المجتمع العربي وسلطة المخيال الديني
فئة : مقالات
يُعتبر الدين - بصفته منظومة معتقدات جمعية - عنصراً قوياً في حياة الإنسان منذ القدم إلى الآن، لكنّ هذه المعتقدات الجمعية المختلفة باختلاف العصور والمصادر الدينية والأجناس والثقافات أنتجت تصورات دينية بلغت حدّ التناقض والصراع.
شكل اللجوء إلى الدين حلاً سهلاً لإخضاع المجتمعات وممارسة التسلط، وصل أقصى تجلياته المعنوية في المجتمعات الإسلامية إلى استغلال الخوف - حد الرّهاب - من عذاب القبر ومن جهنم، لممارسة التسلط بمختلف مستوياته: دينياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً (مسألة الكنوز نموذجاً). هذه الوضعية دفعتنا إلى الحديث في هذه المقالة عن "سلطة المخيال الديني"، ونقصد بها مجموعة من المعتقدات ذات الإنتاج البشري عبر تأويل النصوص الدينية، أو ما يسميه بعض الباحثين "ليّ أعناق النصوص" بما يتماشى والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لظرفية التأويل والغرض منه، مقابل تهميش آيات قرآنية ونصوص دينية تدعو بشكل صريح إلى حرية المعتقد والممارسة الدينية، ولعل أبرز هذه النصوص قوله تعالى في آخر سورة (الكافرون): "لكم دينكم ولي دين"، وقوله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبّين الرشد من الغي" (البقرة الآية 256).
برزت محاولات تنويرية عملت على عقلنة المعرفة الدينية داخل البيئة الإسلامية والعربية في فترات زمنية متقطعة ومن مشارب فكرية متعددة، إلا أننا نستطيع الجزم بأنّ طرح هذه المعرفة على المحك العلمي بما يقتضيه ذلك من شروط أكاديمية وجرأة ثقافية وسياسية، لم يتم إلا في خضم الحراك الديمقراطي العربي؛ حيث أصبحت القناعة مشتركة بضرورة تحرير العقليات الإسلامية من الكهنوت ووضع مقاربة تمايزية بين المعرفة الدينية العقلانية وبين الثقافة الدينية المنتجة بشرياً في ظروف سياسية معينة.
إنّ طرح المسألة الدينية بهذا الزخم الكمّي والكيفي في الفترة الراهنة لم يأتِ اعتباطاً، بل تحكمت فيه مجموعة من المتغيرات تداخلت لتفرز أسئلة وإحراجات تواجه العقل الديني، ولعل أكثرها بروزاً ما يرتبط بحرية المعتقد وبحرية ممارسة الشعائر الدينية من عدمها، بشكل آني ودون تأخير، ونسوق في هذه المقالة بعض المتغيرات التي نراها مفصلية في تاريخ النقاش الديني بالوطن العربي بعد الربيع الديمقراطي.
يرتبط المتغير الأول بإزالة حاجز الخوف إثر الحراك الديمقراطي؛ حيث أصبح المواطن العربي أكثر جرأة وحرية في الجهر بمعتقداته والنقد وإبداء المواقف الخاصة من السياسة والدين وغيرهما دون خوف، ومن الأهمية بمكان الإشارة في هذا الصدد إلى مسألة الجرأة في المطالبة بعلمنة الدولة والتنصيص دستورياً على حرية المعتقد في الدساتير العربية والجهر بالإفطار العلني نهار رمضان وبالإلحاد والمثلية...، رغم المحاصرة الشديدة من طرف السلطة الدينية التقليدية المؤسّسة على فتاوى ناتجة عن التأويل البشري المحكوم بظروف سياسية واجتماعية واقتصادية، للنصوص الدينية والعمل على تبيئتها داخل المجتمعات العربية الحالية. مع التنويه إلى أننا لا ننتصر لأحد الطرفين بقدر ما ننتصر ونؤصّل لأهمية الحرية داخل المجتمعات العربية.
