[39] - Ibid.
[40] - ديفيد هارفي، الليبرالية الجديدة موجز تاريخي، مرجع سابق، ص.ص. 39-40
[41]- Daniel Stedman Jones, op.cit., p. 30
[42] - Ibid., p. 81.
[43] - ديفيد هارفي، الليبرالية الجديدة، مرجع سابق، ص. 43
[44]- Daniel Stedman Jones, op.cit., p. 7
[45] - جون كينيث جالبريث، تاريخ الفكر الاقتصادي، مرجع سابق، ص. 290-293
[46] - ديفيد هارفي، الليبرالية الجديدة، مرجع سابق، ص. 22-24
[47] - المرجع نفسه، ص.ص. 49-50
[48] - المرجع نفسه، ص. 11
[49]- Daniel Stedman Jones, op. cit., p. 9
[50]- Ibid., p. 8
[51] - زبيري رمضان، العولمة والبنى الوظائفية الجديدة للدولة، عمان: مركز الكتاب الأكاديمي، 2015، ص. 101
[52] - ديفيد هارفي، الليبرالية الجديدة، مرجع سابق، ص. 44
[53] - المرجع نفسه، ص. 44
[54] - المرجع نفسه، ص.ص. 45-46
[55] - المرجع نفسه، ص. 122
[56] - المرجع نفسه، ص.ص. 53-54
[57] - المرجع نفسه، ص. 147
[58] - ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، مرجع سابق، ص.ص. 381-382
[59] - المرجع نفسه، ص. 383
[60] - ديفيد هارفي، الليبرالية الجديدة، مرجع سابق، ص.ص. 256-257
[61] - المرجع نفسه، ص. 258
[62] - المرجع نفسه، ص. 261-268
[63] - المرجع نفسه، ص. 271
[64] - ديفيد هارفي، الليبرالية الجديدة، مرجع سابق، ص.279
[65] - المرجع نفسه، ص. 288-291
[66] - المرجع نفسه، ص. 281
[67]- Daniel Stedman Jones, op.cit., p. 338
[68]- Ibid., p. 339
[69]- Ibid., pp. 339-341
[70] - يشير مصطلح البيغ بانغ إلى اليوم الذي اتخذ فيه قرار تحرير سوق الأوراق المالية في لندن، وهو ما حول شركة بورصة لندن إلى شركة خاصة محدودة.
[71] - سياسي بريطاني كان رئيس وزراء المملكة المتحدة وزعيم حزب العمل من 2007 إلى 2010. شغل منصب وزير الخزانة من 1997 إلى 2007
[72] - يعني تنظيم اللمسة الخفيفة حثّ الدولة على عدم التدخل في الأزمة المصرفية ووقف الإقراض المتهور.
[73] - Ibid.
[74] - Ibid.