الماركسية ونقد الفوات الحضاري: مِن الإيديولوجيا الألمَانيّةِ إلى الإيديولوجيا العربِيّة
فئة : مقالات
الماركسية ونقد الفوات الحضاري:
مِن الإيديولوجيا الألمَانيّةِ إلى الإيديولوجيا العربِيّة
مثلما ينتقل البشرُ من سياقٍ جغرافيٍّ إلى آخر، ويَكتسبونَ في ارتحالِهم وعيًا جديدًا، فإنّ النظريَّاتِ تكتسبُ أيضًا في انتقالِها بينَ السّياقات الثقافية معالمَ جديدةً. بهذا التَّصورِ الَّذي قدَّمَهُ إدوارد سعيد ضمن (النظرية المرتحلة)، يمكنُنا قراءةُ أوجهٍ عدَّة للمُثاقفَة الحضارية مع الغرب. فعَلى حين درجَتْ دراساتٌ عدّة بافتراضِ استلابِ المفكّرين العَرب للمنهَجيَّات الغَربِية، فإنَّ هذا النَّهجَ المقارنَ يؤكِّد أنَّ انتقالَ النَّظريَّةِ من سِياقٍ إِلَى آخَر لا يعنِي مجرَّدَ النَّقلِ الحرفي، بل يعكِسُ تفاعلاً معرفياً ينتجُ عنهُ تَغيِيرَاتٌ نوعيّةٌ في النَّظرِيّةِ المُرتحِلة.
في ضَوءِ هَذا الافترَاضِ، نسعى إلى اختبارِ كيفيَّة انتقالِ النظَرية الماركسية من السياق الألماني إلى السياق العربي عبر دراسة مقارنة بين كتاب الإيديولوجيا الألمانية (1846) لـ (كارل ماركس) و(فريدريك إنجلز)، والإيديولوجيا العربية المعاصرة (1967) لـ (عبد الله العروي). بهذه المقارنة، نوضح كيف استفاد العروي من ماركس في نقد الفوات الحضاري العربي، وكيف وظّف الماركسية، ليعيد طرح الأسئلة النقدية عن تأخر المجتمعات العربية، وتحديات دخولها الحداثة.
أولاً التخلف الحضاري وأفق تلقي الماركسية عربياً:
في إشارة تحمل في طياتها رؤية العروي الخاصة للماركسية يحيلنا عنوان (الإيديولوجيا العربية المعاصرة) على كتاب (الإيديولوجيا الألمانية)، وينبع الاختيار من وعي تاريخي بتقاطع التجربتين: ألمانيا في النصف الأول من القرن العشرين، والنهضة العربية المتعثِرة منذ قرنين؛ إذ عاشت ألمانيا في النصف الأول من القرن العشرين تخلُّفَاً حضارياً مقارنةً بفرنسا وبريطانيا، فبينما حققت فرنسا ثورتها السياسية، فأسست نظامًا ليبراليًا قائمًا على مبادئ العقلانية، كانت ألمانيا مُقسَّمة إلى دويلات مُتناحرة. وفي الوقت الذي أنجزَتْ فيه بريطانيا ثورتها الصناعية، ظلّت ألمانيا تعاني من التأخر مفتقرة إلى بنية صناعية قادرة على مواكبة التطورات الرأسمالية. لم يكن هذا الواقع من منظور ماركس مجرد تخلّف اقتصادي أو سياسي، بل يمتد إلى البنى الذهنية الفكرية؛ فالفلاسفة الألمان رغم إدراكهم للتأخر كانوا أسرى وعيهم الإيديولوجي الزائف، وبدلاً من السعي لتغيير الواقع قاموا بتبريره واختلاق أسباب زائفة له؛ إذ بقيت أقدامهم مغروسة في الأرض، وأيديهم مرفوعة نحو السماء. من هنا جاء نقد ماركس للمثالية الألمانية على أنها انعكاسٌ للتخلف، وامتدادٌ لأسبابه الاجتماعية-الطبقية.