ثاني هذه المتغيرّات يرتبط بإجبار العلماء الرسميين (فقهاء السلطة السياسية) وغير الرسميين على الانخراط في النقاش العام حول المسألة الدينية، ففي المغرب مثلاً وعلى غرار كل دول الربيع الديمقراطي أجبرت مؤسسات العلماء والحركات الدينية على الإدلاء بدلوها في المطالب المرفوعة بضرورة التنصيص في الدستور على مبدأ "الدولة المدنية" والعلمانية لكونهما داعمتين أساسيتين لحرية المعتقد باعتباره من الحقوق الطبيعية المكفولة للإنسان (المغرب، مصر، تونس)، الأمر نفسه سيتكرر مع مسألة الإفطار العلني لمجموعة من الشباب المغاربة في نهار رمضان ومسألة المثلية الجنسية وغيرها من المواضيع التي تقتضي الإجابة الدينية الصريحة.
هذا النقاش سيتولد عنه صراع بين تيارين راديكاليين واضحي المعالم: تيار ديني يدافع عن ضرورة الامتثال للمسلمات الدينية دون جدال، وتيار علماني يدافع عن الحرية الفردية في المعتقد دون تدخل أي سلطة مادية أو معنوية. يدفعنا هذا التدافع "العقدي" إلى التساؤل عن أسباب هذا الصراع، هل الخلاف مرتبط بمسألة الدين في حد ذاته؟ أم مرتبط بسلطة المخيال الديني؟ إنّ الحسم في هذه التساؤلات يرتبط بأهمية انفتاح علماء الدين والمؤسسات الدينية على العلوم الإنسانية (الإنتربولوجيا والتاريخ والفلسفة وعلم النفس...) في مقاربة السؤال الديني، للتمييز بين ما هو ديني ذو مصدر إلهي، وما هو ذو إنتاج بشري مرتبط بمراحل سياسية أقحم فيها الدين للحسم في السلطة وغيرها.
ثالث المتغيّرات مرتبط باستفحال المد الإرهابي الدولي، الذي ولّد ردود فعل عكسية ضد المنطق الدوغمائي في فهم الدين، ووسع رقعة المهتمين بالشأن الديني شملت المتدينين وغير المتدينين، لكن المثير في الأمر هو إعلان المتدينين الإسلاميين صراحة رفضهم الواضح لنمط التدين الذي تريد أن تفرضه داعش والحركات السلفية المتطرفة، بل إنّ جزءاً من الإسلاميين تقدّم أكثر وأقرّ بقيم العلمانية باعتبارها لا تتناقض مع الدين.
ونضرب في هذا الصدد مثالاً بسعد الدين العثماني القيادي الإسلامي وصاحب كتاب "تصرفات الرسول بالإمامة (2003)" وصاحب سلسلة مقالات تعتبر أساساً لأطروحة "الدولة المدنية في ظل مقاصد الشريعة الإسلامية" التي أثارت جدلاً واسعاً كونه يؤكد فيها على أهمية الدولة المدنية التي تحترم فيها الإرادة الكاملة للفرد ويسود فيها القانون وتخضع فيها العلاقات بين أفراد المجتمع للمدنية وليس لأمر آخر، علماً أنّ ذلك مؤصل له بنصوص دينية وله أرضية صلبة في مقاصد الشريعة، وبذلك ساهم سعد الدين العثماني في إرغام التيارات الإسلامية على الخوض في نقاش كان يعتقد إلى فترات غير بعيدة أنّه قد حسم وقضي فيه الأمر بتحريم العلمانية واعتبارها وسيلة لمحاربة الدين.