وفي سياق حضاري مشابه يظهر كتاب (الإيديولوجيا العربية المعاصرة) مؤكداً أن النهضة العربية ماتزال مشروعاً في الممكن التاريخي، أمَّا الواقع فيثبت النكوص المتكرر. إن واقع التخلف هو جسر العبور من كتاب الإيديولوجيا الألمانية إلى الإيديولوجيا العربية، وما يسوّغ هذا الانتقال أن ماركس نزع في تحليله عن إشكالية التخلف "كل غرض قومي أو محلي ورفعها إلى درجة من الدقة والتجريد جعلها جاهزة لكي يستعملها غير الألمان"[1]. هذا يفسّر لماذا خصّص العروي ماركسيته على وجه تخصيص بالمرحلة التي أطلق عليه (ألتوسير) بـ (ماركس الشاب)، وهي المرحلة التي يمثّلها كتاب الإيديولوجيا الألمانية، فالتخصيص نابعٌ من الظرف التاريخي لتلقي الماركسية عربياً، فماركس مقروءاً من جهة العروي يحكمه أفقٌ تساؤليٌّ يرتبط بالتخلف العربي وتحديات الفوات الحضاري فيه:
- هل يمكن تدارك التخلف؟
- ما المستوى الأعلى الذي يقاس عليه تقدم المجتمعات وتخلفها؟
- وما عوامل تدارك التخلف الحضاري؟
من هذا الجانب، فإنَّ العودة إلى الإيديولوجيا الألمانية إحياء للنهضة المعوَّقة، وتجاوز للعطب الحضاري، وانتهاج سبيلٍ نقديٍّ في مساءلة الوعي العربي. في هذا السياق نفهم مصطلح العروي (الماركسية الموضوعية)؛ إذ يشير أن الواقع العربي يفرض على المثقف أن يتبنى الماركسية. فتاريخية الواقع العربي تستلزم الماركسية بوصفها فاعلية نقدية قادرة على وعي التخلف العربي ببناه الثقافية والسياسية، وتثويره على أرضية هذا الوعي النقدي.
ونلتمس بخطاب العروي جانباً غائياً في التعامل مع الماركسية، وذلك بخلاف الدوغمائية العقائدية التي وصفها ياسين حافظ بـ "الطابع المعتقدي الإيماني للماركسيات العربية"[2]، فليست الماركسية في نظر العروي مذهباً منغلقا، أو فلسفة مكتملة، بل منهجاً في نقد الإيديولوجيا العربية، وسبيلاً للدخول إلى الحداثة من بوابة التاريخانية.
لكنَّ انتقال الماركسية من حدود المذهب المغلق كما يدعو العروي وياسين الحافظ إلى المنهج النقدي الفاعل يشترط وعي خصوصية السياق الاجتماعي العربي وجدلية التنمية والتبعية فيه، وعلى أرضية هذا الوعي يتجدد رهان الماركسية، ويتحوّل من حيز التكوّن والاكتمال (المذهب) إلى حيز البناء وإعادة التشكيل المستمرين على حد تعبير سمير أمين، وهذا يطرح سؤالٌ إبستمولوجي: هل يصحُّ قياس بنية اجتماعية تاريخية محددة على بنية تاريخية اجتماعية أخرى؟ ألا يضعنا هذا ضمن ما أسماه مهدي عامل بمغالطة العقل الوضعي؛ أي العقل الذي يدرس المجتمعات والمفاهيم بسكونية دون وعي لصيرورة تشكلها وتحولاتها؟ إنَّ إقامة علاقة تماثل بين الوضعيات التاريخية المختلفة يغفل أن البنية الاجتماعية العربية ليست مجرد بنية متخلفة، بل هي بنية كولونيالية مرتبطة بتبعية بنيوية للأنظمة الرأسمالية الإمبريالية في أوروبا الغربية وأمريكا، إضافة إلى ذلك أن الرأسمالية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر تختلف بنيوياً عن الرأسمالية الإمبريالية المعاصرة [3]. لذا، فإن أي استقراء تاريخي يتجاهل هذا البعد التبعي يحمل في طياته مغالطة قد تؤدي إلى تبني استراتيجيات تنموية غير ملائمة أو حتى مُضلِّلة. وأخيراً، يبقى التساؤل مفتوحاً: كيف يمكن للفكر النقدي العربي أن يحقق انسجاماً منهجياً بين الاستفادة من التجارب العالمية وتجنب الوقوع في إسقاطات غير موضوعية قد تكرس التبعية بدلاً من تجاوزها؟ إن هذا الرهان مشروط في تحقيق وحدة الخاص بالعام؛ فالإقرار بشمولية القوانين التي تحكم المجتمعات البشرية يفترض في الوقت عينه النضال ضد التأويلات التضييقية للماركسية، وضد إرجاعها إلى مذهب أوروبي متمحور على ذاته. هذه القضية لا تخصّ حضور الماركسية في الفكر العربي فحسب، بل تشمل مختلف أشكال التثاقف المعرفي والحضاري مع الآخر، وبها تكمن رهانات الفكر العربي للانتقال من حيز التأثُّر الاستلابي إلى حيز التأثير والتفاعل النقدي.
فكيف تجلّى نقد الإيديولوجيا في خطاب العروي؟ وما دلالة التاريخانية وعلاقتها بالحداثة؟
-الماركسية ونقد الإيديولوجيا العربية:
ما الأسباب التي تجعل الفكر الإنساني يرى الأحداث من تصوره الخاص بدلاً من أن يدركها في حقيقتها؟ هل يعد انحراف الوعي أو زيفه مسألة منهجية محضة، أم إنه تعبير عن مصالح القوى الاجتماعية؟ وإذا اعتبرنا الوعي زائفاً، فما معيار الوعي الموضوعي الذي يقاس عليه تطابق الوعي مع الواقع؟
شغلَتْ هذه التساؤلات كتاب الإيديولوجيا الألمانية؛ إذ أراد ماركس أن يثبت حقيقة الواقع بنقد أوهام الغير، فلم يسمّ أعمال المفكرين الألمان فلسفة، بل إيديولوجيا؛ فالمفكرون الألمان قد "أنزلوا الفلسفة من السماء إلى الأرض"[4]، لكنَّهم لم ينجحوا في تحريرهم للفكر من تحرير الواقع. ويمكن لنا أن نستنبط دلالة الإيديولوجيا من كتابي الإيديولوجيا الألمانية والعربية على معنيين مترابطين، الأول: الوعي الزائف الذي يخدم فئة اجتماعية معينة، والثاني: الوعي غير مطابق الناتج عن "الجهل بالحركة التاريخية"[5]؛ فهو الأفق الذهني الذي يحدّ فكر الإنسان.
وفي إطار محاولته لتجاوز الفوات الحضاري يرى العروي أن الدخول في الحداثة يستدعي ثورة ثقافية تبدأ بمساءلة الخطابات السلفيّة، هذا النقد أشبه بالثورة الكوبرنيكية التي تعيد موضعَةَ وعي الإنسان العربي على خارطة الوعي الكوني. ويستعير في سبيل ذلك مفهوم (الإيديولوجيا) معيداً صياغة سؤال النهضة والتخلف، وموجهاً في الوقت عينه نقداً على إجابات المفكرين العرب على نحو يذكِّر بنقد ماركس للمثاليين الألمان.
من هذا المنظور، يعدُّ العروي أن الإجابة عن سؤال النهضة ظلّت محصورةً ضمن ثلاثة نماذج[6]:
نموذج (الشيخ) يمثّله محمد عبده، حيث افترض أن إصلاح الحاضر يتطلُّب العودة إلى الماضي، فنظرَ إلى تقدُّم الغرب من موقعٍ دينيٍّ، واختزلَه بالبُعد الديني (المسيحي). النموذج (السياسي-الليبرالي) يمثّله أحمد لطفي السيد، حيث ربط النهضة بإصلاح النظام السياسي العربي، فردّ أسباب التقدُّم الغربي إلى الديمقراطية الدستورية. النموذج (التقني) يمثّله سلامة موسى الذي أرجعَ تقدُّمَ الغرب إلى التفوق التقني، وعدّ أن سبب تخلف العرب التأخر في وسائل الإنتاج الصناعي.
إن الجامع المشترك بين هذه النماذج على اختلاف تفسيراتها هو الوعي الإيديولوجي؛ أي الوعي غير مطابق. إنه وعي جزئي غير كلي يفتقد إلى الوحدة؛ فهم يعيشون في زمن ووعيهم في زمن آخر، ينتقدون الغرب، لكن الغرب الذي ينتقدون ليس هو الغرب الذي يواجهونه، أرجلهم ثابتة في الحاضر، بينما عقولهم معلقة في الماضي أو موجهة نحو تصورات مشوهة للمستقبل، حياتهم ليست استمراراً لماضيهم، وليست طريقاً حقيقياً نحو مستقبلهم، فحيثما وليّنا وجهنا في الفكر العربي سنرى انزياحاً لهذا الفكر وانعدام للمطابقة. فلو سألنا الشيخ ما سبب تخلف العرب لجزم: أنَّه من أعراض الابتعاد عن الدين الصحيح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولو وجهت السؤال عينه للسياسي الليبرالي: لأجابك بغياب الديموقراطية والتمثيل البرلماني، في حين أن التقني سيرى أن المشكلة تكمن في ضعف وسائل الإنتاج.