رابع المتغيّرات يتعلق بالوسائط التكنولوجية، ونذكر على سبيل المثال مواقع التواصل الاجتماعي التي أعطت حرية أكثر للأفراد من أجل التعبير عن مواقفهم وأفكارهم المختلفة والمتناقضة في كثير من الأحيان ومشاركتها مع مختلف الأفراد في جميع مناطق المعمورة، وتهمّنا في هذا الصدد المساحة الشاسعة التي يشغلها النقاش الديني في ظل الصعود القوي للإسلام السياسي بعد الحراك العربي وما رافقه من نقاش دفع الكثير من المتدينين إلى تطوير مواقفهم من العلمانية ومن الدولة المدنية، دون أن ننكر أنّ هذا النقاش أسهم أيضاً في تجذر سلطة المخيال الديني لدى شريحة مهمة من الشباب، لكن يصعب، في ظل غياب الدراسات الميدانية وافتراضية المواقع الاجتماعية أن نجازف بإعطاء نسبة محددة، إلا أنّ تتبع بعض الكتابات على هذه المواقع يؤكد وجود فئة تدافع عن سلطة المخيال الديني عن قصد أو دونه.
تكمن خطورة "سلطة المخيال الديني" في استدعاء المسلمات الدينية ذات الإنتاج البشري لمواجهة انتشار قيم الحداثة داخل المجتمعات العربية المحافظة وما يرتبط بها من سلوكيات شخصية لها علاقة بالحرية الشخصية الطبيعية، فأصبح "حماة الدين" ينصبون الفخاخ لكلّ من يتجرأ على مخالفة أنساقهم الدينية غير الدينامية؛ تارة بتهمة الإلحاد وتارة أخرى بالزندقة وفي أحيان أخرى برفع قضايا أمام محاكم الدولة (حالة مصر مثلاً)، وفي حالات أكثر جرأة يتم إصدار فتاوى بالقتل. هذا الواقع المحزن يقتضي الاشتغال على عدة مجالات:
أولاً: فتح ورش المناهج التعليمية التي أصبح من الضروري تكثيفها بحمولات القيم السامية كالحرية الفردية في الاعتقاد والسلوك والتفكير والعيش والتملك دون التأثير على حرية الآخر في الاستمتاع بالأمر نفسه، وقيم العقلانية، في أفق تكوين مجتمع تؤسس فيه القناعات (دينية وعلمانية) على أسس علمية وليس على هواجس عاطفية تذكي الصراع غير الديمقراطي داخل المجتمعات وتصادر الأفكار المخالفة.
ثانياً: دمقرطة "الدولة" عبر التنصيص الدستوري على "الدولة المدنية" التي تكفلها العلمانية، دون أن نعني بذلك إلغاء المكون الديني، فحتى الأنظمة العلمانية المعروفة تنصّ في دساتيرها على مذهب ديني معين؛ كحالة النرويج التي تنصّ على المذهب الإصلاحي اللوثري، وحالة المملكة المتحدة التي تعترف في منظومتها القانونية بالكنيسة الأنجليكانية التي تترأسها الملكة، فالنظام الديمقراطي لا يستلزم بالضرورة عدم التنصيص على الدين الرسمي للدولة في الدستور، بل يلزم الدولة على الانتقال من ترصّد الأشخاص إلى توفير الأمن والحماية لهم.
ثالثاً: فتح ورش الإصلاح الديني وإخراجه من "الإكليروسية" إلى الفضاء العمومي؛ قصد إشراك كلّ المهتمين، دون حصره في الدائرة الضيقة التي تشمل فقهاء الدين فقط في أفق مأسسته ديمقراطياً، بحيث لا تقتصر تركيبته على المتدينين فقط وعلى دين واحد، بل يجب أن تشمل كل مكونات المجتمع وبمختلف معتقداتهم الدينية، وتكون مهمة هذه المؤسسة تدبير الشأن الديني داخل الدولة بما يسمح لتعايش كل المكونات.
تأسيساً على ما سبق، يتضح أنّ سلطة المخيال الديني، تضع مسافات طويلة بين المجتمعات العربية والتحرر، لكن رغم هذه النظرة المتشائمة ظاهرياً، إلا أنّها تحمل بين طياتها فكرة متفائلة بغد مشرق تعمّ فيه الحرية المجتمعات العربية، ما دامت هناك أقلام تصدح بقيم التحرر والعلم.