إن هذه الإجابات المجتزئة تمتد من وعي الآخر إلى وعي التراث عينه؛ فالنماذج الذهنية السائدة تقف على أرضية مشوهة؛ فكل فئة تنتقي ما يناسب أيديولوجيتها من التراث، فالشيخ يأخذ النموذج الأصولي، والليبرالي يأخذ النموذج العقلاني (المعتزلي)، والتقني يحاول أن يؤول التراث تأويلاً اشتراكياً.
ومن سياق متصل يقدّم العروي نقداً للوعي العربي في تعامله مع الآخر متسائلاً: إذا كان الفكر العربي ينتقد الخطاب الاستشراقي لكونه يقدم تمثيلاً مشوهاً للذات العربية، فهل قام بمساءلة تمثيلاته عن الآخر؟ يرى العروي أن الوعي العربي اتجاه الآخر يعاني من التشظي نفسه الذي يشكو منه في رؤيته لذاته ولتراثه، فالصورة التي يبنيها الفكر العربي عن الغرب هي انعكاس مشوّه، ووعيٌ متجاوز للحقيقة التاريخية التي يمثلها الغرب اليوم. الشيخ، على سبيل المثال، يظن أنه يواجه ندًّا عقائدياً متشبثاً بتصور قروسطي عن الغرب المسيحي، في حين أن ما يواجهه هو نظام رأسمالي عالمي يدير العلاقات الاقتصادية والسياسية وفقاً لمنطق ماديّ؛ إذ "يواجه الشيخ وعياً غربياً متقادماً لم يعد الغرب المعاصر يتعرف على نفسه فيه"[7]. هذا الانفصال يجعل الوعي العربي في مواجهة أشباح وليس حقائق، طواحين هواء وليس وقائع.
يمتد هذا الوعي الإيديولوجي إلى دولة ما بعد الاستقلال، فقد تبنت الدولة العربية نموذجاً تلفيقياً في علاقتها بالحداثة، فأخذت بالقشور التقنية، لكنها أهملت ضرورة (تثوير العقول)، وتغيير البنى الثقافية، فظنت بذلك أن التقدم يكمن في استيراد التكنولوجيا فقط، دون المساس بجوهر الحداثة. هكذا ظل الفكر العربي يتأرجح بين "الأهداف التحريرية والمنطق التقليدي"[8]. ضمن هذا التشخيص النقدي، يخلُص العروي إلى أن الوعي العربي: إيديولوجي: مجتزأ، انتقائي، وغير متطابق.
-التاريخانية مدخل إلى الحداثة العربية:
مثلما كان نقد الإيديولوجيا الألمانية مدخلاً لتأسيس وعي مادي في حركة التاريخ وتطوره، استلهم العروي من مادية ماركس مفهوم (التاريخانية)، وعدّه شرط تجاوز التخلف الحضاري، فإذا كان الوعي العربي إيديولوجياً أو حسب تعبير صادق جلال العظم يقف على رأسه بدلاً من قدميه [9]، فإن التاريخانية هي إعادة تصحيح لهذا الوعي المقلوب.
يحيلنا مصطلح التاريخانية على الاحتكام إلى التاريخ بوصفه مرجعية للتفكّر في أسباب الفوات الحضاري ومحاولة الاستفادة من تجارب الشعوب التي سبقتنا في مسار التقدم. إن تمثّل التاريخ واستيعابه ليس سرد أحداث اعتباطية متفرقة، بل تفهّم لـ: "منطق الأحداث ومحركها الباطني"[10]. هذا المنطق التاريخي هو الذي يحدد شكل المجتمعات وصيرورتها، وهو الذي يقودها نحو التقدم أو التخلف. وهنا، يصبح الفهم التاريخي وسيلة ضرورية لفهم أسباب الفوات الحضاري العربي. وتقدم الماركسية منهجاً علمياً في استنباط المحددات الموضوعية لحركة التاريخ، فمن منظور العروي الماركسية مدرسة في الفكر التاريخي، فتتلازم صفة الماركسية مع التاريخانية:
العودة إلى التاريخ ضرورة تقتضيها ظروف المجتمعات المتخلفة الساعية لتجاوز الفوات الحضاري، ولا يمكن تحقيق هذا التجاوز إلا من خلال الوعي المادي بصيرورة التاريخ. فألمانيا مثلاً، حين واجهت تخلفها في القرن التاسع عشر، لجأت إلى المقارنة النقدية مع فرنسا وبريطانيا، ووعت أسباب تأخرها لتتمكن من تجاوز الفجوة الحضارية، وكذلك كان النهج التنموي في روسيا في مطلع القرن العشرين، حيث وعت تخلفها مقارنة بألمانيا، مما دفعها إلى استلهام التجارب الأوروبية ومراجعة بنيتها الاجتماعية والاقتصادية، الأمر ذاته نجده في اليابان حينما انفتحت على التجربة الرأسمالية الغربية في عصر (ميجي) لتسير بخطى سريعة نحو التحديث الصناعي والاجتماعي. والصين أيضاً، من خلال قراءتها الدقيقة لتجارب الغرب، تمكنت من تحويل تاريخها وتشكيل نموذجها التنموي الخاص الذي يجمع بين الاشتراكية والرأسمالية. التاريخانية، إذن، المنهج الذي يتيح للمجتمعات المتخلفة أن تستوعب تجارب المجتمعات المتقدمة، وأن تعيد قراءة تاريخها الخاص بوعي نقدي يتحقق فيه وحدة العام (العالمي) مع الخاص (الوطني-المحلي).
ينطلق هذا التصور من الإيمان بوحدة التجربة الإنسانية؛ إذ يرى العروي أن مسار التاريخ واحد، من هذا المنطلق يتوجب استيعاب قيم التنوير والعقلانية والتقدم والعلمانية، بوصفها قيماً عالمية. إن ماضي الغرب المتحقق يمثل مستقبلنا الذي لم يتحقق بعد، ولذلك يجب النظر إلى التجربة الغربية على أنها مرحلة من التطور الإنساني العام، ويتطلب هذا التمثل وعياً عميقاً بالمنطق التاريخي؛ إذ ننتقل من التركيز على الخصوصيات إلى الإقرار بالكونية.
ولعلّ هذا التصور لتجاوز الفوات الحضاري عبر تمثل التاريخانية منهجاً والليبرالية العقلانية مضموناً دفع محمد عابد الجابري إلى افتراض أن العروي: "يدعونا للبحث عن حل لمشكلتنا المطروحة هنا في التجارب التي عرفها التاريخ هناك"[11]، فالعروي من منظور الجابري يعيد تمثُّل النموذج السلفي الذي ينتقده، لكن الفرق أن السلف لم يعد الماضي الموروث، بل أصبح الغرب.
على أهمية نقد الجابري بيد أنه يقع في مغالطات عدّة، فهو يخلط بين التبعية والاستفادة الواعية من التجارب المتقدمة، فالعروي يدعو إلى استيعاب التجارب الناجحة في سياق حداثي عالمي قائم على الوعي التاريخي، ومن جانب آخر العروي لا ينفي الخصوصيات التاريخية، ولو كان يتجاهلها لما أكد ضرورة (الماركسية الموضوعية) التي تستجيب للظرف التاريخي العربي.
وإذا كان الجابري يفترض أن العروي تمثّل الحداثة الغربية إلى حدَّ المماهاة معها، فإنه يُغفل أنه قدّم نقداً منهجياً للخطاب الغربي ذاته. فالغرب الذي استلهمه على حد توصيف مكسيم رودنسون هو (الغرب الانتقادي)[12]، فالعروي استلهم ماركس من سياق الحوار النقدي مع الواقع العربي والتاريخ الغربي على نحو نقدي مزدوج.
الإحالات المرجعية:
[1] عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة 1996، ص 177
[2] ياسين الحافظ، الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة، دار الحصاد للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1997، ص 17
[3] مهدي عامل، أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية، دار الفارابي، 1987، ص 44
[4] كارل ماركس وفريدريك إنجلز، الإيديولوجيا الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق للنشر والتوزيع، دون تاريخ، ص 30
[5] عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1983، ص 35
[6] ينظر: عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصر، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995، ص 53، 55
[7] المصدر السابق، ص 55
[8] عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص 7
[9] صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، دار الطليعة، 1969، ص 10
[10] عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا، ص 59
[11] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، دار الطليعة، الطبعة الثانية 1985، ص 50
[12] ينظر تقديم مكسيم رودنسون: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ترجمة محمد عيتاني، دار الحقيقة، الطبعة الثالثة 1979، ص 6.
فهرست المصادر والمراجع:
- صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، دار الطليعة، 1969
- عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصر، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995
- عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ترجمة محمد عيتاني، دار الحقيقة، الطبعة الثالثة 1979
- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة 1996
- عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1983
- كارل ماركس وفريدريك إنجلز، الإيديولوجيا الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق للنشر والتوزيع، دون تاريخ.
- محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، دار الطليعة، الطبعة الثانية 1985
- مهدي عامل، أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية، دار الفارابي، 1987
- ياسين الحافظ، الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة، دار الحصاد للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1997